فهم القرآن دراسه علی ضوآ المدرسه السلوکیه

اشارة

سرشناسه : توفیق، خالد، 1338 -

عنوان و نام پديدآور : فهم القرآن دراسه علی ضوآ المدرسه السلوکیه/ تالیف جواد علی کسار.

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی (س)، موسسه چاپ و نشر عروج ، 1424ق. = 1382.

فروست : الامام الخمینی؛ النهضه و المنهج؛ 1.

شابک : 964-335-671-x(دوره) ؛ 34000ریال:(ج.1)

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368. -- نظریه درباره قرآن

موضوع : تفاسیر -- قرن 14ق. - تحقیق

موضوع : مفسران اهل سنت

شناسه افزوده : موسسه چاپ و نشر عروجموسسه تنظیم و نشر آثار امام خمینی(س)

رده بندی کنگره : BP92/6 /ت9ف9 1382

رده بندی دیویی : 297/192

شماره کتابشناسی ملی : م 82-14768

تصدير

يعدّ القرآن، المصدر الرئيس لكلّ مسلم في مختلف أرجاء العالم و في كلّ حقبة من الزمن. لا نجد مسلما- كمسلم- يرى نفسه مستغنيا عن هذا الثراء الخصب و الاستلهام منه و الاتقاد بنوره. من هذا المنظور يرى كلّ مسلم من الواجب عليه أن يأخذ القرآن كنقطة انطلاق لحياته الفردية و الاجتماعية في مختلف نواحيها، و يستلهم من دروسه الحيّة لاقامة حياة طيّبة لنفسه و مجتمعه. هذا الأمر يفسر لنا مدى اهتمام المسلمين بهذا الكتاب طيلة قرون عدّة و محاولاتهم الدءوبة في مجال فهمه و تفسيره و كشف الغطاء عن متشابهاته و إعداد علوم خاصّة به.

و الإمام الخميني، من جانب، كمسلم فقيه ينظر إلى القرآن الكريم كمصدر رئيس لاستنباط واجبات المسلمين منه و لإصدار أحكام الدين و تنظيم العلاقات الدينية و الاسرية و الاجتماعية على ما يقتضيه هذا الكتاب؛ و من جانب آخر كقائد ثوري يرى القرآن يقود الإنسان إلى حياة عادلة و حرّة. أضف إلى ذلك:

أنّ هذا الرجل العظيم هو من الاختصاصيين في العرفان النظري، و من السالكين في هذا الطريق؛ فهو كعارف مهتمّ بجوانب النفسية الإنسانية، ينظر إلى هذا الكتاب كحبل متين متدل من سماء الالوهية إلى أرض الإنسانية لينتهي بالإنسان إلى منتهاه الاسمى و جذوره الالهية. و في الوقت لا يمنعه جانب من جانب آخر، و في حين أنّه يؤكد على الجانب المعنوي و النفسي للقرآن، يأخذ على الذين يصرفون همّهم في التفسير المعنوي لهذا الكتاب و يغفلون أو ينكرون ما عداه من الجوانب الاجتماعية، مآخذ هامة.

إذن فلا عجب أن نراه في مختلف مجالات الحياة يرجع إلى القرآن و يستدلّ به و يستضي ء بنوره؛ سواء في مسألة فقهية فرعية أو مسألة سياسية دولية. من هذه الزاوية نرى تراثا ضخما ممّا تركه يختص بالقرآن، و إن كان هذا التراث متناثرا في ثنايا أعماله العلمية، من فقه و اصول و تفسير. فهو و إن اهتمّ مباشرة بتفسير بعض السور

فهم القرآن، ص: 6

كسورة الفاتحة، نراه غير مرّة و في أكثر من مكان يقدم تفسيرات لبعض الآيات و يعرفنا بجوانب من القرآن و دروسه الحية التي كانت مستترة بالنسبة لنا. و مع هذا نراه أنّه لا يرى نفسه مفسّرا للقرآن و هذا ممّا يثير أسئلة كثيرة في أذهان السامعين على خطورة هذا العلم الشريف و مكانته عند المسلمين الملتزمين بالمبادئ و القيم العليا.

هذا الكتاب الذي هو أوّل كتاب من مجموعة «الإمام الخميني: النهضة و المنهج» التى ستصدر في اثني عشر كتابا- ان شاء الله- يركز الاهتمام على التراث القرآني للإمام الخميني و يضع اطارا مدرسيا لقراءته قراءة عصرية معمقة و توفيقية بين مختلف الاتجاهات الرئيسية في هذا الحقل. فالكتاب الذي بين

يدي القارئ يدور على أربع محاور رئيسية: علوم القرآن و مبادئ التفسير، و مشروع الإمام الخميني الكبير للتوفيق بين الاتجاهات الثلاثة العرفانية و الفلسفية و الفقهية، و الإمام و القرآن الكريم، و تطبيقات و أمثلة تفسيرية من الإمام الخميني. و أمّا حديث المنهج و الرؤية في هذا الكتاب فهو حديث آخر، تطرق إليه الباحث بتفصيل في مقدّمته التي صدّر الكتاب بها، فنحن لسنا بحاجة إلى بسط أكثر في هذا المجال.

بقي أن نتقدّم بالشكر و التقدير للأخ العزيز الأستاذ جواد على كسّار، على اهتمامه بهذا العمل القيّم و تحمله صعاب التحقيق، آملين من اللّه أن يكون هذا الكتاب فاتحة خير لأعمال علمية اخرى في المستقبل و خطوة متواضعة في هذا الطريق.

و في الختام ندعو القراء الأعزاء أن يشاركونا في دوام عملنا بما يسعهم من تقديم النصح و الاقتراح؛ و نحن نرحب بأي نقد يوجه إلينا برحابة صدر، معتقدين أنّ حياة العلم بالنقد و الرد؛ و اللّه من وراء القصد.

مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني فرع قم المقدسة

فهم القرآن، ص: 7

مقدّمة المؤلّف

اشارة

لو أخذنا القرن الأخير كدالّة على دخول المسلمين في العصر الحديث، و تتبعنا حركة الإحياء الإسلامي التي نشأت في مشرق العالم الإسلامي و مغربه للحظنا أنّ نداء العودة إلى القرآن و بعث قيمة هو في طليعة الخصائص التي اتسمت بها هذه الحركة. فلا معنى لحركة إحياء بين المسلمين لا يكون القرآن الكريم محورها، و لا سبيل إلى نهضة إسلامية لا يكون كتاب اللّه ركنها الوثيق.

و في غضون حركة الإحياء هذه برزت علاقة حميمة تربط بين القرآن و موقع رادة الإحياء و طبيعة الدور الذي يمارسونه في المجتمع. على هذا قلّما نجد رمزا من رموز

الإحياء الإسلامي لم يرتبط اسمه بمشروع قرآني أو لم يترك أثرا قرآنيا متميزا يحثّ فيه للاستناد إلى القرآن، كمرجعية في الهداية و منطلق في الاستئناف الحضاري و ابتعاث دور الامّة.

تكتسب هذه الملاحظة مدلولا أعمق بمتابعة ما تركه رادة الإحياء و رموز النهضة من آثار قرآنية منذ السيد جمال الدين الحسيني المشهور بالأفغاني حتّى الإمام الخميني، مرورا بمحمد عبده و رشيد رضا و ابن باديس و الطاهر بن عاشور و محمد جواد البلاغي و محمد حسين كاشف الغطاء و محمد باقر الصدر و محمود الطالقاني و الطباطبائي و المودودي و غير هؤلاء كثير. لقد كانت لكلّ واحد من هؤلاء مساهمته القرآنية سواء من خلال التأليف مباشرة أو على مستوى الأمالي

فهم القرآن، ص: 8

و الدروس و المحاضرات، كما دأب على ذلك غير واحد منهم إن لم يكن أغلبهم.

لقد زاد في ثراء الحصيلة التي تقدّم بها هؤلاء اختلاف مشاربهم المعرفية و تعدّد منطلقاتهم الفكرية و اطرهم المنهجية، مضافا إلى تنوّع شواغلهم المنبثقة أساسا عن متطلبات النهضة و سعيهم لتلبية حاجات مجتمعاتهم لفهم القرآن و العمل به و التواصل معه.

لم يشذّ الإمام الخميني عن هذه العلاقة بين القرآن و النهضة، بل كان مصداقا بارزا لها انطلاقا من موقفه المتميّز على خط الإحياء الإسلامي المعاصر.

الميراث القرآني للإمام

لا أظنّ أنّنا نبالغ لو سجّلنا بأنّ التراث القرآني للإمام يصل بمجموعه إلى عدّة مجلّدات ضخام، مبثوثة في حقول أربعة، هي:

1- مؤلّفاته و مصنّفاته في مختلف العلوم الحوزوية و غيرها.

2- دروسه و محاضراته و خطبه على المستويين العلمي و الاجتماعي العام.

فهذه المجموعة تؤلّف مصدرا ضخما و تضم أفكارا أساسية و خصبة أدلى بها الإمام حيال القرآن، خاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ المجموعة الكاملة

لخطب سماحته و محاضراته زادت على العشرين مجلّدا.

3- دروسه الخاصّة في تفسير سورة الفاتحة، التي شرع بها من الحاضرة العلمية بمدينة قم المقدّسة عام 1980 م، بعد عودته الظافرة إلى إيران. و هذه الدروس على قلّتها تتسم بأهميّة مضاعفة كونها دروسا في التفسير مباشرة، مليئة بأفكار منهجية عن التفسير و معناه و شروطه و جهود المفسّرين، أعلنها الإمام على نحو صريح و بالأسماء و المسميات، و هي إلى ذلك تكشف عن آخر رؤاه و نظراته

فهم القرآن، ص: 9

على هذا الصعيد.

بيد أنّ الأهم من ذلك، أنّ الإمام اختار هذه الدروس التي كانت تبث من التلفاز أسبوعيا عبر برنامج «القرآن في معترك الحياة»، ليعلن عن مشروع معرفي على غاية قصوى من الأهمّية يتمثّل برغبته في التوفيق بين العرفاء و الفلاسفة و الفقهاء، و المصالحة بحسب تعبيره بين هذه الفئات الثلاث التي تتوزّع الخريطة المعرفية للعقل الإسلامي.

4- من الحقول الاخرى التي تؤلف مصدرا لتراث الإمام القرآني، هي الرسائل التي خلّفها ممّا كان قد بعث به إلى مقربين إليه خاصة من أهل بيته، كما فعل مع نجله السيد أحمد و زوجته فاطمة الطباطبائي و آخرين.

ففي هذه الرسائل التي جمعت و صدرت بكتب خاصة مادة قرآنية مهمة، تنفع في إنارة ما بلغه الدرس القرآني عند الإمام، و تزوّد الباحث ببعض ما يحتاج إليه في معرفة منهج الإمام في فهم كتاب اللّه و التعامل معه، مضافا إلى رؤاه و أفكاره المضمونية في الممارسة التفسيرية نفسها.

تنوّع المادة

لست أشك في أنّ الحصيلة القرآنية المتراكمة التي تخرج بها هذه المصادر مجتمعة و التي لا تقلّ بنظري عن خمسة مجلدات ضخام، ترفع صاحبها إلى عداد أصحاب المشاريع القرآنية الكبرى منهجا و محتوى خاصة عند

ما يكون من وزن الإمام الخميني. على أنّ ما زاد في أهمّية هذه المادة و ثرائها اشتمالها على الدوائر الثلاث التالية:

1- إنّ فيها ما يكفي لتحديد رؤى الإمام و مواقفه من امهات المسائل

فهم القرآن، ص: 10

المنهجية ذات الصلة بعلوم القرآن و مبادئ التفسير، من قبيل إمكان المعرفة و حجّية ظواهر القرآن، الوحي و المعجزة، المحكم و المتشابه، التأويل، الظاهر و الباطن، مراتب الفهم و موانعه، التفسير و مقاصد القرآن، التفسير بالرأي، شروط المفسّر، سلامة القرآن من التحريف، الحروف المقطعة، المعاصرة القرآنية إلى غير ذلك من الأبنية التي تدخل في تأسيس رؤية مستقلة لصاحبها إزاء علوم القرآن و مبادئ تفسيره.

2- إنّها تحوي نماذج تفسيرية وافية للتدليل على المنهج التفسيري أو الطريقة الخاصة التي اختارها الإمام في التعامل مع القرآن. و هذه النماذج متنوّعة تمتد بين ما يشمل السورة الكاملة و يستوعبها، و بين ما يقتصر على آية واحدة و بين ما يغطي مجموعة آيات.

3- إلى جوار الأطر المنهجية و التطبيقات التفسيرية، برزت في هذه المادة مئات اللمحات القرآنية التي تمارس إنارة مكثفة على طريقة الإمام في التعامل مع القرآن، ممّا لا يدخل في دائرة التفسير بمعناه الوظيفي و العلمي.

ذلك أنّ للإمام تصوره الخاص في التعاطي مع القرآن، الذي ينتهي به إلى ثلاثة دوائر، الاولى و هي أصغرها التي تمثل التفسير بالرأي المنهي عنه، ثمّ الثانية و هي أوسع من الاولى و تمثل التفسير على وفق القواعد و الضوابط و هي من شأن أهل الاختصاص، ثمّ الثالثة و هي الأوسع التي تعدّ مفتوحة للناس جميعا كلا بحسبه، يجني فيها كلّ إنسان فوائد و لفتات تعود عليه من خلال التعامل المباشر مع كتاب اللّه.

يقدّم الإمام هذا الأسلوب

من التعامل المباشر مع القرآن الذي يمارسه بنفسه عبر النماذج التي نعنيها، كأحد المقترحات الأساسية لفكّ حصار العزلة المضروب

فهم القرآن، ص: 11

على القرآن، و كسر طوق المهجورية التي تلفّ كتاب اللّه.

لقد زوّدتنا هذه الثروة النصية من الأفكار و المضامين و الرؤى المنهجية، بذخيرة أمدّت الدراسة بما تحتاج إليه في استنباط و بلورة القواعد التي يقترحها الإمام لفهم القرآن، مضافا إلى الجانب التفسيري، لو لا أن واجهتنا مشكلة في مسار البحث دفعتنا صوب منعطف جديد.

الثنائيات المتنافرة

أمضيت بصحبة نصوص الإمام و رؤاه القرآنية قرابة السنتين هي المدة التي استغرقها إنجاز هذا الكتاب. و قد لفت نظري أثناء ذلك التنافر الذي بدا لي لأوّل وهلة في بعض هذه النصوص و الرؤى، ممّا يمكن أن يربك الباحث و يؤثّر على سلامة نظرته و نصاعتها إذ لم يرجع ذلك إلى ناظم يزيل ذلك التنافر.

لا اريد أن أتوغّل أكثر في هذه النقطة أو أن أسهب في تطبيقاتها بعد أن فعلت ذلك في الموضع المخصص لها، و إنّما أكتفي فقط بنماذج تثير ذهن القارئ و تحفّز وعيه لها تاركا توثيق النصوص إلى الكتاب نفسه.

يمكن أن أختار من الثنائيات المتنافرة التي تواجه الناظر للوهلة الاولى، النماذج التالية:

1- فيما يصرّح الإمام بأنّه لم يكتب تفسير لكتاب اللّه حتّى الآن، تراه يعود ليمدح المفسّرين و يثني على جهودهم و يذكر بعضهم و تفاسيره بالاسم.

2- فيما يذكر الإمام أنّ القرآن سر، و سر في سرّ و سرّ مستتر في سرّ لا يعرفه إلّا من خوطب به، يعود ليؤكد مرّات أنّ كتاب اللّه مائدة ممدودة للجميع ينهل منها كلّ إنسان بحسب سعته الوجودية و طاقته الفكرية.

فهم القرآن، ص: 12

3- إذ يعلن سماحته أنّ القرآن كتاب

معنوي برمّته، مع ذلك يعود ليسجل ملاحظاته و نقده على من يصرف جميع ما في القرآن إلى الناحية المعنوية دون غيرها.

4- فيما يركّز على دور التزكية و تطهير الباطن و السير السلوكي و أنّها طريق الحصول على معارف القرآن، تراه يؤكد دور النظر العقلي و الممارسة الإدراكية و يستحثّ عقول المفسّرين و يستنفرها لتدوين المزيد من التفاسير القرآنية.

5- في الوقت الذي يقول فيه إنّ القرآن لم يأت لتأسيس حكومة، بل حتّى و لا لبسط العدل، تراه يسجل إلى جوار ذلك و في نصوص اخر أنّ القرآن كتاب حركة مشحون بالسياسة و بالدعوة إلى تأسيس الحكم و مواجهة الطغاة و ضروب الظلم و الحيف، و أنّ الهدف منه هو بسط العدل.

6- في نصوص كثيرة يواجهنا الإمام بحقيقة مريرة تفيد أنّنا نقرأ القرآن ثلاثين أو أربعين أو خمسين عاما و نصحبه كلّ هذه السنين، و لكن بدون ثمرة و لا نتيجة. ثمّ يعود ليسجل على انقاض هذه النصوص التي تبعث على إحباط الإنسان و يأسه من نفسه، ضرورة أن نتلو القرآن و نقرأه و لو بدون فهم!

7- في الوقت الذي يشدّد الإمام على شروط التلاوة و يركّز على الإخلاص فيها و ضرورة أن يطبّق القارئ نفسه و يعرضها على القرآن، تراه يحثّ بإصرار في ثلاثة نصوص اخرى على الأقل، على أهمّية قراءة القرآن حتّى دون فهم.

8- لا يخفي الإمام انحيازه لطريقة أهل المعرفة، و هو ينتمي بتراثه القرآني إليهم، و يثني على جهودهم في الكشف عن بعض حقائق القرآن و بصائره و أنواره، ثمّ يفاجئنا في الدعوة إلى مشروع معرفي بقي شاغلا للفكر الإسلامي على مدار قرون و لا يزال، يدعو فيه إلى التوفيق بل المصالحة بين

العرفاء و الفلاسفة و الفقهاء،

فهم القرآن، ص: 13

برغم التفارق المعرفي في منطلقات هؤلاء!

هكذا إلى بقية الثنائيات المتنافرة.

كيف نجمع بين هذه الثنائيات المتعارضة و المتوترة؟ لقد قادنا الجواب إلى وضع هذه المحاولة التي يضمها الكتاب، عند ما تناولت القرآن الكريم و درسته في إطار المدرسة العرفانية أو الوجودية، فتحولت تلك الرؤى التي بدت متنافرة للوهلة الاولى إلى عناصر متحاذية متجاورة، متكاملة و متجاوبة بعضها مع بعض، بعد أن أخذ كلّ واحد منها موقعه في المنظومة العرفانية أو الوجودية.

الإطار المدرسي

لقد دفعتنا الثنائيات المتنافرة تلك للبحث عن ناظم يزيل تنافرها و يعيد وضعها في إطار متجاوب و منسجم، و عملية البحث هذه وضعتنا بدورها أمام الخيارين التاليين:

الأوّل: أن يكون ذلك الناظم هو المنظومة الفكرية للإمام وحده بجذرها المعرفي المتمثل بالعرفان، و بمدرسة الحكمة المتعالية التي تحاذيه.

الثاني: أن نلجأ إلى المنظومة العرفانية برمتها التي يأخذ فكر الإمام موقعه فيها بوصفه حلقة من حلقاتها الحاضرة و صيغة معاصرة في التعبير عنها، و نستند إليها في تفسير تلك الثنائيات و بقية العناصر التي تنظم الرؤية التي يلتزم بها الإمام في فهم القرآن.

لا نزعم أنّ الخيار الأوّل عاجز عن توفير الناظم المطلوب، فالانفتاح على الفكر الخميني بمجموعه و التعاطي معه كمنظومة تستند إلى العرفان، كفيل بتقديم حل سهل لتلك الثنائيات و بناء رؤية لفهم القرآن تنبثق من أحشاء الاتجاه العرفاني للإمام.

فهم القرآن، ص: 14

بيد أن وضع فكر الإمام القرآني في إطاره المدرسي و التعامل معه من هذا المنطلق، يدفعنا إلى مدى أرحب، ترتفع معه الرؤية و تمتد لتصير أكثر استيعابا و شمولا. إلى ذلك تزوّدنا هذه المنهجية بثروة هائلة من الأفكار و تضع بين أيدينا مادة خصبة حيّة لها دورها

الفاعل في التشييد و البناء، و تغطي ما يبدو أمامنا من نقاط فراغ في سير البحث و ما نواجهه من ثغرات على مستوى النص الخميني لو اقتصرنا عليه وحده، و تكشف لنا عن مناشئ الأفكار و بذور النظريات و تومئ إلى خلفياتها التأريخية، و من ثمّ تدرس المنجز القرآني الخميني في حجمه الحقيقي بعد أن تضعه في مداه التأريخي، كما إنّها تيسّر السبيل لرؤية مقارنة نحن في أمسّ الحاجة إليها.

أمام هذا المنعطف قرّرنا أن نلجأ إلى الخيارين كليهما، لكي يقطف البحث ثمار الاثنين معا، و هذا ما كان. فقد تناولنا كلّ فكرة من الأفكار الرئيسية للكتاب على ضوء النص الخميني موصولا بأفقه المدرسي و مجدولا إلى انتمائه العرفاني.

و كان من الطبيعي أن نكثّف خاصة على ابن عربي و صدر الدين الشيرازي، ليس فقط لثقلهما المعرفي و المنهجي و غزارة أفكارهما و لا سيّما الأوّل، و إنّما أيضا تمشيا مع النص الخميني نفسه الذي ينهل منهما و يسجّل استحضارا مكثّفا لأفكار ابن عربي و الشيرازي و منهجياتهما في الدرس القرآني بحيث يجوز لنا القول إنّه لا يزيد على كونه قراءة معاصرة لهما.

بديهي أنّ ذلك لم يمنعنا الإفادة من الآخرين بحسب ما تمليه ضرورات البحث، و تبعا لما تتطلبه عمليات تحليل الأفكار و النظريات و المناهج و تفكيكها، ثمّ إعادة تشييدها و بنائها.

على هذا الضوء يتبيّن المغزى من وراء اختيارنا لعنوان الكتاب. ف «فهم

فهم القرآن، ص: 15

القرآن» الذي يؤلّف العنوان الرئيسي، هو تعبير عن مجموعة القواعد و الأطر التي يقدّمها الفكر الخميني لفهم القرآن. على حين يأتي العنوان الشارح «دراسة على ضوء المدرسة السلوكية» دالا على عمق هذا الفهم و توغّل مرتكزاته في المدرسة العرفانية التي

تمثّل إطاره و مرجعيته المعرفية.

تبقى نقطة خاصة ترتبط بالغزالي، فنحن نقدّر الملابسات الخاصة التي اكتنفت حياته العلمية، و نعرف طبيعة الأجواء التي أحاطت بعض أهم مبادراته التأليفية مثل مناهضته للفلسفة في كتاب «تهافت الفلاسفة»، و مناصرته للأشعرية بكامل استحقاقاتها السياسية و الاجتماعية و الثقافية و تصديه للمشروع الفكري الشيعي في كتاب «فضائح الباطنية و فضائل المستظهرية» و نلمّ بالدوافع السياسية و المذهبية التي رمت بظلالها على هذه الأعمال، و دفعته لتوظيف عقله و موقعه الفكري لما فيه خدمة البلاط العباسي؛ بيد أنّنا أغضينا عن ذلك كله و وضعناه جانبا و تعاملنا تعاملا علميا محضا مع أفكاره القرآنية التي وجدنا أنّها تحولت إلى بذور خصبة لنظريات من جاء بعده، بما فيهم ابن عربي.

مشكلتان على طريق البحث

برزت على طريق البحث عدّة مشكلات إجرائية، ربما كان أهمها اثنتين:

الاولى: مشكلة اللغة، إذ تعود أغلب نصوص الإمام التي رجعنا إليها إلى اللغة الفارسية. و من ثمّ وضعتنا هذه المشكلة أمام مهمة مزدوجة تتمثل بترجمة النص إلى العربية بدءا، ثمّ العمل عليه تاليا و ممارسة عملية تحليله و استنباط المفهوم منه، و توظيفه في سياقات البحث.

و قد قبلنا هذه المشقة حرصا على أمانة البحث فيما يستدعيه من العودة إلى

فهم القرآن، ص: 16

النصوص بلغتها الأصلية حيثما كان ذلك ممكنا للباحث، و رغبة في تقديم مادة مفهومة إلى القارئ. أجل، كانت بين أيدينا ترجمات لعدد من كتب الإمام و نصوصه، أفدنا من بعضها. و هذه الملاحظة لا تعني موقفا سلبيا من تلك الترجمات، بقدر ما تعبر عن اختيار منهجي و قرار في العودة إلى النص بلغته الأصلية ما دام ذلك متيسرا.

الثانية: و ترتبط بالمصادر، إذ هناك مصادر أساسية و فرعية. بالنسبة إلى كتب الإمام

و آثاره التي تؤلّف العمود الفقري لمادة البحث، حرصنا على العودة إلى تلك الصادرة عن مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، و عند ما اضطررنا للعودة إلى غيرها أشرنا إلى ذلك و وثقنا للطبعات حين الاختلاف.

بالنسبة إلى صدر الدين الشيرازي فقد عدنا إلى طبعات موحدة لكتبه. أمّا عن ابن عربي فإنّ المحور في العودة إلى آثاره هو كتاب «الفتوحات المكّية». و مع أنّ طبعة د. عثمان يحيى فيها الكثير الذي يغري بدءا من الحروف و الورق و تقطيع النص إلى فقرات و انتهاء بالفهارس، فإنّ اعتبارات عدم اكتمال الطبعة، جعل مصدرنا الأساس هي طبعة «دار صادر» البيروتية و المكتوب على غلافها «دار إحياء التراث العربي». و في الحالات التي عدنا بها إلى الطبعة القاهرية، فقد وثّقنا ذلك في الهامش.

مع الغزالي كان مدار العودة إلى كتبه، هما «إحياء علوم الدين» و «جواهر القرآن» حيث اعتمدنا في الإحياء على طبعة واحدة- لا أظن أنّ هناك غيرها- بينما تعددت طبعات الجواهر، الأمر الذي استدعى التنوية إلى ذلك و توثيق الطبعات.

ظهرت المشكلة نفسها في المصادر الفرعية للبحث مثل كتاب «البرهان في علوم القرآن» للزركشي، و «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي و غيرهما، فحيث

فهم القرآن، ص: 17

عجزت مكتبتي عن تلبية جميع مصادر البحث، كنت مضطرا للاستعارة أو مراجعة المكتبات، الأمر الذي أدّى للتوثيق لكلّ واحد منها في الهامش.

تبقى مسألة اخرى تتمثل في العودة للمصادر. لقد حرصت في الأغلب على العودة إليها مباشرة من دون واسطة، بيد أنّ ذلك بدا باهضا جدا خاصة في بعض الحالات. لذلك استعنت بالكتب التي توفرت على تنظيم بعض آثار الإمام و نصوصه القرآنية و جمعها في ملف واحد، كما هو الحال في كتاب

«القرآن كتاب الهداية» الصادر عن مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، مفترضا صحة إحالاتها.

هيكل الدراسة

توزّع الكتاب على الأقسام الأربعة التالية:

1- علوم القرآن و مبادئ التفسير، و قد تضمن فعلا عشرة فصول بعد أن أسقطت من مادته ثلاثة اخرى تدور حول المحكم و المتشابه و التأويل، معنى الوحي و كيفية نزوله، و أخيرا الإعجاز القرآني، حين ضاق عليّ الوقت و المساحة معا. و هذا القسم يمثّل المادة الأساسية للكتاب.

2- الإمام و الطموح الصدرائي، و يتناول المشروع الخميني في التوفيق بين العرفاء و الفلاسفة و الفقهاء.

3- تطبيقات و أمثلة تفسيرية، تدور حول منتخبات اخترناها من نصوص الإمام تعالج موضوعات عقيدية و تربوية و اجتماعية و سياسية و ثقافية.

4- الإمام و القرآن، و هو عبارة عن يوميات خاصة من حياة الإمام و علاقته بكتاب اللّه.

جواد علي كسّار (خالد توفيق) 20/ جمادي الآخرة/ 1423 ه

فهم القرآن، ص: 19

الإهداء

لقد كان من حسن التقدير أن أنهي جلّ العمل و الشطر الأهم من المقدمة في يوم مولد الزهراء فاطمة؛ و من أحرى من بضعة المصطفى نمدّ لها يد الضراعة و التوسل، رجاء قبول هذا العمل! فإليك يا بنت رسول اللّه جهد المقل.

و صلى اللّه على محمد و آله الطاهرين و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

فهم القرآن، ص: 21

القسم الأوّل علوم القرآن و مبادئ التفسير

اشارة

فهم القرآن، ص: 23

الفصل الأوّل إمكان المعرفة

اشارة

هناك بدايات متعدّدة يمكن أن ينطلق منها البحث التفسيري عند الإمام، يرتبط بعضها بحقيقة القرآن و مكانته، أو بالتفسير و مقاصده، أو بالمفسّر و مؤهلاته، أو بالإشارات التي ألمح إليها سماحته حيال علوم القرآن، أو بما أدلى به من آراء في التفسير نفسه و معارف القرآن.

لكن يبدو أنّ الأصوب منهجيا الشروع من مقولة «إمكان المعرفة»، فما لم يتضح الموقف النظري من هذه النقطة لا معنى للانتقال إلى المراتب الاخرى للبحث.

يمكن النظر إلى مقولة «إمكان المعرفة» من خلال مستويين:

الأوّل: مستوى البحث الفلسفي الذي يتناول عنوان المعرفة مطلقا، بالمعنى الذي يشمل الذخيرة المعرفية و الفكرية العامّة للبشرية بجميع ما يندرج تحتها من تصورات و إدراكات تصديقية. فقد آمنت أغلب الاتجاهات الفلسفية في ماضي الإنسانية و حاضرها بإمكان المعرفة و قيمتها من خلال قواعد للفهم منتجة لحقائق موضوعية، ما خلا بعض النزعات التي شذّت عن الاتجاه الفلسفي العام، و برزت في الفلسفة اليونانية القديمة و الفلسفة الأوروبية الحديثة و المعاصرة عبر السفسطة

فهم القرآن، ص: 24

و مدارس الشكّ و الإنكار، فيما تلفّع بعضها بصفة «المثالية الفلسفية» «1» كمذهب سعى إلى ترسيخ السفسطة و الإنكار و النزعات الشكّية من خلال التنظير.

الثاني: مستوى البحث القرآني الذي يتناول المعرفة القرآنية خاصّة. فمن دون الإيمان بإمكان المعرفة و قيمتها لا معنى للحديث عن التفسير، إنّما يصح ذلك منطقيا من خلال الإقرار بإمكان فهم القرآن على مستوى المبادئ التصوّرية و الإدراكات التصديقية التي تمنح الإنسان معرفة موضوعية بالقرآن، و من ثمّ يمكن نقل هذه المعرفة إلى الآخرين.

فما يحتاج إليه صرح المعرفة القرآنية هو الإيمان بدءا بمبدإ إمكان المعرفة و جواز فهم كتاب اللّه، لكي يرتفع الصرح على ركائز

ثابتة و قواعد فكرية قاطعة.

تواجهنا على هذا الصعيد ثلاثة اتجاهات رئيسية أفرزت مواقف متعدّدة من إمكان المعرفة و فهم القرآن، هي:

1- الاتجاه التعطيلي.

2- الاتجاه الظاهري.

3- الاتجاه المركّب.

1- الاتجاه التعطيلي

اشارة

و قد سعى أنصاره إلى حصر فهم القرآن بأئمة أهل البيت عليهم السّلام وحدهم، حيث لا نصيب لعامة المسلمين من القرآن إلّا تلاوته، و لا حظّ لهم فيه غير التبرك.

هذا الاتجاه لا يقتصر على الأخباريين وحدهم سواء انصرف المصطلح إلى مدرسة

______________________________

(1)- راجع فلسفتنا: 107- 131.

فهم القرآن، ص: 25

أهل الحديث في القرون الهجرية الاولى أو إلى الاتجاه الأخباري المقابل للاتجاه الاصولي الذي ازدهر أوائل القرن الهجري الحادي عشر و كان من أبرز رادته و منظريه محمد أمين الأسترآبادي (ت: 1036 ه)، بل يعدّ الأخباريون من أبرز مصاديقه، إذا صحت النسبة إليهم.

إذا كان جوهر هذا الاتجاه هو تعطيل النظر بكتاب اللّه و حصر فهمه بمرجعية محدّدة هم أئمة أهل البيت عليهم السّلام عند المسلمين الشيعة، فإنّ نظرة عامة إلى تأريخ المسلمين العلمي تدلّ على رسوخ هذا النهج عند بقية المسلمين أيضا و إن اختلفت المرجعية. فالذي يعود إلى التراث التفسيري عند المسلمين السنّة يجد تبلور تيار مبكّر انبثق منذ عصر الخلفاء و جيل الصحابة و التابعين كان هو الآخر يحصر فهم كتاب اللّه في إطار المأثور النبوي، و في نطاق فهم الصحابة و ما نقل عنهم، محكّما مرجعية السلف و سلطتهم.

فروح الموقف التعطيلي سائدة عند الجانبين، لكن باختلاف في المرجعية التي يجوز لها أن تمارس فهم القرآن و معرفته.

في شاهد تنظيري يسوّغ هذا الحصر في الفهم و المعرفة يذكر المحدّث الأسترآبادي أنّ المساحة الغالبة من القرآن و السنّة النبوية جاءت بصيغة الرمز و التعمية بحيث لا يفهمها إلّا الأئمة

المعصومون عليهم السّلام، و بذلك لا بدّ من العودة إليهم، بصفتهم المخاطبين الحقيقيين بالقرآن: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» «1»، إذ يقول في ذلك نصا: «إنّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية، و كذلك كثير من السنن النبوية، و إنّه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 27: 185، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 25.

فهم القرآن، ص: 26

النظرية الشرعية، أصلية كانت أو فرعية إلّا السماع من الصادقين عليهم السّلام، و إنّه لا يجوز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر الكتاب و لا ظواهر السنن النبوية ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر عليهم السّلام، بل يجب التوقف و الاحتياط فيهما» «1».

إنّ تقصّي بعض ما استند إليه هذا الاتجاه في تدعيم رأيه يدل بوضوح على أنّ هذا الموقف من فهم القرآن لا يقتصر على الحركة الأخبارية كمدرسة و رؤية منظمة انطلقت مع الأسترآبادي، بل تعود إلى أوائل عصر أئمة أهل البيت عليهم السّلام. فقد استند هؤلاء إلى موروث حديثي يشترك في ذم اللجوء إلى الرأي و اللوذ بالعقل في التفسير من جهة، و حصر فهم القرآن و معرفته بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و العترة الطاهرة بوصفهم المخاطبين به من جهة اخرى. و عندئذ من الطبيعي أن تؤلف إشعاعات هذه الأحاديث و مدلولاتها ثقافة في وسط المسلمين الشيعة تركّز مقولة «الحصر» و تعطّل العقل الإسلامي من ارتياد هذا الحقل بعد أن حجرت عليه فهم القرآن.

من أمثلة هذه الأحاديث:

1- عن الإمام الباقر عليه السّلام، قال: «ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» «2».

2- عن الإمام الرضا عليه السّلام، عن

آبائه، عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، قال:

«قال اللّه عز و جلّ: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» «3».

______________________________

(1)- الفوائد المدنية: 47.

(2)- وسائل الشيعة 27: 203، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 73، على أنّ هذا الباب يتضمن 82 حديثا يرسّخ مضمونها هذا الاتجاه.

(3)- البرهان في تفسير القرآن 1: 18/ 4.

فهم القرآن، ص: 27

3- عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: «من فسّر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر» «1».

4- من أبرز الأحاديث التي يستشهد بها على حصر فهم كتاب اللّه بأهل البيت عليهم السّلام، هو خبر قتادة الذي دخل على الإمام الباقر، و دار بينهما كلام، ممّا جاء فيه، أنّ الإمام سأل قتادة: «بلغني أنّك تفسّر القرآن؟» فأجاب: نعم، إلى أن انتهى الإمام إلى قوله: «ويحك يا قتادة! إن كنت إنّما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت فسرته من الرجال فقد هلكت و أهلكت، ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به» «2».

5- كذلك ما دار بين الإمام الصادق عليه السّلام و أبي حنيفة حيث ردّ عليه الإمام عند ما ادّعى معرفة كتاب اللّه حق معرفته، بقوله: «يا أبا حنيفة لقد ادعيت علما! ويلك ما جعل اللّه ذلك إلّا عند أهل الكتاب الذين انزل عليهم، ويلك و لا هو إلّا عند الخاص من ذرية نبينا محمد صلى اللّه عليه و آله، و ما ورّثك اللّه من كتابه حرفا» «3».

لقد استطاعت الأحاديث الناهية عن تفسير القرآن بالرأي و إصابته بالعقل، و تلك التي توحي أنّ فهم القرآن مختص بمن خوطب به مطلقا، أن تحشد من ورائها رأيا عاما عكف على مواجهة حركة التفسير و

التعريض بها من خلال نسبتها إلى الرأي المنهي عنه تارة و إلى تجاوز اختصاص أئمة أهل البيت عليهم السّلام بفهم القرآن و تفسيره تارة اخرى، ممّا أدى إلى تجميد التفسير و تعطيله عند هذا الاتجاه.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 19/ 13.

(2)- الكافي 8: 311/ 485، البرهان في تفسير القرآن 1: 18/ 3، بحار الأنوار 46: 349/ 2، وسائل الشيعة 27: 185، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 25.

(3)- وسائل الشيعة 27: 47، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 6، الحديث 27.

فهم القرآن، ص: 28

لوعدنا نتلمس هذا المنحى في أوّل تفسير موسوعي عند المسلمين الشيعة متمثلا ب «التبيان في تفسير القرآن» للشيخ أبي جعفر الطوسي (385- 460 ه) لرأيناه يعكس روح هذه الثقافة و شيوع مناخاتها بين المسلمين كافة شيعة و سنّة.

فعن الشيعة يكتب: «و اعلم أنّ الرواية ظاهرة في أخبار أصحابنا بأنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عن الأئمة عليهم السّلام، الذين قولهم حجة كقول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّ القول فيه بالرأي لا يجوز».

ثمّ يضيف مستطردا مشيرا إلى شيوع الثقافة ذاتها عند أهل السنّة: «و روى العامة ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من فسر القرآن برأيه و أصاب الحقّ، فقد أخطأ». و كره جماعة من التابعين و فقهاء المدينة القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب، و عبيدة السلماني، و نافع، و محمد بن القاسم، و سالم بن عبد اللّه و غيرهم» «1».

عكف الطوسي بعد ذلك على مناقشة هذه الدعوى انطلاقا من قاعدة «إنّه لا يجوز أن يكون في

كلام اللّه تعالى و كلام نبيه تناقض و تضاد»، كما سنعرض لذلك مفصلا عند الردّ على هذا الاتجاه. لكن ما ينبغي الانتباه إليه أنّ هذا النحو من الثقافة التعطيلية كانت له هيمنة على الأجواء الإسلامية عامة شيعية و سنّية «2»، و لا تزال تأثيراته لم تنقطع بعد تغذّيها تلك النزعات المعاصرة التي تزيغ عن النهج الصائب و المتوازن في التفسير.

لا يخفى أنّ من بين ما استند إليه التيار التعطيلي في الفكر القرآني التفسيري،

______________________________

(1)- التبيان في تفسير القرآن 1: 4.

(2)- يلحظ في رصد مناخات هذه الثقافة و ما استندت إليه، و تحليل أدلتها و ما احتجّت به من الوسطين الشيعي و السنّي: التفسير و المفسّرون 1: 60 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 29

هو الاحتجاج بوجود المتشابه في القرآن، و النهي عن اتباعه، و الرجوع به إلى اللّه سبحانه أو اللّه و الراسخين في العلم و هم النبي و أئمة أهل البيت، حيث يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا «1»، إذ احتج هؤلاء إلى أنّ القرآن الكريم كله متشابه بالنسبة إلينا، و من ثمّ لا يجوز أخذ شي ء منه إلّا من دلالة الإخبار على بيانه، حتّى مثل قوله سبحانه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2».

المناقشة
اشارة

ترتد حجج الاتجاه التعطيلي إلى ثلاثة عناصر، هي:

1- أخبار النهي عن التفسير بالرأي.

2- أخبار عدم إصابة القرآن بالعقول.

3- أخبار اختصاص الفهم بمن خوطب به.

كما يضيف إليها بعضهم المنع عن اتباع المتشابه، و

كذلك شبهة التحريف بالنقيصة في بعض آيات القرآن، لاحتمال أن تكون هذه الآيات المفترض سقوطها قد كانت محفوفة بقرائن تدل على المراد.

لقد واجه فكر المسلمين حجج هذا التيار في إطار منظومة اشترك في نسج

______________________________

(1)- آل عمران (3): 7.

(2)- الإخلاص (112): 1.

فهم القرآن، ص: 30

بناها علم الكلام و علم التفسير و علم الاصول، و تعاضد في صياغة فكرها المتكلمون و المفسّرون و الفقهاء و الاصوليون، حيث سنعرض لأهمها على مستويين:

أ- المستوى الكلامي

على صعيد الاحتجاج الكلامي استندوا إلى بناء العقلاء، إذ دأبت البشرية على الأخذ بظواهر الكلام في جميع اللغات و ترتيب الآثار على ذلك، و لا معنى لتجميد هذا الأصل عند ما يأتي الدور إلى القرآن الكريم و عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقد نزل القرآن بلغة العرب و تبنى طريقتهم في عرض أفكاره، فكانوا يفهمون ظاهر كلامه، و يرتبون الأثر على ضوء ذلك «1».

يكتب السيد الخوئي (ت: 1413 ه): «لا شكّ أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لإفهام مقاصده، و أنّه كلّم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم و التكلّم، و أنّه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، و ليتدبّروا آياته فيأتمروا بأوامره و يزدجروا بزواجره» «2».

كما يكتب السيد الطباطبائي (ت: 1403 ه) معززا الأصل ذاته: «القرآن الكريم كلام كسائر ما يتكلّم به الناس، و يدل دلالة واضحة على معانيه المقصودة و ما يرومه من بيان المفاهيم و المعطيات، و ليس فيه خفاء على المستمعين لآياته».

ثمّ يضيف: «و لم نجد دليلا على أنّه يقصد من كلماته غير المعاني التي

______________________________

(1)- الاصول العامة للفقه المقارن: 102- 103.

(2)- البيان في تفسير القرآن: 281.

فهم القرآن، ص: 31

ندركها من

ألفاظه و جمله» «1». و بذلك لم يعبأ بما احتجوا به من أدلّة على تعطيل الفهم، حيث عمد كغيره، إلى مناقشة بعضها و ردّ بعضها الآخر لقصور دلالتها أو لعدم دلالتها أصلا على المطلوب، إذ انتهى بعد المناقشة إلى قوله: «إنّ الآيات القرآنية كبقية ما يتكلّم به المتكلمون لها مداليلها، و هي في نفسها حجّة مع غض النظر عن الأحاديث الواردة في التفسير» «2»، إيمانا منه بأنّ حجّية قول النبي و الأئمة ينبغي أن تفهم من القرآن «فكيف يتصور توقف حجّية ظواهره على أقوالهم عليهم السّلام» «3»؟

عند ما ننتقل إلى الإمام الخميني نراه يستند إلى بناء العقلاء الجاري في المخاطبات العرفية لإثبات حجّية الظهور القرآني. فلمعرفة أي كلام و تحقق حجيّته، لا بدّ من طي مراحل، هي:

1- إثبات صدوره عن المتكلم.

2- إثبات أصل الظهور بالتبادر القائم على أساس الارتكاز العرفي و النظام اللغوي العام، و بالاستفادة من خبراء اللغة و المختصين بها بعد ثبوت حجّية قولهم.

3- إثبات جهة الصدور، و أنّ مراد المتكلم هو الإفهام بالإرادة الجدية بحيث يتطابق ما يفيده الاستعمال الكلامي مع ما يريده المتكلم، دون أن يكون هناك ملاك آخر يمنع من التطابق كالتقية و غيرها «4».

إنّ هذه الخطوات الثلاث تنتظم أي كلام يندرج في نظام التخاطب العرفي، فأي نص يقطع هذه المراحل يحقق لنفسه الحجّية الظاهرية من دون فرق بين كلام

______________________________

(1)- القرآن في الإسلام: 35- 36.

(2)- نفس المصدر: 85.

(3)- نفس المصدر: 37.

(4)- تهذيب الاصول 2: 162، دروس في علم الاصول، الحقلة الاولى: 126- 143.

فهم القرآن، ص: 32

و آخر. على هذا الأساس يكتب الإمام في دروس بحثه الاصولي: «ما ذكرناه جار في عامة التخاطبات العرفية، فإنّ حجّية قول الرجل في أقاريره

و وصاياه و إخباراته يتوقف على طيّ تلك المراحل عامة، من غير فرق بين الكتاب و السنّة و غيرهما».

بعد هذه المقدمة يستطرد الإمام بما نصه: «لا ريب لمن له أدنى إلمام بالمحاورات العرفية، في أنّ ظواهر الكلام متبعة في تعيين المراد، و عليه يدور رحى التكلم و الخطابات من دون أدنى غمض منهم أصلا. و أنّهم يفهمون من قول القائل:

زيد قائم، بالدلالة العقلية على أنّ فاعله مريد له، و أنّ صدوره لغرض الإفادة، و أنّ قائله أراد إفادة مضمون الجملة إخباريا أو إنشائيا لا لغرض آخر.

و بما أنّ مفردات كلامه موضوعة يحكمون أنّ المتكلم أراد المعاني الموضوعة لها، و بما أنّ له هيئة تركيبية و له ظاهر و متفاهم عرفي، يحملون كلامه على أنّه مستعمل فيما هو ظاهر فيه، و أنّ الظاهر من تلك الهيئة التركيبية مراد استعمالا.

ثمّ يتبعون ذلك أنّ المراد استعمالا مراد جدي، و أنّ الإرادة الاستعمالية مطابقة بالإرادة الجدية، كلّ ذلك اصول و بناء منهم في محاوراتهم العرفية، و لا يصغون إلى قول من أراد الخروج عن هذه القواعد، و هذا واضح» «1».

النص القرآني بوصفه كلام اللّه أنزله على النبي وحيا، لا يشذ عن هذه القاعدة العامة، و من ثمّ فلا كلام في ثبوت حجيته بالنسبة إلى الجميع. و بتعبير سماحته في نص اصولي آخر: «لا إشكال في حجّية الظواهر، من غير فرق بين ظواهر الكتاب

______________________________

(1)- تهذيب الاصول 2: 163.

فهم القرآن، ص: 33

و غيره، و لا بين كلام الشارع و غيره، و لا بالنسبة إلى من قصد إفهامه و غيره» «1».

انتقل الإمام في دروسه بعدئذ إلى تمييز الأساس الاصولي لمبدأ حجّية الظواهر ممّا لا شأن له بموضوعنا، ثمّ لبث هنيهة مع

المحقق القمي «2» (ت: 1231 ه) و ما نسب إليه من دعوى اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه دون بقية المخاطبين، لاحتمال وجود قرينة اعتمدها المتكلم، فمع هذا الاحتمال لا يمكن الوثوق من أنّ ظاهر الكلام هو المراد، إذ ردّ عليه بمناقشة في الصغرى و الكبرى، و بما يفيد أنّ الخطاب و إن كان متجها إلى مخاطب خاص إلّا أنّه يجري مجرى الخطاب العام، لأنّ الأحكام و التعاليم مشتركة و وظيفة النبي و الأئمة بثها بين الناس، و بالنتيجة فإنّ الغرض مفاد الكلام نفسه من غير دخل لمتكلم خاص.

ثمّ إنّ احتمال الاعتماد على القرائن وقت الخطاب مدفوع بالاصول العقلانية التي تفيد العمل بالظواهر مطلقا، و أصالة عدم القرينة ما لم يحرز أنّ بناء التكلم قائم على الرمز و حذف القرائن «3»، و القرآن خطاب عام لا يختص بفئة دون اخرى، و لا زمان دون زمان «ليصح افتراض اعتماده على القرائن الحالية التي لا يدركها إلّا من

______________________________

(1)- أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1: 241.

(2)- أبو القاسم بن محمد حسن الجيلاني المعروف بالميرزا القمي، ولد في رشت سنة 1151 ه، درس فيها مقدمات العلوم، ثمّ هاجر إلى خونسار و منها إلى العراق لمواصلة تحصيل العلم، تتلمذ في العراق على يد الوحيد البهبهاني، ثمّ قفل راجعا إلى إيران فاستقر في مدينة قم حتّى وافاه الأجل فيها، من أبرز مؤلفاته كتاب «القوانين في الاصول».

(3)- القوانين في الاصول: 164، على أنّ ما يجدر الانتباه إليه أنّ الإمام ناقش رأي القمي في نطاق الأخبار الواصلة إلينا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام، و قد صرفنا رأي سماحته إلى القرآن حيث لا فرق بينه

و بين السنّة من هذه الزاوية.

فهم القرآن، ص: 34

قصد إفهامهم بها» «1».

لقد سعى بعضهم أن يستظهر بهذا الرأي للمحقق القمي في تأييد موقفه المناهض لحجّية الظواهر القرآنية و اختصاصها بمن خوطب به.

على هذا الأساس تناوله الإمام الخميني و غير باحث ممّن عرض لمناقشة الموضوع، ليتحول بعد ذلك إلى بعض ما استند إليه الأخباريون «2» في موقفهم النابذ لحجّية ظواهر القرآن، خاصة فرضية ادعاء وقوع التحريف «3»، منقضا على هذه

______________________________

(1)- الاصول العامة للفقه المقارن: 107، حيث ناقش القمي في إطار إثبات حجّية ظواهر القرآن الكريم.

(2)- ممّا يستند إليه الأخباريون في عدم حجّية ظواهر الكتاب هو العلم الإجمالي بطرو مخصصات لعمومات القرآن و مقيدات لمطلقاته من السنة. و قد أجاب الاصوليون على ذلك بأنّ أحدا لا يدعي جواز الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عن النبي و الأئمة. و إذا ما انحصرت الشبهة في هذا البعد و لم يرد المحدثون أكثر من هذا، فستكون النتيجة كما انتهى إليها أحد الباحثين المتضلعين، هي: «خلاف شكلي، فهم لا يمنعون من العمل بظواهر الكتاب مطلقا، و إنّما يمنعون عنه إذا لم يقترن بالفحص عن مخصصه أو ناسخه أو مقيّده». ينظر هذا الرأي للسيد محمد تقي الحكيم، في: الاصول العامة للفقه المقارن: 105.

كما انتهى إلى النتيجة ذاتها باحث آخر و هو يسجّل: «و العمدة أنّ نظر القوم [الأخباريين] في مسألة حجّية الكتاب، إنّما يعود إلى جانب آيات الأحكام التي اكتنفها لفيف في حجم ضخم، من الأحاديث المأثورة بوفرة، حيث جاءت اصول الأحكام في الكتاب و فروعها في الأحاديث، فلا تخلو آية من تلكم الآيات إلّا و حولها روايات عدة».

و في ذلك بالذات يقول الأخباريون كسائر الفقهاء الاصوليين:

«لا يجوز إفراد آيات الكتاب بالاستنباط بعيدا عن ملاحظة الروايات الواردة بشأنها». ينظر: التفسير و المفسّرون 1: 96.

(3)- يشير الشيخ معرفة بعد استعراضه لآراء عدد من أقطاب الاتجاه الأخباري، إلى خلوّ

فهم القرآن، ص: 35

الدعوى بكلّيته، مؤكدا بطلان تلك المزعمة، و إنّه لا ينبغي لذي مسكة أن يركن إليها كما سيأتي الكلام مفصلا حين البحث في شبهة التحريف.

ثمّ تقريب كلامي آخر يمكن أن نستشفه على حجّية القرآن في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فيما بعده من العصور، ساقه الإمام في كتاب حجاجي مهم ألفه مبكرا، و ناقش فيه عددا كبيرا من قضايا الساحة على المستوى العقائدي و الثقافي و الاجتماعي و السياسي و التاريخي. يمكن تقرير هذا الاستدلال على أساس المقدمات التالية:

1- لم يأت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرآن للتلاوة فقط بل للعمل. ففي القرآن أحكام و قوانين و آيات عملية ينبغي تطبيقها في واقع الحياة.

2- ما دام في القرآن آيات عملية هي بمثابة القانون العام، فينبغي أن تكون هذه الآيات على مستوى الفهم العام من دون حاجة إلى تأويل لأنّ «القانون إذا ما وضع لبلد ما فلا ينبغي أن يوضع بصيغة بحيث لا يفهمها أهالي ذلك البلد، أجل من

______________________________

- كلامهم من كثير ممّا نسب إليهم «و لا سيّما مسألة التحريف لا تجدها في كلامهم البتة، و إنّما أوردها صاحب «الكفاية» تبعا للشيخ في «الرسائل» احتمالا في المقام، من غير نسبته إلى الأخبارية أو غيرهم».

كما ينبّه في مواضع متعدّدة من دراسته إلى أنّ علماء هذا الاتجاه يقولون بجواز مراجعة جميع الآيات مراجعة ذاتية لفهم معارف الدين و الحكم و الآداب، إلّا إذا وجدت رواية صحيحة صريحة

المفاد فينبغي ملاحظتها أيضا، كما ذهب لذلك الحر العاملي (الفوائد الطوسية: 194)، بل إنّ فقيها أخباريا بارزا كالشيخ يوسف البحراني (الحدائق الناضرة 1:

32) تبنى رأي الشيخ الطوسي في معاني القرآن و فهمه.

ينظر: التفسير و المفسّرون 1: 94- 96.

فهم القرآن، ص: 36

الممكن أن يحتاج القانون في تفصيله و توضيحه إلى علماء، بيد أنّ هذا الأمر هو غير التأويل» «1».

3- العمل بالقرآن لم يختص بعصر النبي دون غيره من العصور، بل هو للعصور كافة «2».

على ضوء هذه المقدمات لا بدّ أن يكون القرآن مفهوما على المستوى العام، أو لا بدّ أن تكون الآيات العلمية هكذا على أقل تقدير. لهذا فإنّ: «ما توفر عليه القرآن من قوانين عملية- و كذلك الحديث- جاء بها من أجل عامة الناس، كان قد بيّنها بطريقة بحيث يفهمها الناس» «3».

ب- المستوى القرآني

يتضمّن ما أفرزه الفكر القرآني على مستوى التفسير و مقدماته و علوم القرآن عامة، بما في ذلك بعض الاستدلالات الكلامية من قبيل ما احتجوا به من أنّ القول بعدم حجّية الظهور مطلقا يفضي إلى إبطال معجزية القرآن، و من ثمّ تعريض النبوة نفسها إلى الخطر على اعتبار أنّ القرآن في عصرنا هو المعجزة الوحيدة المتبقية الدالة على نبوة النبي صلى اللّه عليه و آله.

في الحقيقة لم نتناول هذا الدليل على صعيد المستوى السابق، نزولا على ما

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 321.

(2)- اعتمدنا في صوغ هذه المقدمات، على كشف الأسرار: 134- 135 و 321- 324. على أنّ هذا الكتاب لم ينل بعد العناية المطلوبة من قبل الباحثين لا سيّما باللغة العربية، مع أنّه يتضمن بذور الأفكار، و يشير إلى البواكير الأولى في فكر الإمام و منطلقاته في الحركة.

(3)- كشف الأسرار: 322.

فهم القرآن، ص: 37

درجت

عليه العادة العلمية من تناول هذا البعد في إطار البحوث القرآنية، و في نطاق مقدمات التفسير خاصة.

استدل الفكر القرآني بأبعاد متعدّدة يدلّ كلّ واحد منها على إمكان فهم القرآن و معرفته فضلا عن دلالتها مجتمعة على المطلوب. من ذلك الآيات التي تصف القرآن الكريم بأنّه نور، إذ كيف يعقل أن يشع هذا النور المبين و لا يكون للإنسان نصيب منه، و لو بعض درجاته.

من هذه الآيات قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «1».

و قوله: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ «2»، و قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا «3».

من الأبعاد التي استدل بها الفكر القرآني هي تلك الآيات التي تتحدّث عن شمولية القرآن، من زاوية احتوائه لكلّ ما تحتاج إليه القافلة البشرية في وجودها من معارف و أحكام تتصل بجانب الهداية و تحقيق السعادة، كما في قوله سبحانه:

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «4» فكيف يكون القرآن تبيانا لكلّ شي ء و معانيه مجملة و فهمه مغلق على الإنسان.

ممّا استدل به البحث القرآني على هذا المستوى آيات الحث على التدبّر، إذ لا معنى للتدبر لو لم تكن للآيات دلالة ظاهرة على معانيها، كما في قوله سبحانه:

______________________________

(1)- النساء (4): 174.

(2)- المائدة (5): 15.

(3)- التغابن (64): 8.

(4)- النحل (16): 89.

فهم القرآن، ص: 38

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1»، و قوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «2».

ثمّ إنّ في القرآن خطابات متعدّدة بعضها إلى فئات خاصة و بعضها لعامة الناس و تركز بمجموعها

على تحدي الآخرين ليأتوا بمثل هذا القرآن، بل في بعضها خطاب للإنس و الجن عامة، كما في قوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «3»، و من الطبيعي أنّه لا معنى لهذا التحدي إذا ما افترضنا عدم وضوح القرآن في دلالته على معانيه، إذ لا يصح التحدي بما لا يفهم معناه، و لا يصدر ذلك عن حكيم.

من بين أبرز ما استدل به الفكر القرآني أنّ القرآن في العصر الحاضر هو المعجزة الوحيدة المتبقية لنبوة النبي، و تعطيله عن الفهم بأي حجة كانت يفضي إلى تجميد هذه المعجزة و تفريغ النبوة من سندها و دليلها.

إذا ضمّت هذه الآيات إلى تلك الدالة على عالمية الخطاب القرآني و عدم اقتصاره على قوم أو منطقة و أنّه يتخطى الزمان و المكان ليشمل الناس جميعا في كلّ آن و مكان، كما في قوله سبحانه: وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ «4»، و قوله: وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «5»، و قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ

______________________________

(1)- محمد (47): 24.

(2)- النساء (4): 82.

(3)- الإسراء (17): 88.

(4)- الأنعام (6): 19.

(5)- القلم (68): 52.

فهم القرآن، ص: 39

نَذِيراً لِلْبَشَرِ «1»؛ فستكون النتيجة أنّ القرآن قابل للفهم و دلالاته مفتوحة على المعرفة البشرية في كلّ وقت من دون أن يختص ذلك بعصر أو قوم، فأي: «إنسان عارف باللغة العربية بإمكانه أن يدرك معنى الآيات الكريمة كما يدرك معنى كلّ قول عربي» «2»، و من ثمّ فإنّ: «فهم القرآن عام و إدراك معارفه ميسور للجميع» «3»، و بهذا فقد ثبت المطلوب «4».

من الوجوه الاخرى التي تم

الاستدلال بها هو الجمع بين دلالات بعض الآيات و الروايات، مثل حديث الثقلين و أحاديث العرض على الكتاب، و ذلك انطلاقا من عدم إمكان التناقض بين كلام اللّه و كلام نبيه، فما جاء في الكتاب و صحيح السنّة يعضد بعضه بعضا من دون تضاد و تعارض.

إنّ أفضل صياغة قدمها الفكر القرآني التفسيري لهذا الدليل- و ربما أقدمها زمنيا- تعود إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي، فبعد أن استعرض ما تمسك به بعض في حصر فهمه بمن خوطب به، و عدم مقاربة تفسيره حذر التورط بشبهة التفسير بالرأي، عاد ليكتب: «إنّه لا يجوز أن يكون في كلام اللّه تعالى و كلام نبيه تناقض و تضاد. و قد قال اللّه تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «5»، و قال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍ

______________________________

(1)- المدثر (74): 35- 36.

(2)- القرآن في الإسلام: 36.

(3)- تسنيم 1: 34.

(4)- ينظر في هذه الاستدلالات تفصيلا: البيان في تفسير القرآن: 281- 291، القرآن في الإسلام: 31- 38، و مواضع اخرى، بحوث في تاريخ القرآن و علومه: 306- 324، التفسير و المفسّرون 1: 82- 96، الاصول العامة للفقه المقارن: 100- 117، علوم القرآن:

236- 242، تسنيم 1: 34- 36، و مواضع كثيرة اخرى.

(5)- الزخرف (43): 3.

فهم القرآن، ص: 40

مُبِينٍ «1» و قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ «2» و قال: فيه تبيان كلّ شي ء «3»، و قال: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «4». فكيف يجوز أن يصفه بأنّه عربي مبين، و أنّه بلسان قومه، و أنّه بيان للناس و لا يفهم بظاهره شي ء؟ و هل ذلك إلّا وصف له باللغز و المعمى الذي لا يفهم المراد به إلّا بعد تفسيره و بيانه؟ و ذلك منزه

عن القرآن. و قد مدح اللّه أقواما على استخراج معاني القرآن فقال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «5». و قال في قوم يذمهم حيث لم يتدبّروا القرآن و لم يتفكروا في معانيه: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «6».

و قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي مخلف فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي» فبيّن أنّ الكتاب حجة كما أنّ العترة حجة. و كيف يكون حجة ما لم يفهم به شي ء؟

و روي عنه عليه السّلام أنّه قال: «إذا جاءكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب اللّه، فما وافق كتاب اللّه فاقبلوه، و ما خالفه فاضربوا به عرض الحائط».

و روي مثل ذلك عن أئمتنا عليهم السّلام «7»، و كيف يمكن العرض على كتاب اللّه و هو

______________________________

(1)- الشعراء (26): 195.

(2)- إبراهيم (14): 4.

(3)- هذا النص ليس آية، بل هو معنى مستمد من قوله: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ. (النحل (16): 89)

(4)- الأنعام (6): 38.

(5)- النساء (4): 83.

(6)- محمد (47): 24.

(7)- جاء في هذا المعنى أحاديث كثيرة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام، يراجع بعضها في:

وسائل الشيعة 27: 109- 111، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 10، 11، 12، 14، 15.

فهم القرآن، ص: 41

لا يفهم به شي ء؟» «1».

لقد عبّر هذا الدليل عن نفسه فيما بعد في الكتابات القرآنية اللاحقة، و أشار إليه بهذه الصيغة أو تلك جلّ الباحثين القرآنيين و أغلب المفسّرين عند تناولهم مقولة معرفة القرآن و إمكان فهمه.

دليل الفطرة
اشارة

من الأدلة التي حوتها منظومة الفكر القرآني الخميني في إثبات أصل معرفة القرآن و

فهمه بالنسبة للناس جميعا، هو ما نستطيع تسميته بدليل الفطرة. و الحقّ أنّ هذا الدليل شهد في تنظير مدرسة أهل المعنى و الاتجاه العرفاني عناية فاقت ما بذلته المدارس و الاتجاهات الأخر في البحث القرآني، بل نلحظ أنّ مساحة مهمة من أطياف البحث في اصول التفسير و مقدماته لم تنتبه إلى هذا الدليل و لم تعبأ به «2».

قبل تقديم الدليل و تقرير مقدماته لنمكث هنيئة مع معنى الفطرة و المقصود منها.

1- المقدمات

بعد أن يذكر الإمام المعنى اللغوي الذي يعني «الخلق» و «الخلقة»، يكتب:

«اعلم أنّ المقصود من «فطرة اللّه» التي فطر الناس عليها هو الحال و الكيفية التي خلق الناس و هم متصفون بها، و التي تعدّ من لوازم وجودهم، و تخمرت بها طينتهم

______________________________

(1)- التبيان في تفسير القرآن 1: 4- 5.

(2)- عني به من المفسّرين المعاصرين بالإضافة إلى الإمام الخميني، كلّ من السيّد محمّد حسين الطباطبائي و الشيخ جوادي آملي، و هما و الإمام ينتمون إلى أهل المعنى.

فهم القرآن، ص: 42

في أصل الخلق». ثمّ يضيف: «و الفطرة الإلهية- كما سيتضح فيما بعد- من الألطاف التي خصّ اللّه تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات».

ثمّ يوضح سماحته ما تتسم به أحكام الفطرة من خصائص، و هو يكتب:

«ينبغي أن يعلم بأنّ ما هو من أحكام الفطرة لا يختلف فيه أحد، لأنّها من لوازم الوجود و الهيئة المخمرة في أصل الطينة و الخلقة، يستوي فيها الجميع من العالم و الجاهل، و الوحشي و المتمدّن، و المديني [الحضري] و البدوي. كما أنّ من أحكامها أنّه لا ينفذ إليها أي شي ء من العادات و المذاهب و لا تخلّ بها الطرق المختلفة.

فاختلاف البلاد و البيئات و المأنوسات و الآراء و العادات

التي توجب الخلاف و الاختلاف في كلّ شي ء، حتّى في الأحكام العقلية، ليس لها تأثير في الفطريات مطلقا. كما لا يخلّ بها أيضا اختلاف الأفهام و التفاوت في ضعف الإدراك و قوته، و إلّا إذا لم يكن الشي ء بتلك المثابة، فهو ليس من أحكام الفطرة، و ينبغي عدّه خارجا عن فصيل الفطريات. لهذا قال في الآية الشريفة: فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، أي أنّها لا اختصاص لها بفئة خاصة من الناس؛ كما قال: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ بمعنى أنّه لا يغيّرها شي ء مثل الامور الاخرى التي تختلف بتأثير العادات و غيرها» «1».

كان هذا ما ذكره الإمام عن الفطرة و أحكامها عند حديثه في مناسبة معينة، عن قوله سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «2»، ليستخلص النتيجة التالية في وصف طبيعة أحكامها: «إنّ أحكام الفطرة أكثر بداهة من جميع

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 180- 181.

(2)- الروم (30): 30.

فهم القرآن، ص: 43

الأحكام البديهية، إذ لا يوجد في الأحكام العقلية جميعها حكم بهذه المثابة، بحيث لم يختلف فيه أحد من الناس و لن يختلف. على هذا تعدّ الفطرة أوضح الضروريات و أبده البديهيات، كما ينبغي أن تكون لوازمها من أوضح الضروريات أيضا» «1».

لكن ما هي الفطرة؟ هل تعنى التوحيد أم تتعدى تخوم التوحيد مع سموه و علوّ شأنه لتشمل مصاديق اخرى؟ إنّ الإمام يتبنّى معنى واسعا للفطرة يؤسس له على ضوء مبدأ يفيد أنّ الفطرة المخمورة هي الخير و منشأ الخيرات، و أنّ الفطرة المحجوبة هي الشر و مبدأ الشرور «2».

انطلاقا من هذا التمييز و على ضوء هذا التأسيس تمتد الفطرة لتستحوذ

على منطقة واسعة بسعة الخير نفسه، و هي تشمل كلّ ما له دخل في المعارف و المعتقدات بل «إنّ جميع المعارف الحقة هي من الامور التي فطر اللّه تعالى شأنه، العباد عليها» «3».

إنّ الفطرة أنواع، فمن «أنواع الفطرة الإلهية الفطرة على أصل وجود المبدأ تعالى و تقدس، و منها الفطرة على التوحيد، و الفطرة على استجماع الذات [الإلهية] المقدسة لجميع الكمالات، و الفطرة على المعاد و يوم القيامة، و الفطرة على النبوة،

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 181.

(2)- انطلاقا من حديث: «خمرت طينة آدم بيدي أربعين صباحا» (عوالي اللآلي 4:

98/ 138) يقسّم الإمام الفطرة الإنسانية، إلى فطرة مخمورة و فطرة محجوبة، فالأولى غير محكومة بأحكام الطبيعة و هي لا تزال تحافظ على سمتها النوري و الروحي، و من ثمّ فهي الخير و مبدأ الخيرات. أمّا الثانية فقد سرت فيها أحكام الطبيعة فحجبت عن النور و عالمها الأصلي، فهي الشر و مبدأ جميع الشرور و منشأ جميع ضروب الشقاء و التعاسة.

ينظر: شرح حديث جنود عقل و جهل: 76- 77.

(3)- شرح چهل حديث: 180.

فهم القرآن، ص: 44

و الفطرة على وجود الملائكة و الروحانيين و إنزال الكتب و إعلام طرق الهداية. و هذه التي ذكرت بعضها من أحكام الفطرة و بعضها الآخر من لوازمها» «1».

لكن الإمام نفسه يذكر أنّ بعض الأحاديث فسّرت الفطرة بالتوحيد، و ينقل شاهدا على ذلك من زرارة، في قوله: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جل فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، قال: «فطرهم جميعا على التوحيد» «2»، كما أنّ بعضها فسّرها بالمعرفة أو بالإسلام أو غير ذلك، فكيف يتمّ التوفيق بين الأمرين؟

يجيب الإمام بما نصّه: «لا بدّ من معرفة

أنّ الفطرة فسرت في هذا الحديث الشريف و غيره من الأحاديث ب «التوحيد»، إلّا أنّ هذا من قبيل بيان المصداق، أو التفسير بأشرف أجزاء الشي ء، كأكثر التفاسير الواردة عن أهل العصمة عليهم السّلام، ففي كلّ مرّة تفسّر بمصداق بحسب مقتضى المناسبة، فيحسب الجاهل أنّ هناك تعارضا.

إنّ الدليل على أنّ الأمر هو كذلك في هذا المورد، هو ما ذهبت إليه الآية الشريفة من عدّ «الدين» هو «فطرة اللّه»، مع أنّ الدين يشمل التوحيد و المعارف الاخرى» «3».

2- تقرير الدليل

الآن بعد أن استقرت صورة الفطرة و انتظمت عناصرها على ضوء هذا الفهم، ننتقل لتقرير الدليل، وفق المقدمات التالية:

1- تعدّ الفطرة التي جبل الإنسان عليها أبده القوانين الموجودة بأحكامها

______________________________

(1)- نفس المصدر: 181- 182.

(2)- الكافي 2: 12/ 3.

(3)- شرح چهل حديث: 180.

فهم القرآن، ص: 45

و لوازمها، و هي لا تقتصر على التوحيد وحده بل هو مصداقها أو أشرف أجزائها، إنّما تشمل كلّ المعارف و المعتقدات الحقة و الخيرات ممّا له دخل في كمال الإنسان و سعادته.

2- الإسلام دين الفطرة، و القرآن كتاب الفطرة، فالقرآن هو التعبير اللفظي المكتوب للكتاب التكويني المركوز في الإنسان عبر فطرته. بتعبير الإمام نصا:

«الإيمان باللّه تعالى و بالملائكة و الكتب و الرسل و يوم القيامة، هو الدين القيم، و المحكم المستقيم، الحقّ، على امتداد حياة العائلة البشرية» «1»، و هذه المعاني هي حقائق و معارف مركوزة في المكنون البشري و في جبلّة الإنسان.

فإذا الفطرة هي الدين، و الدين هو الفطرة؛ الفطرة دين تكويني و القرآن دين تدويني، و القرآن يحكي حقائق الفطرة و يعبّر في معارفه عن الجبلّة الإنسانية، و الفطرة تعكس حقائق القرآن و هي مجلاة لمعارفه. بتعبير أخير، القرآن فطرة ناطقة، و الفطرة

قرآن صامت، و لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ «2».

3- ما دامت الفطرة هي الميراث العام للبشرية و الإدراك الشعوري الباطني الذي ينتظم الناس جميعا، و الثقافة المشتركة التي تتوحدهم، و ما دامت لغة القرآن هي لغة الفطرة الإنسانية، فإذن لكلّ إنسان حظّ في معرفة القرآن و فهمه، بل لا مناص من ذلك بلحاظين، أولهما أنّ القرآن هو إيقاظ لمكنونات الجبلّة الإنسانية، و هو الصورة اللفظية لما هو مكنون في التكوين الإنساني، و ثانيهما أنّ لغة القرآن هي لغة الفطرة، و الفطرة قانون وجودي عام، فكيف يجهل الإنسان ما جبل عليه؟ أم

______________________________

(1)- نفس المصدر: 182.

(2)- الروم (30): 30.

فهم القرآن، ص: 46

كيف لا يفهم لغة فطرته؟

لا ريب أنّها إشارة دالة تلك التي سجل فيها مفسر معاصر هذه الحقيقة، في قوله: «لا التوفر على ثقافة خاصة شرط في فهم معارف القرآن الكريم حتّى لا يتيسّر نيل أسراره من دون تلك الثقافة، و لا الحضارة الخاصة مانعة عنه حتّى تكون الإنسانية محرومة من لطائف القرآن بحكم انتمائها إلى تلك الحضارة الخاصة. إنّ الفطرة هي اللغة الوحيدة التي تخلق الانسجام في العالم الإنساني الوسيع، و هي الثقافة العامة و المشتركة للبشرية كافة في جميع الأعصار و الأمصار ... و القرآن الكريم يتحدّث مع الناس بهذه الثقافة، و مخاطبه هي الفطرة الإنسانية، و رسالته هي إيقاظ الفطر. لذلك، فإنّ لغته معروفة للجميع و فهمه ميسور لعموم الإنسانية» «1».

الحصيلة: «إنّ الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن، ممّن شاهد عصر النزول أو غاب عنه، إلى تعقل القرآن و تأمله و التدبر فيه ... تدل دلالة واضحة على أنّ المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر و البحث» «2». هذا ما

سجّله السيد الطباطبائي في الموضوع، ثمّ انعطف يقول: «فالحق أنّ الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود». و ما جاء عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام حاثا على اتباع بيانهم «غير مسوّغ لإبطال حجّية القرآن، و قصر الحجّية على ظاهر بيان أهل البيت عليهم السّلام» «3».

أمّا حديث الثقلين خاصة، فدلالته أن: «يجعل الحجّية لهما معا، فللقرآن الدلالة على معانيه و الكشف عن المعارف الإلهية، و لأهل البيت الدلالة على الطريق

______________________________

(1)- تسنيم 1: 32- 33.

(2)- الميزان في تفسير القرآن 3: 84.

(3)- نفس المصدر: 86.

فهم القرآن، ص: 47

و هداية الناس إلى أغراضه و مقاصده» «1».

تأسيسا على هذا الاستدلال المتنوع الذي تتراص فيه الحجج الكلامية و القرآنية، يسجل الإمام: «إنّ القرآن هو مائدة ممتدة لجميع الطبقات، أي له بحسب الواقع لغة، هي في الوقت ذاته لغة عامة الناس، و لغة الفلاسفة، و لغة من يصطلح عليه بالعرفاء، و لغة أهل المعرفة» «2» و من ثمّ ليس هناك فئة من بني الإنسان تشذ عن فهم القرآن أو لا يكون لها نصيب من إدراكه.

في نص أشمل ذي دلالة على المطلوب، يقول سماحته: «إنّ هذا الكتاب و هذه المائدة الممتدّة في الشرق و الغرب منذ زمان الوحي حتّى القيامة، يستفيد منها الناس كافّة؛ الجاهل (العامي) و العالم و الفيلسوف و العارف و الفقيه ... إنّ البشر يستفيد منه (القرآن) على قدر استعداده، فثمّ مسائل يستفيد منها عرفاء الإسلام العظام، و هناك مسائل يستفيد منها الفلاسفة و حكماء الإسلام، و مسائل يستفيد منها الفقهاء الكبار. هذه المائدة عامة للجميع، و أنّ هذه الطوائف تستفيد من القرآن، و فيه المسائل السياسية و الاجتماعية و الثقافية

و العسكرية و غير العسكرية؛ إذ هي جميعا في هذا الكتاب المقدس.

إنّ الهدف من نزول هذا الكتاب المقدس و الغاية من بعثة النبي الأكرم، هي لكي يكون هذا الكتاب في متناول الجميع، بحيث يستفيد منه الجميع كلّ بحسب سعته الوجودية و الفكرية ... ينبغي للجميع أن يحركوا أفكارهم و يستخدموها و يسخّروا عقولهم باتجاه هذا الكتاب العظيم، كي يستفيد منه الجميع و نستفيد منه

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- صحيفه امام 20: 408.

فهم القرآن، ص: 48

كما هو عليه، و بحسب استطاعتنا.

لقد جاء القرآن لتستفيد منه جميع الطبقات، كلّ بمقدار استعداده. لا شكّ أنّ بعض الآيات لا يستطيع أن يفهمها غير الرسول الأكرم و المتعلم بتعليمه، و ينبغي لنا أن نفهمها عن طريقهم. لكن ثمّ كثير من الآيات هي في متناول الجميع، حيث يجب [على البشر] استخدام أفكارهم و توظيف عقولهم ليستفيدوا منها في مسائل الحياة، سواء هذه الحياة أو الحياة الاخرى».

ثمّ يختم الإمام هذا النص بالحديث عن مراتب تنزّل القرآن الكريم من مرتبة الغيب وصولا إلى مرتبة الشهادة، ليقول: «لقد نزل هذا الكتاب المقدس من مرتبة الغيب، بل حصلت عدّة تنزلات، حتّى وصل إلى مرتبة الشهادة بحيث خرج بصورة ألفاظ، يمكنني أنا و أنتم و الجميع فهم هذه الألفاظ و الاستفادة من معانيها بحسب استعدادنا. إنّ هدف البعثة هو بسط هذه المائدة بين البشرية منذ زمان النزول حتّى النهاية» «1».

إذا كان هذان النصان يربطان عملية إمكان الفهم و يحللانها على ضوء فلسفة البعثة و الغاية منها، فإنّ هناك نصوصا اخر تستدلّ بالرحمة الإلهية على هذا البعد.

فاللّه جلّ جلاله أنزل كتابه للناس و جعله مفهوما لهم رحمة بهم، حيث يقول سماحته: «لقد بيّن الحقّ تعالى الحقائق العقلية في

القرآن الشريف، و بيّنها الأنبياء و الأئمة المعصومون عليهم الصلاة و السلام في الأحاديث الشريفة، بلسان العرف و لغة عامة الناس إلى حد ما، و ذلك شفقة ببني الإنسان و رحمة بهم، لكي يكون لكلّ إنسان نصيب من الحقائق على مقدار فهمه» «2». هذا المعنى قريب لما ذكره

______________________________

(1)- نفس المصدر 14: 387- 388.

(2)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 60.

فهم القرآن، ص: 49

صدر الدين الشيرازي (ت: 1050 ه) من أنّ القرآن «مع عظم قدره و مأواه، و رفعة سره و معناه، ممّا يلبس بلباس الحروف و الأصوات، و اكتسى بكسوة الألفاظ و العبادات، رحمة من اللّه و شفقة على خلقه، و تأنيسا لهم، و تقريبا إلى أفهامهم» «1».

في نص آخر يقول: «إنّ القرآن سفرة ممتدة من الأزل إلى الأبد استفاد منه و يستفيد، جميع طبقات البشر و فئاته». ثمّ ينعطف ليضيف: «إنّ القرآن رحمة للبشر جميعا، و نبي الإسلام رحمة للعالمين كافة» «2».

يمكن أن نضيف من خلال هذه النصوص للإمام دليلي الرحمة و فلسفة البعثة و الهدف منها، إلى جوار ما مرّ من أدلة سابقة على إمكان الفهم.

2- الاتجاه الظاهري

في مقابل الاتجاه الأوّل نشأ في ثقافة المسلمين اتجاه آخر ركّز على الظاهر اللغوي و المدلولات العرفية البسيطة وحدها، ليشيع ثقافة قرآنية مسرفة في التبسيط لا تتخطى مفردات اللغة و الفهم العادي (العامي). لقد استطاع هذا الاتجاه- و لا يزال- أن يجمّد عملية التدبر بالقرآن و الفوز في معانيه، و نجح في خلق انطباع بالاستغناء عن التفسير الدرائي (من الدراية) التحليلي العميق، معرّضا بالتفسير الاجتهادي و متهما إياه بتجاوز الأفق الذي يحدده الفهم العامي البسيط و ما تمليه الظواهر و حسب.

هذا الاتجاه و إن كان يؤمن

بإمكان المعرفة و يبدو في الظاهر و كأنّه يقف على

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 10- 11.

(2)- صحيفة امام 19: 112.

فهم القرآن، ص: 50

الطرف النقيض من الاتجاه الأوّل، إلّا أنّ تحليل محتواه يكشف عن أنّه هو الآخر اتجاه تعطيلي في جوهره و روحه.

برز هذا المنحى واضحا في الرعيل الأوّل من الصحابة و التابعين و من اتبعهم، و قد جاء نتيجة طبيعية لتصوّر بثّته مؤسسة الخلافة و دافعت عنه يقضي بغلق باب المعرفة و الاكتفاء بالظواهر، بل أسرفوا أحيانا حتّى منعوا معرفة الظواهر أيضا بحجة أنّها من التكلّف أو القول على اللّه بغير علم «1»!

لقد تحوّل هذا التوجيه الذي غرزته مؤسسة الخلافة و من يلوذ بها «2»، إلى منهج في التفكير الإسلامي يقضي بإغلاق باب المعرفة العميقة، و الاكتفاء من آيات القرآن في هذا المجال بالتلاوة و السكوت أو بالظاهر كحد أقصى، و إلّا يوصم من يتخطى هذه التخوم بالبدعة و الضلالة.

______________________________

(1)- عن السيوطي في الدر المنثور، قال: سأل أبو بكر عن قوله تعالى: «و أبّا» الآية: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا* مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ عبس (80): 31- 32، فقال: «أيّ سماء تظلّني، و أيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم».

كما أخرج أيضا أنّ عمر قرأ على المنبر: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا* وَ عِنَباً وَ قَضْباً- إلى قوله وَ أَبًّا، قال: كلّ هذا قد عرفناه، فما الأبّ؟ ثمّ نفض عصا كانت بيده، فقال: هذا لعمر اللّه هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، و ما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه.

ينظر: الدر المنثور 6: 317.

(2)- ينظر التحليل الذي قدمه السيد الطباطبائي لطبيعة الدوافع التي حملت

مؤسسة الخلافة إلى اعتماد هذا النهج بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عند ما بادرت إلى غلق مجال البحث العلمي و فتحت الطريق واسعا أمام الفتوحات العسكرية.

راجع رسالة التشيع في العالم المعاصر: 111 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 51

مع أنّ هذا الضرب من التفكير شمل حقائق قرآنية كثيرة، إلّا أنّ قواه تركزت على التوحيد و ما يرتبط به ممّا يعدّ ذروة المعارف القرآنية و السنام الأعلى في آخر كتب السماء. يكتب باحث معاصر عن هذه الفئة، إنّها: «حكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه و معرفة صفاته و أفعاله ... فهذا مالك عند ما سئل عن معنى قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، قال: الاستواء معلوم، و الكيف مجهول، و الإيمان به واجب، و السؤال عنه بدعة.

و قد نقل عن سفيان بن عينيه، أنّه قال: كلّ ما وصف اللّه به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته و السكوت عليه» «1».

لم أكن أريد أن اقحم نصوص الإمام الخميني هنا قبل أن يحين وقتها المناسب، لكن أتساءل: كيف تستوي هذه الرؤية التعطيلية مع تلك التي يسجل فيها الإمام نصا: «إنّ تمام ما تقصده الكتب السماوية، و في ذروتها القرآن الكريم، هو تعريف الحقّ تعالى بجميع ما له من الأسماء و الصفات» «2».

كما يقول في مكان آخر: «و على نحو كلي أحد مقاصده [القرآن الكريم] الدعوة إلى معرفة اللّه، و بيان المعارف الإلهية من الشئون الذاتية و الأسمائية و الصفاتية و الأفعالية، و أكثرها في هذا المقصود هو توحيد الذات و الأسماء و الأفعال» «3». كما يشير سماحته في نص ثالث أنّ الغاية القصوى للأنبياء و المقصد الأعلى للشرائع و الكتب الإلهية «بالأخص القرآن الشريف ... هو

نشر التوحيد

______________________________

(1)- الإلهيات 1: 87. و النصان عن مالك و سفيان أخذهما المؤلف عن: الملل و النحل 1: 93، الرسائل الكبرى 1: 32.

(2)- صحيفه امام 20: 409.

(3)- الآداب المعنوية للصلاة: 323- 324.

فهم القرآن، ص: 52

و المعارف الإلهية» «1»، حتّى ينتهي إلى القول: «لو لا وجود القرآن لاغلق باب معرفة اللّه إلى الأبد» «2».

تشير هذه النصوص بوضوح إلى أنّ المسألة لا تقتصر على توفر القرآن الكريم على هذه المعارف، بحيث لا يكون على الإنسان معتب إذا ما جهلها و لا يضره شي ء إذا ما عزف عنها، بل المطلوب هو معرفة اللّه سبحانه من خلال الأسماء و الصفات، و بيان توحيده و نشره بحيث يكون ذلك هو الغاية، أو بحسب تعبير أبي حامد الغزالي (ت: 505 ه): «كلّ معرفة تحصل قبل معرفته سبحانه فهي مرقاة إلى معرفته، و المنزل الأقصى هو معرفة اللّه» «3».

هذا المنحى لا ينسجم مع تفسير القرآن بالتلاوة و السكوت، و لا يتسق مع عقلية التبديع (من البدعة) أو الاقتصار على الظواهر و الفهم التبسيطي وحده، بل باب الفهم مفتوح غير مغلق، إنّما تتفاوت الأفهام تبعا لاختلاف الاستعدادات، حيث يسجل الإمام: «ينبغي أن يعلم أنّ المعارف قد ذكرت في هذا الكتاب الالهي الجامع، بدءا من معرفة الذات إلى معرفة الأفعال، على نحو تدركه كلّ طبقة على قدر استعدادها» «4».

لقد تحوّل هذا الاتجاه من خلال التنظير إلى سلطة معرفية، تقمع بقية الاتجاهات التفسيرية و تلغيها. ففي البدء أسسوا له و ذكروا أنّه يرتكز إلى دعامات أربع، هي: المأثور النبوي، ثمّ الأخذ بقول الصحابي، ثمّ الرجوع إلى أقوال التابعين،

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 153.

(2)- صحيفه امام 17: 433.

(3)- المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء اللّه الحسنى: 146.

(4)-

آداب الصلاة: 185.

فهم القرآن، ص: 53

ثمّ يأتي التفسير اللغوي في المرتبة الأخيرة «1».

ثمّ انتهوا على ضوء هذه السلطة إلى تعطيل المعرفة القرآنية و قصرها على ما تسمح به تلك الرؤية دون غيرها. يكتب السيوطي (ت: 911 ه): و في الجملة، من عدل عن مذاهب الصحابة و التابعين و تفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا، لأنّهم كانوا أعلم بتفسيره و معانيه كما أنّهم أعلم بالحقّ الذي بعث اللّه به رسوله «2».

كان الغزالي من بين من انتبه إلى خطورة هذا الاتجاه و ناقش حججه و ردّ عليه قبل قرابة ألف عام. ففي بحث له عن فهم القرآن، رفض أبو حامد مبدأ الجمود على الظاهر، حيث كتب يقول: «فاعلم أنّ من زعم أن لا معنى للقرآن إلّا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن نفسه، و هو مصيب في الإخبار عن نفسه، و لكنه مخطئ في الحكم بردّ الخلق كافة إلى درجته التي هي حدّه و محطّه، بل الأخبار و الآثار تدل على أنّ في معاني القرآن متسعا لأرباب الفهم» «3».

ناقش الغزالي حجج هذا الاتجاه و رفض بحزم توقيف تفسير القرآن على الصحابة و ما جاء عنهم، و عدّ حجر معرفة القرآن على سلطة الصحابة من بين موانع أربعة تحول دون فهم القرآن ينبغي التخلي عنها، و من الحجب العظيمة التي ينبغي إزالتها كي تنطلق العقول و النفوس في عملية تفاعل مع كتاب اللّه. كتب في وصف موانع الفهم، مشيرا إلى هذا البعد، ما نصه: «رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا و اعتقد أنّه لا معنى لكلمات القرآن إلّا ما تناوله النقل عن ابن عباس و مجاهد

______________________________

(1)- الإتقان في علوم القرآن

2: 179.

(2)- نفس المصدر: 178.

(3)- إحياء علوم الدين 1: 289.

فهم القرآن، ص: 54

و غيرهما، و إنّ ما وراء ذلك تفسيرا بالرأي» «1»، ثمّ استفاض في الردّ عليه.

ممّن دخل على الخط شاكيا من تفشّي النزعة الظاهرية و ما تسبّبت به من حرمان لنمو المعرفة القرآنية الحقيقية و ازدهارها، صدر الدين الشيرازي الذي قدم لبحوثه القرآنية في كتابه «مفاتيح الغيب»، بما نصه: «و لقد نشأ في زماننا هذا قوم يرون التعمق في العلوم الإلهية و التدبّر في الآيات الربانية بدعة و وبالا، و مخالفة أوضاع الجماهير خدعة و ضلالا ... فأصبح الجهل باهر الرايات، ظاهر الآيات، فانكروا العلم و أهله، و استرذلوا العرفان و فضله، و انصرفوا عن الحكمة و الدين، و منعوا البحث عن طلب اليقين معاندين» «2». ثمّ انعطف يناقش أهل الظاهر، و يدعو الإنسان الذي يتحرّى معرفة القرآن، إلى التحرر من النظرة القصيرة، و من الانكماش على علومه و قناعاته و حسب، حاثّا إياه أن ينطلق عن أسآر «القيود الرسمية، و العقائد العامية، و الآراء الظاهرية و لا تصغ إلى المجادلات الكلامية» «3».

عند ما ننتهي إلى مفسر معاصر من وزن السيد الطباطبائي (ت: 1403 ه) نراه يسجل أنّ الاتجاه الظاهري الذي يؤمن بأنّه: «يكفي فهم نص القرآن الكريم في دائرة الاعتقاد و العمل، بذلك الضرب من الفهم البسيط العادي الذي يتسق مع فهم عامة الناس» استطاع أن يتحول إلى قناعة راسخة بين الجميع «بين الخاصة و العامة» «4»، حتّى حكي عن بعضهم قوله: «إنّ طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب و السنة، الاقتصار على ظواهر الكتاب و السنة، و الاجتناب عن

______________________________

(1)- نفس المصدر: 285.

(2)- مفاتيح الغيب: 4.

(3)- نفس المصدر: 6.

(4)- رسالة

التشيع في العالم المعاصر: 111.

فهم القرآن، ص: 55

تعاطي الاصول المنطقية و العقلية» «1».

عند ما يصل الطباطبائي في تفسيره إلى قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «2» يشير إلى الاتجاه نفسه الذي استطاع أن يوطّد أركانه في حياة المسلمين منذ القرون الاولى، فيقول: «للناس في معنى العرش، بل في معنى قوله:

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ و الآيات التي في هذا المساق مسالك مختلفة، فأكثر السلف على أنّها و ما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى اللّه سبحانه، و هؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية و التطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب و السنة بدعة» «3». بعد جولة تحليلية في مضمون هذه الدعوى و مناقشة لما ترتكز إليه، ينتهي إلى أنّها مجافية للعقل و الدين.

ثمّ يلخّص ما ألحقته من جمود في الفكر القرآني و من ضرر على كبريات المعارف القرآنية متمثلة بالتوحيد على مدى قرون، حين يقرر: «لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش و الكرسي و سائر الحقائق القرآنية، و حتّى اصول المعارف كمسائل التوحيد و ما يلحق بها، بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية و يقفون عليها. و على ذلك جرى التابعون و قدماء المفسّرين» «4».

هكذا يلتقي الاتجاه الأوّل الذي يؤمن بعدم إمكان الفهم مع الاتجاه الثاني الذي يقصره على الظواهر و الفهم العامي، في نقطة واحدة هي التعطيل. يقول الإمام

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 5: 259.

(2)- الأعراف (7): 54.

(3)- الميزان في تفسير القرآن 8: 153.

(4)- نفس المصدر: 161.

فهم القرآن، ص: 56

الخميني: «فمن تمسك بالظاهر و وقف عند بابه قصر و عطل» «1».

لا يزال الاتجاه الظاهري سائدا بين المسلمين تغذّيه عوامل متعدّدة منها تلك النزعات المعادية

للنظر الاجتهادي الدرائي، و تلك التي تناهض الانسياق مع حقائق كتاب اللّه عبر السفر صوب عوالم المعرفة و المعنى بعيدا عن الجمود على الظاهر وحده، تعمقه عملية خلط متعمدة بين ما هو تفسير و ما هي استفادات تربوية و معنوية لا علاقة لها بالتفسير بمعناه الاصطلاحي. ثمّ تركزت سلطة هذا الاتجاه أكثر و زاد من رقعة نفوذه، بعد أن تدخلت لصالحه بعض المنهجيات المعاصرة التي تنطلق من أنّ «القرآن نص لغوي» «2»، و أنّ ماهيته تتمثل بالبعد اللغوي و حسب، و من ثمّ فإنّ «البحث عن مفهوم «النص» ليس في حقيقته إلّا بحثا عن ماهية «القرآن» و طبيعته بوصفه نصا لغويا» «3».

الحقيقة أنّ النزعة الظاهرية المتمركزة من حول اللغة لها في التفسير تأريخ عريق، يشهد على ذلك الجهد النقدي المكثّف الذي واجه هذا التمركز منذ أمد مبكر. فقد واجه الغزالي هذه النزعة بالنقد قبل قرابة عشرة قرون «4»، و قبل أربعة قرون من الآن عدّها صدر الدين الشيرازي تبعا للغزالي من موانع فهم القرآن التي ينبغي التخلص منها، حيث أجاد وصفها بقوله: «أن يكون مستغرقا بعلم العربية و دقائق الألفاظ، مصروف العمر في تحقيقها» «5».

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 62.

(2)- مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن: 9.

(3)- نفس المصدر: 10.

(4)- إحياء علوم الدين 1: 284.

(5)- مفاتيح الغيب: 62.

فهم القرآن، ص: 57

مع الفكر القرآني للإمام الخميني تجدّد نقد هذه النزعة التي تجمّد القرآن على معاني الألفاظ و البحوث اللغوية وحدها و تركّز سلطة الظاهر، حيث قول سماحته: «ليس صاحب هذا الكتاب هو السكاكي و الشيخ ليكون مقصده جهات البلاغة و الفصاحة، و ليس هو سيبويه و الخليل ليكون منظوره جهات النحو و الصرف» «1».

على ضوء هذه

اللمحات التاريخية و النقدية السريعة، يمكن أن نتبيّن خطورة النزعة اللغوية المعاصرة التي تتعامل مع القرآن كنص لغوي و حسب أو كوحدة بيانية و أدبية، في ترسيخ الاتجاه الظاهري و تعميقه، و عزل القرآن عن مقاصده الإلهية الكبرى «2».

إنّ محنة كتاب اللّه كبيرة مع هذا الاتجاه بما يفرضه من طوق على القرآن.

ففيما يعمّق هذا المسار مهجورية القرآن عمليا و واقعيا تراه يوحي بازدهار البحث القرآني ظاهرا، فيخلق انطباعا بالتقدم الصوري للقرآن كما يعبر السيّد الطباطبائي «3». أمّا مع الإمام الخميني فإنّ هذه المحنة تكبر في وعيه، حتّى يساوقها مع الهلاك و يعدّها بؤرة الجهل و سبب التداعي في المعارف القرآنية، حيث يكتب:

«فإنّ الوقوف عند الصورة و العكوف على عالم الظاهر و عدم التجاوز إلى اللبّ و الباطن، اخترام و هلاك، و أصل اصول الجهالات، و اسّ أساس إنكار النبوات

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 194.

(2)- ينظر، في المنحى الأدبي للتفسير: دائرة المعارف الإسلامية، مادة تفسير، أمين الخولي.

(3)- يسوق الطباطبائي هذا التعبير في مسار تحليل رائع عن تأريخ التفكير الإسلامي و اتجاهاته و ما ألمّ بكتاب اللّه على هذا الصعيد. ينظر: الميزان في تفسير القرآن 5: 271- 283، و النص المقتبس في الصفحة: 274.

فهم القرآن، ص: 58

و الولايات» «1».

بيد أنّ ما ينبغي الانتباه إليه جيدا أنّ الاتجاه الباطني في المعرفة القرآنية ليس هو الاتجاه البديل عن الاتجاه الظاهري. فالباطنية كاتجاه في التفسير ليست أقل خطرا في بعدها التعطيلي و ما تؤدي إليه من ترسيخ مهجورية القرآن من الاتجاه الظاهري، و ذلك بحكم منهجها الذي يفترض أنّ لغة القرآن تتألف من الرموز المغلقة التي تؤشر لمعان باطنية لا يستطيع أن يلمسها إلّا الأوحدي من الناس «2».

الباطنية في التفسير كمنهجية

تقف على الطرف الآخر و النقيض من الظاهرية، لا تنتهي إلى نتيجة أقل من التعطيل، و من ثمّ لا تصلح بديلا. يكتب مفسر معاصر عن الاتجاهات التعطيلية، ما نص ترجمته: «بغية حصر الحجّية في الرواية و الصدود عن القرآن، ظنّت جماعة أنّ القرآن أبكم لا لسان له و لم تر فيه إلّا الألغاز و المبهمات غير المفهومة، على حين ظنّ فريق آخر أنّ لغته هي عبارة عن الرمز المحض المشير إلى المعارف الباطنية التي لا يلمسها أحد غير الأوحدي المرتاض، في المقابل مالت جماعة إلى الابتذال و هي تحسب أن صرف معرفة العربية كاف لفهم القرآن، و عدّت الأشخاص العاديين مؤهلين لفهم معاني القرآن، و أنكرت من ثمّ الحاجة إلى علم التفسير» «3».

ما دام الحديث قد بلغ هذه التخوم فمن المفيد أن نستعيد ملاحظة من الإمام حول التفسير العرفاني. فمع أنّ الإمام يتبنّى هذا الاتجاه و قد انخرط فيه معرفيا

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 59- 60.

(2)- كبحث تطبيقي لمنهجية التفسير الباطني مقرونا بملاحظات ناقدة، ينظر: التفسير و المفسّرون 2: 526- 587.

(3)- تسنيم 1: 38- 39.

فهم القرآن، ص: 59

و سلوكيا إلّا أنّه يسجل صراحة بأنّ على حركة التفسير أن لا تجمد عليه وحده، لأنّ ما يجنيه الفكر القرآني التفسيري على هذا الصعيد لا يعدو أن يكون وجها من الوجوه يتعين أن يتكامل مع الوجوه الاخرى. في إشارة بليغة إلى اتجاهات المفسّرين أدلى بها في الدرس الأوّل من دروسه التفسيرية حول سورة الفاتحة، قال الإمام: «على سبيل المثال: إنّ العرفاء الذين ظهروا على مدار عدة قرون و عمدوا إلى كتابة التفسير، مثل محي الدين في بعض كتاباته، و عبد الرزاق الكاشاني في التأويلات، و الملّا سلطان علي

في تفسيره، إنّما ألّفوا في التفسير على وفق طريقتهم المتمثلة بطريقة المعارف [منهج أهل المعرفة] و قد أجاد بعضهم في الفن [العلم- المعرفة] الذي يختص به، بيد أنّ [تفسير] القرآن لا ينحصر بما دوّنوه، فما فعله هؤلاء لا يعدو قراءة بعض أوراق القرآن و الكشف عن بعض وجوهه» «1».

فكما لا يجوز لحركة التفسير أن تجمد عند الظواهر اللفظية و اللغوية و النزعات الآحادية، أو تكون مؤطرة في نطاق الفهم العرفي و الأفق المعرفي العامي وحده، كذلك لا يجوز أن تكون حكرا على الاتجاه العرفاني أو الإشاري أو الرمزي أو الباطني. كما من الخطأ أن نفهم أنّ الاتجاه الباطني هو البديل عن الاتجاه الظاهري. إنّ منهج الإمام الخميني في التفسير يرفض تعطيل القرآن بالجمود على الظاهر، و في الوقت ذاته يرفض قصره على بعد واحد حتّى لو كان ذلك البعد هو البعد العرفاني.

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 93- 94.

فهم القرآن، ص: 60

3- الاتجاه المركّب

و هو يؤمن بإمكان المعرفة و قابلية الإنسان على إدراك القرآن و فهمه، ثمّ يعود لتوزيع الفهم إلى مراتب تبتدئ من حد أدنى يشترك فيه بنو الإنسان جميعا وصولا إلى حد أقصى متمثلا بمن خوطب به تلقّيا عن صاحب الخطاب نفسه.

إنّ إيمان هذا الاتجاه بأصل إمكان المعرفة، ثمّ بتفاوتها و تعدد مراتب الفهم بين حد أدنى و أقصى هو الذي أوحى إلينا تسميته بالاتجاه المركب.

يصدّر الإمام هذا المعنى و يقرّبه بقوله: «لقد جاء القرآن و الحديث لمختلف طبقات الناس. إنّ فيهما علوما يفهمها المختصون بالوحي و لا نصيب لبقية الناس فيها. و ثمّ علوم مختصة بالرعيل الأوّل من العلماء و الآخرون محرومون منها بالكامل، كما هو الحال في البراهين الدالة على تجرّد الواجب و

إحاطته القيومية، فإذا ما جلتم النظر بجميع القرآن لا تستطيعون أن تستفيدوا مثل هذه المسائل من القرآن، لكن أهلها مثل الفيلسوف الكبير صدر المتألهين و تلميذه الجليل الفيض الكاشاني يستخرجون العلوم العقلية العالية من تلك الآيات و الأخبار التي لا يفهم أمثالكم منها أي شي ء» «1».

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 323.

الجدير بالتنبيه أنّ الإمام كان في هذا النص و الكتاب عامة يحاجج مؤلف كتاب «أسرار هزار ساله» و يردّ عليه. و في هذه الفقرة بالذات كان يرد عليه بما ذهب إليه من وجود الغموض في بعض الأحاديث، حيث علل الإمام ذلك على أساس تفاوت معاني النصوص تبعا لتفاوت أفهام الناس و اختلاف إدراكاتهم، و إنّ القرآن و الحديث يستويان في ذلك.

فهم القرآن، ص: 61

في نص آخر يرسم الإمام المسافة الفاصلة بين الحد الأدنى المشترك بين الناس و الحد الأقصى، بقوله: «يحتوي القرآن على كلّ شي ء، إذ فيه أحكام شرعية ظاهرية، و فيه قصص لا نستطيع أن نفهم لبابها و إنّما نفهم ظواهرها. هذه [المعاني] للجميع لا تختص بأحد، بل هي ممّا يستفيد منه الكل. أمّا الاستفادة كما ينبغي فلا تحصل [للجميع] بل يتوفر عليها رسول اللّه نفسه بحسب مبدأ: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» «1».

يمكن تلخيص المبدأ الذي يصدر عنه الإمام في هذه الرؤية، من خلال قوله:

«إنّ القرآن و الكتاب الإلهي مائدة واسعة ممتدة بحيث يستفيد منه الجميع، لكن كلّ يستفيد بحسبه، و الكتاب الإلهي و الأنبياء العظام ركزوا أساسا على تنمية المعرفة» «2».

إذا كان الإنسان العادي هو نقطة البدء في المعرفة القرآنية تبعا لإمكاناته الإدراكية وسعته الوجودية و الفكرية، فإنّ هذه المعرفة تتدرج على خط صاعد لتبلغ الذروة مع الإنسان الكامل الذي يتوفر على

الفهم الكامل لكتاب اللّه سبحانه، و ذلك بناء على السعة الوجودية المفتوحة التي يحظى بها الإنسان الكامل، و طبيعة الموقع الذي يتمتع به في المنظومة المعرفية للإمام الخميني، التي يتبع بها منهج أهل المعرفة.

يقول سماحته: «اعلم أنّ الإنسان الكامل هو مثل اللّه الأعلى، و آيته الكبرى، و كتابه المستبين، و النبأ العظيم. و هو مخلوق على صورته، و منشؤه بيدي قدرته، و خليفة اللّه على خليقته، و مفتاح باب معرفته، من عرفه فقد عرف اللّه، و هو بكلّ

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 138- 139.

(2)- صحيفه امام 19: 115.

فهم القرآن، ص: 62

صفة من صفاته و تجلّ من تجلياته آية من آيات اللّه» «1».

انطلاقا من هذا الموقع الذي يحظى به الإنسان الكامل في المنظومة الوجودية، سيكون المؤهل الوحيد للمعرفة القرآنية الكاملة، و الإدراك الكنهي التام لكتاب اللّه.

هذا المعنى يقرّبه الإمام عبر النص التالي: «لا يستطيع المحدود أن يحيط بغير المحدود إلّا أن يكون هو نفسه غير محدود. الإنسان الكامل غير محدود؛ هو غير محدود بجميع صفاته، و هو ظلّ الذات الإلهية المقدسة، و من ثمّ فهو الذي يستطيع أن يدرك الإسلام كما هو، و أن يدرك الإنسان كما هو، و أن يدرك البعثة كما هي، و أن يدرك القرآن كما هو، و أن يدرك العالم كما هو.

أجل، إنّ للآخرين إدراكا يتناسب مع مرتبتهم الوجودية، و إنّ لهم حصيلة إدراكية تتناسب مع مرتبتهم الكمالية، بيد أنّها محدودة. ينبغي لهم أن يسيروا، و أن يطووا مراتب الكمال واحدة بعد اخرى، لكي يكون بمقدورهم أن يدركوا من هذه الحقائق، و من بينها البعثة [و نزول القرآن] بحسب ما لهم من الكمال» «2».

على وفق هذه المنظومة يكون الإنسان الكامل هو الوحيد

الذي يبلغ مرتبة الحد الأقصى من فهم القرآن، بحكم التكافؤ الوجودي بين الاثنين، عند ما يتحول الحديث من المفهوم إلى المصداق.

فمن الواضح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو المصداق الأوفى للإنسان الكامل يتبعه الأئمة المعصومون من أهل بيته عليهم السّلام. و عندئذ فإنّ المرتبة القصوى من مرتبة

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 56.

(2)- صحيفه امام 12: 420- 421.

فهم القرآن، ص: 63

القرآن العزيز تلتمس عند النبي و أهل بيته.

يوضح الإمام هذا المعنى بقوله: «القرآن نعمة يستفيد منها الجميع، بيد أنّ الاستفادة التي يخرج بها النبي الأكرم هي غير الاستفادة التي يخرج بها الآخرون «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» «1». إنّ الآخرين لا يدرون، و ما لدينا لا يزيد على أن يكون مجرد ذرة، و شي ء تافه، و ضرب من الخيال. إنّ الذي نزل عليه القرآن هو الذي يعرف الأمر؛ يعرف كيف نزل؟ و ما ذا كانت عليه كيفية النزول؟

يعرف ما هو المقصد من هذا النزول، و ما هو محتواه، و ما هي الغاية من هذه العملية» «2».

أخيرا نختم بنص يوضح فيه الإمام الحدّين معا، بقوله: «حدّ القرآن [الأقصى] هو: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»، و مقولة: «يعرف القرآن من خوطب به» ترتبط بنحو من الآيات، و إلّا فإنّ بعض الآيات التي ترتبط بالأحكام الظاهرية و بالنصائح يفهمها الجميع» «3». على أنّ هذا المعنى الذي يفيد توزّع المعرفة القرآنية على أقسام بحيث تستوعب بني الإنسان جميعا، هو ممّا يمكن استلهامه من كلام للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، يقول فيه: «ثمّ إنّ اللّه قسّم كلامه ثلاثة أقسام:

فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلّا من صفا ذهنه و

لطف حسّه و صحّ تمييزه ممّن شرح صدره للإسلام، و قسما لا يعلمه إلى اللّه و ملائكته و الراسخون في العلم» «4».

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 27: 185، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 25.

(2)- صحيفه امام 19: 355- 356.

(3)- نفس المصدر 18: 262.

(4)- وسائل الشيعة 27: 194، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 13، الحديث 44.

فهم القرآن، ص: 64

الخلاصة

ينتهي الموقف من إمكان المعرفة و أصل فهم القرآن إلى ثلاثة اتجاهات، هي:

1- الاتجاه التعطيلي الذي ذهب إلى تعطيل الإدراك الإنساني عن فهم القرآن، و من ثمّ منع عملية التفسير متكئا إلى عدد من الحجج أبرزها أحاديث المنع عن التفسير بالرأي، و روايات عدم إصابة القرآن بالعقل، و اختصاص معرفة القرآن بمن خوطب به، و الاستناد في فهمه و تفسيره إلى المأثور وحده.

2- الاتجاه الظاهري الذي يستند إلى المدلولات اللفظية المباشرة و يجمد عليها، و يجاري الفهم العرفي و الإدراك العامي، آبيا تجاوز ما وراء ظاهر الكتاب و الألفاظ، أو تخطّي ما جاء عن الصحابة و التابعين، أو التفكير خارج أفق الفهم العرفي و الإدراك العامي.

النقطة الأساسية التي تمّ الإشارة إليها على هذا الصعيد أنّ التفسير الباطني بجميع صنوفه و مسمياته ليس هو البديل عن الاتجاه الظاهري.

3- الاتجاه المركّب الذي يؤمن بقدرة الإنسان على فهم القرآن، و يتحرّك من حد أدنى يشترك فيه الجميع، متدرجا على خط متصاعد من مراتب الفهم يأتي تبعا للسعة الوجودية و الإدراكية للإنسان نفسه، بلوغا إلى حد أقصى متمثلا بمن خوطب به.

لقد قدّم رموز هذا الاتجاه و المنتمون إليه عددا من التكييفات النظرية التي أسسوا على ضوئها لقناعاتهم، منها ما اكتسب طابع التمثيل و التقريب، و منها ما اكتسى

طابع التنظير، على ما سيأتي بيان ذلك مفصلا حين الحديث عن نظرية تعدد مراتب الفهم. ينتمي الإمام الخميني إلى الاتجاه الثالث في الموقف من إمكان المعرفة

فهم القرآن، ص: 65

و فهم القرآن كما دلّت على ذلك نصوصه و رؤاه بصراحة.

على ضوء النتيجة المتبناة يمكن الحديث عن التفسير و الحاجة إليه. فإمكان الفهم و تعدد مراتبه هو الذي يفسح المجال لعملية التفسير كي تأخذ موقعها في الفكر القرآني كضرورة لا بدّ منها، و الحديث عن التفسير يجرّ بداهة إلى الحديث عن المفسّر، و ذلك يحكم الترابط القائم بين التفسير و المفسّر.

فهم القرآن، ص: 67

الفصل الثاني الحاجة إلى التفسير

اشارة

بالرغم من أنّ مقولة إمكان معرفة القرآن و فهمه تسوّغ منطقيا عملية التفسير، التي ستكون حاجة بل ضرورة لا بدّ منها لفهم كتاب اللّه و الترقي بهذا الفهم من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها، إلّا أنّ الفكر القرآني للإمام الخميني كما لغيره من المفسّرين و الباحثين القرآنيين قدّم عددا من التكييفات النظرية لمشروعية عملية التفسير و ضروريتها أعقبها بكلام واف عن المفسّر فيما ينبغي له أن يتحلى به من مؤهلات و شروط و مواصفات.

على هذا سيكتسب البحث في هذا الفصل الخريطة التالية:

1- مقدمات في ضرورة التفسير.

2- معنى التفسير عامة و المراد منه عند الإمام الخميني خاصة.

3- من هو المفسّر؟ ما هي شروطه و مؤهلاته؟

ضرورة التفسير

اشارة

ما ثبت في الفصل السابق هو إمكان المعرفة و الفهم، بيد أنّ ذلك لا يعني منطقيا الاستغناء عن التفسير. أجل، لو كانت النتيجة أنّ القرآن بديهي و أنّ البشر

فهم القرآن، ص: 68

متساوون إدراكيا في إدراك هذه البداهة لكان يمكن افتراض استغناء الحاجة إلى التفسير. فيما يلي عدد من التنظيرات على هذا الصعيد:

1- الخروج عن حدّي البداهة و التلغيز

القرآن الكريم منزّه عن حدّي «البداهة» و «التعمية و الإلغاز»، فلا هو بالبسيط الذي لا يحتاج إلى التفسير، و لا هو بالمعقد الذي يكون على حد اللغز بحيث يخرج عن نطاق قانون الفهم و ثقافة المخاطبة و الحوار، و يكون من ثمّ بعيدا عن مقولة التفسير.

و إذا كان التفسير بالمعنى الإدراكي (و ليس الاصطلاحي) هو عملية تحليل عقلي للمبادئ التصورية و التصديقية التي ينطوي عليها اللفظ و الكلام لبلوغ مقصود المتكلم و الوقوف على المدلولين البسيط و المركب للفظ و الكلام، فإنّ القرآن قابل للتفسير من هذه الجهة.

ثمّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يصف به القرآن نفسه من أنّه قول ثقيل إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «1»، و أنّ الجبال الرواسي تخشع و تتصدّع له لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2»؛ لنتج عن ذلك ضرورة تفسيره، و إنّ عملية التفسير ممّا لا يستغنى عنها أبدا لمثل هذا القول «3».

______________________________

(1)- المزمل (73): 5.

(2)- الحشر (59): 21.

(3)- تسنيم 1: 53- 56.

فهم القرآن، ص: 69

على أنّ ما يعزز هذا المعنى و يركزه أكثر هو ما ينطوي عليه القرآن الكريم نفسه من علوم و معارف عميقة في المبدأ و المعاد و المسير، و ما يرتبط بهذه الاصول و المبادئ من عشرات

الحقائق مثل الملائكة و الروح و العرش و الكرسي و القلم و الميزان و الصراط، و كليات التشريع و ما يدخل في تدبير الحياة الإنسانية و سعادة الدارين، فهذا الكتاب العزيز، هو: «الدليل يدلّ على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له نجوم و على نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، و منار الحكمة، و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة» «1».

بتعبير الإمام الراحل عن هذه المعارف: «إنّ القرآن يشتمل على المعارف كافة و جميع ما يحتاج إليه البشر» «2». كما قوله: «مع أنّ القرآن الشريف مشتمل على جميع المعارف، و حقائق الأسماء و الصفات، على النحو الذي لم ينهض أي كتاب سماوي- و غير سماوي- مثلما نهض به القرآن في تعريف ذات الحقّ تعالى و صفاته. كما أنّه جامع للأخلاق و الدعوة إلى المبدأ و المعاد، و الزهد و ترك الدنيا و رفض الطبيعة و التخفّف من أعباء عالم المادة، و الإيصال إلى الحقيقة بحيث لا يتصور مثله [في تحقيق هذه الغايات] إلّا أنّه لم ينطو كبقية الكتب المصنفة على الأبواب و الفصول و المقدمة و الخاتمة، و هذا ينم عن القدرة المطلقة لمنشئه الذي لا يحتاج إلى مثل هذه الوسائل و الوسائط في إلقاء غرضه و التعبير عنه، لذلك تراه

______________________________

(1)- الكافي 2: 599/ 2.

(2)- صحيفه امام 20: 249.

فهم القرآن، ص: 70

يعرض أحيانا بنصف سطر لبرهان ينبغي للحكماء أن يبينوه في عدد من المقدمات، يفعل ذلك بصيغة غير شبيهة بالبرهان» «1».

هذا عن

الجانب المعنوي و ما ينطوي عليه كتاب اللّه من مقاصد في هذا السبيل. أمّا في مجال تدبير الحياة الإنسانية فيصف الإمام ما ينطوي عليه القرآن في هذا المضمار، بقوله: «إنّ لدينا كتابا ينطوي على المصالح الشخصية، و المصالح الاجتماعية و السياسية و ما يرتبط بإدارة البلاد، بحيث أنّ فيه كلّ شي ء» «2».

لو عدنا إلى لغة الحديث الشريف نستخبرها في صفة القرآن و ما ينطوي عليه، فسنقرأ في الخبر ما نصه: «إنّ العزيز الجبار أنزل عليكم كتابه و هو الصادق البار، فيه خبركم و خبر قبلكم و خبر من بعدكم، و خبر السماء و الأرض» «3».

أو يجوز لكتاب هذه صفته أن يستغني فيه الإنسان عن التفسير؟ أبدا، بل المطلوب أن ينطلق العقل الإنساني في عملية تثوير للقرآن و بحث عن علومه و معارفه من خلال ما يطلق عليه صدر الدين الشيرازي بعملية «الاستنباط»، الذي يكتب في توضيحه: «و هو أن يستوضح من كلّ آية ما يليق بها، إذ ما من علم إلّا و في القرآن أصله و فرعه و مبدأه و منتهاه، قال ابن مسعود: من أراد علم الأولين و الآخرين، فليثوّر القرآن» «4».

الحقيقة تومئ هذه النقطة إلى الإطار العام لبعثة الأنبياء و تواتر الرسل. فبعد

______________________________

(1)- قرآن كتاب هدايت: 23- 24.

(2)- صحيفه امام 18: 423.

(3)- الكافي 2: 599/ 3.

(4)- مفاتيح الغيب: 60، و قد جاء في الحاشية: ثور القرآن، أي بحث عن علمه. و هذا المعنى مقتبس عن الغزالي في إحيائه.

فهم القرآن، ص: 71

أنّ انصرف أكثر الخليقة عن المعرفة ظهرت الحاجة للنبوات و هداية السماء، و بتعبير الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: «لما بدّل أكثر خلقه ... و اجتالتهم الشياطين عن معرفته ... فبعث فيهم

رسله، و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته ...

و يثيروا لهم دفائن العقول» «1» بما جاءوا به من الزبر و البينات و التوراة و الإنجيل و الفرقان، ثمّ أخيرا و على رأس الجميع القرآن الكريم، مهيمنا عليه وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ «2». لا ريب أنّ عملية إثارة العقول و تثوير القرآن تمرّ بالتفسير من بين ما تمرّ به.

على ضوء هذه الحصيلة التي تشير إلى صفة القرآن و أنّ فيه مجامع العلوم، لا يكون التفسير ممكنا و حسب بل يكون ضروريا أيضا و حاجة لا مناص منها، و لا منتهى له و لا أمد، و أنّه يتخطّى الظاهر إلى ما وراءه، أو بتعبير صدر الدين الشيرازي: «فهذه الامور تدل على أنّ في فهم معاني القرآن مجالا رحبا و متسعا بالغا، فإنّ المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه» «3».

2- مقولة: تفاوت الإدراك

هناك مدخل تنظيري آخر للحاجة إلى التفسير يرتبط بتفاوت الإدراك الإنساني، و أنّ الناس ليسوا على درجة واحدة من الاستعداد للفهم، فبعض يدرك

______________________________

(1)- نهج البلاغة: 43.

(2)- المائدة (5): 48.

(3)- مفاتيح الغيب: 71، و هذه العبارة تعود إلى الغزالي و قد تبناها الشيرازي. ينظر: إحياء علوم الدين 1: 290.

فهم القرآن، ص: 72

أسرع من الآخر و بعض أتمّ و هكذا، فهل من المعقول أن يحرم هؤلاء من معارف القرآن و هدايته عامة للجميع وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «1»، و قوله: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «2».

لا شك أنّ القرآن نفسه ينطوي على معان مترتبة على بعضها بحيث يكون لكلّ نصيبه، بيد أنّ ذلك لا يمنع من توسط عملية التفسير في إعانة

الإنسان على الرقي العلمي بل و تنمية استعداده الإدراكي وسعته الفكرية و الوجودية لكي يرتقي إلى مراتب أعلى.

لقد اختار هذا المدخل عدد كبير من المفسّرين و الباحثين القرآنيين، من بينهم أبو حامد الغزالي و صدر الدين الشيرازي و السيد محمد حسين الطباطبائي و جوادي آملي، إذ انطلق هؤلاء من مسلّمة ثابتة تفيد اختلاف الناس في العقل، حتّى قال الغزالي: «و من أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنّه منخلع عن ربقة العقل» «3». و مع أنّهم اختلفوا في بعض التفاصيل، إلّا أنّهم اتفقوا بأنّ هذا الاختلاف يملي الحاجة إلى وجود علم التفسير و ضرورة التعليم.

يقول أبو حامد: «و كيف ينكر تفاوت الغريزة و لولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم، و لما انقسموا إلى بليد لا يفهم بالتفهيم إلّا بعد تعب طويل من المعلم، و إلى ذكي يفهم بأدنى رمز و إشارة، و إلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الامور بدون التعليم» «4».

______________________________

(1)- القلم (68): 52.

(2)- الفرقان (25): 1.

(3)- إحياء علوم الدين 1: 88.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 73

ثمّ يأتي الغزالي بتمثيل جميل لتفاوت الناس في الفهم و الإدراك، و هو يقول:

«و انقسام الناس إلى من ينتبه من نفسه و يفهم، و إلى من لا يفهم إلّا بتنبيه و تعليم، و إلى من لا ينفعه التعليم أيضا و لا التنبيه كانقسام الأرض إلى ما يجتمع فيه الماء فيقوى فيتفجر بنفسه عيونا، و إلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج إلى القنوات، و إلى ما لا ينفع فيه الحفر و هو اليابس و ذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها، فكذلك اختلاف النفوس في غريزة العقل» «1».

في كلّ الأحوال، إنّ هذا الاختلاف هو من بين ما أملى

انطلاق عملية التفسير و حاجة الناس إلى تعلم معاني القرآن، حيث كان المعلم الأوّل هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «2»، و قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ «3». ثمّ سار التفسير في خطاه بعد مرحلة التكوين ليواصل أشواطه إلى وقتنا الحاضر.

يمكن أن يضاف إلى هذا المدخل و يلتحق به نظرية موانع الفهم و ضرورة التخلّي عنها. فبعض هذه الموانع علمية و نظرية تملي عملية إزالتها و التخلص منها، الحاجة إلى التفسير الذي يمكن أن ينهض بهذه المهمة.

ممّن يتبنى نظرية موانع الفهم و ضرورة التخلي عنها أبو حامد الغزالي و صدر الدين الشيرازي و الإمام الخميني كما سيأتي الحديث عن ذلك مفصلا.

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- النحل (16): 44.

(3)- الجمعة (62): 2.

فهم القرآن، ص: 74

3- التفكير نزعة غريزية

من بين المفسّرين المعاصرين ذهب السيد الطباطبائي إلى أنّ التفسير و عملية بذل الجهد العقلي في التحليل و التزام طريقة التفكير المنظم هي تعبير عن نزوع غريزي فطري عند الإنسان، و القرآن لم يبطل هذا النزوع بل أيّده. يكتب: «ممّا لا نرتاب فيه أنّ الحياة الإنسانية حياة فكرية لا تتم له إلّا بالإدراك الذي نسميه فكرا» «1». ثم: «لم يأمر اللّه تعالى عباده في كتابه و لا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشي ء ممّا هو من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء و هم لا يشعرون» «2».

على أنّ: «هذا الإدراك العقلي، أعني طريق الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن الكريم و يبنى على تصديقه ... إنّما هو الذي نعرفه بالخلقة و الفطرة ممّا لا

يتغير و لا يتبدل و لا يتنازع فيه إنسان و إنسان، و لا يختلف فيه اثنان» «3».

فإذن نزعة التفكير و البحث عند الإنسان هي نزعة فطرية، و الإنسان يستشعر الحاجة غريزيا إلى الإدراك العقلي المنظم، و من ثمّ فهو يتجه إلى القرآن متدبرا و باحثا و محللا مسوقا بما جبل عليه، و من الواضح أنّ عملية التدبّر و البحث و التحليل للكشف عن المقاصد هي عملية التفسير نفسها.

و القرآن الكريم ليس فقط لم يحل بين الإنسان و بين ممارسة التفسير، بل دأب على أن: «يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله، و سلوك ما تألفه

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 5: 254.

(2)- نفس المصدر: 255.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 75

و تعرفه بحسب طبعها» «1». حتّى: «إنّك لو تتبعت الكتاب الإلهي ثمّ تدبرت في آياته، وجدت ما لعله يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل» «2».

أمّا بشأن التدبر بالقرآن خاصة و الحث على دراسته و البحث و التحليل، فيه فثمّ قوله سبحانه: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «3» و قوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «4»، و قوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «5»، و قوله: أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ «6».

من الأحاديث التي لها دلالة على التدبر و استعمال النظر، ما عن الإمام الصادق عليه السّلام: «إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى و مصابيح الدجى، فليجل جال بصره و يفتح للضياء نظره، فإنّ التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور» «7».

الحقيقة تضعنا أمثال هذه الآيات و معها الأحاديث النادبة إلى التدبّر و

ممارسة البحث و التحليل، على تخوم مدخل آخر لا أظن أنّ هناك من المفسّرين أو الباحثين

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 5: 267.

(2)- نفس المصدر: 255.

(3)- النساء (4): 82.

(4)- ص (38): 29.

(5)- محمّد (47): 24.

(6)- المؤمنون (23): 68.

(7)- الكافي 2: 600/ 5.

فهم القرآن، ص: 76

القرآنيين من شذ عن ذكره في الاستدلال على الحاجة إلى التفسير. لكن ما دامت هذه الفقرة تختص بالسيد الطباطبائي، فلنقتبس منه ما ذكره في الاستدلال على هذا المدخل، من خلال قوله: «قد مرّ فيما تقدم أنّ الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممّن شاهد عصر النزول أو غاب عنه، إلى تعقل القرآن و تأمله و التدبر فيه، و خاصة قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ «1»، تدل دلالة واضحة على أنّ المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر و البحث، و يرتفع به ما يتراءى من الاختلاف بين الآيات».

4- مقولة أنواع الظهور
اشارة

يقدم الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ت: 1980 م) مدخلا آخر لقابلية النص القرآني على التفسير من جهة و حاجة المسلمين إلى التفسير من جهة ثانية، ينطلق فيه من التمييز بين نوعين من الظهور، هما:

الظهور البسيط: هو الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر الظهورات الاخرى.

الظهور المعقد: هو الظهور الذي يتكوّن نتيجة لمجموعة من الظهورات المتفاعلة «2».

على أساس هذا التمييز انتهى الصدر إلى: «أنّ إبراز الظهور المعقد، و تحديد

______________________________

(1)- النساء (4): 82.

(2)- علوم القرآن: 218، و هذا الكتاب يتضمن عددا من البحوث التي كتبها السيد الشهيد الصدر، منها البحث الذي أحلنا إليه كما أشار إليه المؤلف.

فهم القرآن، ص: 77

معنى الكلام على أساسه يعتبر (تفسيرا)، لأنّ تعقيده و تركيبه يجعل فيه درجة من الخفاء و الغموض جديرة بالكشف و الإبانة،

فيصدق عليه اسم (التفسير) «1»».

يستكمل السيد الصدر رؤيته بعنصر آخر يميز هذه المرة على أساسه بين المعنى اللفظي و تفسير اللفظ أو بحسب تعبيره: «بين تفسير اللفظ و تفسير المعنى» «2». فهم القرآن 77 4 - مقولة أنواع الظهور ..... ص : 76

ند العودة إلى كتاب اللّه تواجهنا حقيقتان، هما:

الاولى: إنّ القرآن كتاب هداية هُدىً لِلنَّاسِ «3»، و هو نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ «4». و هذه الحقيقة تملي أن يجي ء القرآن ميسّر الفهم للجميع كي يؤدي رسالته.

الثانية: إنّ كثيرا من الموضوعات التي يستعرضها القرآن لا يمكن فهمها بسهولة، فهي تستعصي على الذهن البشري، و يتيه بها التفكير لدقتها و ارتقائها فوق مستوى الحس و الحياة العادية للإنسان، كما هو الحال مثلا في اللوح و القلم و العرش و الموازين و الملك و الشيطان و إنزال الحديد و الخزائن و ملكوت السماء و تسبيح ما في السماوات و الأرض و ما إلى ذلك، ممّا لا ينسجم و رسالته.

يعالج الصدر هذا التناقض الظاهري انطلاقا من التمييز المذكور. فالقرآن ميسر الفهم «بوصفه كلاما دالا على معنى؛ أي بحسب تفسير اللفظ ... و إنّما الصعوبة في تحديد الصور الواقعية لمعانيه و مفاهيمه ... و في تفسير معنى اللفظ لا

______________________________

(1)- نفس المصدر: 219.

(2)- نفس المصدر: 220.

(3)- البقرة (2): 185.

(4)- المائدة (5): 15.

فهم القرآن، ص: 78

في اللفظ نفسه، لأنّ تلك الموضوعات ترتبط بعوالم أرقى من عالم الحس الذي يعيشه الإنسان، فيكون من الطبيعي أن يواجه الإنسان صعوبات كبيرة إذا حاول تحديد المعنى في مصداق معين، و تجسيد المفهوم في الذهن ضمن واقع خاص» «1».

يقدم هذا المدخل توجيها منطقيا للقضية بطرفيها، إذ يكون النص القرآني على ضوئه قابلا للتفسير، كما يكون

التفسير حاجة ضرورية لقارئ النص.

على أنّ السيّد الصدر لا يهمل الإشارة إلى تفاوت الفهم و حث القرآن بنفسه على التدبر بآياته بوصفهما دليلين آخرين على ضرورة التفسير «2». كما أنّه لم ينس حين يناقش مسألة التفسير بالرأي و التفسير بالمأثور و عند رده على بعضهم ممّن رام «أن يعطل البحث في القرآن الكريم و تفسيره» «3»، أن ينبه إلى أنّ «من الآثار التي [ربما] تركها وجود هذا النوع من التفكير في مدرسة أهل البيت عليهم السّلام، هو عدم تطوّر حركة التفسير في المدرسة تطورا يناسب التطورات المهمة في المجالات الاخرى» «4» كما هو الحال فيما بلغه التقدّم في مضمار علوم الفقه و الحديث و الاصول و الكلام مثلا.

يبقى أن نلحظ أنّ السيد الصدر عزّز رؤيته في الحاجة إلى التفسير و التخصّص به، من خلال تأريخ المسلمين كأمة و واقعهم الحاضر، و من طبيعة تأريخ العلوم. فالعلم أي علم يملي التخصص بعد أن يزدهر و تتراكم خبراته و لا يكون

______________________________

(1)- علوم القرآن: 220- 221.

(2)- نفس المصدر: 221 و 240.

(3)- نفس المصدر: 237.

(4)- نفس المصدر: 237- 238.

فهم القرآن، ص: 79

بمقدور الإنسان أن ينهض بأعبائه وحده. و هذا ما ينطبق على التفسير الذي بدأت بواكيره و خطوطه الاولى كفهم بسيط في عصر النبي، ثمّ كان لا بدّ أن يسير نحو التخصص.

في المقابل يلاحظ تراجع معرفة المسلمين بالقرآن مع تزايد الحاجة إلى فهمه «و مواجهة المشاكل الجديدة على ضوء مفاهيمه و أفكاره، و كثرة طلب تفهّم القرآن» «1» ممّا يملي فتح باب التفسير كمعرفة متخصصة تنهض بإشباع بعض احتياجات المسلمين على هذا الصعيد «2».

إشكالية «النور»

قبل أن ننتقل إلى المدخل الذي يختص به الإمام الخميني على هذا الصعيد من

المهم أن نلبث قليلا مع إشكالية غالبا ما تثار حول تفسير القرآن، تفيد: يصف القرآن الكريم نفسه بأنّه نور، كما في قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً «3»، و قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا «4»، و قوله: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ «5»؛ فكيف يتسق ذلك و القول بحاجته إلى التفسير؟ بتعبير الطباطبائي، ما دام القرآن: «هدى و نورا و تبيانا لكلّ شي ء، فما بال النور يستنير بنور غيره، و ما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه،

______________________________

(1)- نفس المصدر: 269.

(2)- نفس المصدر: 265 و 268.

(3)- النساء (4): 174.

(4)- التغابن (64): 8.

(5)- المائدة (5): 15.

فهم القرآن، ص: 80

و كيف يتبيّن ما هو تبيان كلّ شي ء بشي ء دون نفسه» «1».

فالتفسير معناه الكشف و الإسفار و إزالة الخفاء و الالتباس، و هذا ما لا يتسق و وصف القرآن نفسه بأنّه نور مبين في نفسه مبيّن لغيره. كما أنّه لا ينسجم و الفرضية التي تذهب إلى أنّ التفسير هو إقحام عنصر من خارج القرآن على القرآن حتّى يسفر عن معانيه.

الحقيقة أنّ كون القرآن نور لا ينافي عملية التفسير، لأنّ ما يقابل النور هو الظلمة، في حين أنّ التفسير ينطلق من أنّ القرآن ليس بديهيا- لا أنّه ليس نورا- بل هو نص ينطوي على بعد نظري و عمق معرفي، و من ثمّ فهو بحاجة إلى تفسير.

و هذا ما لا يصطدم بنورية القرآن من هذه الجهة «2».

من جهة اخرى، و بناء على منهجية تفسير القرآن بالقرآن، فسيستغني القرآن بالقرآن، و لا يكون «هذا الكتاب محتاجا إلى شي ء آخر» «3» في بيان مقاصده لأنّ المتعين «في التفسير

الاستمداد بالقرآن على فهمه و تفسير الآية بالآية» «4». و بذلك تحفظ له هذه الطريقة في التفسير ما وصف به نفسه من أنّه نور و كتاب مبين، ممّا ينسجم و ما جاء في الحديث الشريف: «فمن زعم أنّ الكتاب مبهم فقد هلك و أهلك» «5».

على أنّ هاهنا نقطة دقيقة ينبغي أن ننتبه لها، تتمثل في أنّنا نحن الذين نحتاج

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 1: 6.

(2)- راجع تسنيم 1: 61.

(3)- القرآن في الإسلام: 80.

(4)- الميزان في تفسير القرآن 3: 87.

(5)- وسائل الشيعة 27: 191، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 39.

فهم القرآن، ص: 81

إلى التفسير. فالقرآن نور مبين مستغن في نفسه عن التفسير. فحتى تلك المداخل التي تبرر قبول النص القرآني للتفسير على أساس مبدأ الظهور المعقد أو ما يتسم به من عمق علمي و نظري أو على أساس أنّ له معاني مترتبة على بعضها، فهي ترتد نهاية المطاف إلى الإنسان الذي يتعامل مع القرآن، فالظهور معقّد بالنسبة إلى الإنسان، و هو نظري بالنسبة إليه، و إلّا فللقرآن حقيقة واحدة يرجع إليها في نهاية المطاف، و العلة و النقص و الحاجة في القابل لا في الفاعل.

5- مداخل الإمام الخميني
اشارة

يقدّم الفكر القرآني للإمام الخميني عددا من المداخل تتكامل فيما بينها للتدليل على الحاجة إلى التفسير و الحث عليه، نختار منها ما يلي:

أ- القراءة المتدبرة.

ب- البعد العلمي و النظري.

ج- نيل مقاصد القرآن.

د- حق المتعمقين.

أ- القراءة المتدبرة

لقد انطلق القرآن من شعار اقرأ: «كانت القراءة هو ما أوصت به أوّل آية نزلت على النبي» «1»، و حثّ على التعلم منذ البداية: «إنّ أوّل آية نزلت على الرسول الأكرم بحسب الرواية و التاريخ، هي آية: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، فهذه أوّل

______________________________

(1)- صحيفه امام 13: 448.

فهم القرآن، ص: 82

آية تلاها جبرائيل على الرسول الأكرم بحسب النقل، حيث تم الحث و منذ البداية من خلال قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1» على القراءة و التعلّم» «2».

هذا من حيث المنطلق العام في المنهج الإسلامي العلمي. أمّا بشأن القرآن خاصة فللإمام كلام مستفيض في الكشف عن تأكيد الإسلام على مزاولة القراءة المتدبرة و الحث على معرفة معاني القرآن و أسراره، منها قوله: «أحد وصايا الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وصيته بتلاوة القرآن». إنّ فهمنا القاصر لا يستوعب فضل تلاوة القرآن و حفظه و التمسك به و تعلمه و المداومة عليه و مزاولته و التدبر في معانيه و أسراره، فذلك كلّه ممّا يتخطى حدود فهمنا القاصر. ثمّ إنّ ما جاء عن أهل بيت العصمة عليهم السّلام بهذا الخصوص لا يمكن استنفاده في هذه الأوراق، لذا سنقتصر على بعضه.

في «الكافي» بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «القرآن عهد اللّه إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، و أن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية» «3».

و بإسناده عن الزهري، قال: سمعت علي بن الحسين عليهما

السّلام يقول: «آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها» «4».

ما يستفاد من هذين الحديثين هو مدح التدبر في الآيات و التفكر في معانيها، و إنّ عملية التدبر في الآيات الإلهية المحكمة و التفكر بها، و فهم المعارف و الحكم

______________________________

(1)- العلق (96): 1.

(2)- صحيفه امام 14: 389.

(3)- الكافي 2: 609/ 1.

(4)- نفس المصدر: 609/ 2.

فهم القرآن، ص: 83

و التوحيد منها هو غير التفسير بالرأي المنهي عنه، الذي يلتجئ إليه أصحاب الرأي و الأهواء الفاسدة، بدون التمسك بأهل بيت الوحي المختصين بمخاطبة الكلام الإلهي، كما ثبت ذلك في محله ممّا لا يناسب تفصيله في هذا المقام.

يكفينا في هذا الشأن قول اللّه تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1». كما وردت في الأخبار أحاديث كثيرة تأمر بالرجوع إلى القرآن و تحث بالتدبر في معانيه، حتّى نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، قوله: «ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر «2»» «3».

في الفكر القرآني للإمام، المطلوب أن يتحول التدبر في القرآن و التفكير في معانيه إلى ملكة، حتّى تنفتح على الإنسان أبواب الرحمة، و تتوالى عليه المعاني، و يكون القرآن له شفاء. بمعنى أنّ التفكير ممدوح في نفسه، لكن المقصود أن يتحول إلى وسيلة لبلوغ مقاصد الكتاب.

يكتب الإمام في فصل خاص عن فريضة التفكير القرآني: «من الآداب المهمة الاخرى لقراءة القرآن التفكّر. و المقصود من التفكّر هو أن يبحث عن المقصد و المقصود من الآيات الشريفة» «4». و سيأتي أنّ الإمام يعدّ الوظيفة الأساسية للمفسر هو الكشف عن مقاصد القرآن، حتّى اشتهر عنه قوله: «عند ما يعرّفنا المفسر المقصد من النزول يكون مفسرا، لا سبب النزول» «5». عندئذ

يكون من الطبيعي أن

______________________________

(1)- محمّد (47): 24.

(2)- المحجة البيضاء 2: 237، بحار الأنوار 89: 211/ 4.

(3)- شرح چهل حديث: 497.

(4)- آداب الصلاة: 203.

(5)- نفس المصدر: 193.

فهم القرآن، ص: 84

تحتاج عملية التفكير بالقرآن و تدبره إلى التفسير بوصفه كاشفا عن المقصد و المقصود من الآيات، و التفكير إنّما يرمي بلوغ هذه المقاصد.

يكتب الإمام في الفصل المذكور نفسه من كتاب «آداب الصلاة»: «و قد كثرت الدعوة إلى التفكر و تمجيده و تحسينه في القرآن الشريف، قال تعالى:

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «1». في هذه الآية مدح عظيم للتفكر، لأنّ احتمال التفكر قد جعل غاية لإنزال الكتاب السماوي العظيم و الصحيفة النورية الجليلة، و هذا من شدة الاعتناء به حيث أنّ مجرد احتماله صار موجبا لهذه الكرامة العظيمة.

قال تعالى في آية اخرى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2». إنّ الآيات في هذا القبيل أو ما يقرب منه كثيرة، كذلك كثيرة هي الروايات الحاثّة على التفكّر. فقد روي عن الرسول الخاتم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه لما نزلت الآية الشريفة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ ... «3» إلى آخرها، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ويل لمن قرأها و لم يتفكّر فيها».

الأساس في هذا الباب أن يفهم الإنسان ما هو التفكر الممدوح، و إلّا لا شك في أنّ التفكّر ممدوح في القرآن و الحديث. و أحسن التعبير عنه ما جاء عن الخواجة عبد اللّه الأنصاري قدّس سرّه، في قوله: اعلم أنّ التفكر تلمس البصيرة لاستدراك البغية» «4».

______________________________

(1)- النحل (16): 44.

(2)- الأعراف (7): 176.

(3)- آل عمران (3): 190.

(4)- الآداب المعنوية للصلاة:

350، مع تصرف في إعادة الصياغة.

فهم القرآن، ص: 85

تنتهي هذه الفقرة إلى حصيلة تفيد أنّ التدبر في القرآن و التفكير في معانيه يمليان الحاجة إلى التفسير من جهتين؛ من جهة أنّ التدبر يمر بالتفسير بوصفه أحد مقدماته أو سبيل من سبل تحققه، و كذلك من جهة أنّ الغاية المنشودة للتفكّر هي معرفة المقصود القرآني، و معرفة مقصد الكتاب هي الوظيفة العامة التي ينبغي للتفسير أن ينهض بها حسبما يرى الإمام.

على أنّ ما ينبغي تأكيده أنّ الإمام لا يحصر عملية التدبّر بالقرآن و التفكير به في نطاق الممارسة التفسيرية وحدها، إنّما يدخل التفسير بالشروط التي يرتئيها الإمام له في مقدمات التدبّر أو يكون سبيلا من سبله.

في المقابل تتسع عملية التفكير كحالة وجودية عند الإنسان لتشمل القرآن و غير القرآن، لأنّ التفكير مفتاح كلّ معرفة و من ثمّ فهو لا يقتصر على المعرفة التفسيرية وحدها. يكتب الإمام: «اعلم أنّ للتفكر فضيلة كبيرة، و أنّ التفكّر مفتاح أبواب المعارف و مفتاح خزائن الكمالات و العلوم، و هو مقدمة حتمية لازمة للسلوك الإنساني، لذلك ثمّ في القرآن الشريف و الأحاديث الكريمة تعظيم بليغ لشأوه و تمجيد كامل له» «1».

ب- البعد العلمي و النظري

يركّز الإمام في عدد من كتاباته و أحاديثه على ما ينطوي عليه النص القرآني من بعد علمي و عمق نظري، و على الظاهر و الباطن ليتحدث تبعا لذلك عن تعدد مراتب فهم القرآن، كما يشير إلى مسألة المحكم و المتشابه و التأويل و وجود الرمز،

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 191.

فهم القرآن، ص: 86

لتأتي محصلة ذلك تأكيدا لعمليتي التفسير و التأويل و ضرورة وجود مرجعية بشروط و مؤهلات محددة لممارستهما.

في أحد نصوصه يكتب الإمام: «في القرآن أيضا ضربان من الآيات،

أحدهما الآيات العملية التي ينبغي للجماهير أن تعمل بها و يتعين تطبيقها في البلد.

و الثاني الآيات العلمية التي ليس لها هذه الصفة. ما دامت الأحاديث و الآيات التي تنتمي إلى الصنف الأوّل تتسم بالعمومية و قد جاءت من أجل التطبيق، فلا بد أن تكون على مستوى الفهم العام، من دون أن يكون ثمّ منفذ فيها إلى التأويل.

من الطبيعي أن يوضع القانون الذي جاء لبلد معين، بصيغة بحيث يفهمه أهالي ذلك البلد. أجل، من الممكن أن تحتاج عملية توضيح القانون و تفصيله إلى علماء، بيد أنّ ذلك غير التأويل. أمّا الآيات و الأحاديث التي ترتبط بالعلميات و لا تنطوي على بعد عملي، فليس من اللازم على المتكلم أن يتكلم بها على نحو يفهمه الجميع، بل لا يمكن بيان هذه الامور على مستوى الفهم الجماهيري العام» «1».

يوضّح الإمام هذا المعنى بمثال عرفي، حين يضيف: «على سبيل المثال لو أراد أحد الأطباء أن يكتب نسخة دواء لأهالي بلد معين يرتبط بحفظ الصحة، فلا مناص من أن يكتب بصيغة يفهمها الجمهور، لأنّ هذه النسخة مطلوبة من أجل العمل. لكن لو أراد أن يؤلّف كتابا علميا فلا يستطيع أن يكتبه بصيغة بحيث يفهمه جميع الناس. فالكتاب الذي يرتكز إلى مجموعة من القواعد العلمية الدقيقة جدا لا بدّ أن يكون لمجموعة خاصة من العلماء، و لا يحق للآخرين التدخل في ذلك، و إذا ما كانوا عقلاء فلا يعترضون على المؤلف، بقولهم: لم لا تكتب هذا الكتاب

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 321- 322.

فهم القرآن، ص: 87

بصيغة يفهمها الحمالون و باعة الأقمشة!» «1».

ينعطف بعد ذلك سماحته إلى التمييز بين مستوى الفهم العام و بين مستوى الاختصاص، من خلال النص التالي: «ما جاء في القرآن

و الحديث من قوانين عملية لعامة الناس، قد تمّ بيانه على نحو يفهمه الناس، لكن علوم القرآن و الحديث لا يستطيع أن يفهمها كلّ إنسان، كما أنّها لم تأت إلى الجميع، بل هي رمز بين المتكلم و جماعة خاصة، تماما كما أنّ للدولة بعض البرقيات الرمزية التي ليس من مصلحة البلد أن يكشف عنها، بل لا تعرف عنها شيئا حتّى دائرة البريد نفسها، فكذلك في القرآن مثل هذه الرموز» «2».

على هذا ينتهي الإمام إلى ضرورة وجود المرجعية المختصّة التي يحق لها أن تمارس مهام التفسير و التأويل على ما بين الاثنين من فرق بحيث لا يجوز لأي أحد أن يلج هذه الدائرة من دون تأهيل. يكتب سماحته: «أجل، لا ينبغي لكلّ من هبّ و دبّ أن يتدخل في علوم القرآن و الحديث، و القرآن و الحديث قد نهيا أيضا عن مثل هذه التصرفات الجاهلة» «3». لقد كان الإمام يرد في هذه النصوص على «حكمي زاده» مؤلف كتيّب «أسرار عمرها ألف عام» عبر كتابه «كشف الأسرار» «4». و الحقيقة أنّ هذا الاتجاه الذي يمارس دوره تحت صيحات التجديد

______________________________

(1)- نفس المصدر: 322.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر: 323.

(4)- عن طبيعة الدوافع التي أملت على الإمام تأليف هذا الكتاب، و الأجواء التي سادت المناخات الثقافية و الاجتماعية في إيران بعد طرد الحلفاء لرضا خان عن العرش، و ما أدت إليه من ازدهار التيار القومي الذي يدعو إلى فصل إيران عن الإسلام، عن ذلك كله، ينظر:-

فهم القرآن، ص: 88

و يسارع إلى الإنكار الكلي بمجرد أن يواجه إشكالا في الجزء- هذا على تقدير صحة الإشكال- لا يزال يعيش بين المسلمين في جميع بلادهم.

لقد تمثّلت إحدى أبرز مشكلات هذا الاتجاه و

لا تزال بفقدانه للمعرفة المتخصصة فيما يتحدث به و عنه، و من ثمّ اضطراب معاييره، من دون أن يوفر لنفسه الرؤية الكاملة المتخصصة بالموضوع.

إذا ما قلت لهذا التيار إنّ القرآن مفهوم يبادر فورا لإنكار التفسير و دوره، و إذا ما واجه إشكالا في آية سارع للتعميم و حتّى الإنكار.

يواجه الإمام هذا التيار من موقع الإقرار بالمعرفة المتخصصة على مستوى التفسير و التأويل، ثمّ يتخطى ذلك كله إلى أنّ حركة الإنسانية المفكّرة مع كلّ الشوط الذي قطعته، و برغم ما بلغه العلم الإنساني من رقي، لا تزال عاجزة عن إدراك أسرار الوجود من حولها، فكيف باستنفاد كلمات اللّه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً «1».

يصف الإمام بعض مزالق هذا الاتجاه نتيجة جهله و إنكاره للمعرفة القرآنية المتخصصة تفسيرا و تأويلا: «على هذا ينبغي أن نسقط القرآن عن الاعتبار لمجرد أنّك لا تفهم بعض آياته و أنّها لا تتسق مع عقلك الناقص، كما هو الحال في كلام جميع الموجودات و تسبيحها، و كلام النملة و الهدهد، و إحياء الموتى على يد إبراهيم و عيسى، و إحياء عزير و حماره و أمثال ذلك!

فإذن، يتحتم على ضوء كلامك إمّا الإغضاء عن القرآن أو أن يتم الاعتراف

______________________________

مجلة كيهان انديشه، العدد 29: 162 فما بعد، كشف الأسرار و زمينه پيدايش آن (كشف الأسرار و أرضية انبثاقه).

(1)- الكهف (18): 109.

فهم القرآن، ص: 89

بأنّ العلم البشري ناقص و محدود، ليس له اطلاع على نواميس الكائنات و أسرار الموجودات. و في هذا العصر، عصر العلم حيث شهد رقيا متزايدا لا تزال مئات الوف أسرار العالم مجهولة، حيث يعيش العالم بانتظار

أن يأتي علماء كبار كي يكشفوا عن بعض تلك الأسرار» «1».

الحصيلة أنّ في القرآن بعدا علميا و عمقا نظريا يملي الحاجة إلى التفسير.

هذا الأمر لا يتناقض مع مقولات مرت للإمام و غيره من أنّ القرآن جاء للجميع أو يفهمه الجميع، إذ التعارض مرفوع على ضوء تعدد مراتب الفهم و امتدادها بين حدّ أدنى يشتمل على الظهور اللفظي و المعاني المباشرة و بين حد أقصى، كما يرتفع على ضوء تكوّن القرآن من ظاهر و باطن كما سيجي ء تفصيل ذلك لاحقا. على أنّه يستشف من نصوص الإمام في هذا المضمار نتائج اخرى، أهمها اثنتان:

الاولى: إنّ ابتعاد المسلمين عن عصر نزول القرآن و تفشي ضرب من الأمية الفكرية و العلمية إزاء معارف الدين عامة و معارف القرآن خاصة، يملي تصدي فئة للتفسير و اختصاصه به، من دون أن يعني ذلك حصر الإفادة من القرآن و معانيه عن طريق التفسير و المفسّرين وحده.

الثانية: ينم نص الإمام الأخير عن الإشارة إلى ضرب من التفاعل بين كتاب التدوين (القرآن)، و كتاب التكوين (العالم). فكلّ كلمة جديدة تبرز في نطاق التكوين، و كلّ خطوة تتحرك بها الإنسانية على هذا الصعيد تعمق من وعي الإنسان في إدراك كتاب التدوين و الغور في معانيه «2»، على الأقل في الجانب الذي يرتبط

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 324.

(2)- ينظر على هذا الصعيد: رسالت قرآن: 16.

فهم القرآن، ص: 90

بالمعرفة الآفاقية و مجالات التشريع و تدبير الحياة، بل حتّى على صعيد المعرفة الأنفسية.

هذا المعنى الذي يومض إليه النص الأخير للإمام، يحتم وجود فئة مختصّة تنهض بالمهمة و تمارسها على ضوء قواعد محددة، و لا ريب أنّ التفسير و المفسّرين هما أبرز مصداق على هذا الصعيد.

على أنّه يمكن أن نضيف

إلى هاتين النتيجتين ازدهار تيارات معاصرة تهجم على القرآن و كتب الحديث و ما يرتبط بهما من مصنفات، بمؤهلات علمية متواضعة حتّى أنّ بعضها يفتقر للمعلومات العادية العامة في هذا المجال، مع أنّ: «فهم الأخبار و كتب العلماء يتطلب جهودا عظيمة. فتلك ليست كتب قصة و رواية حتّى يتم الرجوع إليها و فهم شي ء منها مزاجيا و كيفما كان. إنّ رجوعك [الخطاب إلى مؤلف كتاب: أسرار عمرها ألف عام] إلى تلك الكتب هو تماما كرجوع الفلاح إلى الفلسفة العالية، أو مطالعة الحمامي للرياضيات العالية. إنّ فهم الكتب العلمية يحتاج إلى التخصص» «1».

ترى هل يشذ القرآن عن القاعدة المذكورة في السطر الأخير من النص أم أنّ شأن القرآن أقل من بقية كتب العلوم و مصنفات العلماء؟ ثمّ أ ليس التفسير كمرجعية متخصصة، تعمل في إطار قواعد و ضوابط، يمكنه أن يسهم في الحد من هذه النزعات و ما تثيره من اضطرابات و ما تجرّ إليه من مزالق خطيرة على وعي المسلمين لا سيّما الشباب؟

من الأمانة أن نكرر الإشارة ثانية إلى أنّ الإمام لا يؤمن بأنّ معرفة القرآن

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 131.

فهم القرآن، ص: 91

تنحصر بالتفسير و المفسّرين، لكن في النهاية لا بدّ و أن تخضع أي معرفة- مهما كان سبيلها- إلى مقاييسها و ضوابطها المعروفة. على أنّ إيمانه بطرق معرفيّة اخرى لا يعني إلغاءه للتفسير و تنكّره له، إنّما هدفه أن يميّز بين التفسير و ما هو خارج عن موضوعه لكي لا يتحول التفسير إلى سلطة تلغي الطرق الاخرى و تغلق بقية أبواب معرفة القرآن ما خلا باب التفسير. فالتفسير ضرورة لكن على قدر موضوعه.

ج- نيل مقاصد القرآن

ملخص نظرية الإمام على هذا الصعيد أنّ القرآن يحتوي على مقاصد

ينبغي أن يكون هناك من يكشف عنها أو يبينها للآخرين إذا كانت مكشوفة، و يشتغل بعرضها و إيضاح تفاصيلها و بيان معانيها و ما تدل عليه. و هذا ما ينهض به التفسير، لأنّ: «معنى تفسير الكتاب بشكل عام هو شرح مقاصد ذلك الكتاب، و أهم ما فيه هو بيان منظور صاحب الكتاب» «1».

إذن فالتفسير ضرورة تمليها الحاجة إلى شرح مقاصد القرآن و التعريف بها، على حسب الطاقة البشرية، و إلّا فإنّ بلوغ الذروة في معرفة المقصد و فهمه مختصّ بأهله. يقول الإمام: «للقرآن الكريم إشارات لطيفة جدا، لكن لأنّه جاء للعموم فقد قيل بصيغة بحيث يدركه الخواص كما يدركه عامة الناس أيضا. إنّ القرآن الكريم مركز جميع ضروب العرفان، و مبدأ كلّ المعارف، بيد أنّ فهمه مشكل. إنّ الذين فهموه هم: «من خوطب به» و الأشخاص الذين اتصلوا برسول اللّه. فاولئك يعرفون ما هي القضية، و أولئك يعملون مقاصد الأنبياء. إنّهم يعرفون المقصد، أمّا نحن

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192.

فهم القرآن، ص: 92

فبعيدون عنه و مهجورون. لكن حسنا، إنّ عنايات الحقّ تعالى كثيرة، فنحن المهجورون يقبل منا على قدرنا، لذا ينبغي أن نسعى صوب القرآن بحسب وسعنا؛ نسعى إليه في العمل و العلم و الأخلاق و في بقية الامور، و إذا ما سعينا [صوب القرآن و مقاصده] بهذا المقدار فهناك جنات عدن» «1».

تنتهي هذه النقطة إلى أنّ للقرآن مقاصد ينبغي التوجّه صوبها، و من المفروض أنّ التفسير هو الذي ينهض بهذه المهمة، أو هو في الأقل أحد السبل المؤدية إلى ذلك.

د- حق المتعمّقين

لا يختص القرآن و ما فيه بقوم أو بعصر، بل هو كتاب جميع العصور: «إنّ اللّه هو مصدر القانون الإسلامي، و اللّه محيط بكلّ شي ء

و بجميع العصور [و من ثمّ] فإنّ القرآن كتاب لجميع العصور» «2».

ثمّ إنّ: «القرآن مشتمل على جميع المعارف، و كلّ ما يحتاج إليه البشر» «3».

على ضوء هاتين المقدمتين يكون بمقدور الإنسانية في كلّ عصر أن تستفيد من القرآن و تنهل من معارفه على قدر وسعها و استعدادها. بيد أنّ ذلك لا يمنع الإسلام من تأكيد حق خاص للمتعمقين في آخر الزمان على وفق الإيمان بنظرية تكامل الإنسانية و نضجها و سيرها على خط متصاعد على هذا المسار.

______________________________

(1)- صحيفه امام 19: 438.

(2)- نفس المصدر 8: 171.

(3)- نفس المصدر 20: 249.

فهم القرآن، ص: 93

في كتابه «الأربعون حديثا» يخصّص الإمام الحديث الثاني عشر لفضيلة التفكير و التفكّر و لمراتبه و ضروبه، ليشير في الأثناء إلى أحد المرتكزات النقلية التي تسند فكرة المتعمقين في آخر الزمان، حين يكتب: سئل علي بن الحسين عليهما السّلام عن التوحيد، فقال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون، فأنزل اللّه تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و الآيات من سورة الحديد إلى قوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فمن رام وراء ذلك فقد هلك» «1». إذا، يتضح أنّ هذه الآيات التي تتضمن التوحيد و تنزيه الحقّ، و البعث و رجوع الموجودات، قد نزلت للمتعمقين و ذوي التفكير العميق» «2».

إنّ الرغبة في بلوغ العمق تستحث الإنسان على التفكير، و التدبر بآيات اللّه، و الاستعانة بذوي النظر الثاقب و التأهيل العلمي الرفيع، و بتعبير الإمام: «من الواضح أنّ هذا الحديث الشريف هو في مقام الحث على التعمق و الترغيب بالتفكر في هذه الآيات الشريفة. لكن لكلّ علم أهل، و لكلّ ميدان فارس. فلا يحسبن إنسان أنّه يستطيع بفكره أو

على أساس الظهور العرفي استيعاب آيات التوحيد، سواء أ كانت في سورة «التوحيد» المباركة أو في هذه الآيات الشريفة أو آيات القرآن الاخرى» «3».

لقد أشار الإمام إلى المعنى ذاته في كتاب آخر من كتبه هو «آداب الصلاة»، و عقّب على الحديث الشريف، بقوله: «يتضح من هذا الحديث الشريف أنّ فهم هذه الآيات الشريفة و هذه السورة المباركة، هو حق المتعمقين و ذوي الأنظار الدقيقة،

______________________________

(1)- الكافي 1: 91/ 3.

(2)- شرح چهل حديث: 194.

(3)- نفس المصدر: 659- 660.

فهم القرآن، ص: 94

و أنّ دقائق التوحيد و المعرفة و سرائرها مطوية فيها، و أنّ الحقّ تعالى أنزل لطائف العلوم الإلهية إلى أهلها» «1».

على هذا الضوء يتضح أنّ لحقيقة القرآن و معارفه عمقا علميا يستدعي المتعمقين للنفوذ إلى عالم القرآن و الصيرورة في دائرته.

إنّ الرحلة إلى العمق و مقاربة مقاصد القرآن العالية، و إن كانت أوسع مدى من التفسير لا سيّما في نزعته الظاهرية التي تجمد على مدلولات الألفاظ و المعاني السطحية و أوائل المفهومات، و تقف عند أفق الفهم العرفي و العامي، إلّا أنّها تمرّ بالتفسير كمحطة من المحطات، و تستدعي وجود مرجعية علمية مسئولة على هذا الصعيد، خاصة إذا أخذنا الأطوار الأرقى في التفسير التي تتخطى التفسير اللغوي و المدلولات المباشرة لتنفذ إلى ما وراء المعاني الظاهرة، كما هو الحال في التفسير الحكمي و العرفاني على نحو أخص.

على هذا الأساس نفهم تحذير الإمام المتكرر من الجمود على التفسير السطحي، و دعوته إلى مسايرة معاني القرآن و لطائفه على مستوى مدارات تفسيرية أرقى. يكتب عند الحديث عن المتعمقين و تفسير آيات التوحيد، محذرا من النزعة العامية و رافضا فرض سلطتها كمرجعية عليا للتفسير، ما نصه: «إنّ من لا

حظّ له من سرائر التوحيد و المعارف الإلهية، لا حق له في إبداء النظر بهذه الآيات، كما لا يحق له أن يقصر هذه الآيات و يحملها على المعاني العامية السوقية التي يفهمها» «2».

كما يرفض الاتجاه القشري ذاته و يحذر من نصب مرجعيته المتمركزة من

______________________________

(1)- الآداب المعنوية للصلاة: 466.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 95

حول فهمه الخاص و محض الظهور العرفي، عند ما يتحدث عن الموضوع نفسه في كتابه «الأربعين»، و هو يقول: «فلا يحسبن- إنسان- أنّه يستطيع بفكره أو على أساس الظهور العرفي استيعاب آيات التوحيد ... أو آيات القرآن الاخرى. الأمر نفسه ينطبق على الأخبار الشريفة و خطب الأئمة عليهم السّلام و أدعيتهم و مناجاتهم المشحونة بالمعارف. إنّ هذا التصور هو و هم ساذج، و وسوسة شيطانية، و هو كمين نصبه قاطع طريق الإنسانية (الشيطان) لكي يصد الإنسان عن المعارف، و يغلق عليه أبواب الحكمة و المعرفة، و يتركه تائها في وادي الحيرة و الضلالة» «1».

لا يخفي الإمام ميله إلى التفسير العرفاني و إن كان لا يجمد عليه، و لا يراه في تعارض مع اتجاهات التفسير الاخرى، إنّما يراه طورا أرقى يأتي من بعدها، إلّا أنّه يسجل دون لبس في واحد من كتبه المبكّرة التي يعود تأريخ تأليفها إلى عام 1358 ه/ 1939 م، بأنّ ما يعنيه ليس تسويق الفلسفة أو العرفان و الدعوة إليهما، بل المهم لديه فتح الطريق إلى معارف القرآن و أهل البيت، حيث يضيف في تتمة النص السابق: «يشهد اللّه- و كفى به شهيدا- أنّ ما أقصده من هذا الكلام ليس ترويج سوق الفلسفة الرسمية أو العرفان الرسمي، بل المقصود أن ينعطف إخواني المؤمنين خاصة أهل العلم بقدر نحو معارف

أهل البيت عليهم السّلام، و نحو القرآن و أن لا يغفلوا عنها. فالأساس في بعثة الرسل و إنزال الكتب يكمن في المقصد الشريف المتمثل بمعرفة اللّه، ففي ظل هذا المقصد تتحقق تمام السعادة الدنيوية و الاخروية» «2».

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 659- 660.

(2)- نفس المصدر: 660.

فهم القرآن، ص: 96

الخاتمة

إنّ إمكان النص القرآني و قابليته للتفسير أمر تثبته أدلة متظافرة من القرآن الكريم نفسه و سنة النبي و الأئمة المعصومين، و من العقل، كما تشهد عليه السيرة العملية للمسلمين منذ عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى وقتنا الحاضر «1».

ميزة هذا الفصل أنّه سمح لنا أن نطلّ على ما قدّمه الفكر القرآني للإمام الخميني من مداخل على هذا الصعيد، ممّا يعدّ بمثابة التمهيد للفصل الآتي الذي يدور حول مقولة التفسير ذاتها.

______________________________

(1)- راجع للمزيد: التفسير و المفسّرون 1: 14 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 97

الفصل الثالث التفسير و مقاصد القرآن

اشارة

يتوخّى هذا الفصل عرض رؤية الإمام حيال التفسير و ربطه بين هذه الممارسة و بين مقاصد القرآن، و ما يترتب على ذلك من نتائج على صعيد مؤهلات المفسّر أو خصائص التفسير المنشود و منهجيته، و نقد عدد من الاتجاهات التفسيرية التي ألفها علم التفسير، خاصة و إنّ نصوص الإمام هنا تتسم بضرب من الكثافة النسبية، و الدوران حول الموضوع مباشرة.

على هذا الضوء سيمرّ البحث عبر المحطات التالية:

1- لمامة سريعة عن التفسير لغة و اصطلاحا.

2- مفهوم التفسير و معناه عند الإمام الخميني.

3- إطلالة على مقاصد القرآن.

4- إشكالية نظرية المقاصد.

5- النتائج المترتبة على هذه الرؤية.

فهم القرآن، ص: 98

1- التفسير لغة و اصطلاحا

يدور معنى التفسير في اللغة حول البيان و الإظهار و الكشف، من دون فرق يعبأ به بين مصدره الاشتقاقي و فيما إذا كان مأخوذا من «الفسر» أو من «السّفر».

لقد اختلف اللغويون إلى اتجاهين بارزين في تحديد الأصل الاشتقاقي الذي انبثق منه لفظ «تفسير»، بين من ذهب إلى أنّ الجذر هو «الفسر» بمعنى الإبانة و كشف المغطى، ففسر الشي ء يفسره فسرا، أي أبانه و كشف عنه «1»، و بين من يراه أنّه مقلوب الجذر عن «السفر»، فيقال: سفرت المرأة سفورا، إذا ألقت خمارها عن وجهها فهي سافرة «2». و تقول: أسفر الصبح إذا أضاء «3».

لكن برغم هذا الاختلاف فإنّ المعاني اللغوية للتفسير متقاربة بين الاتجاهين. يكتب أحد الباحثين المختصين: «فالدلالة فيه واحدة في اللغة، تعني كشف المغلق، و تيسر البيان، و الإظهار من الخفي إلى الجلي» «4». كما يكتب آخر:

«يستوي أن يكون التفسير مشتقا من «الفسر» أو من «السفر» فدلالة المادتين واحدة في النهاية و هي الكشف عن شي ء مختبئ» «5».

إذا كانت المناورة محدودة في مجال تحديد المعنى اللغوي

في التفسير، فإنّ المدى يبدو رحبا و مفتوحا على اجتهادات عديدة في المجال الاصطلاحي. ففي

______________________________

(1)- لسان العرب 6: 361، القاموس المحيط 2: 110.

(2)- البرهان في علوم القرآن 2: 147.

(3)- الإتقان في علوم القرآن 4: 167.

(4)- دراسات قرآنية 2: 15- 16.

(5)- مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن: 225.

فهم القرآن، ص: 99

اللغة المعنى توقيفي أو يكاد إذ ليس بمقدور الإنسان أن يتحرك بعيدا عن الاصول اللغوية و هي محدودة، أمّا على صعيد الاصطلاح فيبدو من الصعب و صد باب الاجتهاد و التأسيس خاصة في علم مفتوح كالتفسير، من دون أن يعني ذلك إهمال العناصر المشتركة بين مختلف المحاولات التي جاءت ثمرة لتراكم الجهود و ازدهار البحث و نموه في هذا المجال.

فيما يلي نطل على بعض التعريفات و التحديدات التي قدمها الفكر القرآني لمفهوم التفسير و معناه، في محاولة لترسيم معالم هذه الممارسة على أفقها الأرحب، ثمّ نعكف بعدها لتقديم رؤية الإمام لننظر بم تتميز عن غيرها.

1- في محاولة ترتبط بمسعى تنظيري مهم في علوم القرآن، ذكر بدر الدين محمد بن عبد اللّه الزركشي (ت: 794 ه)، أنّ التفسير في الاصطلاح: «هو علم نزول الآية و سورتها و أقاصيصها و الإشارات النازلة فيها، ثمّ ترتيب مكيها و مدنيها، و محكمها و متشابهها، و ناسخها و منسوخها، و خاصّها و عامها، و مطلقها و مقيدها، و مجملها و مفسرها. و زاد فيها قوم علم حلالها و حرامها، و وعدها و وعيدها، و أمرها و نهيها، و عبرها و أمثالها» «1».

كما قال عنه أيضا: «التفسير علم يفهم به كتاب اللّه المنزل على نبيه محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بيان معانيه، و استخراج أحكامه و حكمه،

و استمداد ذلك من علم اللغة و النحو و التصريف و علم البيان، و اصول الفقه، و القراءات، و يحتاج لمعرفة أسباب النزول و الناسخ و المنسوخ» «2».

______________________________

(1)- البرهان في علوم القرآن 2: 164. كما تابعه على ذلك السيوطي، ينظر: الإتقان في علوم القرآن 4: 194.

(2)- البرهان في علوم القرآن 1: 33، الإتقان في علوم القرآن 4: 195.

فهم القرآن، ص: 100

2- على نحو أدق و أقرب إلى المراد، عرّف جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538 ه) التفسير، بقوله: «علم يبحث فيه عن أحوال كلام اللّه المجيد، من حيث دلالته على مراده» «1».

3- أمّا أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي (ت: 754 ه) فقد قال فيه:

«التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن و مدلولاتها، و أحكامها الإفرادية و التركيبية، و معانيها التي تحمل عليها حال التركيب، و تتمات لذلك» «2».

4- من المعاصرين عرّفه محمّد حسين الطباطبائي (ت: 1403 ه)، بما يلي: «التفسير: و هو بيان معاني الآيات القرآنية و الكشف عن مقاصدها و مداليلها» «3».

5- كما عرفه أبو القاسم الخوئي (ت: 1413 ه)، بقوله: «التفسير هو إيضاح مراد اللّه تعالى من كتابه العزيز» «4».

6- في حين قال عنه محمد عبد العظيم الزرقاني (معاصر): «التفسير في الاصطلاح علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد اللّه تعالى، بقدر الطاقة البشرية» «5».

7- كما قال عنه عبد اللّه جوادي آملي (معاصر)، ما نص ترجمته: «التفسير هو بمعنى بيان و إماطة اللثام عن الكلمة أو الكلام المسوق على أساس قانون

______________________________

(1)- للمزيد من التفاصيل في هذه التعريفات و مناقشاتها، ينظر: الإتقان في علوم القرآن 4:

192 فما بعد.

(2)- ينظر: الإتقان في علوم القرآن 4:

194.

(3)- الميزان في تفسير القرآن 1: 4.

(4)- البيان في تفسير القرآن: 421.

(5)- مناهل العرفان في علوم القرآن 1: 471.

فهم القرآن، ص: 101

المحاورة و ثقافة المفاهمة، ممّا لا يكون معناه بينا و واضحا» «1». على هذا يخرج عن حدّ التفسير ما يكون فيه اللفظ بديهي المعنى، و ما يكون فيه الكلمة أو الكلام من سنخ التعمية و اللغز «2».

كما تعني عملية التفسير إدراكيا تحليل المبادئ التصورية و التصديقية التي يستند إليها الكلام لبلوغ مقصود المتكلم، و المدلول البسيط و المركب للفظ من خلال التدبر العقلي «3».

ثمّ لما كان لمعاني القرآن مراتب متعدّدة، فإنّ عملية فهمه و تفسيره ستكون كذلك، لذلك ينبغي أخذ قيد «بقدر الطاقة البشرية» «4»، و إلّا فإنّ: «القرآن غريم لا يقضى دينه، و غريب لا يؤدى حقه»، و من ثمّ لن تكون هناك نهاية لبلوغ أمده، و غلق مسار التفسير، بل كلّ يغترف منه بحسبه و على وفق طاقته.

يلحظ على بعض هذه التعاريف أنّها انصرفت لبيان بعض متعلقات التفسير و لوازمه و العلوم التي يعرف بها، كما هو الحال في الأوّل و الثالث. في حين تكاد تلتقي بأجمعها على أنّ المراد منه هو بيان مقصد القرآن و إيضاح دلالته و شرح معناه، من حيث كون القرآن الكريم كلاما له دلالة و معنى، و للّه فيه هدف و قصد «5».

كما أنّ اثنين من المعاصرين هما الزرقاني و آملي ينبهان في التفسير إلى قيد «بقدر الطاقة البشرية» تبعا لما ذهب إليه بعض القدماء. يلحظ أيضا تركيز بعض

______________________________

(1)- تسنيم 1: 52- 53.

(2)- نفس المصدر: 53.

(3)- نفس المصدر.

(4)- نفس المصدر: 54 و مواضع اخرى.

(5)- ينظر: موجز علوم القرآن: 19.

فهم القرآن، ص: 102

التعاريف على اللغة و

علومها كثيرا ممّا يضعها في تعارض مع منهج تفسيري آخر لا يلغي دور اللغة إنّما لا يهبها كلّ هذا الوزن، لأنّ التفسير عنده «هو المعرفة المتنزّلة» «1»، و من ثمّ فإنّ اللغة هي بمنزلة القشرة المحيطة باللباب، و المطلوب من التفسير بلوغ اللباب التي هي المعرفة. هذا المنحى النقدي للنزعة اللغوية المكثفة له مواقع راكزة في تأريخ المسلمين القرآني، و يحظى بتراث ضخم على مستوى الفكر القرآني. فاللغة تمثل حاجة على مستوى معين من بين أدوات اخرى يتطلبها «علم ظاهر التفسير، و هو ترجمة الألفاظ. و لا يكفي ذلك في فهم حقائق المعاني» «2»، و هي من علوم القشر و الصدف كما يصنفها الغزالي «3»، حيث «لا ينال بالقشور إلّا القشور» «4» كما عبّر صدر الدين الشيرازي، مضيفا في نص وافر الدلالة: «رب رجل أديب أريب عاقل فصيح، له اطلاع تام على علم اللغة و الفصاحة، و اقتدار كامل على صنعة المناظرة و طريق المجادلة مع الخصام في علم الكلام، و هو مع براعته في فصاحته لم يسمع حرفا من حروف القرآن بما هو قرآن، و لا فهم كلمة واحدة» «5».

السر أنّ للغة طاقة محدودة مهما اتسعت، و دورها لا يعدو أن يكون وعاء للألفاظ ينبئ عن أوائل المفاهيم، و من ثم: «فإنّ الاطلاع على ظاهر العربية و حفظ

______________________________

(1)- المنهج التفسيري للعلامة الطباطبائي: 21.

(2)- إحياء علوم الدين 1: 293.

(3)- جواهر القرآن: 18.

(4)- مفاتيح الغيب: 12، و الكتاب على ضخامته هو مقدمة لتفسير الشيرازي.

(5)- نفس المصدر: 17.

فهم القرآن، ص: 103

النقل عن أئمة التفسير في ترجمة الألفاظ، لا يكفي في فهم حقائق المعاني» «1»، و إن كانت في حدها ضرورة لا مناص منها.

2- التفسير عند الإمام الخميني

التمعن في النصوص

التي بين أيدينا يرشدنا إلى أنّ الإمام يميل في التفسير إلى الاتجاه الذي يركز على مقاصد القرآن، فالتفسير عنده هو فهم مقصد الكتاب، بحيث تكتسب كلّ آية في القرآن معناها من خلال ادراك المقصد العام للكتاب كله.

على هذا يشترك الإمام مع الاتجاه العام للفكر التفسيري الذي يجعل مهمة التفسير هي الكشف عن مقاصد الآيات و فهم مرادها، بيد أنّه يختلف عنه بالتركيز على نقطتين:

الاولى: ينبغي أن يؤخذ مقصود الآية و المراد منها في إطار المقصد أو المقاصد العامة للقرآن كله. فقد تدل الآية بمفردها على شي ء، إلّا أنّ هذه الدلالة ربما تعدلت أو اكتسبت معنى آخر عند النظر إليها في إطار مقاصد القرآن كله و حين إرجاعها إلى ذلك الاطار.

المقصد العام هنا هو بمنزلة الروح أو الفلسفة التي تكمن من وراء القرآن و تكشف عن شخصيته الكلية. و لا ريب أنّ النظر إلى الشخصية العامة هو غير النظر إلى كلّ جزء من أجزائها، كما أنّ النظر إلى أجزاء الشخصية و العناصر المكوّنة لها في إطار المجموع العام و من خلاله، يمنح الإنسان إدراكا أعمق لموقع كلّ عنصر و للدور الذي ينهض به على صعيد الإطار الكلي.

______________________________

(1)- تفسير القرآن الكريم 7: 192.

فهم القرآن، ص: 104

إنّ القرآن يتألّف من آيات و سور، على هذا فإنّ معرفة مقصد الآية يكتسب مدى أوسع و أعمق بمعرفة مقصد المجموعة التي تنتمي إليها تلك الآية و تقع في سياقها، و هذا المدلول يتعمق أكثر بمعرفة مقصد السورة التي تنتمي إليها الآية أو المجموعة، كما أنّه يغدو أكثر عمقا و وضوحا إذا نظرنا إليه في نطاق المقصد أو المقاصد العامة للقرآن كله.

الثانية: الجانب الآخر الذي يمكن أن يميز الإمام عن غيره

هو طبيعة تحديده لمقصد القرآن أو مقاصده. فهذه المقاصد يمكن أن تختلف من مفسر إلى آخر، و من اتجاه إلى اتجاه ثان، و ذلك بحسب الموقع المعرفي الذي ينطلق منه الإنسان في فهم الإسلام و حقيقة القرآن، و بحسب ما يراه للدين من دور في حياة الإنسان.

بديهي لا نزعم أنّ الإمام يتقاطع كليا مع الآخرين في تحديد مقاصد القرآن، إنّما هناك نقاط تمايز بينه و بين الآخرين من رموز أو اتجاهات.

من الطبيعي أن تكون لهذه الرؤية لوازم على مستوى التفسير و المفسر و المنهج المنتخب الذي يكون بمقدوره بلوغ تلك المقاصد و نيلها، و نتائج يخرج بها الإمام على صعيد حركة التفسير القرآني عامة منهجا و محتوى.

على ضوء هذا المدخل تتكشف لنا مدلولات النص الخميني على هذا الصعيد، و تأخذ موقعها على نحو أفضل. يكتب الإمام: «تفسير الكتاب بشكل عام معناه شرح مقاصد ذلك الكتاب، بحيث يتجه الهم الأساسي إلى بيان منظور صاحب الكتاب. و ما دام هذا الكتاب الشريف هو بشهادة اللّه تعالى كتاب هداية و تعليم، و نور طريق سلوك الإنسانية، فينبغي للمفسر أن يفهّم المتعلّم في كلّ قصة من قصصه بل

فهم القرآن، ص: 105

في كلّ آية من آياته، جهة الهداية إلى عالم الغيب، و حيثية الهداية إلى طرق السعادة و سلوك سبيل المعرفة و الإنسانية» «1».

يضيف سماحته بعد ذلك مباشرة في تحديد دور المفسر و وظيفته: «إنّ المفسر يكون مفسرا عند ما يعلمنا «المقصد» من النزول، لا «سبب» النزول كما هو الحال في التفاسير» «2». يدلل الإمام على هذه النقطة بمثال، يقول فيه: «ففي قصة آدم و حواء نفسها و مسائلهما مع إبليس مذ أوّل خلقتهما حتّى هبوطهما إلى الأرض، ممّا

ذكره الحقّ في كتابه مكررا؛ كم هناك من المعارف و المواعظ المذكورة و المشار إليها؟ و كم تعرّفنا بمعائب النفس و الأخلاق الإبليسية، و بكمالات النفس و المعارف الإنسانية، ممّا نحن عنه غافلون؟» «3».

3- التفسير و مقاصد القرآن

اشارة

مرّ قبل لحظة أنّ التفسير عند الإمام هو بيان المقصد، و المفسر هو من يضطلع ببيان المقصد، حينئذ سيكون السؤال: ما هي مقاصد القرآن؟ و ما هو السبيل إلى معرفتها و تحديدها؟ ممّا يملي أن يمر البحث بالخطوتين التاليتين:

أ- بيان الكيفية التي نعرف بها مقاصد القرآن و الإشارة إلى المنهج الذي يحددها.

ب- بيان طبيعة الامور التي تعد بنظر الإمام مقاصد للقرآن.

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192- 193.

(2)- نفس المصدر: 193.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 106

أ- كيف نعرف المقاصد

ترتبط عملية معرفة مقصد أو مقاصد القرآن الكريم بنظرية التفسير أو قراءة النص على نحو أعم. لقد قدمت الخبر العلمية قديما و حديثا إطارين عريضين لتحديد المراد من النص يبتنيان كلاهما على مسلّمة تفيد أنّ المتكلم يقصد إفهام المخاطب، إثباتا لمعقولية النص و إمكان فهمه. يتمثل الإطار الأوّل بالعودة إلى النص نفسه لتحديد قصد المؤلف و معرفة نيته، إيمانا منه بأنّ القصد أمر ذاتي يكمن في البنية الداخلية الذاتية للنص. على حين ينظر الإطار الثاني إلى علاقة القصد بالأثر على أنّه أمر خارجي، و من ثمّ تقطع علاقة النص بقائله أو كاتبه و مؤلفه دون إلغاء معقوليته و إمكان فهمه، و ينظر إليه بعيدا عن نيته، و يفهم كأثر خارجي معقول من خلال الأدوات و العلوم المألوفة «1».

إنّ التأمل في نصوص الإمام الخميني و دراستها تنتهي إلى أنّ الإمام يعتمد إطارين في تحري مقاصد النص القرآني و معرفتها و تحديدها، هما:

الأوّل: الطريق العقلي البرهاني، الذي يعتمد معطيات البحث العقلي و يطل

______________________________

(1)- يمثل علم الدلالة عند الأقدمين و الهرمنيوطيقا عند المحدثين الإطار العريض لهذا الموضوع، بحكم أنّهما يتعهدان ببيان مجموعة القواعد و المعايير التي ينبغي اتباعها في فهم النص. ينظر على هذا

الصعيد: إشكاليات القراءة و آليات التأويل، نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، نصر حامد أبو زيد. كما ينظر أيضا: هرمونتيك كتاب و سنت، محمد مجتهد شبستري. و أيضا و على نحو أكثر اختصار و دلالة، مجلة بحوث قرآنية، العدد المزدوج 21- 22: 130- 177، ينظر: هرمونتيك «هرش» و دانش تفسير (هرمنيوطيقا هرش و علم التفسير)، محمد بهرامي.

فهم القرآن، ص: 107

على القرآن من خارجه.

الثاني: الطريق القرآني، الذي يستمد القرآن نفسه في معرفة مقاصده.

يكتب الإمام مدللا على الطريقين معا: «يتحتم أن نأخذ المقصود من تنزيل هذا الكتاب من كتاب اللّه نفسه، بغضّ النظر عن الجهات العقلية و البرهانية التي تعلمنا المقصد، ذلك أنّ مصنف الكتاب أعرف بمقصده» «1». من الواضح أنّ هذا النص يثبت مشروعية الطريقين كليهما؛ طريق العقل و طريق النص في معرفة مقاصد القرآن و الكشف عنها، و تفضيله الطريق الثاني لا يعني إبطال الأوّل و إلغاء مشروعيته، بل لأنّه الأبلغ في مقام الاحتجاج ما دام الحديث يدور حول معرفة مقاصد القرآن الكريم، و إلّا فإنّ الطريق العقلي البرهاني (الأوّل) «يعلمنا المقصد و يفهمنا إياه» كما ينص الإمام.

بالنسبة للارتكاز إلى المعطيات العقلية و البرهانية يقدم الفكر الخميني مداخل متعدّدة مثل دراسة هدف النبوات و الغاية من الوحي و رسالات السماء عامة، أو ما يدخل في نطاق ما صار يعرف حديثا بفلسفة الدين و دور السماء و الوحي في الحياة الإنسانية. و هذا نمط من البحث يستند إلى نتائج العقل و ثمار البرهان في تحديد مقاصد القرآن، و هو يطلّ على القرآن من خارجه.

برغم تعدّد المداخل التي ينتخبها ينتهي الإمام في حصيلة هذا البحث إلى أنّ فلسفة الوحي و النبوات و كتب السماء تكمن في

معرفة اللّه و توحيده، ثمّ تأتي بقية المقاصد متفرّعة عن هذا المقصد أو مترتبة عليه. سننتخب فيما يلي ثلاثة نصوص قصيرة يؤشّر كلّ واحد منها على مدخل خاص يؤكد النتيجة ذاتها:

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 193.

فهم القرآن، ص: 108

انطلاقا من فلسفة الوحي، يسجّل: «يتمثل الهدف الأساسي للوحي بإيجاد المعرفة للبشر؛ معرفة الحقّ تعالى. و هذا المعنى يأتي في رأس جميع الامور» «1».

انطلاقا من فلسفة إنزال الكتب، ينتهي الإمام إلى النتيجة ذاتها، و هو يقول:

«يتمثل المقصد التام لجميع كتب السماء و في طليعتها القرآن الكريم، بتعريف الحقّ تعالى بجميع ما له من الأسماء و الصفات» «2».

كما تواجهنا النتيجة نفسها عند ما يطلّ النص الخميني على الموضوع انطلاقا من فلسفة بعث الرسل و الأنبياء و إنزال الشرائع، حيث يقول: «يتمثل المقصد الأساسي و يبرز المقصود الأهم للأنبياء العظام، و لتشريع الشرائع و تأسيس الأحكام و نزول الكتب السماوية خاصة القرآن الشريف الجامع ... بنشر التوحيد و المعارف الإلهية» «3».

هكذا ينتهي الطريق العقلي البرهاني من خلال مداخل ثلاثة هي: تحليل فلسفة الوحي، و تحليل فلسفة إنزال الكتب و بعث الأنبياء برسالات السماء، إلى نتيجة واحدة، و مقصد رئيسي واحد هو معرفة الحقّ و توحيده، مع ما يستبطنه هذا المقصد من مقاصد فرعية و ما يحويه في ثناياه من تفصيلات اخرى هي لوازم له و نتائج مترتبة عليه.

على هذا تكون حركة التفسير معنية بالعمل على هذا المقصد، و ينبغي للمفسّر أن يدور في عمله من حوله و ما يرتبط به، كما ينبغي اختيار المنهجية الأقدر على استكناه هذا المقصد و بيانه على نحو تفصيلي، و إلّا فإنّ العزوف عن هذا

______________________________

(1)- صحيفه امام 19: 225.

(2)- نفس المصدر 20: 409.

(3)- آداب الصلاة:

153.

فهم القرآن، ص: 109

المسار و الشطّ عنه كلّف الامّة و لا يزال حرمانا كبيرا من عطاء القرآن. بتعبير الإمام:

«بالجملة، كتاب اللّه هو كتاب معرفة و أخلاق و دعوة إلى السعادة و الكمال، و من ثمّ ينبغي لكتاب التفسير أن يكون كتابا عرفانيا و أخلاقيا، مبيّنا للجهات العرفانية و الأخلاقية و بقية ما في القرآن من جهات الدعوة إلى السعادة. فالمفسر الذي يغفل عن هذه الجهة أو يصرف النظر عنها و لا يوليها أهمّية، يكون قد غفل عن مقصود القرآن و المنظور الأساسي لإنزال الكتب و إرسال الرسل. و هذا خطأ حرم هذه الامّة قرونا من الاستفادة من القرآن، و سدّ طريق الهداية على الناس» «1».

أصبح الخط العام لمقصد القرآن واضحا على خلفية الطريق الأوّل المتمثل بالبحث العقلي و البرهاني، لكن ما ذا بالنسبة إلى الطريق الثاني؟

ب- مقاصد القرآن قرآنيا
اشارة

الطريق الثاني الذي سلكه النص الخميني لتحديد مقصد القرآن أو مقاصده تمثل بالعودة إلى القرآن نفسه، و ذلك نزولا على قاعدة: «إنّ مصنّف الكتاب أعرف بمقصده» «2». عند هذه النقطة بالذات يلحظ أنّ نصوص الإمام تتسم بالكثافة و التفصيل ممّا يسمح ببناء رؤية واضحة و تفصيلية، تتجاوز الرؤية الإجمالية العامة التي أنتجها الطريق الأوّل، بيد أنّها تتوافق معها في الروح و الجوهر.

لقد مرّت الإشارة فيما سبق إلى أنّ الإمام يلتقي مع الاتجاه العام في الفكر التفسيري الذي يعدّ التفسير هو الكشف عن المقاصد و بيانها و شرحها، و إماطة اللثام

______________________________

(1)- نفس المصدر: 193.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 110

عمّا يكتنف المعاني من غموض و التباس عند المتلقي. و في طبيعة المقصد أو المقاصد يعود الفكر القرآني للإمام ليلتقي مع مدرسة أهل المعنى فيما تبنته من مقاصد للقرآن، بحيث

يبدو للمتمعّن أنّ الإمام منسجم أشد الانسجام مع متبنيات هذه المدرسة، و لا يزيد ما قدمه على هذا الصعيد على أن يكون حلقة معاصرة من حلقات الاتجاه المعنوي و تعبير معاصر عن المدرسة العرفانية، خاصة عند ابن عربي و الخط الصدرائي المحاذي لها.

إنّ وحدة الإطار المعرفي بين الإمام الخميني و رموز هذا الاتجاه و انتمائهم إلى مدرسة واحدة، هو الذي يفسر لنا التشابه في تحديد طبيعة مقصد القرآن أو مقاصده. لقد كان بالإمكان أن نتقصّى عناصر الشبه و الاشتراك في حديث هذه المدرسة عن طبيعة مقاصد القرآن، من خلال دراسة توغل فيما قدمه رموز الاتجاه في هذا المضمار، بيد أنّنا سننأى عن ذلك مكتفين بإشارات سريعة إلى تراث الغزالي و صدر الدين الشيرازي من القدماء ثمّ الطباطبائي من المعاصرين، قبل أن نحط الرحال مع ما قدمه الإمام الخميني. لا ريب أنّنا ندرك الفارق المعرفي بين الغزالي و الثلاثة الباقين، ذلك أنّ السيد الطباطبائي و الإمام الخميني لا يخفيان و لا ينفيان انتماءهما إلى الاتجاه العرفاني عند ابن عربي و المنحى الصدرائي الذي تمثّله مدرسة الحكمة المتعالية، بقدراتها المشهودة على إعادة طرح مقولات ابن عربي العرفانية من خلال البرهان.

إلّا أنّ الإشارة إلى الغزالي تبقى تحظى بأهمّية من جهتين على الأقل، الاولى ذوقه العرفاني و مشربه المعنوي الذي قاده إلى النتائج نفسها التي وصل إليها أو تبناها الثلاثة الآخرون برغم الاختلاف في الانتماء المذهبي بين الطرفين، ممّا يعطينا نتيجة بالغة الأهمّية تفيد أنّ الاتجاه المعنوي يستطيع أن يجمع بين انتماءات

فهم القرآن، ص: 111

مختلفة و يوحّد بينها، بعيدا عن اختلاف مواقعها المذهبية فقهيا «1». أمّا الجهة الثانية فتتمثل بإشارة صدر الدين الشيرازي صراحة بما قدّمه الغزالي ليس

على صعيد هذه النقطة وحدها بل على صعيد شواغل اخرى في الفكر القرآني، و في غيره من المواضيع «2». و لا ننسى أنّ صدر الدين الشيرازي أحد المصادر الأساسية للإمام

______________________________

(1)- على هذا الأساس برز اتجاه ينظر إلى انتماء ابن عربي (560- 638 ه) كمثال بعيدا عن متبنياته الفقهية، مركزا على قناعاته المعرفية في الوجود و الإنسان و القرآن و أمهات ما يتفرع عليها من مسائل مثل إيمانه الجازم بالإنسان الكامل لينتهي إلى أنّه يلتقي مع فلاسفة عرفاء الشيعة على أرضية مشتركة، و أنّ الأخيرين يشتركون معه في القناعات ذاتها. على هذا لا يمكن للفروع الفقهية أن تقدم حلا حاسما على هذا الصعيد بقدر ما يمكن أن يقدمه الإطار المعرفي في تحديد الانتماء.

على ضوء هذا المقياس مال صدر الدين إلى تشيّع الغزالي (شرح الكافي: 169) و تشيع ابن عربي (شرح الكافي: 111)، و على الغرار ذاته يجزم عدد من المعاصرين المنتمين إلى الاتجاه العرفاني في خطه الصدرائي بتشيّع ابن عربي أيضا.

(2)- تشهد آثار صدر الدين و مصنفاته اقتباسات مكثفة عن الغزالي نقلها بنفسها أو مع التلخيص و الشرح، حري أن يشار إليها في الطبقات الحديثة المحققة لكتبه. الجدير بالتنبيه أنّ الشيرازي ينسب إلى الغزالي ما يأخذه عنه في بعض الأحيان و لا يشير إليه في أحايين اخرى.

على الصعيد القرآني تحديدا، يكتب الشيرازي في «مفاتيح الغيب» بعد نهاية الفاتحة التاسعة من المفتاح الثاني، ما نصه: «هذا مع أنّ هذه التحقيقات و التأويلات في الرموز القرآنية و الكنوز الرحمانية، إشارة وجيزة من بسيط تمثيلات حجة الإسلام، و خلاصة مجملة من وسيط منخولات ذا الحبر الهمام، محصلة لنجاة النفوس و شفاء الأرواح، ملخصة لطريق الهداية و الفلاح، إذ هو

أيده اللّه بحر زاخر يقتنص من أصدافه جواهر القرآن، و نار موقدة-

فهم القرآن، ص: 112

الخميني، بل لا يمكن دراسة منظومة الإمام فلسفيا و عرفانيا و قرآنيا بعيدا عن الاتجاه الصدرائي.

فيما يلي نمر بإيجاز على ما قدمه كلّ واحد من هؤلاء لكي تتضح خلفية نظرية مقاصد القرآن عند الإمام و الإطار العام الذي ينتظم فكره القرآني.

1- الغزالي

يقدّم الغزالي مركبا نظريا سداسيا لمقاصد القرآن تتدرّج فيه المقاصد الستّة من حيث سموها و فضلها و أهميتها، كما يلي:

أ- معرفة اللّه، و هي المقصد الأسنى لكتاب اللّه و الكبريت الأحمر حسب تعبيره. و تشتمل على معرفة الذات، و معرفة الصفات، و معرفة الأفعال. و معرفة الذات أنفس هذه المعارف، و كذلك أضيقها مجالا و أعسرها منالا. أمّا الصفات فالمجال فيها أفسح، في حين أنّ الأفعال هي بحر متسع أكنافه و لا تنال بالاستقصاء أطرافه، لأنّ ليس في الوجود إلّا اللّه و أفعاله «1».

ب- بيان السلوك إلى اللّه أو الصراط المستقيم بالتبتل و الانقطاع و تزكية

______________________________

يقتبس من مشكاته أنوار البيان، ذهنه الوقاد كبريت أحمر، يتخذ منه كيمياء السعادة الكبرى، و فكره غواص يستنبط من بحار المباني لآلئ المعاني، فهمه صرّاف محك دنانير العلوم على معيار العلوم، عقله ميزان يزن مثاقيل البرهان القويم على منهج الصراط المستقيم، و له الحكم المسيحية في إحياء أموات علوم الدين، و المعجزة الموسوية من إخراج اليد البيضاء لإيضاح معالم اليقين، فطوبى لنفس هذه آثارها و خواصها، و سقيا لروح إلى اللّه مصيرها و مناصها».

(مفاتيح الغيب: 97- 98)

(1)- جواهر القرآن: 10- 11.

فهم القرآن، ص: 113

القلب. و العمدة فيه أمران الملازمة لذكر اللّه، و المخالفة لما يشغل عنه. و هذا هو السفر إلى اللّه «1».

ج-

تعريف الحال عند الوصول متمثلا بعلم الآخرة و علم المعاد، ببيان ما يلقاه الواصلون على حسب طريق السلوك في الدنيا. ففريق إلى الجنة و لذة لقاء اللّه و النظر إليه، و فريق إلى الخزي و العذاب و الجحيم و الحجب عن اللّه و الإبعاد عنه «2».

د- بيان أحوال السالكين و الناكبين، إذ يتمثل الأوّل بقصص الأنبياء و الأولياء و هو «العنبر الأشهب» بتعبير الغزالي، و الثاني ببيان قصص الكفار و مآلهم كقصص نمرود و فرعون و عاد و إبليس و الشيطان و غيرهم. و فائدة هذا المقصد الترهيب و التنبيه و الاعتبار، و الآيات الواردة فيها كثيرة «3».

ه- حكاية أقوال الجاحدين و محاجّة الكفار و مجادلتهم و إيضاح مخازيهم بالبرهان الواضح و كشف أباطيلهم و تخاييلهم. و في محاجّة اللّه تعالى إياهم بالحجج لطائف و حقائق يوجد فيها «الترياق الأكبر»، و آيات هذا المقصد كثيرة ظاهرة «4».

و- تعريف عمارة منازل الطريق، و كيفية التأهب للزاد، و الاستعداد بإعداد السلاح الذي يدفع سرّاق المنازل و قطّاعها، فما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتم أمر التبتل و الانقطاع إلى اللّه. هذا المقصد يشير إلى الجانب الفقهي أو التشريعي في القرآن الكريم «5».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 12.

(2)- نفس المصدر: 14.

(3)- نفس المصدر: 14- 15.

(4)- نفس المصدر.

(5)- نفس المصدر: 15- 16.

فهم القرآن، ص: 114

في تعبير ربما يكون جامعا للمقاصد الستة هذه، يكتب الغزالي في «إحياء علوم الدين»: «القرآن يشتمل على ذكر صفات اللّه عز و جلّ، و ذكر أفعاله، و ذكر أحوال الأنبياء عليهم السّلام، و ذكر أحوال المكذبين لهم و أنّهم كيف اهلكوا، و ذكر أوامره و زواجره، و ذكر الجنة و النار» «1».

هل تستوي هذه

المقاصد فيما بينها في الشرف و الفضيلة؟ أبدا، يقسم الغزالي العلوم إلى علوم القشر و الصدف و إلى علوم اللباب. و مع أنّ المقاصد الستة و ما تؤشر إليه و تستلزمه من معارف هي من اللباب، إلّا أنّها تنقسم بدورها إلى طبقة عليا و سفلى، فالمقاصد الثلاثة الاولى و ما يرتبط بها من معارف هي الطبقة العليا من اللباب لسمو موضوعها المتمثل بالغيب و الآخرة و الملكوت، على حين تمثل المقاصد الثلاثة الأخيرة و ما يرتبط بها من معارف الطبقة السفلى من اللباب.

يعود التفاوت ليفرض منطقه على المقاصد الثلاثة الاولى بما يملي سمو المقصد الأوّل متمثلا بمعرفة اللّه، هذه المعرفة التي تدور حول الذات و الصفات و الأفعال، ممّا يسمح للغزالي أن يستخدم منطق المفاضلة مرة اخرى لتتميّز معرفة الذات على معرفتي الصفات و الأفعال. فمع أنّ هذه المعارف الثلاث التي تنتظم عنوان معرفة اللّه (جل جلاله) كلها يواقيت يعزّ الظفر بها، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من أن تكون معرفة الذات أنفسها، و لذلك «لا يشتمل القرآن منها إلّا على تلويحات و إشارات» «2».

على أي حال ينتهي الغزالي في تحديد المقصد الأقصى للقرآن الكريم،

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 282.

(2)- جواهر القرآن: 10.

فهم القرآن، ص: 115

بقوله: «سر القرآن و لبابه الأصفى، و مقصده الأقصى دعوة العباد إلى الجبار الأعلى، رب الآخرة و الاولى، خالق السماوات العلى و الأرضين السفلى و ما بينهما و ما تحت الثرى» «1».

2- الشيرازي

عند صدر الدين الشيرازي لا تخرج مقاصد القرآن عن الستة التي ذكرها الغزالي، بيد أنّها تكتسب شرحا ضافيا يوسع من بيانها و يسبغ عليها عمقا و تركيزا أكثر من خلال ما يستكثر لها من أدلة و شواهد

و تطبيقات.

تتحول المقاصد الستة عند الشيرازي إلى ثلاثة هي كالدعائم و الاصول، و ثلاثة اخرى هي كالروادف المتمّمة. يكتب ممهدا: «اعلم أنّ سر القرآن و مقصوده الأقصى و لبابه الأصفى، دعوة العباد إلى الملك الأعلى، ربّ الآخرة و الاولى ...

و الغاية المطلوبة فيه تعريف كيفية ارتقاء العبد من حضيض النقصان و الخسران إلى أوج الكمال و العرفان، و بيان السفر إليه طلبا للقائه و مجاورة مقربيه ... و لأجل ذلك انحصرت فصوله و أبوابه و سوره و آياته في ستة مقاصد، ثلاثة منها هي كالدعائم و الاصول المهمة، و ثلاثة اخرى هي كالروادف المتممة.

أمّا الثلاثة المهمة، فهي: تعريف الحقّ المدعو إليه، و تعريف الصراط المستقيم الذي يجب ملازمته في السلوك إليه، و تعريف الحال عند الوصول».

ثمّ يستدلّ لهذه الثلاثة بكلام من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، و هو يضيف: «فالأوّل معرفة المبدأ، و الآخر معرفة المعاد، و الأوسط معرفة الطريق.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 9.

فهم القرآن، ص: 116

و إلى هذه الثلاثة أشار أمير المؤمنين عليه السّلام: رحم اللّه امرأ أعدّ لنفسه، و استعد لرمسه، و علم من أين و في أين و إلى أين» «1».

عن المقاصد الثلاثة الاخرى، يكتب: «و أمّا الثلاثة الرادفة المتمّمة، فأحدها تعريف لأحوال المحبين المبعوثين للدعوة و لطائف صنع اللّه فيهم ... و الغرض فيه التشويق و الترغيب إلى منازلهم و مقاماتهم. و تعريف أحوال الناكبين و الناكلين عن الإجابة ... و الغرض فيه الاعتبار و الترهيب.

و ثانيها حكاية أقوال الجاحدين و كشف فضائحهم و تجهيلهم و تسفيه عقولهم بالمجادلة و المحاجة على الحقّ. و المقصود منه، أمّا في جنبة الباطل فالإفضاح و التحذير و التنفير، و أمّا في جنبة

الحقّ فالإيضاح و التثبيت و التقرير.

و ثالثهما تعريف عمارة المراحل إلى اللّه، و كيفية أخذ الزاد و الاستعداد للمعاد.

و المقصود منه معرفة كيفية معاملة الإنسان مع أعيان هذه الدنيا، و أنّها يجب أن تكون مثل معاملة المسافر مع أعيان مراحل سفره البعيدة».

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 49- 50. بالنسبة إلى حديث الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد جاء في بعض الصيغ و النسخ: «و استعدّ لأمسه» بدلا من: «استعد لرمسه» فقد ذكره المصنف بهذه الصيغة في تفسيره. (تفسير القرآن الكريم 7: 309)

كما ذكر الرازي في تفسيره أنّ القرآن مشحون بذكر هذه العلوم الثلاثة التي تتطابق مع نظرية تفيد أنّ للإنسان أياما ثلاثة، هي: الأمس و البحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ، و اليوم الحاضر و البحث عنه يسمى العلم الأوسط، و اليوم الآخر و البحث عنه يسمى علم المعاد. راجع:

التفسير الكبير 2: 569- 570، في تفسير قوله سبحانه: آمَنَ الرَّسُولُ كما ينظر أيضا:

تفسير القرآن الكريم 7: 265- 309، حيث يؤكد فيها أنّ «هذه العلوم الثلاثة للإنسان لإصلاح الأيام الثلاثة» على وفق المفهوم المذكور الذي يستشفه، بل يدلل عليه من حديث الإمام علي عليه السّلام.

فهم القرآن، ص: 117

ثمّ يأتي على ذكرها تفصيلا بشرح كلّ مقصد من المقاصد الستة بعد أن أتى عليها إجمالا «1».

في مكان آخر، بالتحديد في مقدمة تفسيره لسورة الحديد يذكر المقاصد ذاتها لكن بتقريب آخر، يعدّ فيه الثلاثة الاول بمنزلة الفرائض و الثلاثة الأخيرة بمنزلة النوافل في تقريب الإنسان إلى اللّه: «إنّ القرب الحاصل بالثلاثة الاول هو قرب الفرائض المشار إليه في الحديث المشهور ... و أمّا الثلاثة الأخيرة فهي كالمعينة المتمّمة التي كالنوافل، و القرب الحاصل بها للعبد من الحقّ هو قرب النوافل» «2».

خلاصة

القول عند الشيرازي أنّه: «ما من علم رباني و مسألة إلهية، و حكمة برهانية، و معرفة كشفية إلّا و يوجد في القرآن أصله و فرعه و مبدئه و غايته و ثمرته و لبابه» «3».

و مع أنّ الشيرازي يعلن أنّ المقاصد الثلاثة الاولى هي اصول و دعائم، فإنّ ذلك لم يمنعه- كما فعل الغزالي قبله- من تحكيم منطق التفاضل بينها لتأتي معرفة المبدأ أو علم الربوبية «4» في المقدمة، و ذلك انطلاقا من «أنّ هذه المعارف في درجات متفاوتة من الشرف و الفضيلة مع اشتراك الجميع في الخير و المنفعة، فأين معرفة ذات الحقّ و صفاته و أفعاله من معرفة علف الدابة و سقيها في طريق السفر إليه» «5»!

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 49- 51.

(2)- تفسير القرآن الكريم 6: 142.

(3)- نفس المصدر: 5.

(4)- هكذا عبر عنه في مفاتيح الغيب: 51.

(5)- تفسير القرآن الكريم 6: 143.

فهم القرآن، ص: 118

مرّة اخرى، و برغم ما لهذه الأقسام الثلاثة المندرجة في علم المبدأ (معرفة الذات و الصفات و الأفعال) من أهمّية بحيث تملي «الفريضة على كلّ مسلم تحصيل العلم بها» «1»، إلّا أنّ ذلك لم يمنع الشيرازي من اللجوء إلى منطق التفاضل مجددا مؤكّدا أنّ لعلم المبدأ بابين شريفين «أحدهما أشرف و أنور من الآخر، و هو العلم بوجوده و وحدانيته، و تقدس صفاته و أسمائه ... و الآخر العلم بأفعاله» «2».

هذه هي الخريطة المقاصدية التي يرسمها الفكر القرآني لصدر الدين الشيرازي و يصفها بقوله: «فهذه هي المقاصد الستة المشتمل عليها، المنحصر فيها القرآن و آياته» «3». و سنجد أنّ بصماتها تبرز بقوّة و وضوح في الفكر القرآني للإمام الخميني فيما يحدده من مقاصد لكتاب اللّه.

3- الطباطبائي

يحدّد السيد محمد حسين الطباطبائي

أمّهات مقاصد القرآن و معارفه، بالنقاط التالية:

1- المعارف المرتبطة بأسماء اللّه و صفاته، أمّا الذات فإنّ القرآن يرى أنّها غنية عن البيان.

2- المعارف المتعلّقة بأفعاله سبحانه من الخلق و الأمر، و الإرادة و المشيئة، و الهداية و الإضلال، و القضاء و القدر و غير ذلك.

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 53.

(2)- تفسير القرآن الكريم 7: 263- 264.

(3)- نفس المصدر 6: 143.

فهم القرآن، ص: 119

3- المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه و بين الإنسان، كالحجب و اللوح و القلم و العرش و الكرسي و البيت المعمور و السماء و الأرض و الملائكة و الشياطين و الجن و غيرها.

4- المعارف المتعلقة بالإنسان قبل الدنيا.

5- المعارف المتعلقة بالإنسان في الدنيا، كمعرفة تأريخه و نفسه و اجتماعه، و معرفة النبوة و الرسالة و الوحي و الإلهام، و الكتاب و الدين و الشريعة. و من هذا الباب مقامات الأنبياء المستفادة من قصصهم.

6- المعارف المتعلقة بالإنسان بعد الدنيا، و هو البرزخ و المعاد.

7- المعارف المتعلقة بالأخلاق الإنسانية، و من هذا الباب ما يتعلق بمقامات الأولياء في صراط العبودية من الإسلام و الإيمان و الإحسان و الإخبات و الإخلاص و غير ذلك. يضيف الطباطبائي بعد عرض هذه المعارف و ما تدلّل عليه من مقاصد:

«أمّا آيات الأحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك إلى الفقه» «1».

من الواضح أنّ هذه الخريطة المقاصدية تستوفي هي الاخرى المقاصد الستة التي ذكرها الغزالي و فصّلها الشيرازي، و هي تتنقّل من المبدأ إلى المعاش فالمعاد و ما بينها.

4- الإمام الخميني

سلفت الإشارة إلى أنّ الإمام يقترح طريقين لتحرّي مقصد القرآن أو مقاصده التي ينبغي للتفسير أن يعكف على كشفها و بيانها و شرحها، هما:

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 1: 13.

فهم القرآن، ص:

120

1- سبيل البحث العقلي و الممارسة البرهانية و ما يثمرانه على هذا الصعيد.

2- الرجوع إلى القرآن نفسه و استنطاقه و التدبر في أطرافه.

انتهت المحطات المختصرة التي قدمناها على صعيد الطريق الأوّل، إلى أنّ المقصد الأقصى لكتاب اللّه يتمثل بفتح الطريق إلى معرفة اللّه بجميع ما له من أسماء و صفات.

و قد آن وقت معرفة المقصد أو المقاصد من خلال ما يرشد إليه القرآن الكريم نفسه، عملا بقاعدة: «مصنّف الكتاب أعرف بمقصده» «1» التي مرت إليها الإشارة فيما سلف.

بم يتحدث القرآن؟ و ما هي رسالته؟ يجيب الإمام: «نلقي الآن نظرة إلى ما ذكره المصنف حيال شئون القرآن، فنلحظه يقول: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «2». لقد وصفه بأنّه كتاب هداية، حيث دأب في سورة صغيرة أن يكرر مرات: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «3»، كما نلحظه يقول:

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «4»، كما يقول أيضا: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ «5» إلى غير ذلك من الآيات الشريفة التي يطول ذكرها» «6» ممّا يتحدث عن المقاصد

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 193.

(2)- البقرة (2): 2.

(3)- القمر (54): 17.

(4)- النحل (16): 44.

(5)- ص (38): 29.

(6)- آداب الصلاة: 193- 194.

فهم القرآن، ص: 121

مباشرة أو يحثّ على تحرّيها.

نصوص الإمام مكثّفة في هذا المجال، ربّما كان أشملها ما جاء في كتاب «آداب الصلاة» «1»، حين تحدّث عن أمّهات مقاصد القرآن، و راح يمهّد لها، بقوله:

«اعلم أنّ هذا الكتاب الشريف كما صرّح هو به كتاب هداية، و موجّه سلوك الإنسانية، و مربّي النفوس، و كتاب شفاء الأمراض القلبية، و منير طريق السير إلى اللّه» «2».

بعد مقدمة

ثانية تحدث بها الإمام على غرار اللغة الصدرائية «3» (نسبة إلى صدر الدين الشيرازي)، و ذكر أنّ القرآن تنزّل من مقام القرب إلى هذه الدنيا متعينا بكسوة الألفاظ ليحرر الإنسان من أغلال الطبيعة و أسرها، و يرفعه من حضيض النقص و الضعف و الحيوانية إلى أوج الكمال و القوة و الإنسانية، و يدفع به صوب مقام القرب و لقاء اللّه، عاد سماحته ليقول: «من هذه الجهة يعدّ هذا الكتاب كتاب دعوة إلى الحقّ و السعادة، و بيان كيفية الوصول إلى هذا المقام، و إنّ مندرجاته إجمالا هي ما له دخل في هذا السير و السلوك الإلهي أو أنّه يعين السالك و المسافر إلى اللّه» «4».

ينتهي الإمام بعد ذلك إلى بيان المقصد الأقصى بعبارة هي من غرر عباراته في هذا المجال، يقول فيها: «بشكل عام، إنّ أحد المقاصد المهمة للقرآن دعوته إلى معرفة اللّه، و بيان المعارف الإلهية من الشئون الذاتية و الأسمائية و الصفاتية

______________________________

(1)- ينظر نفس المصدر: 184- 191، الفصل الثاني من المصباح الأوّل من الباب الرابع، الذي جاء بعنوان: بيان مقاصد الكتاب الإلهي الشريف و مطالبه و ما يشتمل عليه إجمالا.

(2)- آداب الصلاة: 184.

(3)- ينظر: مفاتيح الغيب: 11.

(4)- آداب الصلاة: 185.

فهم القرآن، ص: 122

و الأفعالية، و أهمها في هذا المقصود توحيد الذات و الأسماء و الأفعال ممّا ذكر بعضه صراحة و بعضه الآخر على نحو الإشارات» «1».

يلتقي الإمام في هذا المقصد مع أسلافه، و ينتظم مع الإطار العام لمدرسة العرفان و أهل المعنى، ممّن ذكرنا نصوص بعضهم فيما مضى. ثمّ تأخذ بقية المقاصد موقعها في المنظومة حيث يأتي الإمام على ذكرها كما يلي:

1- قوله: «من مقاصده الأخر دعوته إلى تهذيب النفوس و تطهير

البواطن من أرجاس الطبيعة و تحصيل السعادة. و بالجملة كيفية السير و السلوك إلى اللّه.

و هذا المقصد ينقسم إلى شعبتين مهمتين:

احداهما: التقوى بجميع مراتبها المندرجة فيه؛ التقوى عن غير الحقّ و الإعراض المطلق عمّا سوى اللّه.

ثانيهما: الإيمان، بتمام مراتبه و شئونه المندرجة فيه، ممّا يفضي إلى الإقبال على الحقّ، و الرجوع لتلك الذات المقدسة و الإنابة إليها.

و هذه من المقاصد المهمة لهذا الكتاب الشريف، بحيث ترجع إليه أكثر مطالبه بلا واسطة أو مع الواسطة» «2».

2- من المقاصد الأخر لهذه الصحيفة الإلهية هو ذكر «قصص الأنبياء و الأولياء و الحكماء و كيفية تربية الحقّ إياهم، و تربيتهم الخلق. ففي هذه القصص فوائد لا تحصى و تعليمات جمة، كما أنّ فيها من المعارف الإلهية و التعاليم و ضروب التربية الربوبية ما يذهل العقل، فسبحان اللّه و له الحمد و المنّة» «3».

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- نفس المصدر: 186.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 123

القرآن عند الإمام الخميني «ليس كتاب قصة و تأريخ، بل هو كتاب سير و سلوك إلى اللّه، و كتاب توحيد و معارف، و مواعظ و حكم» «1»، و من ثمّ ينبغي توخي العبرة من قصص الأنبياء و الأولياء في هذا البعد لا في البعدين الفني و العلمي اللذين يكمنان وراء كتب القصة و التأريخ. بتعبير الإمام: «بالجملة، إنّ ذكر قصص الأنبياء عليهم السّلام و كيفية سيرهم و سلوكهم، و كيفية تربيتهم عباد اللّه، و بيان حكمهم و مواعظهم و مجادلاتهم الحسنة لهو من أعظم أبواب المعارف و الحكم، و أرفع أبواب السعادة و التعاليم التي شرعها الحقّ جل مجده لعباده» «2».

بعد أن يذكر الإمام مثالا من قصة إبراهيم عليه السّلام في السيرين الأنفسي و الآفاقي ممّا

طواه خليل اللّه، يستدرك قائلا: «ممّا يدخل في هذا القسم أو هو مقصد مستقل بنفسه، حكم و مواعظ ذات الحقّ المقدسة، حيث دعا العباد بنفسه بلسان قدرته في المواضع المناسبة، إما إلى المعارف الإلهية و التوحيد و التنزيه كما هو الحال في سورة التوحيد المباركة و أواخر سورة الحشر و أوائل الحديد و بقية موارد الكتاب الإلهي الشريف، حيث لأصحاب القلوب و السوابق الحسنى من هذه القسمة حظوظ لا تحصى.

فأصحاب المعارف يستفيدون من الكريمة المقدسة: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «3» قرب النافلة و الفريضة، و في الوقت ذاته يفهم منها الآخرون الخروج بالبدن و الهجرة مثلا إلى مكة أو المدينة.

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- نفس المصدر: 188.

(3)- النساء (4): 100.

فهم القرآن، ص: 124

أو دعاهم إلى تهذيب النفوس و الرياضات الباطنية، كما في الكريمة الشريفة:

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «1» إلى غير ذلك. أو دعاهم إلى العمل الصالح كما هو معلوم، أو التحذير من مقابلات كلّ واحدة من هذه الصنوف.

ممّا يدخل في هذا القسم أيضا الحكم اللقمانية و حكم بقية الأجلاء و المؤمنين المذكورة في مواضع مختلفة من هذه الصحيفة الإلهية، كما في قضايا أصحاب الكهف» «2».

3- من المقاصد الاخرى لهذه الصحيفة النورية: «بيان أحوال الكفار و الجاحدين و المخالفين للحق و الحقيقة، و المعاندين للأنبياء و الأولياء عليهم السّلام، و بيان ما آل إليه أمرهم و ما انتهت إليه عواقبهم و كيفية بوارهم و هلاكهم، كما هو الحال في قضايا فرعون و قارون و نمرود و شداد و أصحاب الفيل و بقية الكفرة و الفجرة، ممّا في كلّ

واحد منها مواعظ و حكم، بل معارف لأهلها. ممّا يدخل في هذا القسم قضايا إبليس الملعون، و ممّا يدخل في هذا القسم أيضا أو يكون قسما مستقلا هو ما يرتبط بغزوات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ فيها مطالب شريفة، منها بيان كيفية مجاهدات أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لإيقاظ المسلمين من نوم الغفلة، و دفعهم للجهاد في سبيل اللّه، و تنفيذ كلمة الحقّ و إماتة الباطل» «3».

4- من المقاصد الاخرى التي يذكرها الإمام للقرآن الكريم، هي: «بيان قوانين ظاهر الشريعة و الآداب و السنن الإلهية، ممّا توفر هذا الكتاب النوراني على ذكر كلياتها و مهماتها. و الأساس في هذا القسم الدعوة إلى اصول المطالب

______________________________

(1)- الشمس (91): 9- 10.

(2)- آداب الصلاة: 189.

(3)- نفس المصدر: 189- 190.

فهم القرآن، ص: 125

و ضوابطها مثل باب الصلاة و الزكاة و الخمس و الحج و الصوم و الجهاد و النكاح و الإرث و القصاص و الحدود و التجارة و أمثالها. و لمّا كان هذا القسم المتمثل بعلم ظاهر الشريعة عام المنفعة، و قد جعل لجميع الطبقات من حيث تعمير الدنيا و الآخرة، و يستفيد منه الناس كلّهم بقدرهم؛ فقد تمّت الدعوة إليه بكثافة في الكتاب، و تناولت الأحاديث الشريفة و الأخبار خصوصياته و تفاصيله بوفرة، و جاءت تصانيف علماء الشريعة في هذا المقصد أكثر من بقية الأقسام و أرفع» «1».

5- من المقاصد الاخرى للقرآن الكريم، ذكر «أحوال المعاد و البراهين لإثباته، و كيفية العذاب و العقاب، و الجزاء و الثواب، و تفاصيل الجنة و النار و التعذيب و التنعيم. في هذا المقصد بيان حالات أهل السعادة و درجاتهم من أهل

المعرفة و المقربين، و أهل الرياضة و السالكين، و أهل العبادة و الناسكين. كما بيان حالات أهل الشقاوة و درجاتهم من الكفار و المحجوبين و المنافقين و الجاحدين و أهل المعصية و الفاسقين. و يلحظ أنّ ما له فائدة بحال العامة قد ذكر أكثر و بصراحة، أمّا ما تعود منفعته إلى طبقة خاصة فقد ذكر بطريق الرمز و الإشارة. فرضوان اللّه و آيات لقاء اللّه مثلا ذكرت لذلك الفريق، على حين جاء الآية كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «2» مثلا إلى فريق آخر.

ثمّ في هذا القسم- تفصيل المعاد و الرجوع إلى اللّه- معارف لا تحصى و أسرار صعبة مستصعبة، لا يمكن الاطلاع على كيفيتها إلّا بسلوك برهاني أو نور عرفاني» «3».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 190.

(2)- المطففين (83): 15.

(3)- آداب الصلاة: 190- 191.

فهم القرآن، ص: 126

6- آخر مقصد يذكره الإمام، هو: «بيان كيفية الاحتجاجات و البراهين التي أقامتها الذات المقدسة للحق تعالى بنفسها، لإثبات المطالب الحقة و المعارف الإلهية مثل الاحتجاج لإثبات الحقّ و التوحيد و التنزيه و العلم و القدرة و بقية الأوصاف الكمالية ... و الاحتجاج لإثبات المعاد و رجوع الأرواح و إنشاء النشأة الاخرى، و الاحتجاج لإثبات ملائكة اللّه و الأنبياء العظام، ممّا هو موجود في مواضع مختلفة من هذا الكتاب الشريف.

هذا بالنسبة إلى احتجاجات الذات المقدسة نفسها. كما هناك ما نقله الحقّ تعالى من براهين الأنبياء و العلماء لإثبات المعارف، مثل احتجاجات خليل الرحمن سلام اللّه عليه و غير ذلك» «1».

بعد هذه الجولة العريضة في مقاصد القرآن و ما يحتويه ينتهي الإمام إلى القول: «هذه أمهات مقاصد هذا الكتاب، و إلّا فهناك أيضا مطالب متفرقة اخرى يحتاج إحصاؤها إلى وقت كاف»

«2».

الخلاصة

من الواضح أنّ الخريطة المقاصدية التي يقدمها الإمام ما هي إلّا تعبير معاصر و تفصيلي في بعض الجهات، لتراث نظرية مقاصد القرآن عند الاتجاه المعنوي و مدرسة العرفان.

فسماحته يخلص إلى أنّ مقاصد القرآن الرئيسية، هي باختصار:

______________________________

(1)- نفس المصدر: 191.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 127

1- معرفة اللّه ذاتا و أسماء و صفات و أفعالا، و هذه هي معرفة المبدأ و التي تعدّ أشرف المعارف و سنامها الأعلى.

2- معرفة طريق السير إلى اللّه و المصير إليه، و أحوال السالكين.

3- معرفة المعاد حين يكون مآل العباد إليه، و أحوالهم هناك بين سعيد و شقي.

4- معرفة عمارة منازل الطريق، و هي ما ينهض به المقصد التشريعي.

5- في مقابل بيان أحوال السالكين من أنبياء و أولياء و مقربين عكف القرآن في مقصد من مقاصده البارزة إلى بيان أحوال المعاندين و الكافرين و الناكبين، سواء على صعيد النبوات السالفة أو على صعيد نبوة نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

6- بيان أسلوب الاحتجاج و استخدام البرهان من قبل اللّه سبحانه مباشرة، أو فيما يحكيه (جل و علا) على لسان أنبيائه و عباده الصالحين.

لا ريب أنّ هذه المقاصد لا تتساوى عند الإمام في الموقع و الفضل و الأهمّية كما لم تتساو عند من سبقه، بل تكون معرفة اللّه في المقدمة، و القرآن هو باب معرفة اللّه، ثمّ تليها بقية المقاصد.

لكن مع ذلك نجد أنّ الفكر القرآني الخميني يتحدّث صراحة عن تنويعات اخرى في محتويات القرآن، ترتبط بمختلف شئون الحياة الإنسانية و بالعمران و المعاش، ممّا يندرج تحت هذه المقاصد الكبرى، أو يكون من لوازمها و ضروراتها و نتائجها. فمع أنّ حركة التفسير القرآني معنية أن تركّز جهدها من

حول المقاصد الكبرى لكي تستحق اسمها و تنسجم مع وظيفتها، إلّا أنّ ذلك لا يعني الجمود على هذه العناوين وحدها، بل أمامها متسع رحب بمقدورها أن تلجه بعد أن تستنفد جهدها في المقاصد الكبرى.

فهم القرآن، ص: 128

لكن هذه الملاحظة على أهميتها لا تكفي في معالجة إشكالية خطيرة تبرز عند المتلقي، و تأتي نتيجة لهذه الرؤية في مقاصد القرآن، ممّا يملي المكوث عندها قبل مواصلة البحث.

4- إشكالية نظرية المقاصد

توحي نظرية مقاصد القرآن عند الإمام بانفصال القرآن عن حركة الحياة، و الترفع عن شئون الإنسانية في المعاش و العمران و السياسة و الإدارة و الاجتماع و غير ذلك ممّا يتصل بالإنسان و الحياة و عالم الشهادة و المادة، في مقابل تركيز مكثّف على اللّه و الآخرة و الغيب، و الانحياز إلى العزلة و الفردية و الانقطاع إلى العبادة و التبتل.

لكن الحقيقة أنّ هذا غير صحيح من جهات عدة، يمكن الإشارة لها كما يلي:

1- لو حققت الإنسانية التوحيد الحقّ في وجودها، لعمرت الحياة و اضمحلّت جميع مظاهر الشرك في مراتبه الذاتية و الصفاتية و الأفعالية، و من ثمّ اختفى الظلم و الجور و الاستبداد، و شاعت العدالة و القسط. أي أنّ نشر التوحيد و إقامته يستلزم إعمار الدنيا بالعدل و القسط و خلافة الإنسان الصالح و الجماعة الصالحة، و بتعبير الإمام الخميني: «إنّ الهدف الأساس للأنبياء العظام و الشرائع و تأسيس الأحكام و نزول الكتب السماوية بالأخص القرآن الشريف ... هو نشر التوحيد و المعارف الإلهية، و قطع جذور الكفر و استئصالها و وأد الشرك و الاثنينية» «1».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 153.

فهم القرآن، ص: 129

التوحيد في هذه المدرسة هو مركّب يحوي كلّ ما في الإسلام من عبادات و معاملات

و امور سياسية و اجتماعية و قيم أخلاقية، فإقامته تعني إقامة كلّ هذه النظم و القيم و الممارسات مجتمعة، و تعطيله يعني تعطيلها. يكتب الطباطبائي في نص شديد الدلالة على هذا المعنى: «فإنّ الإسلام كما يعلمه و يعرفه كلّ من سار في متن تعليماته، من كلياته التي أعطاها القرآن و جزئياته التي أرجعها إلى النبي ...

متعرض للجليل و الدقيق من المعارف الإلهية (الفلسفية)، و الأخلاق الفاضلة، و القوانين الدينية الفرعية من عبادات و معاملات و سياسات و اجتماعيات، و كلّ ما يمسه فعل الإنسان و عمله، كلّ ذلك على أساس الفطرة و أصل التوحيد، بحيث ترجع التفاصيل إلى أصل التوحيد بالتحليل، و يرجع الأصل إلى التفاصيل بالتركيب» «1».

في مقدمة تفسيره لسورة هود يقدم منظورا أوضح للحقيقة ذاتها المتمثلة في أنّ التوحيد هو كلّ شي ء، و هو الجامع لكلّ مقاصد القرآن و آياته، حين يكتب:

«السورة ... تبيّن غرض الآيات القرآنية على كثرتها و تشتتها، و تصف المحصّل من مقاصدها على اختلافها و الملخّص من مضامينها، فتذكر أنّها [الآيات القرآنية] على احتوائها معارف الدين المختلفة من اصول المعارف الإلهية و الأخلاق الكريمة الإنسانية، و الأحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات و المعاملات و السياسات و الولايات، ثمّ وصف عامة الخليقة ... و وصف بدء الخليقة، و ما ستعود إليه من الفناء و الرجوع إلى اللّه سبحانه، و هو يوم البعث ... ثمّ فصل القضاء، ثمّ الجنة أو النار ... ثمّ وصف الرابطة بين خلقة الإنسان و بين عمله ... فالآيات القرآنية على

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 1: 62.

فهم القرآن، ص: 130

احتوائها تفاصيل هذه المعارف الإلهية و الحقائق الحقة تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل و تلك

فروعه، و هي الأساس الذي عليه بنيان الدين، و هو توحيده تعالى توحيد الإسلام ... و هذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها و شرائعها بالتحليل، و هو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب» «1».

على ضوء هذه الرؤية يتبيّن السرّ من وراء تركيز هذه المدرسة على التوحيد، و الأهم من ذلك لا يبقى مجال للإشكالية المطروحة، لأنّ إقامة التوحيد تعني إقامة كلّ شي ء على مستوى المعارف و النظم الحياتية و القيم السلوكية، بحكم أنّ التوحيد هو المركّب الذي يضمّ ذلك جميعا، و أنّ «التوحيد الخالص يوجب في كلّ من مراتب العقائد و الأخلاق و الأعمال ما يبينه الكتاب الإلهي من ذلك، كما أنّ كلا من هذه المراتب و كذلك أجزاؤها لا تتم من دون توحيد خالص» «2».

إنّها علاقة محكمة لا انفصام فيها بين العلم و العمل، و المعاش و المعاد، و الدنيا و الآخرة، و المبدأ و المعاد، فإذا ما أريد لدنيا الإنسان أن تعمر عقيديا و أخلاقيا و عمليا فعليه بالتوحيد.

2- يلتحق بالنقطة السابقة و يتممها أنّ التوحيد ليس بعدا علميا من أعمال الذهن و حسب، و لا هو مجرد بعد معرفي من أعمال العقل و القلب، بل له أيضا بعد عملي يبرز في السلوك الفردي كما السلوك الاجتماعي، و له مدلولات تظهر على الصعيد الاجتماعي و السياسي و السلوكي بمعناه الشامل و العام الذي يستوعب

______________________________

(1)- نفس المصدر 10: 534- 135.

(2)- نفس المصدر: 137.

فهم القرآن، ص: 131

مرافق الحياة و المجتمع.

هذا المعنى هو الذي يفسّر لنا بروز منهجيات بعضها قديم و بعضها حديث، راحت تبحث عن المدلولات الاجتماعية للتوحيد في حياة المسلمين. من المحدثين زاوج السيد جمال

الدين الأفغاني (1254- 1314 ه) بين المنطق الاجتماعي و المنطق الفلسفي في ضرورة التوحيد، و انتهى إلى أنّ ذيوع المادية و تغييب التوحيد ينتهي جزما إلى «إفساد الهيئة الاجتماعية و تزعزع أركان المدنية» «1».

كما سعى الشيخ محمد عبده (1265- 1323 ه) في كتابه الشهير «رسالة التوحيد»، أن يقرأ التوحيد توحيدا للمجتمع، و أخوة بين أفراده في مقابل الشرك، الذي رأى فيه الفرقة و التمزق الاجتماعي «2».

على المنوال نفسه سار محمد إقبال (1873- 1938 م) في مناشدته المسلم أن يتحرى الروح الاجتماعية للتوحيد متمثلة في «المساواة و الاتحاد و الحرية» «3».

أمّا مالك بن نبي (1905- 1973 م) فهو يسجل في نص نافذ، قوله: «إنّ مشكلتنا ليست في أن «نبرهن» للمسلم على وجود اللّه، بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه باعتباره مصدرا» «4». و ذلك في إشارة نقدية إلى غياب التأثير

______________________________

(1)- رسالة الردّ على الدهريين، السيد جمال الدين الأفغاني، منشورة في كتاب: الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني، بقلم الشيخ محمد عبده، سلسلة كتاب الهلال: 133.

(2)- مشكلة الوجود و المعرفة في الفكر الإسلامي الحديث عند كلّ من الإمام محمد عبده و محمد إقبال: 113 فما بعد.

(3)- تجديد الفكر الديني في الإسلام: 178.

(4)- وجهة العالم الإسلامي: 55.

فهم القرآن، ص: 132

النفسي و الاجتماعي لمبدأ التوحيد الكلامي.

أمّا مع مطلع الثمانينيات فقد تصدى عدد من العلماء و المفكرين للحديث بكثافة عن المدلولات الاجتماعية للتوحيد، ربما كان من المناسب أن نشير منها إلى كتابات السيد محمد باقر الصدر، الذي كتب يقول نصا: «إنّ اصول الدين الخمسة التي تمثل على الصعيد العقائدي جوهر الإسلام و المحتوى الأساسي لرسالة السماء، هي في نفس الوقت تمثل بأوجهها الاجتماعية على صعيد

الثورة الاجتماعية التي قادها الأنبياء الصورة المتكاملة لأسس هذه الثورة» «1». عن التوحيد تحديدا، قال: «فالتوحيد يعني اجتماعيا أنّ المالك هو اللّه دون غيره من الآلهة المزيفة» «2». على هذا المنوال راح يتقصّى الآثار الاجتماعية للتوحيد في حياة المسلمين «3».

عند ما نصل إلى الإمام الخميني نفسه نراه يقدم المقاربة التالية للمحتوى الاجتماعي للقرآن مقارنة بمحتواه العبادي: «هناك فرق كامل بين القرآن و كتب الحديث التي تعدّ مصادر أحكام الإسلام و تعاليمه، و بين الرسائل العملية التي تصنف من قبل مجتهدي العصر و المراجع، من زاوية الشمول و الأثر الذي يمكن أن تتركه في الحياة الاجتماعية. إنّ نسبة اجتماعيات القرآن إلى آياته العبادية، هي أكثر من نسبة المائة إلى واحد» «4».

عن مهجورية القرآن من زاوية تعطيل آياته الاجتماعية و السياسية و ما

______________________________

(1)- الإسلام يقود الحياة: 38.

(2)- نفس المصدر: 34.

(3)- راجع على هذا الصعيد: التوحيد، بحوث في مراتبه و معطياته: 437- 464.

(4)- ولايت فقيه: 5.

فهم القرآن، ص: 133

تنطوي عليه من مدلولات حياتية، يقول الإمام نصا: «لقد نسينا الآيات التي ترتبط بالمجتمع، و الآيات ذات الصلة بالسياسة، و الآيات التي ترتبط بالحرب و الجهاد، بالرغم من كثرة هذه الآيات، إذ ترتبط أكثر الآيات بهذه المسائل؛ لقد نسيناها و أغفلناها» «1».

المشكلة إذا ليست في التوحيد، فللتوحيد مدلولات اجتماعية و سياسية و سلوكية جمّة ينبغي استكناهها و تفعيلها، و من يركز على التوحيد كمقصد أقصى لا يبغي مطلقا تجميد آثاره العملية في المجتمع و السياسة و الاقتصاد و بقية مرافق الحياة. على هذا إذا كان هناك تقصير فعلاجه لا يكمن بإلغاء محورية التوحيد، بل باللجوء إلى سبل تفعيل معطياته في واقع الناس، ليعود الترابط في حياة الإنسان بين الغيب

و الشهادة، و اللّه و الإنسان، و الملك و الملكوت، و العلم و العمل، و الدنيا و الآخرة و هكذا.

3- من المغالطة بمكان الزعم أنّ المقاصد الستة في هذه النظرية بعيدة بعدا كليا عن واقع الحياة و منفصلة عنها انفصالا تاما، بالشكل الذي تنقطع به صلة القرآن مع الحياة. فهذه المقاصد تحوي بنفسها امور المعاش و تمر بقضايا الدنيا لكنها لا تقف عندها. فلو افترضنا محورا عاما للحياة الإنسانية يرتكز إلى ثلاثة خطوط عريضة هي العقيدة، و السلوك العملي الذي تنظمه و تضبطه أنظمة العمل، ثمّ القيم الذي تؤطر الحياة عامة، فإنّ ما في تلك المقاصد الستة يشملها دون ريب. أ لم تتحدث تلك المقاصد صراحة عن عمارة منازل الطريق؟ و عن تحديد خط السير إلى اللّه؟ أ ليست الدنيا و الحياة الإنسانية هي المجال الرحب لهذه

______________________________

(1)- صحيفه امام 15: 11.

فهم القرآن، ص: 134

الحركة نحو اللّه جل جلاله؟

4- مع عناية رموز هذه المدرسة بالمقاصد المعرفية و المعنوية، و بغض النظر عمّا تستلزمه هذه المقاصد من عناية بالحياة، فإنّ نصوصهم تركز بكثافة على شمول القرآن للعباديات و السياسيات، و للمعنويات و الماديات. فهذا الغزالي يكتب في وصف القرآن، و يقول فيه: «كلّ ما أشكل فيه على النظار و اختلف فيه الخلائق في النظريات و المعقولات، ففي القرآن إليه رموز و دلالات عليه يختصّ أهل الفهم بدركها» «1».

أمّا صدر الدين الشيرازي فإنّ نصه أدل على المطلوب، و هو يكتب: «فكما أنّ القرآن العظيم يوجد فيه علوم الآخرة و مكاشفات الأسرار الإلهية و الآيات الربوبية، فكذلك يوجد فيه أحكام الحل و الحرمة، و طريق المعاملات، و كيفية المعاشرة مع الخلق، و علم التمدن و السياسات، و الجروح

و القصاص، و الأقضية و الحكومات، فتلك الآخرة، و هذه الدنيا على وجه تكون وسيلة للآخرة» «2».

في نص مطلق من دون قيد، يسجل الإمام: «إنّ القرآن يشتمل على المعارف كافة، و جميع ما يحتاج إليه البشر» «3». ثمّ يفصّل بعض ذلك في نص آخر، يقول فيه: «إنّ لدينا مثل هذا الكتاب الذي يتوفر على المصالح الشخصية، و المصالح الاجتماعية، و المصالح السياسية، و إدارة البلاد، و فيه كلّ شي ء» «4».

بيد أنّ الأروع من ذلك كله هو وصفه القرآن بأنّه مركب يلتقي فيه البعدان

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 289.

(2)- تفسير القرآن الكريم 6: 132.

(3)- صحيفه امام 20: 249.

(4)- نفس المصدر 18: 423.

فهم القرآن، ص: 135

المعنوي و المادي، ممّا يعدّ من خصائص هذا الكتاب: «إنّ اتصال المعنى و المعنوية بالماديات و انعكاس المعنوية في جميع الجهات المادية، هو من خصوصيات القرآن و من مننه و عطاياه.

ففي الوقت نفسه الذي يعدّ فيه القرآن كتابا معنويا عرفانيا بحيث لا نبلغ [كنهه] و لا يصل إليه خيالنا، بل حتّى خيال الأمين جبرائيل؛ فهو في الوقت ذاته كتاب ينهض بتهذيب الأخلاق، و يمارس الاستدلال، و الحكم، و يوصي بالوحدة، و يحثّ على الجهاد و القتال.

و هذه من خصوصيات كتابنا السماوي الذي فتح في آن واحد باب المعرفة بما يتناسب مع حد الإنسان و مستواه، كما فتح أيضا باب الماديات، و اتصال الماديات بالمعنويات، و فتح باب الحكم و الخلافة و باب كلّ شي ء» «1».

5- أمّا أن تكون المقاصد المعنوية مقدّمة على غيرها، و الآخرة على الدنيا، فهذا ما لا ننكره و ليس بوسع أحد أن ينكره، لأنّ الرؤية الكونية الإسلامية هي التي تجعل الدنيا منزل للآخرة، و القرآن تحدّث صراحة

و بكثافة على أنّ الآخرة و لقاء اللّه هما المقصد الأخير، و هناك الحياة الدائمة الأبدية لا هنا.

يقول سبحانه: وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «2»، و يقول: فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ «3»، و قوله:

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ «4»، و قوله: تُرِيدُونَ عَرَضَ

______________________________

(1)- نفس المصدر 17: 434.

(2)- العنكبوت (29): 64.

(3)- الرعد (13): 26.

(4)- النحل (16): 107.

فهم القرآن، ص: 136

الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ «1»، و قوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى «2»، و قوله: أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ «3».

بل حتّى الآية العتيدة التي يكثر الاستشهاد بها على الدنيا، فهي أيضا تؤثر الآخرة و تجعلها هي المبتغى: وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا «4».

أ فبعد هذا يجوز أن يعاب على هذه الرؤية بمثل القول: «إنّ مفهوم غاية الوجود الإنساني بوصفه «سفرا» إلى اللّه لا بوصفه «تحقيقا» لإرادته قد أدى إلى اعتبار الدنيا مجرد «منزل» من منازل السفر» «5».

الحقيقة ليس هناك تعارض بين أن تبقى الآخرة هي الهدف و المبتغى- كما هي فعلا كذلك- في مسير الإنسان، و بين أن يحقق هذا الموجود إرادته في الحياة الدنيا. الرؤية القرآنية لا تنفي الدنيا هكذا مطلقا، و أنّى لها ذلك، بل تنظر إليها كهدف طريق لا هدف غاية. فليست الدنيا هي الهدف الأصيل الذي وضعته السماء للإنسان الإسلامي على وجه الأرض، و إنّما هي وسيلة يؤدي بها الإنسان دور الخلافة على

______________________________

(1)- الأنفال (8): 67.

(2)- النساء (4): 77.

(3)- التوبة (9): 38.

(4)- القصص (28): 77.

(5)- مفهوم النص: 263، من الأمانة أن نشير إلى أنّ

المؤلّف كان بصدد نقد مقاصد القرآن عند الغزالي انطلاقا من النسق المعرفي الذي يؤمن به. و إذا كان النقد واردا على الغزالي فهو بالتأكيد لا يرد عليه بسبب أنّه قدم المقصد المعنوي على المادي و اعتبر الدنيا منزلا للآخرة؛ لأنّ القرآن هو الذي فعل ذلك.

فهم القرآن، ص: 137

الأرض، باستخدام إرادته و إقامة القسط و العدل و الارتفاع بالإنسانية في المجالين المعنوي و المادي «1».

أجل، نحن نتفق مع الناقد بشيوع ثقافة التبرير، و التنظير لاعتزال الحياة و لفكر الطاعة و الاستسلام للأنظمة الظالمة و للواقع، و الإيحاء بأنّ ذلك قدر من السماء لا إرادة للإنسان في مواجهته، كما نتفق و إياه بغياب الوعي الدقيق للواقع الاجتماعي و السياسي للعالم الإسلامي، و تضخيم ثقافة النص بتهميش ثقافة الواقع.

الأهم من ذلك إننا نتفق و إياه إلى المآل الذي انتهى إليه القرآن و ما أصابه من هجران حتّى تحول «تدريجيا إلى «شي ء» ثمين في ذاته، و تمّ «تشييئه» في الثقافة، فصار حلية للنساء و رقية للأطفال و زينة تعلق على الحوائط و تعرض إلى جانب الفضيّات و الذهبيات» «2»، لكننا لا نرى علة ذلك ناشئة عن النظرة المقاصدية التي تجعل معرفة اللّه و لقائه هي المقصد الأقصى، و تنظر من ثمّ إلى الدنيا كمنزل من منازل الطريق، و أنّ الإنسان في حال سفر صوب الآخرة.

إنّ لتغييب القرآن و تعطيل دوره و تجميد مقاصد الإسلام و الشريعة أسباب عديدة نظرية و واقعية، تأريخية و معاصرة تنبع من داخل الواقع الفكري و العملي للمسلمين على حد سواء، من دون إهمال للعنصر الأجنبي الخارجي في العصور المتأخرة، لكن أيضا من دون تضخيم له.

مع ذلك تملي الموضوعية القول بأنّ النظرية المقاصدية التي

تعطي الأولية لمعرفة اللّه و للارتقاء المعنوي للإنسان و للآخرة، هي أحرى من غيرها في سوء

______________________________

(1)- راجع ممّن تناول هذه الإشكالية بالعلاج: اقتصادنا: 669 فما بعد.

(2)- مفهوم النص: 297.

فهم القرآن، ص: 138

استغلال الآخرين لها، و تحويلها إلى ذريعة نظرية تغذّي اتجاهات العزلة و تعطيل الجهد الإنساني خاصة مع سوء الفهم الذي تتعرض له في نطاقها الخاص أو في النطاق العام الذي تنتمي إليه، متمثلا بالاتجاه العرفاني.

لكن مع الإمام الخميني في فكره و تجربته الاجتماعية و الثورية انقلبت الحالة إلى الضد و أصبح العرفان هو عرفان المقاومة و الثورة و الحماسة، و بسط العدل و القسط، و مواجهة الطاغوت و رفض الاستبداد و الاستقلال، بوصفها جميعا مقاصد فرعية متفرعة عن المقصد الأساسي.

علينا أن لا نعجب و نحن ننظر إلى الرؤية الخمينية، تسجل لنا بأنّ «الإسلام عني بتأمين رفاه الناس و راحتها و أمثال ذلك، من دون فرق بين طبقة و اخرى» «1».

أو أن يكون القرآن هو الكتاب الأوّل في مواجهة الاستغلال و الظلم و الاستعمار:

«فهذا القرآن الكريم الذي ينطوي على الأمر الإلهي المباشر في قتال المشركين و المترفين، و الذي يعدّ الكتاب الإلهي الوحيد المحرك ضدّ الاستعمار و الظلم، عرضوه بصورة اخرى» «2»؛ بصورة مستخذية توحي بالتبرير و الاستسلام.

في نص آخر كثيف الدلالة على حركية القرآن، و توازن هذه الحركية بمزاوجتها بين عالمي المادة و المعنى، و بين السياسة و القيم، و بين الطبيعة و الغيب، و الدنيا و الآخرة، بما يجعل الاولى مثابة إلى الثانية، و الثانية هي المبتغى، يواجهنا الإمام بقوله: «إنّ الإسلام دين الحركة، و القرآن الكريم كتاب حركة؛ حركة من الطبيعة إلى الغيب، حركة من المادية إلى المعنوية، حركة في طريق

العدالة، حركة

______________________________

(1)- صحيفه امام 7: 289.

(2)- نفس المصدر 3: 254، من الطريف أن نعرف أنّ هذا النص للإمام جاء في سياق جواب الإمام على برقية كان قد بعثها إليه ياسر عرفات.

فهم القرآن، ص: 139

من أجل إقامة حكومة العدل» «1».

كما ينعى سماحته على من يزعم أنّ القرآن كتاب تخدير للإنسان و تجميد لطاقته على الفعل و المقاومة، و يقول: «ليس القرآن كتابا مخدرا، القرآن كتاب محرّك، كتاب استطاع أن يحرّك العرب الذين لم يكونوا يعرفون شيئا، بحيث أطاحوا بالإمبراطورات العظمى الظالمة» «2».

عن الاتجاه الذي عطل القرآن، و حوّله إلى تمائم و أحراز، أو في الحد الأقصى إلى كتاب للبركة عبر ما فيه من أذكار و دعاء، يتساءل الإمام: «ينبغي لنا أن نبادر إلى مطالعة و لو جزئية في القرآن الكريم، لننظر هل أنّ القرآن جاء للذكر و الدعاء و من أجل التمائم و أمثال ذلك أم أنّهم لم يعرفوا القرآن؟» «3»، بعد إثارة عدد من الأسئلة ينتهي الإمام، إلى القول: «إنّ القرآن هو كتاب تستفاد منه الحركة أكثر من أي شي ء آخر، كتاب حرّك الناس من هذا الخمود و الجمود الذي كانت فيه، و وضعها على خط مواجهة جميع الطواغيت» «4».

5- النتائج المترتبة

اشاره

يترتب على هذه الرؤية المقاصدية العديد من النتائج التي أفصح الإمام عن بعضها مباشرة، فيما يمكن استنتاج بعضها الآخر من ثنايا النص الخميني.

أبرز هذه النتائج، هي:

______________________________

(1)- نفس المصدر 8: 291.

(2)- نفس المصدر 4: 98- 99.

(3)- نفس المصدر: 18.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 140

1- تحديد خصائص المفسر و مؤهلاته.

2- تحديد منهج التفسير و طبيعته.

3- رفض النزعات و الاتجاهات الآحادية.

4- التزام موقف خاص من التراث التفسيري الموجود.

5- تحديد دائرة التفسير و منطقته.

1- خصائص المفسّر و مؤهّلاته

ما دام الإمام يحدّد التفسير بشرح المقصد: «معنى تفسير الكتاب شرح مقاصده، و المسألة الأساسية هي بيان منظور صاحب الكتاب» «1»، فستكون وظيفة التفسير التي ينبغي للمفسر أن ينهض بها، هي بيان المقصد الذي جاء من أجله القرآن، و إلّا فهو لا يستحق اللقب الذي يحمله. بتعبير الإمام: «إنّما يكون المفسر مفسرا إذ أعلمنا «المقصد» من النزول لا «سبب» النزول كما هو الحال في التفاسير» «2».

و حيث إنّ القرآن هو كتاب هداية: «هذا الكتاب الشريف هو بشهادة اللّه تعالى، كتاب هداية و تعليم، و هو نور الطريق لسلوك الإنسانية» «3»، و حيث هو باب معرفة اللّه إذ «لو لا القرآن لبقي باب معرفة اللّه مؤصدا إلى الأبد» «4»، و لمّا كان

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192.

(2)- نفس المصدر: 193.

(3)- نفس المصدر: 192. فهم القرآن 140 1 - خصائص المفسر و مؤهلاته ..... ص : 140

(4)- صحيفه امام 17: 433.

فهم القرآن، ص: 141

«مقصد القرآن، كما تصرّح به الصحيفة النورية نفسها، هو الهداية إلى سبل السلامة، و إخراج [الإنسان و الإنسانية] و إنقاذها من مراتب الظلمات بأجمعها إلى عالم النور و الهداية إلى الطريق المستقيم» «1»، و لمّا كان «القرآن قد جاء لكي يصير الإنسان إنسانا ...

إذ أنّ جميع العبادات و الأدعية كافة ما هي إلّا وسيلة، لانبثاق للباب الإنسان و ظهورها ... و لكي يتحوّل الإنسان بالقوّة إلى إنسان بالفعل، و يصير الإنسان الطبيعي إنسانا إلهيا، كلّ شي ء فيه إلهي» «2»، بكلمة أخيرة: لمّا كان «كتاب اللّه كتاب معرفة و أخلاق و دعوة إلى السعادة و الكمال» «3» و ذلك في الإطار التفصيلي لنظرية المقاصد القرآنية؛ فينبغي للمفسّر أن ينهض ببيان ذلك كله و شرحه، مع ما تمليه هذه المهمة من مقدمات و لوازم و ما يلتحق بها من تفاصيل و ما يترتب عليها من نتائج.

ففي قصص القرآن مثلا: «ينبغي للمفسّر أن يبيّن للمتعلّم في كلّ قصّة من قصصه، بل في كلّ آية من آياته، جهة الاهتداء إلى عالم الغيب، و حيثية الإرشاد إلى طرق السعادة و سلوك سبيل المعرفة و الإنسانية» «4».

و كما أنّ غفلة المفسّر عن هذه الوظيفة تفقده لقبه كمفسر لأنّه يكون قد غفل عن مقصد القرآن و ما جاء له، فكذلك يرى الإمام أنّ تجافي حركة التفسير عن هذه المهمة، ألحق بالامّة أضرارا فادحة على مدى قرون و أوصد في وجهها باب الهداية:

«إنّ المفسر الذي غفل عن هذه الجهة، أو صرف عنها النظر، أو لم يعبأ و لم يهتم بها،

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 203.

(2)- تفسير سورة حمد: 174.

(3)- آداب الصلاة: 193.

(4)- نفس المصدر: 192- 193.

فهم القرآن، ص: 142

فهو قد غفل عن مقصود القرآن نفسه، و أغضى عن المنظور الأساسي لإنزال الكتب و إرسال الرسل. و هذا خطأ حرم هذه الامّة من الاستفادة من القرآن على مدار قرون، و أوصد بوجه الناس سبيل الهداية» «1».

المطلوب من المفسر أن يفتح هذا الباب المؤصد أمام الناس: «ينبغي أن يفتح

هذا الكتاب الشريف للناس، فهو الكتاب الوحيد للسلوك إلى اللّه، و الكتاب الوحيد لتهذيب النفوس، و للآداب و السنن الإلهية، و هو أكبر وسيلة ارتباط بين الخالق و المخلوق، و هو العروة الوثقى و الحبل المتين للتمسك بالعز و الربوبية» «2».

على هذا الضوء ليس مقبولا في نظرة الإمام إلى المفسر و مؤهلاته، أن يجمد الأخير على المقدمات و يستغرق بها بحيث تغدو هي الهدف، فتنصرف حركة التفسير عن مهمتها مثلما هو حاصل في تيار عريض من التراث التفسيري: «ثمّ طائفة من علماء التفسير تحصر الاستفادة من القرآن بضبط اختلاف القراءات، و جمع معاني اللغات، و تصاريف الكلمات، و المحسنات اللفظية و المعنوية، و وجوه إعجاز القرآن و المعاني العرفية و اختلاف أفهام الناس فيها، في حين هي غافلة تماما عن دعوات القرآن و جهاته الروحية و معارفه الإلهية. إنّ مثل هؤلاء كمثل مريض يراجع الطبيب و يستلم منه نسخة الدواء، ثمّ يرى علاجه بضبط النسخة و حفظها و النظر في كيفية تركيبها. إنّ أمثال هؤلاء سيقتلهم المرض و لا ينفعهم العلم بالنسخة و مراجعة الطبيب بتاتا» «3».

إنّما: «ينبغي للمفسر أن يعلّم الناس الشئون الإلهية، كما يتعين على الناس

______________________________

(1)- نفس المصدر: 193.

(2)- نفس المصدر: 195.

(3)- نفس المصدر: 171.

فهم القرآن، ص: 143

أن ترجع إلى القرآن لتعلم الشئون الإلهية، لكي تتحقق الاستفادة من القرآن وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1». ترى أي خسارة أعظم من أن نقرأ الكتاب الإلهي ثلاثين و أربعين سنة، و نراجع التفاسير، ثمّ نبقى بعيدين عن مقاصده! رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «2»» «3».

المطلوب

من المفسر أن يتحوّل من علوم المقدمات إلى المعرفة القرآنية، و من القشور إلى اللباب، و من الظاهر إلى الباطن، و من المقدمات إلى المقاصد، و من المقاصد الفرعية إلى المقصد الأسمى.

لقد أطنبت كتب التفسير و علوم القرآن بالحديث عن شروط المفسر و خصائصه و ما يحتاج إليه من علوم و مقدمات. لكن في الرؤية التي نحن فيها يتم التركيز عادة على الموقع المعرفي و على التزكية و التهذيب تمهيدا لتلقي معارف القرآن، من دون إهمال للجهد العقلي الذي تتوفر له فرص الإيناع أكثر في إطار التهذيب و الاستعداد النفسي عبر طهارة الباطن.

يلخّص أحد رادة هذا الاتجاه، هذه الرؤية للمفسر بقوله: «تتحرك عملية تفسير القرآن في إطار معرفته، و لما كانت لمعرفة القرآن درجات مختلفة فسيكون لتفسيره درجات مختلفة أيضا» «4».

فهناك من يعرف القرآن من خلال الاتحاد بحقيقته، كما هو شأن النبي:

______________________________

(1)- الإسراء (25): 82.

(2)- الأعراف (7): 23.

(3)- آداب الصلاة: 194- 195.

(4)- المنهج التفسيري للعلامة الطباطبائي: 9.

فهم القرآن، ص: 144

نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «1»، وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «2» و أهل بيته هم في منزلته. كما هناك من يعرفه بمشاهدة آيات القرآن الأنفسية عبر التزكية و التهذيب و صفاء الباطن، ثمّ هناك من يعرفه عن طريق الاجتهاد العقلي و المثابرة العلمية.

لكن بصراحة، لا يقتصر شرط التهذيب و تزكية النفس على المدرسة العرفانية وحدها، بل تحدثت عنه و اشترطته للمفسر كثير من كتب علوم القرآن، و عدد غير قليل من المفسّرين أنفسهم.

لقد ذكر الأقدمون هذا الشرط و أطلقوا عليه «علم الموهبة» كما فعل الراغب الاصفهاني (ت: 502 ه) الذي وصفه بأنّه علم يورثه اللّه من عمل

بما علم. ثمّ عقّب السيوطي عليه، بقوله: «و لعلك تستشكل علم الموهبة، و تقول هذا شي ء ليس في قدرة الإنسان. و ليس كما ظننت من الإشكال، و الطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل و الزهد» «3».

أمّا الزركشي فقد كان أوضح من غيره، و هو يكتب: «أصل الوقوف على معاني القرآن التدبّر و التفكّر، و اعلم أنّه لا يحصل للناظر معاني الوحي حقيقة، و لا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة و في قلبه بدعة أو إصرار على ذنب، أو في قلبه بدعة كبر أو هوى أو حبّ الدنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان أو ضعيف التحقيق أو معتمدا على قول مفسر ليس عنده إلّا علم بظاهر، أو يكون راجعا إلى

______________________________

(1)- الشعراء (26): 193- 194.

(2)- النمل (27): 6.

(3)- الإتقان في علوم القرآن 4: 188.

فهم القرآن، ص: 145

معقوله. و هذه كلها حجب و موانع و بعضها أوكد من بعض» «1».

بشكل عام استوفى الباحثون في القرآن هذا الجانب من خلال ما أطلقوا عليه بالآداب النفسية للمفسر من صحة اعتقاد «2»، و إخلاص و تفويض و عدم إخلاد المفسر إلى الإعجاب بنفسه و الاتكال على عقله و جودة قريحته «3»، و الارتكان إلى الموهبة و هو ليس من العلوم المكتسبة بل من العلم اللدني «4»، و الاستشعار الشديد لتقوى اللّه و عدم السقوط في هوة الإعجاب «فالإعجاب اسّ كلّ فساد» كما يقول الراغب «5».

لكن مع مدرسة المعنى زادت كثافة التركيز على عنصر التزكية: «إذا ما أراد الإنسان أن يستفيد من معارف القرآن، و ينتفع من المواعظ الإلهية ينبغي له أن يطهر القلب من هذه الأرجاس، و يدفع عنه لوث المعاصي القلبية المتمثل بالاشتغال بغيره

سبحانه؛ لأنّ غير المطهّر لا يؤتمن على هذه الأسرار. قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «6»» «7». كما يقول الإمام

______________________________

(1)- البرهان في علوم القرآن 2: 180.

(2)- المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 39، الإتقان في علوم القرآن 4: 174، فيما نقله عن أبي طالب الطبري و شروطه للمفسر.

(3)- الإتقان في علوم القرآن 4: 175، مقدمتان في علوم القرآن: 174- 175، فيما نقله من كلام أبي عمر و عثمان المازني في الإخلال و التوكل و التفويض و الارتكان إلى تطهير الباطن.

(4)- الإتقان في علوم القرآن 4: 188.

(5)- مقدمته في التفسير: 97، التفسير و المفسّرون 1: 54 57.

(6)- الواقعة (56): 77- 79.

(7)- آداب الصلاة: 202.

فهم القرآن، ص: 146

أيضا: «إذا خلي القلب من الأوساخ صار مهيئا لذكر اللّه و قراءة كتاب اللّه» «1».

طبيعي أنّ العلم بالامور النظرية يتحقق بغير هذا الشرط، لكن إذا ما أريد الارتقاء إلى حقيقة القرآن فالتزكية أمر لا مناص عنه «و المطلوب في قراءة القرآن الكريم هو أن تنتقش صورته في القلوب، و أن تكون أوامره و نواهيه مؤثّرة، و أن تستبدل دعواته ما هو موجود في القلوب و تحلّ مكانها» «2». و إلّا: «فما وصلت حقيقة القرآن و أحقيته إلى قلبنا، و ما انجذب قلبنا إليه» «3».

معرفة كهذه لا يكفي في تحققها البرهان و العلوم الكسبية و منطقة العقل وحدها، بل تحتاج إلى التهذيب و التزكية حتّى يستقر التعليم، و مثلما يعدّ هذا المعنى شرطا لقارئ القرآن، فهو دون ريب أحق بالمفسر الذي يتصدى لبيان معاني القرآن و بثّ معارفه، بل هو الشرط الأوّل الذي ينهض عليه البناء. فإذا ما رمت «نيل جواهر بحار القرآن، و درر

أسرار كلام اللّه، و فتق أصداف مبانيه، و أخذ غرر معانيه، و حل معضلاته و فهم مشكلاته» فعليك في البدء «بتصفية نفسك و تزكيتها عن هواها ... فاستحكم أولا أساس المعرفة بالتقوى، ثمّ أرق ذراها، و إلّا فكنت ممّن أتى بنيانه من القواعد» «4».

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في الدلالة على هذا النمط من المعرفة، مدلا على أهله و خصائصهم: «إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلّا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله، و بصّر به عماه، و سمع به صممه، و أدرك به علم ما فات، و حيي به

______________________________

(1)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 73.

(2)- شرح چهل حديث: 499.

(3)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 61.

(4)- مفاتيح الغيب: 7- 8.

فهم القرآن، ص: 147

بعد إذ مات، و أثبت به عند اللّه عزّ ذكره الحسنات، و محا به السيئات، و أدرك به رضوانا من اللّه تبارك و تعالى، فاطلبوا ذلك من عند أهله» «1».

على أنّ هذا الشرط في المفسّر لا يعني مطلقا إلغاء دور العلوم الكسبية و الاجتهاد العقلي بل يريد أن يقول إنّ هذه منطقة ثمّ ما يأتي بعدها، و إنّ هناك طورا ما وراء طور العقل و البرهان.

2- منهج التفسير و طبيعته

شهد التفسير بما له من عراقة تاريخية عتيدة تعود ببواكيره إلى عصر النبي منهجيات عديدة، حتّى يمكن الحديث عن علم مستقل عنوانه «علم منهجيات التفسير». لقد تفاوتت مداخل الباحثين و منطلقاتهم في التنظير، إذ أراح بعضهم نفسه، بالحديث عن ثلاثة أنماط انتظمت منهجيات التفسير، هي:

1- نمط التفسير بالمأثور «2»، كما هو الحال مع تفاسير الطبري (224- 310 ه) و العياشي السمرقندي (ت: 320 ه)، و القمي (ت: 329 ه) و السيوطي (ت:

911 ه) و الحويزي (ت: 1112 ه).

2- نمط التفسير الاجتهادي «3»، كما هو الحال مع الطوسي (ت: 490 ه)، و الرازي (ت: 606 ه)، و القرطبي (671 ه)، و الآلوسي (ت: 1270)، و البلاغي (1282- 1352 ه).

______________________________

(1)- الكافي 8: 386/ 586، للحديث تتمة رائعة حرية بالمراجعة.

(2)- التفسير و المفسّرون 2: 21- 346.

(3)- نفس المصدر: 349- 439.

فهم القرآن، ص: 148

3- ثمّ نمط التفسير العلمي و الأدبي و الاجتماعي «1»، و هي منهجيات ازدهرت في العصر الحديث من أمثلتها تفسير الطنطاوي (1358 ه)، و محمد عبده (ت: 1323 ه)، و المراغي (1371 ه)، و قطب (ت: 1386 ه)، و الطباطبائي (ت: 1403 ه)، و مغنية (ت: 1979 م) و شيرازي (معاصر) و غير هؤلاء كثير «2».

في حين توسعت أغلب الدراسات في تنويع منهجيات التفسير تبعا لتعدد تخصصات المفسّرين و اختلاف منطلقاتهم و مؤهلاتهم و قناعاتهم، فتحدثت عن المنهج القرآني و الأثري و اللغوي و البياني و المنهج الصوفي أو الباطني و المنهج العلمي و التاريخي و الموضوعي و الاجتماعي و الأدبي و الحركي و الفلسفي و هكذا «3».

بعضهم صنّف التفسير إلى اجتهادي درائي و غير اجتهادي ناظرا إلى أدوات المفسر و تأهيله و قدراته العلمية و مصادره «4»، على حين تحدث بعض آخر عن ثلاثة اتجاهات بحسب مضمون المنهج هي الاتجاه التحليلي، و الاتجاه الإجمالي

______________________________

(1)- التفسير الأدبي و الاجتماعي هو معنى إيجابي يطلقه الباحث على التفاسير التي تحرّت مس روح القرآن و حقيقته و صياغة معانيه بأسلوب شيق و أخّاذ يقربه إلى أفهام الناس، فنأت عن الاستغراق بالمقدمات و الإسرائيليات و شحن التفسير بمصطلحات العلوم و الفنون إلّا بمقدار الحاجة، كما نبذت ما استطاعت نزعات التعصب

إلى السلف و المذاهب و أعطت العقل حريته في النقد و التمحيص. و إذا كانت الزيادة في هذا الاتجاه هي من نصيب الشيخ محمد عبده في العصر الحديث، فإنّه قد بلغ ذروته مع الطباطبائي في «الميزان». ينظر: التفسير و المفسّرون 2: 451- 454.

(2)- التفسير و المفسّرون 2: 442- 479.

(3)- المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم: 77- 127.

(4)- تسنيم 1: 58، و مواضع اخرى.

فهم القرآن، ص: 149

و الاتجاه الموضوعي «1».

كما أوضح بعضهم رأيه بالمسألة بإجمال أعقبه تفصيل، فذكر أنّ ما عاد فيه المفسر إلى النقل قرآنا و رواية فهو تفسير نقلي أو أثري على اعتبار أنّ المأثور لا يختص بالحديث وحده، أمّا إذا وظّف العقل في بيان معنى الآية عن طريق الآيات و الروايات، فهذا النمط يلتحق بالتفسير النقلي أيضا لأنّ العقل لم يستقل في التفسير، بل استخدم كمصباح و حسب.

في حين يعدّ التفسير عقليا إذا اعتمد فيه المفسر على العقل كمصدر لا كمصباح، و لجأ إلى استنباط بعض المبادئ التصورية و التصديقية من العقل البرهاني كمصدر ذاتي.

على هذا الضوء انتهى إلى تثليث منهج التفسير كما يلي:

1- تفسير القرآن بالقرآن.

2- تفسير القرآن بالسنة.

3- تفسير القرآن بالعقل «2».

بلحاظ هذه الخلفية السريعة التي تتنوع بها حيثيات النظر، ننتقل إلى الإمام الخميني لنتبيّن موقفه من المسألة. يحسم الإمام موقفه بنص صريح يربط فيه بين المحتوى القرآني و الإطار التفسيري، و بين المقصد و المنهج، فيقول: «ما دام كتاب اللّه بالجملة هو كتاب معرفة و أخلاق و دعوة إلى السعادة و الكمال، فلا بد لكتاب التفسير أن يكون كتابا عرفانيا أخلاقيا، مبينا للجهات العرفانية و الأخلاقية و بقية ما

______________________________

(1)- مصادر التفسير الموضوعي: 48.

(2)- تسنيم 1: 58- 59.

فهم القرآن، ص: 150

ينطوي عليه القرآن من أبعاد الدعوة إلى السعادة» «1».

في الحقيقة رأينا فيما سلف أنّ الإمام لا يخفي تغليب الجانب المعنوي و وضع المقصد العرفاني على رأس مقاصد القرآن. فالقرآن عند الإمام: «كتاب لبناء الإنسان، ليس كتاب طبّ، و لا كتاب فلسفة، و لا كتاب فقه، كما أنّه ليس كتابا لبقية العلوم ... فإذا ما طالع الإنسان القرآن على نحو سليم، يجد أنّ كلّ ما فيه، و كلّ ما عرض له هو جنبة الالوهية، أجل إنّ فيه كلّ شي ء لكن من خلال الجنبة الالوهية» «2».

إنّ الجزء الأخير من النص يبرز لنا مقصود الإمام فيما يعنيه من أنّ القرآن كتاب عرفاني و أخلاقي و من ثمّ ينبغي لتفسيره أن يكون كذلك، كما أنّه يعالج إشكالية التعارض التي تبرز للوهلة الاولى بين نصوص الإمام. فبعض النصوص تؤكد أنّ القرآن كتاب حركة و مقاومة للظلم و الطواغيت، و كتاب دعوة إلى إقامة القسط و تأسيس الحكم و ما يرتبط بذلك، في حين يركّز بعضها الآخر على أنّه كتاب معرفة و تزكية و أخلاق ورقي معنوي.

لقد عرضنا لهذه الإشكالية فيما سبق من زاوية معينة. أمّا الآن فيمكن أن نطل عليها عبر زاوية اخرى، ملخصها أنّ العرفان عند الإمام ليس نزعة أو اتجاها أو منهجا في التفسير يتقاطع مع بقية المناهج و الاتجاهات، بل هو طابع يسبغ لونه على المناهج بأجمعها، و هو صيغة لا بدّ أن تتسم بها جميع الاتجاهات، و هو معنى يرمي بظلاله على القرآن كلّه.

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 193.

(2)- صحيفه امام 8: 437- 438.

فهم القرآن، ص: 151

بتعبير الإمام: «إنّ في القرآن كلّ شي ء، لكن من خلال الجنبة أو البعد الإلهي». ليس في القرآن شي ء مستقل لنفسه و

مطلوب لذاته، بل الجميع مطلوب للارتقاء بالإنسان معنويا و سوقه نحو خالقه. العبادة و السياسة و الحكم و الاجتماع و كلّ شي ء يحويه القرآن، هو مقدمات ترفع الإنسان و تدفعه صوب معرفة اللّه و لقائه.

فالحكم مثلا ليس هدفا قائما بذاته، بل هو مطلوب لإقامة القسط و بسط العدل في ربوع الإنسانية لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ «1»، و إقامة القسط هو أيضا ليس هدفا نهائيا و مقصدا أعلى، بل هو مقدمة إلى المقصد الأعلى. يقول الإمام في نص دال: «ثمّ في هذا الكتاب الشريف مسائل أهمها المسائل المعنوية. إنّ الرسول الأكرم و بقية الأنبياء لم يأتوا لتأسيس حكومة، فهذا الغرض ليس مقصدا أعلى، كما أنّهم لم يأتوا لإيجاد العدالة، إذ لا يعدّ هذا الغرض مقصدا أعلى أيضا، بل هذه جميعها مقدمات.

إنّ جميع ما تجشمه [الرسل الكرام] بدءا من حضرة نوح إلى حضرة إبراهيم حتّى أن بلغ الأمر إلى الرسول الأكرم، و كلّ ما عانوه من الصعاب، و ما قاموا به من أعمال، إنّما كان مقدمة لمطلب هو تعريف ذات الحقّ. فالمقصد النهائي التام لكتب السماء و أسماها القرآن الكريم، هو تعريف الحقّ تعالى بكلّ ما له من أسماء و صفات» «2».

ففي القرآن إذن كلّ شي ء يختص برقي الإنسان و يسهم في كماله، بيد أنّه يمثل أهداف متوسطة و مقاصد فرعية، لغاية أعلى و مقصد أسمى هو الجانب

______________________________

(1)- الحديد (57): 25.

(2)- صحيفه امام 20: 409.

فهم القرآن، ص: 152

المعنوي الذي يتقدم حتّى على هدف عريض في الحياة الإنسانية كالعدل: «القرآن دعوة إلى المعنويات إلى الحد الذي يستطيع أن يبلغه الإنسان- و ما فوق ذلك أيضا- ثمّ هو دعوة

إلى إقامة العدل» «1».

في ضوء هذه القاعدة التي تنصّ صراحة على تقدّم البعد المعنوي على غيره، ينبغي التعاطي مع بقية نصوص الإمام فيما تذكره من مقاصد و أهداف، إذ كلها تأتي مندرجة تحت هذا المقصد و مقدمات له، منها قول سماحته: «لا تختص دعوة الإسلام بالمعنويات كما لا تختص بالماديات، بل تتوفر على الاثنين معا. بمعنى أنّ الإسلام و القرآن الكريم جاءا كلاهما لبناء الإنسان و تربيته بجميع ما له من أبعاد» «2».

و محصّلة ذلك على صعيد التفسير تتمثّل بضرورة أن يبرز الجانب المعنوي مع كلّ خطوة من خطواته، و في ثنايا كلّ اتجاه من اتجاهاته، و من خلال كلّ منهج من مناهجه، فالبعد المعنوي و المقصد المعرفي هو قاسم مشترك أعظم يحوي جميع الاتجاهات و المناهج دون أن يلغيها، و في الوقت ذاته يرفض أن يقف عندها كغاية أخيرة و مقصد أعلى.

فقول الإمام: «ينبغي لكتاب التفسير أن يكون كتابا عرفانيا أخلاقيا، مبيّنا للأبعاد العرفانية و الأخلاقية في القرآن و بقية ما فيه من جهات الدعوة إلى السعادة» «3» ناظر إلى المقصد الأعلى و الغاية الأخيرة لكتاب اللّه، من دون تجميد لدوائر الفهم الاخرى أو إلغاء لبقية مستويات الإفادة من القرآن. و مغزاه أن لا تقف

______________________________

(1)- نفس المصدر 17: 528.

(2)- نفس المصدر 4: 184.

(3)- آداب الصلاة: 193.

فهم القرآن، ص: 153

حركة التفسير بكلّ اتجاهاتها و مناهجها و ألوانها عند المقاصد الفرعية و الأهداف المتوسطة، بل تنتبه على الدوام إلى المقصد الأعلى المتمثل بالبعد المعنوي و الأخلاقي الذي يسوق الإنسان إلى اللّه، و يجعله على مستوى الخلافة الأرضية متخلقا بأخلاق اللّه، محققا لمظاهر صفاته و أسمائه، على قدر طاقته، و قدرته على الارتقاء و التكامل. و

إلّا فمن دون أن تنتبه حركة التفسير إلى هذا المغزى و المقصد الأعلى، فستفقد معناها و من بعد ذلك مسمّاها، فلا تستحق أن تكون تفسيرا، لأنّها انشغلت بالطريق عن الغاية: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «1»، و استغرقت بالمقدمات فتاهت عن المقصد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ «2».

بودي أن أختم هذه الفقرة بنص رفيع من الإمام يدلّل على هذا المعنى و يوضحه بنحو تفصيلي. فالإمام في هذا النص و إن كان يتحدّث عن الفارق النوعي بين الجامعات الغربية و ما ينبغي أن تكون عليه الجامعات الإسلامية في طبيعة النظرة إلى العلوم، ليس الإنسانية وحدها بل العلوم المحضة أيضا، إلّا أنّ مغزى هذه المقارنة تصبّ في المعنى الذي ذكرناه للتفسير المعنوي أو المعرفي أو العرفاني المطلوب للقرآن الكريم. يقول سماحته: «ينبغي أن يكمن الفرق بين الجامعات الغربية و الجامعات الإسلامية في ذلك المشروع الذي يضعه الإسلام للجامعات.

فمهما كانت المرتبة التي تبلغها الجامعات الغربية فهي تبقى تدرك الطبيعة و لا تقوم بعملية توظيف الطبيعة من أجل المعنوية. أمّا الإسلام فلا ينظر إلى العلوم الطبيعية

______________________________

(1)- إبراهيم (14): 1.

(2)- الأنفال (8): 24.

فهم القرآن، ص: 154

على نحو استقلالي، و مهما كانت المرتبة التي تبلغها العلوم الطبيعية بأجمعها، فهي لا تصل إلى ذلك الشي ء الذي يريده الإسلام و يقصده. إنّ الإسلام يوظف الطبيعة للواقع و يسوقهما معا صوب الوحدة و التوحيد.

إنّ جميع العلوم التي تذكرونها و الجامعات الأجنبية التي تمتدحونها- و هي تستحق المدح- لا تعدو أن تكون مجرد صفحة من صفحات العالم، و هي إلى ذلك صفحة أرقّ من بقية الصفحات. إنّ العالم بأسره من مبدأ الخير المطلق

حتّى نقطة المنتهى هو موجود، و لا يعدو حظ الجزء الطبيعي منه إلّا أن يكون أسفل موجود، و إنّ العلوم الطبيعية جميعها هابطة جدا في مقابل العلوم الإلهية تماما، كما أنّ الموجودات الطبيعية هي أحط الموجودات في مقابل الموجودات الإلهية.

إنّ الفرق بين الإسلام و سائر الاتجاهات و المبادئ (لا أقصد الاتجاهات التوحيدية)؛ بين الاتجاهات التوحيدية على رأسها الإسلام و بقية الاتجاهات و المدارس، يكمن في أنّ الإسلام يريد من هذه الطبيعة نفسها معنى آخر. فهو يريد من الطب الموجود معنى آخر، و من الهندسة المتداولة معنى آخر، و من علم الفلك القائم معنى آخر.

من يطالع القرآن الشريف يجد أنّ ما هو مطروح فيه هو البعد المعنوي لجميع العلوم الطبيعية و ليس البعد الطبيعي لها. و إنّ جميع التعقلات الموجودة في القرآن و ما فيه من أمر بالتعقل، هو أمر لنقل المحسوس إلى عالم التعقل، فعالم التعقل عالم أصيل، و هذه الطبيعة شبح من العالم، غاية ما في الأمر أنّنا ما دمنا في الطبيعة فنحن نرى هذا الشبح، و هذا الحظ النازل. لقد جاء في الحديث «إنّ اللّه تعالى ما نظر إلى الدنيا- أو إلى الطبيعة- منذ خلقها نظر رحمة». ليس معنى ذلك أنّ العالم و الطبيعة ليسا جزءا من الرحمة، إنّما المقصود هو النظر إلى ما وراء

فهم القرآن، ص: 155

هذا العالم و ما وراء الطبيعة» «1».

بعطف هذه الرؤية على التفسير يتضح أنّ ما يرمي إليه الإمام من القول بأنّ تفسير القرآن ينبغي أن يكون معنويا و أخلاقيا، هو أن لا تقف رحلة التفسير مع القرآن عند الظواهر، و لا يجمد مسارها عند الأهداف المتوسطة و المقاصد الفرعية حتّى تلك التي تكون بمستوى إقامة العدل

و تشييد حكم الجماعة الصالحة، فليست هذه امورا مستقلة مطلوبة لذاتها، بل هي تراد لما بعدها، و الغاية أو المقصد الأعلى يأتي من ورائها، كما ينبغي أن يكون اللّه (جل جلاله) حاضرا في كلّ لحظة من لحظاتها.

تقودنا هذه النتيجة إلى التمييز بين معنيين في مقولة «التفسير العرفاني» عند الإمام و التفريق بينها كما يلي:

الأوّل: تأتي كلمة عرفاني في بعض نصوص الإمام بمعنى معنوي و أخلاقي و معرفي، كما هو الحال في مطالبته أن يكون تفسير القرآن تفسيرا عرفانيا. و عندئذ فليس المراد أن يكون العرفان منهجا في مقابل المناهج الاخرى، بل يكون صفة تعمّ جميع المناهج التفسيرية، إذ ينبغي أن يبرز المعنى الأخلاقي و بعد معرفة اللّه في كلّ جهد تفسيري مهما كانت طبيعته و المقصد الذي يركز عليه، فالبعد المعنوي لا يغيب عن العقيدة و السياسة و المجتمع و الحركة و الاقتصاد و العلاقات الدولية و هكذا إلى بقية المرافق و النظم و الاهتمامات.

الثاني: يستخدم الإمام «التفسير العرفاني» في نصوص اخرى و يعني به المعنى المنهجي الخاص الذي يضع المنهج العرفاني بإزاء مناهج التفسير الاخرى.

______________________________

(1)- صحيفه امام 8: 433- 434.

فهم القرآن، ص: 156

فعند ما تحدّث مقدمة الدرس الأوّل من دروسه التفسيرية حول سورة «الفاتحة» عن تفاسير العرفاء نظير الشيخ الحاتمي محي الدين بن عربي (ت: 638 ه) و عبد الرزاق الكاشاني (من عرفاء القرن الهجري الثامن) و السلطان علي شاه (من عرفاء القرن الثالث عشر الهجري)، كان يقصد بالتفسير العرفاني معناه المنهجي الذي يضعه في مقابل مناهج اخرى، كالمنهج اللغوي و الفلسفي و الاجتماعي و الحركي و هكذا.

كذلك عند ما يتحدّث في عرض واحد عن العرفاء و الفلاسفة و المتكلمين و الفقهاء و

اختلاف اتجاهاتهم في التفسير و التعاطي مع الآيات، فسماحته هنا يقصد الكلام عن التفسير العرفاني بوصفه منهجا يلتزم به العرفاء بإزاء مناهج الفلاسفة و المتكلمين ثمّ الفقهاء و المحدّثين، حيث لا يخفي انحيازه إلى العرفاء و الحكماء و لا يتحفظ في نقد الاتجاهات الظاهرية في التفسير «1»، و إن كان ذلك لا يعني «تنزيه

______________________________

(1)- في تفسير آيات مثل قوله: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ، (الحديد (57): 3)، و قوله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، (النور (24): 35)، و قوله وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ، (الزخرف (43): 84)، و قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ، (الحديد (57): 4) يسجل الإمام نصا اختلاف علماء الظاهر و الفقهاء و المحدثين عن تفسير أهل المعرفة و الباطن اختلافا كليا.

راجع: آداب الصلاة: 185. كما راجع أيضا في نقد الاتجاه الظاهري: ص 148- 155.

كما أكد في حديث مهم إلى مجموعة العلماء أوائل صيف 1983 على ضرورة البعد العرفاني لتلمس بعض حقائق القرآن، راجع: صحيفه امام 18: 119- 120 و 261- 262.

راجع أيضا في الحديث عن العرفان كمنهج في مقابل المناهج الأخرى كتابه «الأربعون حديثا». أمّا في تفسير سورة حمد الذي بدأ به الإمام أوائل انتصار الثورة الإسلامية عام-

فهم القرآن، ص: 157

جميع الفلاسفة مثلا أو العرفاء كافة» «1» كما يقول.

3- رفض الاتجاهات الآحادية
اشارة

الشكوى من النزعات التي يسقطها المفسّر على التفسير و هيمنة الاتجاهات الآحادية على محتواه، هي أمر قديم تعود بواكيره إلى العهود الاولى لانبثاق التفسير الموسوعي. فالطوسي (ت: 460 ه) مثلا نبّه للمسألة، و كان ممّا قاله في وصفها:

«فإنّ الزجّاج و الفرّاء و من أشبههما من النحويّين أفرغوا وسعهم فيما يتعلّق بالإعراب و التصريف. و مفضل بن

سلمة و غيره استكثروا من علم اللغة و اشتقاق الألفاظ. و المتكلمين كأبي علي الجبائي و غيره صرفوا همّتهم إلى ما يتعلّق بالمعاني الكلامية. و منهم من أضاف إلى ذلك الكلام في فنون علمه، فأدخل فيه ما يليق به من بسط فروع الفقه و اختلاف الفقهاء كالبلخي و غيره» «2».

يلتقي أبو حيّان محمّد بن يوسف الأندلسي (ت: 745 ه) مع الطوسي في نقد هذا الاتجاه الذي يسقط على التفسير تفاصيل العلوم ممّا لا دخل له فيه، و هو

______________________________

1979، فقد تحدث أيضا عن اختلاف مناهج العرفاء و الفلاسفة و الفقهاء في التفسير، بيد أنّه ذكر أنّه بصدد المصالحة بين هذه الاتجاهات لأنّها لا تعدو أن تكون لغات متعدّدة و مشارب مختلفة لحقيقة واحدة، و ذلك في بادرة تعيد إلى الأذهان الطموح الصدرائي في التوفيق بين البرهان و البيان (القرآن) و العرفان عبر مشروع الحكمة المتعالية، كما سيأتي الحديث عن ذلك في فصل مستقل.

راجع: تفسير سورة حمد: 175 فما بعد، حيث يطرح الإمام هناك مشروعه للمصالحة.

(1)- تفسير سورة حمد: 176.

(2)- التبيان في تفسير القرآن 1: 1.

فهم القرآن، ص: 158

يكتب: «كثيرا ما يشحن المفسّرون تفاسيرهم عند ذكر الإعراب بعلل النحو، و دلائل مسائل اصول الفقه، و دلائل مسائل الفقه، و دلائل اصول الدين ... و كذلك أيضا ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول، و أحاديث في الفضائل و حكايات لا تناسب، و تواريخ إسرائيلية، و لا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير» «1».

ممّن أنكر جرّ تفسير القرآن إلى النزعات الآحادية صدر الدين الشيرازي (ت: 1050 ه)، حيث حذّر من الانجرار إلى «المجادلات الكلامية» و إلى «ترهات المتصوفة ... و أقاويل المتفلسفة» «2»، و دعا بدلا من

ذلك إلى التدبّر في معاني الكتاب و تحرّي «مقاصده الأصلية من المعارف الإلهية، و أسرار المبدأ و المعاد، و علم النفس، و معرفة الروح و ورودها إلى هذا العالم و ردّها إلى أسفل سافلين، ثمّ عودها و رجوعها إلى باريها و مبقيها، إمّا راضية مرضية إن آمنت و عملت الصالحات، أو ناكسة منكوسة محجوبة مظلمة إذا جحدت و عملت السيّئات، و كيفية نشوء الآخرة من الدنيا، و أحوال القبر و البعث و الحشر و النشر، إلى غير ذلك من المعارف التي هي الغرض الأصلي من إنزال الكتب» «3».

ثمّ عاد يشدّد النكير على النزعات اللغوية في التفسير، متهما من ينصبها مقصدا لعلم التفسير و يجعلها غاية للكتاب بأنّه: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «4»، حيث كتب: «فمن لم يطّلع من القرآن إلّا على تفسير الألفاظ، و تبيين اللغات، و دقائق العربية و الفنون الأدبية و علم الفصاحة و البيان و علم بدائع اللسان، و هو عند

______________________________

(1)- الإتقان في علوم القرآن 4: 200.

(2)- مفاتيح الغيب: 6- 7.

(3)- تفسير القرآن الكريم 7: 185، بإسقاط بعض العبارات من دون إخلال بالنقل.

(4)- الجمعة (62): 5.

فهم القرآن، ص: 159

نفسه أنّه من علم التفسير في شي ء، و أنّ القرآن إنّما أنزل لتحصيل هذه المعارف الجزئية، فهو أحرى بهذا التمثيل» «1».

لا يريد الشيرازي و لا غيره من الناقدين إسقاط دور اللغة و بقية ما يحتاج إليه التفسير و المفسّر من علوم، إنّما يقصد وضع هذه العلوم في إطار وظيفتها من أنّها ب «درجة الخوادم و الآلات لما هو بالحقيقة الثمرة و التمام، و ما به كمال نوع الإنسان» «2»، و إرجاعها إلى حجمها الحقيقي و الطبيعي من أنّها: «علوم جزئية يتوقّف عليها فهم

حقائق القرآن» «3»، لا أنّها هي المقصد حتّى أنّ بعضهم: «صرفوا أعمارهم في تحصيل الألفاظ و المباني و غرقت عقولهم في إدراك البيان و المعاني» «4»، في حين كان يكفيهم: «طرف يسير من كلّ فنّ منها، و جرعة قليلة من كلّ دنّ من دنّها، أخذا للزاد و تعجيلا لسفر المعاد» «5».

ممّن وجّه نقده للاتجاهات الآحادية في التفسير السيد الخوئي (ت: 1413 ه) خاصة مع ما توحيه هذه المحاولات من غلق محتوى القرآن على ما تختاره. و بتعبيره: إنّ بعض هؤلاء راح يفسّر القرآن: «من ناحية الأدب أو الإعراب، و يفسره الآخر من ناحية الفلسفة، و ثالث من ناحية العلوم الحديثة، كأنّ القرآن لم ينزل إلّا لهذه الناحية التي يختارها ذلك المفسّر، و تلك الوجهة التي يتوجّه إليها» «6».

______________________________

(1)- تفسير القرآن الكريم 7: 185.

(2)- نفس المصدر 1: 28.

(3)- نفس المصدر، مع تصرف طفيف جدا في الصياغة أملاه السياق.

(4)- نفس المصدر: 29.

(5)- نفس المصدر.

(6)- البيان في تفسير القرآن: 21.

فهم القرآن، ص: 160

ثمّ حمل بعد ذلك على فريق آخر من المفسّرين: «لا يوجد في كتبهم من التفسير إلّا الشي ء اليسير» «1».

من المفسّرين المعاصرين أيضا تعرّض الطباطبائي إلى هذه الظاهرة وصفا و نقدا و تقويما، حيث ذكر في وصفها أنّ كلّ صاحب اختصاص لوّن التفسير باختصاصه و أسقط عليه اهتماماته و نزعاته العلمية «فالنحوي أدرج المباحث النحوية كالزجّاج (ت: 310 ه) و الواحدي (ت: 468 ه) و أبي حيّان (ت: 745 ه) و الأديب أورد المباحث البلاغية كالزمخشري (ت: 538 ه) في كشافه، و المتكلّم اهتمّ بالمباحث الكلامية كالفخر الرازي (ت: 606 ه) في تفسيره الكبير، و الصوفي غاص في المباحث الصوفية كابن العربي (ت: 638 ه) و

عبد الرزاق الكاشاني (من صوفية القرن الثامن) في تفسيريهما، و الأخباري ملأ كتابه بالأحاديث كالثعلبي (ت: 426 أو 427 ه) في تفسيره، و الفقيه جاء بالمسائل الفقهية كالقرطبي (ت: 668 ه) في تفسيره. و قد خلط جماعة آخرون في تفاسيرهم بين العلوم المختلفة كما نشاهده في تفسير روح المعاني «2»، و روح البيان «3»، و تفسير النيسابوري «4»» «5».

عاد الطباطبائي لعرض هذه الاتجاهات و النزعات في مقدّمة تفسيره «الميزان». بيد أنّ المهم هي عملية النقد و التقويم التي مارسها. فإجمالا يسجل

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- تأليف شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، المتوفى سنة 1270 ه.

(3)- تأليف إسماعيل حقي، المتوفى سنة 1137 ه.

(4)- نظام الدين حسن القمي النيسابوري، المتوفى سنة 728 ه، مؤلف «غرائب القرآن».

(5)- القرآن في الإسلام: 74- 75.

فهم القرآن، ص: 161

الطباطبائي أنّ هذه الاتجاهات قدّمت لعلم التفسير خدمة تمثلت ب «إخراجه من جموده و إخضاعه للدرس و البحث» «1». لكنها اشتركت جميعا بخطإ كبير تمثّل في أنّ البحوث التي ساقها هؤلاء «حملت على القرآن حملا، و لا تدلّ عليها الآيات» «2» و من ثمّ فهي ليست من التفسير بل هي تطبيق.

يميّز الطباطبائي بين التفسير و التطبيق بأنّ الأوّل معناه تحرّي حقائق القرآن و مقاصده العالية و استيضاح معنى الآية و بيان مدلولها من خلال القرآن نفسه، عبر عملية التدبّر التي حثّ عليها القرآن، و من خلال منهجية تفسير القرآن بالقرآن. أمّا التطبيق فيعنى الانطلاق من البحث العلمي أو الفلسفي أو الفقهي أو غير ذلك ممّا تتعرّض له الآية و صياغة النتيجة من خلال العلوم ذاتها، ثمّ تحميلها على الآية «3».

و فرق الاثنين هو الفرق بين أن يقول الباحث في معنى الآية «ما ذا يقول القرآن»

و هذا هو التفسير، و بين أن يقول: «ما ذا يجب أن نحمل عليه الآية» «4»، و هذا هو التطبيق.

انطلاقا من هذا التمييز وجّه الطباطبائي سهام نقده إلى أصحاب النزعات و الاتجاهات الآحادية من محدّثين و متكلّمين و فلاسفة و متصوّفين، ثمّ انتقل إلى العصر الحديث مشدّدا النكير على تلك النزعات التي تأثّرت بالتقدّم العلمي في مضمار العلوم الطبيعية فألفت الحس و مالت إلى تأويل جميع أو جلّ الحقائق

______________________________

(1)- نفس المصدر: 75.

(2)- نفس المصدر.

(3)- الميزان في تفسير القرآن 1: 11.

(4)- نفس المصدر: 6.

فهم القرآن، ص: 162

الروحية و الغيبية في القرآن على مقاييس القوانين المادية، لينتهي في تقويم هذه النزعات و الاتجاهات جميعا، إلى القول: «و أنت بالتأمّل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد أنّ الجميع مشتركة في نقص و بئس النقص، و هو تحميل ما أنتجه الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج، على مداليل الآيات، فتبدّل به التفسير تطبيقا و سمّي به التطبيق تفسيرا» «1».

ما دام الحديث قد انساق إلى الاتجاهات المعاصرة في التفسير و ما تجاذبها من نزعات آحادية، فمن المفيد أن نشير إلى النقد الذي وجّهه عدد من الباحثين القرآنيين إلى جانب الإفراط الذي انجرّ إليه التفسير المعاصر، من خلال إغراق القرآن بالبحوث الاجتماعية و الحركية و الثورية كردّ فعل على الاتجاهات العلمية المحضة و الساكنة، و كمحاولة للاستجابة إلى متطلّبات الواقع، حيث كتب أحدهم:

«حصل بعض الإفراط في هذا الجانب حيث راحت جميع المسائل تجرّ صوب القضايا الاجتماعية و الثورية» «2».

طبيعي من حق الإنسان أن يبحث في القرآن عمّا يتصل بالأبعاد الاجتماعية و التغييرية و الثورية، و القرآن يضم هذه الأبعاد جزما. لكن المرفوض هو إغفال بقية الجوانب و الجهات،

و تحويل هذه الأبعاد إلى مقاصد عليا و غايات نهائية لكتاب اللّه، أو الزعم أنّها تمثّل التفسير في حين أنّ أغلبها يدخل في التطبيق و في مجال الاستفادة من القرآن بعيدا عن دائرة التفسير.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 8.

(2)- وعي القرآن، مدارسة مع الشهيد بهشتي: 40.

فهم القرآن، ص: 163

نقد الإمام للاتجاهات الآحادية
اشارة

على ضوء هذه الخلفية النقدية العريضة يسهل الانتقال إلى الفكر القرآني للإمام الخميني فيما حمله من نقد مكثف للنزعات الاسقاطية، و رفض للاتجاهات الآحادية حتّى تلك التي تنتهي إلى المنهج العرفاني الذي لا يخفي الإمام انحيازه إليه مقارنة ببقية المناهج التفسيرية.

أ- الوصف

في نص طويل نسبيا يقدم الإمام وصفا لنزعات التفسير و اختلاف ألوانه و اتجاهاته، جاء فيه: «ليس تفسير القرآن بالمسألة التي يستطيع أمثالنا النهوض بها و أداء حقّها. و مع أنّ علماء الطراز الأوّل سواء من العامة أو الخاصة بادروا على مدار التأريخ الإسلامي إلى تصنيف كتب كثيرة في هذا المضمار و مساعيهم مشكورة- بلا ريب- إلّا أنّ كلّ واحد منهم لم يزد على تفسير وجه من وجوه القرآن الكريم و لم يكشف إلّا عن صفحة من صفحاته، وفاقا لتخصّصه و استنادا إلى الفنّ الذي كان بارزا فيه. على أن ليس من المعلوم أنّ هذا الوجه كان قد تمّ بشكل كامل.

على سبيل المثال عمد العرفاء على مدى قرون إلى كتابة التفسير وفاقا لطريقتهم التي هي طريقة أهل المعارف، كما هو الحال مع محيي الدين في بعض كتبه، و عبد الرزاق الكاشاني في «التأويلات»، و الملّا سلطان علي في تفسيره، و قد أجاد بعضهم في نطاق الفنّ الذي يتوفر عليه، بيد أنّ القرآن لا ينحصر بما كتبوه. ما قدّموه يمثّل بعض أوراق القرآن و وجوهه.

فهم القرآن، ص: 164

كما قام أيضا طنطاوي و أمثاله، و كذلك قطب بتفسير القرآن بطريقة اخرى هي أيضا ليست تفسيرا للقرآن بمعانيه كافّة، بل كانت تعبيرا عن وجه من الوجوه و إماطة اللثام عن بعد واحد.

لقد كان لكثير من المفسّرين- من غير هاتين الطائفتين- تفاسير اخرى، مثل «مجمع بياننا» [يعني

به: مجمع البيان] الذي يعدّ تفسيرا حسنا جامعا لأقوال العامة و الخاصة.

إنّ حال هذه التفاسير التي صنّفت كحال سابقاتها، فالقرآن ليس بالكتاب الذي نستطيع نحن أو غيرنا تدوين تفسير جامع له يليق بشأنه. إنّ علوم القرآن هي علوم اخرى وراء ما نفهمه. نحن نفهم صورة من صور كتاب اللّه و صفحة من صفحاته، أمّا الباقي فيحتاج إلى تفسير أهل العصمة المعلّمين بتعليم رسول اللّه» «1».

من الواضح أنّ الإمام يعيد بروز التنويعات في التفسير إلى اختلاف الاختصاص الذي ينطلق منه المفسّر، فالتفسير يكتسب لون صاحبه المعرفي و يتلوّن باختصاصه، و يسقط عليه اهتماماته. فابن عربي و أضرابه أسقطوا عليه ثقافة أهل المعرفة و تناولوه عبر طريقتهم، و طنطاوي جوهري تناوله انطلاقا من البعد العلمي الحديث، و سيد قطب انطلاقا من البعد الاجتماعي الحركي و هكذا.

المهم إنّ هذا النص للإمام لا يسجّل إدانة لهذه الألوان من التفسير التي تكتسب صبغة صاحبها و اختصاصه، بل يرى فيها جهودا محمودة استطاعت أن تميط اللثام عن بعد من أبعاد القرآن. و هذا هو تقييمه لها، إذ هي لا تدخل في نطاق التفسير الشامل، بل هي تفاسير آحادية الجانب. و هذا هو عيبها. على أنّ في النص

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 93- 95، راجع: منهجية الثورة الإسلامية: 93- 95.

فهم القرآن، ص: 165

إشارة لحدّين في التفسير أحدهما يستوعب الجهد الإنساني بمختلف ألوانه و مراتبه، ثمّ يأتي الحدّ الثاني الذي يحتاج فيه الإنسان إلى مرجعية أهل البيت عليهم السّلام.

في نص آخر جاء بعد حوالي خمس سنوات من النص السابق، عرض الإمام للظاهرة ذاتها، حاملا تنوّع الاتجاهات على تنوّع الاختصاصات من جهة، و على طبيعة القرآن من جهة اخرى، حيث يعدّ كتاب اللّه مائدة

مفتوحة للجميع تحوي جميع المعارف و المعاني يأخذ كلّ واحد نصيبه منها على قدر استعداده الفكري وسعته الوجودية، ليدلل على أنّ ذلك من مظاهر الرحمة للإنسان.

يقول الإمام: «القرآن كتاب لا يصحّ الحديث عنه من خلال هذه الألسن اللكنة البكماء. القرآن مائدة ممتدّة من الأزل إلى الأبد يستفيد منها جميع فئات البشر و طبقاتهم، و بمقدورهم ذلك. لكن غاية ما هناك أنّ كلّ فئة لها مسلك خاص تستند إليه في الاستفادة. فالفلاسفة يرتكزون إلى مسائل الإسلام الفلسفية، و العرفاء إلى مسائل الإسلام العرفانية، و الفقهاء إلى مسائل الإسلام الفقهية، و السياسيون يرتكزون إلى مسائل الإسلام السياسية و الاجتماعية، إلّا أنّ الإسلام يبقى هو كلّ شي ء، و القرآن هو كلّ شي ء [و ليس بعدا من هذه الأبعاد]، فالقرآن رحمة للبشرية كافة» «1».

النص يفسّر التنوّع تفسيرا إيجابيا على أسس موضوعية لا يمكن إنكارها، تعود إلى اختلاف الاستعدادات الإدراكية و إلى تفاوت مناهج العلم و المعرفة و تباين الشواغل و الاهتمامات عند كلّ فئة. و القرآن بطبيعته يستجيب لهذا التنوّع، مع ملاحظة في التقويم تفيد أنّ القرآن لا يقتصر على أي بعد من الأبعاد المذكورة، و لا

______________________________

(1)- صحيفه امام 19: 112.

فهم القرآن، ص: 166

ينحصر تفسيره في تلك الاتجاهات الآحادية.

ثمّ في النص أيضا لمحة مهمة لا أستطيع التمادي في تحليلها أو تضخيم مدلولها. فقول الإمام في مفتتح النص: «القرآن كتاب لا يمكن الحديث عنه من خلال هذه الألسن اللكنة البكماء» ربما فيه إشارة لنظرية في القراءة و التفسير شاعت في الثقافة الحديثة تفيد أنّ الإنسان لا يقدم على قراءة النص و هو خال الوفاض من أي شي ء، حتّى من مسبقاته الذهنية و مسلّماته الثابتة، فضلا عن معارفه الاخرى. فالنص

يستجيب للقارئ على ضوء خلفيته و مسلّماته و سوابقه الذهنية، و من ثمّ فإنّ إدراك الفيلسوف للنص القرآني يختلف مع إدراك العارف و إدراك المتكلّم و اللغوي المشحون بمدلولات اللغة، و إدراك هؤلاء يختلف عن إدراك الإنسان غير المتعلّم، و ذلك تبعا للتفاوت القائم في خلفية كلّ واحد من هؤلاء و طبيعة ما يتبنّاه و ينطلق منه من مسلّمات «1».

النص الخميني يومئ إلى هذا المعنى ببيان واضح و هو يؤكّد أنّه لا يمكن الحديث عن القرآن بلسان أبكم، و من دون حصيلة و مبان محدّدة. يؤكّد هذه الدلالة و يرسّخها أكثر النصوص الخمينية الاخرى التي تنعطف على هذا النص.

من ذلك ما صرّح به الإمام مرّات من أنّ: «حظ كلّ إنسان من حقائق القرآن هو على قدر فهمه» «2»، و أنّ كلّ إنسان يستفيد من مائدة القرآن «بقدر

______________________________

(1)- يركّز الاتجاه الموضوعي في التفسير على أهمّية انفتاح المفسر على المعرفة البشرية، بل أهمّية استقصاء موقفها و استيعابه بالنسبة إلى الموضوع المدروس، ثمّ ينتقل إلى القرآن يستنطقه. بيد أنّه يحذّر من اسقاط هذه المعرفة على القرآن و صبغ مدلولاته بلونها. ينظر:

المدرسة القرآنية: 19 و مواضع اخرى. أيضا تفسير موضوعي قرآن مجيد 1: 74.

(2)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 38.

فهم القرآن، ص: 167

استعداده» «1»، و على نحو أوضح، قوله: «إنّ الباعث إلى نزول هذا الكتاب المقدّس و الهدف من بعثة النبي الأكرم، هو أن يكون هذا الكتاب بمتناول الجميع، بحيث يستفيد منه كلّ واحد بحسب سعته الوجودية و الفكرية» «2».

فهذه النصوص تدلّ على أنّ كلّ إنسان يستفيد على قدر خلفيته، ممّا يعني أنّ الإنسان لا يتحرّك صوب القرآن خاليا من أي شي ء، بل لديه حصيلة مسبقة من

خلالها و على قدرها يستفيد، كما أنّ عملية الفهم تخضع إلى مبان متعدّدة و تستمد من مصادر معرفية وسيعة.

أجل، يمكن أن تكون هذه الحصيلة خاطئة- أو جزء- منها مبنى و محتوى، فيبرز الخطأ في المعرفة المستفادة. كما قد يندفع الإنسان لتلوين القرآن كله بخلفيته العلمية و المنهجية، و حصره عبر قناته المعرفية، من خلال عملية التحميل و الاختزال. و هما منحيان يعرض لهما الإمام بالنقد.

ب- النقد و التقويم

تتخطّى نصوص الإمام دائرة الوصف إلى النقد و التقويم. ففي الإطار النقدي يرفض الإمام أن يتحوّل القرآن الكريم عند المفسّرين إلى كتاب علوم محضة كالفقه و التاريخ و اللغة و الفلسفة و العرفان و ما إلى ذلك. فإنّ القرآن و إن احتوى هذه الأبعاد جميعا إلّا أنّه من جهة لم يجمد على واحد منها، كما أنّه لم يقصدها في نفسها كما هو شأن الكتب المختصّة بهذه العلوم، إنّما باعثه إلى ذلك مقصد

______________________________

(1)- صحيفه امام 14: 387.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 168

أعلى يأتي من ورائها جميعا.

عن قصص القرآن مثلا يقول الإمام: «إنّ جميع القصص المذكورة في القرآن و قد كرّرت أحيانا، إنّما جاءت لمسألة مهمة؛ إذ أنّ هدفها توجيه الناس، و القصد منها هو التهذيب» «1» لا الجانب القصصي أو التاريخي أو الأدبي الفني حتّى يستغرق التفسير نفسه في هذه الامور، لاهيا عن المقصد المطلوب.

في امتداد النص ذاته يعرض الإمام إلى الجانب الفقهي، فيضيف: «ليس القرآن كتاب أحكام، بل هو يتوفّر على ذكر كليات الأحكام و اصولها. القرآن كتاب دعوة و كتاب إصلاح مجتمع» «2». ممّا يعني أنّه لا يليق بحركة التفسير أن تقف عند حدود الفقه أو تضخّم جانب الأحكام غافلة عن المقصد الأعلى الذي جاء من أجله القرآن

قاطبة، بما في ذلك ما يتضمّنه من أحكام و تشريعات.

على ضوء هذا الاتجاه يقدّم الإمام تفسيرا آخر للقصص القرآني و تكرار القرآن لهذه القصص، يخرج به عن شواغل الكتابة التاريخية، بحكم أنّ القرآن ليس كتاب تاريخ، كما يقول الإمام: «ليس القرآن كتاب تاريخ، و لو كان كذلك لأمكن كتابة القصة فيه، و أكثر ما يتوفّر عليه كتاب التاريخ هو كتابه القصة مرّة واحدة لا أكثر. أمّا كتاب الأخلاق فينبغي أن يتضمّن التكرار. فمن يكون مقصده أن يذكر الأخلاق إلى الناس، ينبغي له أن يقول و يقول و يقول حتّى تنفذ إلى عقولهم، و إلّا فإنّ الحالة الأخلاقية، لا تكتسب وضعا سليما بمحض ذكر الأمر مرّة واحدة» «3».

نتيجة هذه النظرة التي ترفع القرآن عن الشأن التاريخي إلى الشأن الأخلاقي، يقدّم

______________________________

(1)- نفس المصدر 15: 504.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر 17: 381.

فهم القرآن، ص: 169

الإمام تفسيرا جديدا لتكرّر القصص القرآني منظورا إليه من زاوية بناء الإنسان.

فمنهج بناء الإنسان و إعداده يملي التكرار، و عندئذ لا يكون الأمر تكرارا بل هو حاجة تفرضها الذات الإنسانية و متطلّباتها في مستويات متعدّدة من البناء: «إنّ واحدة من النقاط البارزة في القرآن الكريم ما نراه من احتوائه على المكرّرات. هذه ليست مكرّرات، بل هي طبيعة بناء الإنسان، فأيّما صفحة تفتحها فيها دعوة إلى التقوى و إلى الخصال الحسنة و ما إلى ذلك. ثمّ تفتح صفحة اخرى فتجد قصة موسى و قصة إبراهيم و قد ذكرتا مرّات عديدة. القرآن لا يهدف من ذلك أن يسرد قصة، بحيث يكفي أن يذكرها مرّة واحدة.

إنّ الأجانب لا يعرفون القرآن و لا يفهمونه، لذلك يقولون كان من الأفضل أن يكون موزّعا على أبواب، و تحت كلّ

باب كلمة محدّدة. لقد جاء القرآن لبناء الإنسان، و هذه المهمة لا يكفي في تحقّقها أن يقال الكلام مرة واحدة و حسب» «1».

ما نفهمه من نفي الإمام للاتجاهات الآحادية في التفسير هو ليس نفي وجود هذه الأبعاد في القرآن أو الدعوة إلى عدم تسليط الضوء عليها، إنّما يعترض سماحته على استغراق التفسير بها، و غفلته عن المقصد الكائن وراءها. في نص ذات دلالة يقول الإمام أواخر عام 1979 م: «ليس القرآن كتاب طبّ، و لا كتاب فلسفة و لا كتاب فقه، و لا كتابا لسائر العلوم الاخرى» «2» ليوضّح ما يريده من وراء هذا النفي، بقوله: «القرآن كتاب لبناء الإنسان ... و إذا ما طالع إنسان القرآن على نحو صحيح يجد أنّ كلّ ما موجود في القرآن موجود من خلال بعده الإلهي، و كلّ

______________________________

(1)- نفس المصدر: 381- 382.

(2)- نفس المصدر 8: 437- 438.

فهم القرآن، ص: 170

ما عرض له القرآن عرضه من الزاوية الالوهية. إنّ في القرآن كلّ شي ء لكن من خلال بعده الألوهي» «1».

فليس الإلغاء هو الهدف، بل التنبيه إلى الصيغة الالوهية و إلى المقصد الأعلى الماثل ببناء الإنسان، و تعريفه بخالقه، ثمّ «سوق جميع الموجودات هنا، و الإنسانية جمعاء صوب اللّه تبارك و تعالى» «2».

انطلاقا من هذا المنظور الذي تشطّ فيه حركة التفسير عن المقصد الأساسي و تندفع إلى اهتمامات فرعية و جزئية تملأ المساحة و تغيّب المقصد، بادر الإمام في وقت مبكر يعود إلى ما قبل ستين عاما من الآن، إلى نقد الاتجاهات الآحادية من لغوية و تاريخية و إعجازية، و هو يطلق صيحة مدوّية تهدف إلى إعادة حركة التفسير إلى مسارها الصحيح، حين كتب: «ليس صاحب هذا الكتاب هو السكاكي و

الشيخ ليكون مقصده هو جهات البلاغة و الفصاحة، كما أنّه ليس سيبويه و الخليل حتّى يكون منظوره جهات النحو و الصرف، و لا المسعودي و ابن خلّكان حتّى يبحث حول تاريخ العالم، كما أنّ هذا الكتاب ليس كعصى موسى و يده البيضاء أو روح عيسى الذي يحيي الموتى ليكون كتابا للإعجاز فقط و الدلالة على صدق النبي الأكرم، بل إنّ هذه الصحيفة الإلهية هي كتاب إحياء القلوب بحياة العلم و المعارف الإلهية الأبدية، هو كتاب اللّه يدعو إلى شئونه الإلهية جلّ و علا. لذا ينبغي للمفسّر أن يعلّم الناس الشئون الإلهية، كما ينبغي للناس أن يرجعوا إليه لتعلّم الشئون الإلهية، لكي تتحقّق الاستفادة منه وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ

______________________________

(1)- نفس المصدر: 438.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 171

لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1».

ثمّ يربط سماحته بين تنكّب حركة التفسير عن مسارها، و بين آخر الآية بكلام موجع، يقول فيه: «أيّ خسارة أعظم من أن نقرأ الكتاب الإلهي ثلاثين أو أربعين سنة، و نراجع التفاسير، ثمّ نبقى مع ذلك محرومين من مقاصده!» «2».

إشكالية مزدوجة

من الوجهة المنهجية التي ترتبط بمباني الفهم و مرتكزاته، ليس من الصعب أن نتبيّن انحياز الإمام إلى العرفان كمنهج في المعرفة و طريقة في التفكير و أسلوب في إدراك الإسلام و فهمه بشكل عام و وسيلة للتعاطي مع القرآن خاصّة. فمن يرى أنّ العرفان «3» هو أعظم معجزات القرآن: «إنّ أعظم معجزة لهذا الكتاب العزيز و أكبرها هي المسائل العرفانية التي لم يكن لها سابق وجود عند فلاسفة اليونان ... و إنّ المسائل العرفانية على النحو الموجودة به في القرآن لا وجود لها في كتاب آخر، و

هذه من معجزة الرسول الأكرم» «4». و من يرى أنّ البعثة النبوية أحدثت بنزول القرآن «تحوّلا علميا عرفانيا في العالم استبدل الفلسفات اليونانية الجامدة ... إلى عرفان عيني و شهود واقعي بالنسبة إلى أرباب الشهود» «5». و من يرى أنّ القرآن

______________________________

(1)- الإسراء (25): 82.

(2)- آداب الصلاة: 194- 195، منهجية الثورة الإسلامية: 101.

(3)- بالمعنى الأعم الذي يشمل معرفة المبدأ و المعاد و السير فيما بينهما، مع التركيز خاصة على معرفة اللّه ذاتا و أسماء و صفاتا و أفعالا، و تقديم شأن المعرفة الأنفسية على المعرفة الآفاقية.

(4)- جلوه هاى رحماني: 24.

(5)- صحيفه امام 17: 430- 431.

فهم القرآن، ص: 172

«عرض لكلّ ما عرض له انطلاقا من البعد الألوهي» «1». و من يرى أنّ «اتصال المعنى بالماديات و انعكاس المعنوية في جميع جهات المادية، هو من خصوصيات القرآن» «2»؛ من يرى ذلك كله و يتبنّاه من الطبيعي أن يشترط أن تكتسب التفاسير جميعا الطابع المعنوي، و إن يكون تفسير القرآن لديه تفسيرا معنويا أخلاقيا. كما من الطبيعي أن يتبنّى المنهج العرفاني و ينحاز إليه بإزاء المناهج الأخر، و أن ينصب الذوق العرفاني شرطا لإدراك القرآن، فمع «فقدان الذوق العرفاني لا يحصل الإدراك المطلوب» «3» خاصّة في مثل قوله سبحانه: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى «4». أجل، بمقدور البحث التفسيري الفلسفي بل حتّى العرفان النظري أن يسهم بإضاءة بعض جوانب المعنى، لكن الإدراك الأعمق يتوقّف على الذوق العرفاني و الشهود العيني التحقّقي المباشر.

يضعنا تبنّي الإمام للمنهج العرفاني و الفلسفي أو العرفاني الفلسفي كما ركّبته مدرسة الحكمة المتعالية لحكيم شيراز، أمام إشكالية مزدوجة، شقّاها:

أولا: هل يعني تبنّي الإمام إبطال مشروعية بقية المناهج المعرفية و التفسيرية؟

ثانيا: أ لا يعني

هذا التبنّي الهبوط إلى هوة الاتجاهات الآحادية، و الإمام بصدد نقدها؟ فالمنهج العرفاني هو اتجاه في مقابل الاتجاهات الاخرى، و من ثمّ سيجرّ التفسير إلى الآحادية التي يتم نقدها على هذا الصعيد.

______________________________

(1)- نفس المصدر 8: 438.

(2)- نفس المصدر 17: 434.

(3)- نفس المصدر: 457.

(4)- النجم (53): 8- 9.

فهم القرآن، ص: 173

لم أعثر خلال البحث في تراث الإمام المكتوب و الشفهي على ما يفيد إلغاء مشروعية المناهج الاخرى سواء على مستوى المعرفة بمعناها العام الذي ينصبّ على فهم الإسلام بأكمله، أو على مستوى فهم القرآن خاصّة. فمع أنّ بعض كتب الإمام تعود إلى مرحلة الشباب المبكّر و إلى ما قبل سبعة عقود من الآن، كما في «شرح دعاء السحر» «1» و «مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية» «2» و «الأربعون حديثا» «3» و «سرّ الصلاة» «4» و «آداب الصلاة» «5»، إلّا أنّه لم يخدش بمشروعية المناهج الاخرى فضلا عن أصحابها.

أجل، في بعضها دعوة إلى عدم إنكار مقامات أهل اللّه و دفاع عن طريقة أهل المعرفة و توجيه متبنّياتهم من خلال القرآن و الحديث، من دون أن يكون هدف ذلك «ترويج دراسة الفلسفة التقليدية أو العرفان التقليدي، بل المقصود دفع إخواني المؤمنين خاصّة أهل العلم نحو معارف أهل البيت عليهم السّلام، و حثّهم على قراءة القرآن و عدم نسيانه و الابتعاد عنه» «6». و في أغلبها شكوى و عتاب و أحيانا نقد لمن ينكر المنهج المعرفي و يصمه بهذه التهمة و تلك «7»، ليرسوا نهاية المطاف على نتيجة تؤمن

______________________________

(1)- انتهى من تأليفه عام 1347 ه.

(2)- انتهى من تأليفه 25 شوال 1349 ه.

(3)- انتهى من تأليفه 4 محرم 1358 ه.

(4)- انتهى من تأليفه 21 ربيع الثاني 1358 ه.

(5)-

انتهى من تأليفه 2 ربيع الثاني 1361 ه.

(6)- شرح چهل حديث: 660.

(7)- راجع مثلا: شرح چهل حديث: 190. كذلك قوله: «يزعم بعض علماء الظاهر- الفقهاء-

فهم القرآن، ص: 174

بمشروعية أصل طريقة الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء كمناهج ثلاثة يتحرك كلّ واحد منها في اطار دائرته الخاصة. يقول: «لا يحق لأحد من العلماء في هذه العلوم الثلاثة أن يطعن في الآخر، و لا ينبغي للإنسان إذا جهل علما أن يكذّبه و يتطاول على صاحبه» «1»، من دون أن يعني ذلك «تنزيها لجميع الفلاسفة أو كلّ العرفاء أو الفقهاء كافة» «2».

مع وعي الإمام لطبيعة الصراع الذي نشب و لا يزال في أروقة الفكر القرآني حيث انقسمت الساحة إلى تيارات، أبرزها تياران أحدهما يقف على رأسه طائفة من الفلاسفة و العرفاء و يرمي الآخر بالقشرية، و الثاني يقف على رأسه طائفة من المتكلمين و المحدّثين و الفقهاء و يرمي الأوّل بالكفر و الزندقة أو بالزيغ و التبديع، إلّا أنّ الإمام يسعى للتخفيف من وطأة هذا الاستقطاب، عبر وسائل متعدّدة أبرزها عدم ضرب شرعية أي واحد منهما، و تصحيح مسار عمل كلّ تيار لكن في إطار مبانيه و منطقة عمله و في نطاق مرتبة الفهم التي تتّسق و مرتكزاته. في واحد من أقدم النصوص نقرأ للإمام قوله على هذا الصعيد: «ينبغي أن يعلم بأنّ هذه المعارف، بدءا

______________________________

إنّ العلوم العقلية و الباطنية و المعارف الإلهية من الكفر و الزندقة». الأربعون حديثا: 412. كما راجع أيضا: آداب الصلاة، مواضع متعدّدة، منها الصفحة 166، 168.

ربما كان الأوضح من ذلك كله، قوله: «و أوصيك أيها الأخ الأعز، أن لا تسوء الظنّ بهؤلاء العرفاء و الحكماء الذين كثير منهم من خلّص شيعة علي بن

أبي طالب و أولاده المعصومين عليهم السّلام ... و إياك أن تقول عليهم قولا منكرا». مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية:

36، و سيأتي تفصيل الكلام في هذه المسألة في بحوث الفصل السابع إن شاء اللّه.

(1)- الأربعون حديثا: 413.

(2)- تفسير سورة حمد: 176.

فهم القرآن، ص: 175

من معرفة الذات حتّى معرفة الأفعال، قد ذكرت في هذا الكتاب الإلهي الجامع بصيغة بحيث تدركها كلّ طبقة على قدر استعدادها. فآيات التوحيد الشريفة خاصة توحيد الأفعال، قد فسّرها علماء الظاهر و المحدّثون و الفقهاء- رضوان اللّه عليهم- و بيّنوها بشكل يختلف كليا و يتباين مع تفسير أهل المعرفة و علماء الباطن لها.

و الكاتب [يعني نفسه] يعدّ كلا التفسيرين صحيح في محلّه» «1».

ثمّ نصوص اخر سيأتي عرضها لاحقا، تلتقي في الدلالة ذاتها، لتفيد أنّ الإمام بتبنّيه الفلسفة و العرفان لا يصادر مشروعية المناهج الاخرى، بل الأهم أنّه تحرّك أوائل العقد الأخير من عمره باتجاه مشروع مصالحة بين أبرز ثلاث منهجيات تتقاسم المعرفة الإسلامية متمثّلة بطرق الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء انطلاقا من التفسير ذاته، في محاولة تعيد إلى الأذهان طموحات المشروع الصدرائي على هذا الصعيد.

أمّا بالنسبة إلى الشقّ الثاني من الإشكالية فقد مرّ أنّ العرفان يطلق عند الإمام مرّة و يراد منه صفة تصبغ التفسير بجميع اتجاهاته بالطابع المعنوي و الأخلاقي.

و عندئذ فهو ليس قسما في مقابل بقية الأقسام و لا اتجاها بإزاء الاتجاهات الاخرى، بل هو قسيما لها بأجمعها. و هنا لا مشكلة، و لا موضع للإشكالية المطروحة. و عند ما يطالب الإمام حركة التفسير أن تكون ذات طابع معنوي أخلاقي أو عرفاني فهو يعني العرفان بمعناه العام.

أمّا المعنى الثاني فهو الذي يكون فيه العرفان منهجا بإزاء بقية المناهج

التفسيرية، و عندئذ تنبثق الإشكالية و يكون لها موقعها المعقول. الحقيقة الناصعة

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 185.

فهم القرآن، ص: 176

التي نتبيّنها من النصوص أنّ الإمام نفسه لا يألو جهدا في نقد المنهج العرفاني إذا تحوّل إلى اتجاه آحادي و نزعة متضخمة على حساب الأبعاد و المكونات الاخرى، تماما كما يفعل مع البقية. يقول في نص له دلالة على الإشكالية بشقّيها: «لقد مرّت علينا أزمنة كانت فيها طائفة من الفلاسفة و العرفاء و المتكلمين و أمثال ذلك تسعى وراء الجهات المعنوية. فقد أخذ هؤلاء بعد المعنويات كلّ واحد بقدر إدراكه، و خطّئوا القشريين. عدّت هذه الطوائف كلّ ما عداها قشريا و قامت بتخطئته، حتّى أنّها عند ما بادرت إلى تفسير القرآن عطفت أكثر الآيات- إن لم يكن كلها- صوب تلك الجهات العرفانية و الفلسفية و المعنوية، و غفلت بشكل تام عن الحياة الدنيوية و عن الجهات التي تمسّ إليها الحاجة هنا، و أهملت ضروب التربية التي ينبغي لها أن تتم في هذه الحياة.

لقد توجّه اولئك بحسب اختلاف مسالكهم، نحو المعاني تلك التي تأتي أرفع من إدراك عامة الناس- مثلا- ثمّ عمدوا إلى تخطئة كلّ من سواهم.

في هذا العصر و في الأوان ذاته بادرت مجموعة اخرى من المشتغلين بالامور الفقهية و التعبدية إلى تخطئة اولئك، مع أنّ هذين الأسلوبين كليهما كانا خلاف الواقع.

فهؤلاء حصروا الإسلام بالأحكام الفرعية، و اولئك حصروه بالامور المعنوية و بما فوق الطبيعة. اولئك يظنّون أنّ ما فوق الطبيعة هو كلّ شي ء، و هؤلاء يظنّون أنّ أحكام الطبيعة و الفقه الإسلامي هو كلّ ما موجود، و ما عداه لا شي ء» «1».

نص كثيف الدلالات، مركّز في معناه، واضح في منطوقه لا إبهام فيه. يعالج

______________________________

(1)- صحيفه امام

3: 221.

فهم القرآن، ص: 177

الإشكالية المثارة بشقّيها على نحو واف. فالإمام لا يؤمن بلغة النفي و الإلغاء بين مناهج المعرفة الإسلامية، كما لا يوفّر المنهج العرفاني و الفلسفي في التفسير من النقد إذا ما أسرف و تطرف.

على المنوال ذاته و بعد عامين من تأريخ النص السابق عاد الإمام إلى عرض المسألة نفسها لكن من دون طرح الاستقطاب بين المناهج المختلفة، إنّما ركّز هذه المرّة على اختزال منهج العرفاء للقرآن بالمعاني العرفانية وحدها و إهمال بقية الأبعاد. قال سماحته في نص نقدي يعود إلى أواخر عام 1979 م: «كنّا في مدّة مبتلين بطبقة من الناس، و بطبقة من أهل العلم ينظرون إلى الإسلام من ذلك الطرف.

يؤمن العرفاء بالإسلام و يرتضونه، بيد أنّهم يرجعون المسائل بتمامها إلى تلك المعاني العرفانية، و لا يذعنون إلى المسائل اليومية المعاصرة، فحتى لو جاءت آية أو رواية في الجهاد يحملونها على جهاد النفس، يصيّرون للإسلام صورة اخرى غير صورته الواقعية الشاملة، التي تحوي جميع الأبعاد. قلت: إننا لمدّة من الوقت كنا مبتلين باولئك. طبيعي هم اناس صالحون، لكنّهم ينظرون إلى الإسلام من زاوية واحدة، و من خلال بعد واحد» «1».

إنّ الإمعان ببعد واحد و تضخيم اتجاه بعينه على حساب تعطيل بقية الأبعاد، يفضي إلى استقطاب سلبي و إثارة ردود متطرفة بالاتجاه المعاكس. و حين يتم التركيز على الجانب العرفاني على نحو مضخّم، فمن المتوقّع أن تبرز ردود فعل متطرّفة تستهين بالجانب المعنوي و تهمّشه و ربما تلغيه لحساب تضخيم الجانب المادي.

______________________________

(1)- نفس المصدر 10: 459.

فهم القرآن، ص: 178

هذا الاستقطاب السلبي الناشئ عن تضخّم بعد من الأبعاد و التركيز المفرط على اتجاه معيّن من اتجاهات التفسير هو الاتجاه العرفاني بالتحديد

هو الذي دفع الإمام إلى تحليل الحالة و نقدها في نص مطوّل، قال فيه: «مع الأسف ابتلينا في فترتين زمنيتين بطائفتين، ففي وقت كنا مبتلين بجماعة عند ما تنظر إلى القرآن و تفسّره تعمد إلى تأويله، إذ هي لا تعتني أساسا بجهته المادية و ببعده الدنيوي، بل هي ترجعه بأجمعه إلى ضرب من المعنويات حتّى القتال. فعند ما يذكر القرآن القتال؛ القتال مع المشركين، يبادر اولئك لتأويله إلى قتال النفس. هم يؤولون الأشياء التي لها علاقة بالحياة الدنيوية إلى المعنويات. لقد أدرك اولئك بعدا من القرآن هو بعده المعنوي، لكن بشكل ناقص. فهم تعاطوا مع بعد القرآن المعنوي و أرجعوا إليه جميع الجهات.

ثمّ ابتلينا بعد ذلك بردّ فعل على الاتجاه الأوّل، هو الموجود الآن، حيث تجسّد هذا المعنى منذ مدة. فبإزاء تلك الطائفة التي تؤول القرآن و الحديث إلى ما وراء الطبيعة، و تهمل الحياة الدنيا تماما، و ما له صلة بالحكومة الإسلامية و بالأبعاد التي تمسّ الحياة، نرى أنّ الطائفة الثانية تفعل العكس، إذ هي ضحّت بالمعنويات أمام الماديات.

اولئك ضحّوا بالماديات فداء للمعنويات، و هؤلاء ضحّوا بالمعنويات فداء للماديات، إذ تراهم يعمدون إلى كلّ آية تصل أيديهم إليها فيوجهونها بأمر دنيوي ما استطاعوا، و كأنّ لا شي ء وراء الدنيا.

أمّا اولئك فكأنّ في نظرهم لا شي ء ما وراء عالم الغيب. إنّ كلام اولئك صحيح في حدودهم و بحسب ما عندهم. أمّا هؤلاء فعقيدتهم فيما يطرحونه من مسائل أنّه لا شي ء- و لا خبر- ما وراء هذا العالم [الطبيعي] فيضحّون بجميع

فهم القرآن، ص: 179

المسائل في سبيل هذا العالم» «1».

بالإضافة إلى ما يحظى به هذا النص من أهمّية في نقد الاتجاه العرفاني حين يراد له أن

يكون اتجاها لاغيا لبقية الأبعاد و المكوّنات، فهو يتوجّه بالنقد أيضا إلى نقد اتجاه آخر من الاتجاهات الآحادية- بل لنقل الإسقاطية أو التحميلية على نحو أدقّ- هو الاتجاه الطبيعي الذي يعطي الأصالة في الوجود للمادة و خواصّها المحسوسة و يألف العلوم الناتجة عنها، ثمّ يعمد إلى تأويل كبريات حقائق القرآن الغيبية و المعنوية بما لا يخرج عن مألوف القوانين المادية و لا يصطدم معها.

خلاصة القول أنّ الإمام لا يتوانى عن نقد الاتجاهات الآحادية في التفسير مهما كانت منطلقاتها، مركّزا في النقد على زوايا متعدّدة، منها:

1- عدم العناية بمقصد أو مقاصد القرآن، و الانهماك ببحوث فرعية و تفصيلات ثانوية بعيدة عن مقصد صاحب الكتاب أو خارجة عنه أساسا.

2- اعتماد التفسير العرفاني كاتجاه آحادي، و عدم الاعتناء بالامور الدنيوية و المادية أو بالعكس.

3- الاستناد إلى اتجاه أو منهج واحد في التفسير، و تكفير البقية أو تفسيقهم.

4- الجمود على الظواهر اللغوية و أوائل المفهومات، و عدم الغوص في المراتب التالية لمعاني القرآن «2».

هناك أيضا زوايا نقدية اخرى عرض لها الإمام نستوفي الحديث عنها في الفصل القادم، الذي يتناول التفسير بالرأي بإذن اللّه.

______________________________

(1)- نفس المصدر 11: 216- 217.

(2)- راجع: مجلة پژوهش هاى قرآنى، المزدوج 19- 20: 124- 163، إمام خميني، قرآن و تفسير.

فهم القرآن، ص: 180

4- الموقف من التراث التفسيري

الحقيقة تتعدّد شواغل النص الخميني و إيحاءاته على هذا الصعيد، فتارة يواجهنا الإمام بمثل قوله: «ليس تفسير القرآن بالمسألة التي يستطيع أمثالنا أن يوفيها حقها» «1»، و اخرى يسجّل: «بحسب عقيدة الكاتب فإنّه لم يدوّن تفسير لكتاب اللّه حتّى الآن» «2»، و تارة ثالثة يطلق الحسرات المريرة و هو يتأسف على الفرصة التي فاتت و لم يستطع من خوطب بالقرآن أن يتصدّى لتفسيره،

و يقول:

«هذه من المرارات التي ينبغي أن تصحبنا إلى القبر» «3». ثمّ يضيف بعد توضيح:

«على ضوء ما مرّ ينبغي أن نبرز أسفنا لهذه الامور، حيث بقينا عاجزين على أن ننال القرآن. إنّ هذه التفاسير التي دوّنت حول القرآن من البداية حتّى الآن، هي ليست تفسيرا للقرآن» «4».

هكذا توحي هذه النصوص- و ثمّ غيرها- و كأنّ الإمام يفتح النار على حركة التفسير برمّتها و يضعها في دائرة الاستفهام، فهل يعني ذلك:

أولا: الطعن بمشروعية عملية التفسير نفسها و اتخاذ موقف مناهض منها بالكامل، على اعتبار «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»، و من ثمّ فإنّ عملية التفسير محدودة بالنبي و آله، و لا حق لإنسان أن يتصدى لها؟ بتعبير آخر: هل هذه

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 93.

(2)- آداب الصلاة: 192.

(3)- صحيفه امام 19: 7.

(4)- نفس المصدر: 8.

فهم القرآن، ص: 181

دعوة إلى تعطيل العقول و تجميد الجهد الإنساني و الحئول بينه و بين التفسير؟

ثانيا: إذا لم يكن الأمر كذلك كيف نوجّه النصوص المشار إليها آنفا؟ و كيف نفهم معناها؟

أولا: لقد مرّ فيما سبق أنّ الإمام يؤمن بإمكان معرفة القرآن و حق الإنسان في فهمه. لكن غاية ما في الأمر أنّ عملية الفهم تتحرّك بين حدّ أدنى و حدّ أقصى.

فلكل إنسان القدرة و الحقّ في أن يستفيد من القرآن على قدر إدراكه وسعته الوجودية و قابليته الفكرية، و خطّ الارتقاء مفتوح غير مغلق بوجه أحد، إنّما الذروة العليا و المعرفة الكنهية و الشاملة هي من اختصاص من خوطب بالقرآن، دلّ على ذلك النقل، كما ثبت بالبرهان على وفق المرتكزات و المباني التي يصدر عنها الإمام في الإيمان بالإنسان الكامل، الذي يكون بمقدوره وحده أن يحيط بالقرآن كلّه ظاهرا و

باطنا، حدا و مطلعا، تفسيرا و تأويلا، محكما و متشابها، حلاله و حرامه، ناسخه و منسوخه، عامّه و خاصّه، مطلقه و مقيّده، فعلم ذلك كلّه بهذا المدى الوسيع الشامل الناظر إلى حقيقة القرآن- من وراء الألفاظ- كما هي، و كما هو كنهه لا تكون نقلا إلّا للنبي و أهل بيته- صلوات اللّه عليهم أجمعين- كما لا تكون عقلا و برهانا إلّا للإنسان الكامل.

لكن ذلك لم يكن يعني في إطار نظرية إمكان المعرفة و نظرية تعدّد مراتب الفهم اللتين يتبناهما الإمام، تعطيل العقل الإنساني عن معرفة القرآن ما دون مرتبة الحد الأعلى، بالتعاطي المباشر أو بالتعلّم و الاستمداد عمن خوطب به.

كثيرة هي نصوص الإمام الدالة على هذا المعنى، استعرضنا بعضها و نعيد التذكير بها اختصارا. يقول سماحته: «القرآن نعمة يستفيد منها الجميع، لكن استفادة النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من القرآن غير استفادة الآخرين منه «إنّما يعرف

فهم القرآن، ص: 182

القرآن من خوطب به» «1». كما يقول اخرى: «في القرآن إشارات لطيفة جدا، لكن لأنّه جاء من أجل عامة [الناس] فقد قيل بصيغة بحيث يفهمها الخواص كما يفهمها العموم أيضا» «2».

فالمحكم في الفكر القرآني للإمام هو إمكان المعرفة، و إمكان الفهم للجميع لكن على مراتب. هذه هي القاعدة الثابتة و الخط العام الذي ينبغي توجيه بقية النصوص على ضوئه. و ما ذكرناه من نصوص أوّل الفقرة ينبغي أن يدرج تحت هذه القاعدة الثابتة و يفهم من خلالها.

ثمّ هناك معارضات كثيرة للنصوص التي افتتحنا بها الموضوع تدفعنا صوب هذه القاعدة الثابتة، و تضطرّنا لتوجيه تلك النصوص على ضوء الخط العام، هذا إن لم يسعف السياق في فهمها بما يتناسب مع المبادئ العامة و

المرتكزات الثابتة للفكر القرآني الخميني.

من ذلك أنّ الإمام يذكر عددا مهما من التفاسير يمتدح بعضها، و إن كان يسجّل أنّها لم تفلح بكشف أكثر من بعد واحد من أبعاد القرآن، كما فعل في الدرس الأوّل من دروسه التفسيرية لسورة الحمد حين عرض لتفاسير ابن عربي و عبد الرزاق الكاشاني و الملّا سلطان علي و سيد قطب و طنطاوي جوهري و الطبرسي «3».

كما أنّه يذكر المفسّرين بأطيب الذكر، يترضّى عليهم و يشيد بجهودهم، حيث يسجّل بعد قوله: «بحسب عقيدة الكاتب فإنّه لم يدوّن تفسير لكتاب اللّه حتّى

______________________________

(1)- نفس المصدر: 355.

(2)- نفس المصدر: 438.

(3)- تفسير سورة حمد: 94- 95.

فهم القرآن، ص: 183

الآن» «1» ما نصه: «ما نقصده من هذا البيان ليس انتقاد التفاسير، فقد تجشّم كلّ واحد من المفسّرين صعوبات جمّة و تجرّع آلاما لا نهاية لها، حتّى توفّر على إعداد كتاب شريف، فللّه درّهم و على اللّه أجرهم» «2».

لم يكتف سماحته بالترضّي على المفسّرين و شكر مسعاهم على ما بذلوه، بل عاد يخفّف من وطأة نقده و يوجّهه على أساس رفعة الكتاب العزيز و سموّه، و من ثمّ قصور المفسّرين- لا تقصيرهم- في الارتقاء إلى ذراه، حيث يقول: «في الوقت نفسه الذي بذل فيه المفسرون جهودا كبيرة إلّا أنّهم بقوا عاجزين عن بلوغ لطائف القرآن، لا لأنّهم قصّروا، بل لجهة أنّ عظمة القرآن هي فوق هذه المسائل» «3».

أكثر من ذلك، كيف يقصد الإمام من نقده تجميد الجهود التفسيرية، و هو يستحثّ المفسّرين عربا و عجما أن يؤلّفوا، و يحثّ عقول العلماء و يستنهضها للتعاطي مع القرآن و يدعو لفتح الباب أمام الناس، و هو يقول: «على العلماء و المفسّرين أن يكتبوا التفاسير بالفارسية و العربية،

و يكون مقصدهم بيان التعاليم العرفانية و الأخلاقية، و بيان كيفية ربط المخلوق بالخالق، و بيان الهجرة من دار الغرور إلى دار السرور و الخلود، بالصيغة التي استودعت فيها هذه الامور في هذا الكتاب الشريف» «4».

ثمّ أ ليس هو الذي يحرّض جميع الطاقات الفكرية و يستنفر العقول كافة، و يقول: «ينبغي للجميع أن يحرّكوا أفكارهم و يستنفروا عقولهم صوب هذا الكتاب

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192.

(2)- نفس المصدر: 194.

(3)- صحيفه امام 17: 432.

(4)- آداب الصلاة: 194.

فهم القرآن، ص: 184

العظيم، لكي يستفيد منه الجميع كما هو، و على قدر ما نستطيع. لقد جاء القرآن لكي تستفيد منه الطبقات كافة، كلّ بقدر استعداده» «1».

ثانيا: مع أنّ حال النصوص التي افتتحنا بها الفقرة قد صار واضحا على ضوء المبادئ العامة للفكر القرآني الخميني و ما يتضمّنه من قواعد ثابتة تكون حاكمة على ما سواها، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من أن نتناولها هذه المرة من خلال السياق لنرى أنّها لا تخرج عن الخط العام الذي لا يلغي التفسير و لا يقلّل من أهميته.

بالنسبة إلى النص الأوّل الذي يقول فيه الإمام: «ليس تفسير القرآن بالمسألة التي يستطيع أمثالنا أن يوفيها حقّها» «2» ليس فيه ما يدلّ على موقف سلبي من التفسير. ثمّ إنّ الإمام كان قد ذكر هذه الجملة في جواب من طلب منه أن يشرع بدرس تفسيري بعد انتصار الثورة الإسلامية في شباط 1979 م، و عودته الظافرة إلى مدينة قم في شهر آذار من تلك السنة (1979 م)، ممّا يسمح بحملها على التأدب أمام عظمة القرآن، و إلّا فإنّ الإمام قد سجّل ذلك ثمّ شرع فعلا بتفسير سورة الفاتحة عبر عدد من الجلسات، و إن كان فعل ذلك

في إطار منهجه الخاص.

كما يمكن أن يكون مراد الإمام هو أنّ مثله لا يستطيع النهوض بالتفسير الشامل الذي لا يقتصر على بعد من الأبعاد و إهمال ما سواه، كما يتضح ذلك من سياق كلامه عن اتجاهات التفسير و جهود المفسّرين، و امتداحه لبعضها «3».

عند ما ننتقل إلى النص الثاني الذي يقول فيه الإمام: «بحسب عقيدة الكاتب

______________________________

(1)- صحيفه امام 14: 387.

(2)- تفسير سورة حمد: 93.

(3)- ينظر: نفس المصدر: 93- 95.

فهم القرآن، ص: 185

فإنّه لم يدوّن تفسير لكتاب اللّه حتّى الآن» «1» نراه قد جاء بعد فصل خاص خصّصه سماحته للحديث عن مقاصد القرآن. و لما كان التفسير هو بيان المقاصد و شرحها، فإنّ النص يكون ناظرا لهذه الجهة، أي ليس هناك تفسير قد توفّر على مقاصد القرآن مجتمعة، و إلّا فإنّ الإمام بعد أكثر من صفحة بقليل من النص المذكور، يعود ليسجّل صراحة بأنّه لا يقصد انتقاد التفاسير و لا التقليل من الجهود الجبارة التي بذلها المفسّرون، إنّما هدفه أن يدفع حركة التفسير للالتزام بوظيفتها في بيان مقاصد القرآن، و أن يحثّ المفسّرين لفتح الأبواب أمام الناس كي يستفيدوا من مقاصد القرآن «2».

أخيرا و فيما يرتبط بالنص الذي يسجّل فيه الإمام: «إنّ هذه التفاسير التي دوّنت حول القرآن من البداية حتّى الآن، هي ليست تفسيرا» «3». فإنّه يفسّر نفسه بنفسه، إذا ما نظر إليه من خلال السياق. فقد كان الإمام يتحدّث على أنّ في القرآن معارف لم تسمح الظروف للأئمة عليهم السّلام أن يبيّنوها لنا بحكم الأوضاع التاريخية المعروفة، حتّى ما إذا صارت الفرصة مؤاتية في عصر الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام تراهما ركّزا على تنمية الجانب الفقهي الذي يلامس الحاجات اليومية و الحياتية

للإنسان، في حين لم يوليا العناية ذاتها إلى المعارف الأخر بسبب الأوضاع و الأولويات، و أيضا لأنّ تلك المعارف «لم يكن لها حملة. فقد كان هناك حملة للفقه أمّا حملة لتلك العلوم فلا» «4».

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192.

(2)- راجع نفس المصدر: 194.

(3)- صحيفه امام 19: 8.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 186

أجل، صدرت عن الأئمة عليهم السّلام إشارات في هذا المضمار، لكن باب هذه المعارف لم يفتح كما ينبغي على مستوى الحد الأقصى، و لم تكن الأوضاع مؤاتية لمن خوطب به.

على ضوء هذه الخلفية و الأفق الذي يرتقي بالمعرفة القرآنية إلى حدها الأقصى و معيارها الأعلى، سجّل الإمام نصه السابق الذي استكمله بقوله: «البتة تعدّ تلك التفاسير ضروبا من الترجمة «1»، و في بعضها يشمّ رائحة القرآن، و إلّا فهي ليست تفسيرا» أي ليست هي تفسيرا بمعيار الحدّ الأقصى الذي يرفع التفسير إلى سنخ المعرفة الصادرة عن المعصوم؛ عمّن خوطب بالقرآن.

و إلّا ففي النص ذاته يتحدّث الإمام عن تحقّق حدّ من المعرفة يأتي تحت الحدّ الأقصى، حيث يقول: «بعض آيات القرآن و إنّ تحدّث عنها الناس أو فلاسفة أو عرفاء، على مستوى معيّن، إلّا أنّ ما ينبغي أن يكون لم يتحقّق و لن» «2». فإذا النص التقويمي للإمام يتحرّك في نطاق الحدّ الأقصى، و يصدر حكمه في مجال دائرة معيّنة من الآيات، ربما هي التي يطلق عليها القوم «غرر الآيات».

أخيرا، أودّ أن أشير إلى أنّ اطلاق الحسرات و تجرّع الآلام لغياب التفسير المطلوب، هو أمر له سابقة عريقة قبل الإمام. فمع ما بلغته حركة التفسير خلال عشرة قرون من عمرها، وقف الشيخ محسن الكاشاني (ت: 1091 ه) مؤلف ثلاثية الصافي و الأصفى و المصفّى، قبل الإمام

الخميني بأكثر من ثلاثة قرون،

______________________________

(1)- ليس المقصود من الترجمة معناها الاصطلاحي المعاصر الذي يعني النقل من لغة إلى اخرى، بل المراد منها في علوم القرآن عند الأقدمين ظاهر التفسير و بيان معاني الألفاظ و مفهوماتها الأولية أو الابتدائية.

(2)- صحيفه امام 19: 7.

فهم القرآن، ص: 187

ليسجّل الموقف التالي من التراث التفسيري قبله: «لم نر إلى الآن في جملة المفسّرين مع كثرتهم و كثرة تفاسيرهم، من أتى بتصنيف تفسير مهذّب صاف واف كاف شاف يشفي العليل و يروي الغليل» «1». و لا أظنّ أنّ مثل هذا التفسير سيولد، بل يبقى هذا المطمح أمنية تملأ الصدور و تستحثّ الخطى و تحفّز الهمم لبذل المزيد على هذا الطريق.

5- تحديد منطقة التفسير

من النتائج المترتبة على الرؤية المقاصدية للإمام، تحديد دائرة التفسير و منطقته تبعا لتحديد معناه و وظيفته.

حينئذ سنكون في التعاطي مع القرآن إزاء ثلاث دوائر أو مناطق أو مساحات، هي:

1- دائرة التفسير المشروع الذي يتقصّى فيه المفسّر مقاصد القرآن. و ربّما حاد عن المقصد لكن من دون أن يقع في التفسير الممنوع غير المشروع.

2- دائرة التفسير الممنوع، أو التفسير بالرأي المنهي عنه، و يدخل فيه التحميل على القرآن.

3- دائرة الاستفادة الحرّة من كتاب اللّه التي لا تدّعي التفسير بمعناه العلمي، و تحاذر الانزلاق إلى التفسير بالرأي المنهي شرعا. فبين هذين الحدّين ثمّ منطقة واسعة و مساحة مفتوحة أمام الإنسان، يستطيع معها أن يغترف من كتاب اللّه و يشحن وجوده بمعارفه المتألّقة و يملأ الحياة من حوله بنور القرآن.

______________________________

(1)- تفسير الصافي 1: 11.

فهم القرآن، ص: 188

الآن و قد استبان التفسير في معناه و وظيفته، فمن الطبيعي أن تتوقف عملية التحديد النهائي لمنطقته على تعيين الثغور بينه و بين التفسير بالرأي،

و بين الأخير و بين الاستفادة الحرة. أي المطلوب بيان الحدود المائزة بين الدوائر أو المناطق الثلاث.

لما كان البحث في هذه النتيجة يتوقّف على دراسة التفسير بالرأي، فقد خصصنا له فصلا مستقلا نظرا لما يحظى به من أهمّية.

فهم القرآن، ص: 189

الفصل الرابع التفسير بالرأي

اشارة

حظيت مسألة النهي عن التفسير بالرأي باهتمام جلّ المفسّرين إن لم يكن جميعهم، بفعل كثافة النصوص الواردة عن النبي و أهل بيته عليهم جميعا صلوات اللّه و سلامه.

فلم يكن يسع حركة التفسير أن تنطلق منذ بواكيرها الاولى إلى المديات التي بلغتها في الوقت الحاضر من دون أن تتّخذ موقفا واضحا من مقولة التفسير بالرأي، يسمح لها بممارسة جهودها في التفسير بعيدا عن مزالق الرأي الممنوع.

على أنّ المقولة و ما ترتكز إليه من أدلّة نقلية و عقلية متظافرة تحوّلت في بعض الحالات إلى مانع يصدّ عن التعاطي مع كتاب اللّه، و إلى عقبة تردع المفسّرين من ارتياد معانيه و الغوص في أعماقه، و الأدهى من ذلك أنّها تحوّلت إلى عقدة ترمي بظلال الخوف و التردّد على عقول المسلمين و نفوسهم، و هي توحي لهم بحرمة مقاربة القرآن الكريم حتّى على مستوى استلهام الإشعاعات التي لا شأن لها بالتفسير بمعناه العلمي و الوظيفي خشية السقوط في هوّة الرأي الممنوع.

الحقيقة أنّ الواقع الأخير بما يؤدّي إليه من تعطيل كتاب اللّه و حرمان المسلم

فهم القرآن، ص: 190

من عطاياه، هو الذي حدا بالإمام الخميني إلى أن يلج الموضوع و يبدي رأيه في المقولة.

و لمّا كان الإمام قد فعل ذلك على نحو منهجي منظّم، من دون أن يكتفي بمحض إشارة عابرة، فقد أملى علينا ذلك تغطية البحث من جوانب متعدّدة، انطلاقا من الخطوط التالية:

1- أحاديث النهي.

2- أبرز النظريات

في المسألة.

3- موقف الإمام الخميني.

4- التبعات السلبية للمقولة، و تحوّل التفسير بالرأي إلى ذريعة لتعطيل القرآن في حياة المسلمين و حرمانهم من مواهبه و عطاياه.

1- أحاديث النهي

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب» «1».

و عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: «قال اللّه جلّ جلاله: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي» «2».

عن النبي: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار» «3». و عن

______________________________

(1)- البرهان في تفسير القرآن 1: 18، وسائل الشيعة 27: 190، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 37.

(2)- البرهان في تفسير القرآن 1: 18، وسائل الشيعة 27: 186، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 28.

(3)- وسائل الشيعة 27: 189، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 35.

فهم القرآن، ص: 191

الإمام محمد بن علي الباقر عليه السّلام: «و ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» «1»، و عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: «ليس شي ء أبعد من عقول الرجال عن القرآن» «2».

كما عن الإمام الصادق أيضا: «من فسّر القرآن برأيه، إن أصاب لم يؤجر، و إن أخطأ خرّ [فهوى] أبعد من السماء» «3». كما عنه عليه السّلام: «من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر، و من فسّر آية من كتاب اللّه فقد كفر» «4».

ممّا رواه الشهيد الثاني زين الدين العاملي (911- 965 ه)، مرفوعا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار»، و قال:

«من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»، و قال: «من قال في القرآن بغير ما علم،

جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار»، و قال: «أكثر ما أخاف على امّتي من بعدي رجل يتناول القرآن يضعه على غير مواضعه» «5».

أمّا مصادر التفسير السنّي فقد تناول أغلبها الموضوع ذاته في مقدّماته، و هي تنقل عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قوله: «من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

أيضا: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار»، و كذلك: «من تكلّم

______________________________

(1)- نفس المصدر: 192، الحديث 41.

(2)- نفس المصدر: 203- 204، الحديث 69، و 73، و 74.

(3)- نفس المصدر: 202، الحديث 66.

(4)- نفس المصدر: 203. الحديث 67، راجع أيضا: البرهان في تفسير القرآن 1: 17- 19.

حيث أورد ثمانية عشر حديثا.

(5)- بحار الأنوار 89: 111/ 20. راجع أيضا: تفسير العياشي 1: 1، المقدّمة، و تفسير الصافي 1: 35- 36، أيضا: التفسير و المفسّرون 1: 60 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 192

في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار»، و أيضا: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» «1».

بالرغم من أنّ أحاديث النهي عن التفسير بالرأي هي من الكثرة في مصادر الفريقين، بحيث تكفي للدلالة على المطلوب، بل ذهب بعضهم إلى تواترها بين الفريقين «2»، إلّا أنّ عددا من الباحثين يرى أنّ النهي عن هذا الضرب من التفسير لا يقتصر في جهة الدليل النقلي على الأحاديث الشريفة وحدها، بل هناك أيضا آيات كثيرة دالّة عليه، كقوله سبحانه: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «3»، و قوله:

أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «4» و ما يقع على شاكلتها. كما أنّها لا تقتصر على الدليل النقلي بشقّيه القرآني و الروائي، بل هناك أيضا الدليل العقلي الذي يمنع من

تفسير أي كلام و نسبة معناه إلى متكلّمه بالاستناد إلى الرأي المحض من غير فرق بين الكلام الديني و غير الديني، فضلا عن أن يكون ذلك هو الكلام الإلهي.

فما دام التفسير هو إماطة اللثام عن اللفظ أو المعنى غير الواضح و غير الضروري، و إرجاع النظري إلى البديهي و غير البيّن إلى البيّن، من غير فرق بين المفرد و القضية، فحينئذ سيكون التفسير ضربا من التصديق لما يستبطنه من حكم

______________________________

(1)- تفسير الطبري 1: 25- 27، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1: 41، الجامع لأحكام القرآن 1: 3، التحرير و التنوير (المعروف بتفسير ابن عاشور التونسي) 1: 26 فما بعد. و ثمّ غير ذلك كثير ممّا ستأتي الإشارة إلى بعضه.

(2)- البيان في تفسير القرآن: 287، حيث ذكر أنّ النهي عن التفسير بالرأي جاء في «روايات متواترة بين الفريقين».

(3)- الإسراء (25): 36.

(4)- الأعراف (7): 28.

فهم القرآن، ص: 193

في تحديد معنى الآية و المقصود الإلهي منها. و من ثمّ سيكون شأنه شأن أي علم آخر، حيث يتحتّم عقلا أن يرتكز إلى مبادئ و مسائل، و أن يتمّ السير فيه على وفق نسق منهجي منظّم يوصل للكشف عن المراد، من دون إقحام للرأي الخاص أو لما لا شأن له في مساره «1».

2- أبرز النظريات

اشارة

لقد استطاعت حركة التفسير أن تشقّ طريقها، و تأخذ لها موقعا مشروعا في الفكر القرآني برغم هذه الأحاديث، من خلال عدد واسع من التكييفات النظرية التي يمكن أن نمرّ على أهمّها من خلال ما يلي:

أ- الطبري (ت: 310 ه):

و قد ذهب إلى تخصيص أحاديث النهي بالآيات التي لا يدرك علمها إلّا ببيان الرسول، و هي في الأغلب آيات الأحكام. قال:

«و هذه الأخبار شاهدة على صحّة ما قلنا من أنّ ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلّا بنصّ بيان الرسول أو بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه» «2».

إذ صحّ القول إنّ أغلب ما يحتاج إلى بيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من آي القرآن هي آيات الأحكام، فستكون هناك قرابة بين رأي الطبري و رأي الإمام الخميني. لكن مع ذلك يمكن استشفاف ما هو أعمّ في كلام الطبري، إذ في ثنايا تفسيره ما يفيد حمل كلّ تفسير لا يرتكن إلى اللغة و لا يرجع إلى أثر من آثار الصحابة، على

______________________________

(1)- راجع تسنيم 1: 60. 175- 176.

(2)- تفسير الطبري 1: 27.

فهم القرآن، ص: 194

التفسير بالرأي الممنوع.

ب- الطوسي (ت: 460 ه):

عند ما ننتقل إلى الطوسي الذي يعدّ تفسيره «التبيان» ثاني تفسير موسوعي ترتيبي في تاريخ الفكر القرآني العام، و أوّل أثر تفسيري موسوعي في فضاء الفكر الشيعي، فإنّ أوّل ما يفعله هو صرف هذه الأخبار عن ظاهرها «ظاهر هذه الأخبار متروك» «1» حذر أن يقع في التعطيل. ثمّ يبادر إلى تقسيم معاني القرآن إلى أربعة أقسام، هي:

الأوّل: ما اختصّ اللّه بعلمه، فلا يجوز لأحد تكلّف القول فيه، و لا تعاطي معرفته، مثل معرفة الساعة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «2».

الثاني: ما كان ظاهره مطابقا لمعناه. و هذا يعرف معناه كلّ من عرف اللغة، كقوله: وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ «3».

الثالث: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصّلا، كآيات الأحكام مثل قوله:

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ «4» ممّا يتوقّف تفصيله و تحديد المراد منه ببيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الرابع: ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد بحيث يمكن أن يكون كلّ واحد منهما مرادا، فحينئذ لا ينبغي لأحد أن يبتّ بأحد احتمالات المعنى و يجزم بأنّه هو المراد إلّا بقول نبي أو إمام معصوم، أو أن يقول إنّ الظاهر يحتمل لامور.

أمّا إذا دلّ الدليل على أنّه لا يجوز إلّا أن يكون المراد وجها واحدا فيجوز

______________________________

(1)- التبيان في تفسير القرآن 1: 5.

(2)- لقمان (31): 34.

(3)- الأنعام (6): 151.

(4)- البقرة (2): 43.

فهم القرآن، ص: 195

عندئذ البتّ في المراد «1».

على ضوء هذا التقسيم يدخل القسمان الأوّل و الثالث و وجه من الرابع في التفسير بالرأي، فتكلّف «القول في ذلك خطأ ممنوع منه» «2». و بذلك يتمّ الجمع بين أخبار النهي و بين بقاء حركة التفسير مفتوحة، و بتعبير الطوسي نفسه: «متى قسّمنا هذه الأقسام نكون قد قبلنا هذه الأخبار و لم نردّها ... و لا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الرأي جملة» «3».

يبدو أنّ هذا التقسيم الرباعي متأثّر و لو على نحو من الأنحاء بما هو مشهور عن ابن عبّاس، من قوله: إنّ التفسير على أربعة وجوه:

1- وجه تعرفه العرب من كلامها.

2- و تفسير لا يعذر أحد بجهالته.

3- و تفسير يعلمه العلماء.

4- و تفسير لا يعلمه إلّا اللّه «4».

فالرابع هو الأوّل عند الطوسي، و الثاني و الأوّل هما الثاني عند الطوسي، و الثالث عند ابن عبّاس هو الرابع عند الطوسي، كما يمكن أن يشمل الثالث على

______________________________

(1)- التبيان في تفسير القرآن 1: 5- 6.

(2)- نفس المصدر: 6.

(3)- نفس المصدر: 6، لقد ناقش

بعض المفسّرين المعاصرين بعض تفاصيل نظرية الطوسي و جملة من الأمثلة التي ساقها لتوضيح مراده بما لا ينقض أصل النظرية. فذكر مثلا أنّ تحليل المفسّر لآيات علم الساعة جائز، و الممنوع هو تحديد وقتها لأنّه ممّا يختصّ باللّه سبحانه و هكذا. راجع: تسنيم 1: 188. 19.

(4)- تفسير الطبري 1: 25.

فهم القرآن، ص: 196

نحو من التوسّع و المسامحة و ذلك بجعل النبي و الأئمّة هم طليعة العلماء مع حفظ مقام عصمتهم- صلوات اللّه و سلامه عليهم- لا سيّما و إنّ هناك من يذهب إلى أنّ العصمة هي علم و إن كان من نوع خاصّ «1».

ج- الغزالي (ت: 505 ه):

تعود أهمّية رأي الغزالي في هذه المسألة و في مسائل اخرى لها صلة بعلوم القرآن و بالتفسير و منهجيّته، إلى الحضور النافذ لأفكاره فيمن بعده من المفسّرين و الباحثين القرآنيين. فأفكار أبي حامد في آداب التلاوة، و الظاهر و الباطن، و موانع الفهم، و التفسير بالرأي، و علوم القشور و اللباب و غير ذلك كانت من القوّة بحيث تركت تأثيرا مكثّفا عند الآخرين، حتّى نقلها بعضهم بنصوصها مع نسبتها إليه تارة و عدم نسبتها إليه تارة اخرى.

في باب خاص عن فهم القرآن و التفسير بالرأي «2»، يذكر الغزالي بعض الأحاديث الواردة في النهي، ثمّ يستدلّ بوجوه على أنّ هذه الأحاديث لا يمكن أن تكون مانعة عن التدبّر و فهم القرآن في نطاق معان مفتوحة رحبة تتخطّى ظاهر التفسير و ترجمة الألفاظ و بيان معانيها. كما يرفض أن تدلّ أخبار النهي على قصر التفسير على النقل و المسموع و ترك الاستنباط و الاستقلال بالفهم، إذ هناك و بنصّ القرآن لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ «3» استنباط لأهل الفهم وراء السماع،

______________________________

(1)- من هؤلاء

السيّد الطباطبائي، كما في قوله: «إنّ هذه القوّة القدسية [العصمة] من قبيل العلوم و المعارف» (الميزان في تفسير القرآن 11: 154)، كذلك قوله: «و آتاهم اللّه سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب المعاصي، و تمتنع معه صدور شي ء منها عنهم صغيرة أو كبيرة»، و كذلك قوله: «و من الدليل على أنّ العصمة من قبيل العلم ...». (نفس المصدر: 162)

(2)- إحياء علوم الدين 1: 288 فما بعد.

(3)- النساء (4): 83.

فهم القرآن، ص: 197

و من ثمّ بطل أن يشترط السماع في التأويل، و جاز لكلّ واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه و حدّ عقله» «1».

بعد هذه المقدّمات يعود الغزالي لينزل النهي على أحد وجهين، انطلاقا من التمييز بين الاجتهاد الصحيح و بين الرأي الفاسد، إذ المنهي عنه في الوجهين كليهما هو الثاني دون الأوّل.

أمّا الوجهان فهما:

الأوّل: أن يكون له في الشي ء رأي و إليه ميل من طبعه و هواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه و هواه ليحتجّ على تصحيح غرضه، بحيث لو لم يكن له ذلك الرأي و الهوى لما لاح له ذلك المعنى من القرآن.

لهذا الوجه عدد من الحالات، منها:

1- أن يفعل ذلك مع العلم، كالذي يحتجّ ببعض الآيات على تصحيح بدعته ليلبس على خصمه، و هو يعلم أنّ المراد بها غير ما يحتجّ به.

2- أن يكون مع الجهل، كما إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه و يرجّحه برأيه و هواه.

3- أن يكون له غرض صحيح فيلتمس له دليلا من القرآن، و يذكر له من الآي ما يعلم أنّه لا يدلّ عليه.

4- أن يكون المقصد باطلا، فينزل القرآن على وفق رأيه تغريرا للناس

و هو يعلم قطعا أنّ الآية غير مرادة به.

يقول الغزالي: «فهذه الفنون أحد وجهي المنع من التفسير بالرأي» لأنّ

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 290.

فهم القرآن، ص: 198

الإنسان يكون «قد فسّر برأيه؛ أي رأيه هو الذي حمله على ذلك التفسير» «1».

الثاني: أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع و النقل في المجالات التي ترتبط بغرائب القرآن و ما فيه من الألفاظ المبهمة و المبدّلة، و من الاختصار و الحذف و الإضمار و التقديم و التأخير. يكتب بعد أمثلة كثيرة على هذه الحالات: «فكلّ من اكتفى بفهم ظاهر العربية و بادر إلى تفسير القرآن و لم يستظهر بالسماع و النقل في هذه الامور، فهو داخل فيمن فسّر القرآن برأيه» «2».

فالأثر أو النقل و السماع ضرورة لا بدّ منها في ظاهر التفسير لكي لا يقع في الغلط و الرأي المنهي عنه، ثمّ «بعد ذلك يتسع الفهم و الاستنباط» «3»، و يأتي دور التفسير الاجتهادي أو الدرائي.

مع أنّ الغزالي يذهب إلى أنّ «الرأي» يتناول الصحيح و الفاسد إلّا أنّه لا يمانع من أنّ الرأي الفاسد الموافق للهوى «قد يخصّص باسم الرأي» «4». على أنّ المهم هو ما ينتهي إليه من القول: «المراد بالرأي الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح» «5». و من ثمّ فإنّ ما يكون منهيّا عنه هما الوجهان المذكوران «دون التفهّم لأسرار المعاني» «6»، أو الاجتهاد الصحيح القائم على مرتكزات سليمة في الفهم.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 291.

(2)- نفس المصدر: 292.

(3)- نفس المصدر: 291.

(4)- نفس المصدر.

(5)- نفس المصدر.

(6)- نفس المصدر: 293.

فهم القرآن، ص: 199

د- ابن عطية (ت: 546 ه):

تعود أهمّية ابن عطية الأندلسي ليس إلى الرؤية التي يتبنّاها حيال التفسير بالرأي و احتفاء أكثر من واحد

من المفسّرين بها و حسب، بل أيضا إلى ما يحظى به هو نفسه و تفسيره من أهمّية لدى السابقين و المعاصرين «1».

______________________________

(1)- هو القاضي أبو محمّد عبد الحقّ بن غالب بن عطية الأندلسي المولود سنة 481 ه (أو 480) و المتوفى سنة 546 ه. له تفسير بعنوان «المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» لم يكن مطبوعا (على ما ذكره الذهبي في: التفسير و المفسّرون 1: 240، حيث قوله: و مع الشهرة الواسعة لهذا الكتاب فإنّه لا يزال مخطوطا إلى اليوم، و هو يقع في عشر مجلّدات كبار) رغم كثرة ما طبع من تفاسير الأقدمين و كثافة ما اخرج من كتب السلف.

صدر تفسيره مؤخّرا بطبعة أنيقة و تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد (ستّة مجلّدات، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 2001 م) تبعا لصورة من نسخة أياصوفيا الموجودة في مكتبة آية اللّه السيّد المرعشي النجفي كما هو مثبّت على الغلاف الخارجي للطبعة، مقرونة بمقدّمة عن التفسير و لمحات عن حياة المفسّر.

امتدحه عدد من قدماء المفسّرين و محدّثيهم، و ربما لم يشذّ عن مدحه كلّ من مرّ على تفسيره. قال عنه أبو حيّان الأندلسي (ت: 754 ه) مثلا: «أجلّ من صنف في علم التفسير، و أفضل من تعرّض فيه للتنقيح و التحرير». (البحر المحيط في التفسير 1: 20)

كما ذكره الزمخشري (ت: 538 ه) بقوله: «إنّهما في التفسير الغاية التي لا تدرك، و المسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك». كما قال عنهما أيضا: «إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير و ممارسا تحريره و التحبير، نشراه نشرا، و طار لهما به ذكرا، و كانا متعاصرين في الحياة متقاربين في الممات». (البحر المحيط في التفسير 1: 20- 21)

لقد قارن

بينهما مقارنة تنمّ عن تفضيله لتفسير ابن عطية على الزمخشري، حيث قال:

«و كتاب ابن عطية أثقل و أجمع و أخلص، و كتاب الزمخشري ألخص و أعوص». (نفس المصدر: 20)-

فهم القرآن، ص: 200

لكن مع ذلك لا نجد في جوهر رأيه من المسألة ما يميّزه عن الآخرين، اللّهمّ إلّا فصله بوضوح و على نحو مبكّر بين ما يدخل في الرأي و ما لا يدخل فيه، أو يدخل في الاجتهاد المشروع.

ينطلق ابن عطية من تمييز بين الرأي الشخصي يحمل على كتاب اللّه و يطوّقه به، و ما يجري على قوانين العلم و النظر في كلّ علم، فيكون الأوّل هو المقصود بالنهي دون الثاني. يكتب بعد ذكر الحديث: «و معنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى

______________________________

- كما مدحه الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان الإشبيلي في قوله: «فيه نبعة روح العلا، و محرز ملابس الثنا، فذّ الجلالة، و واحد العصر و الأصالة». (نقلا عن البحر المحيط في التفسير 1:

20)

امتدحه ابن خلدون (ت: 808 ه) بأنّ صاحبه جمع من التفاسير صفوتها (المقدّمة: 440).

و حين مرّ ابن تيمية (ت: 728 ه) على موضوع التفسير أبدى تردّدا بين تفسيري الطبري و ابن عطية و أيّهما أفضل التفاسير برأيه، لكن ما لبث و أن تخلّى عن تردّده ليفضّل الطبري على كلّ تفسير رآه ثمّ أردف ذلك بابن عطية، إذ قال في المفاضلة بينه و بين عدد من التفاسير: «و تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري ... بل لعلّه أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصحّ من هذه كلّها». (مقدّمة في اصول التفسير: 113)

ممّن ذكره و أثنى عليه من المعاصرين محمد الطاهر بن عاشور (ت: 1970 م) إذ راح كأسلافه يشيد

به و بالزمخشري و يعدّهما فاتحي عهد جديد في التفسير بعد أن عصفت به الإسرائيليات و الموضوعات، إلى أن قال: «كلاهما يغوص على معاني الآيات ... إلّا أنّ منحى البلاغة و العربية بالزمخشري أخصّ، و منحى الشريعة على ابن عطية أغلب، و كلاهما عضادتا الباب، و مرجع من بعدهما من أولي الألباب». (التحرير و التنوير 1: 14)

راجع أيضا: التفسير و المفسّرون 1: 238- 242، حيث كتب عنه: «تفسير له قيمته العالية بين كتب التفسير و عند جميع المفسّرين و ذلك راجع إلى أنّ مؤلّفه أضفى عليه من روحه العلمية الفيّاضة ما أكسبه دقّة و رواجا و قبولا». (نفس المصدر: 240)

فهم القرآن، ص: 201

في كتاب اللّه فيتسوّر عليه برأيه «1»، دون نظر فيما قاله العلماء، أو اقتضته قوانين العلوم كالنحو و الاصول. و ليس يدخل في هذا الحديث أن يفسّر اللغويّون لغته، و النحاة نحوه، و الفقهاء معانيه، و يقول كلّ واحد باجتهاده المبني على قوانين علم و نظر، فإنّ القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرّد رأيه» «2».

على ضوء هذه القاعدة التي تخرج الفهم المرتكز إلى الاجتهاد القائم على اصول منقحة عن الرأي الممنوع، تضيق دائرة التفسير بالرأي المنهي و تنفتح حركة التفسير على آفاق رحبة تنهض بها عملية الاستنباط و الاستدلال.

لقد عقّب عليه القرطبي (ت: 671 ه) بقوله: «هذا صحيح، و هو الذي اختاره غير واحد من العلماء. فإنّ من قال فيه بما سنح في وهمه و خطر على باله من غير استدلال عليه بالاصول فهو مخطئ، و إنّ من استنبط معناه بحمله على الاصول المحكمة المتّفق على معناها فهو ممدوح» «3».

ه- القرطبي (ت: 671 ه):

الحقيقة أنّه ليس للقرطبي نظرية مستقلّة، بل هو تابع للغزالي في

تحليل المسألة و الانتهاء إلى الوجهين اللذين انتهى إليهما أبو حامد في تحديد المراد من التفسير بالرأي. كما تبنّى من جهة اخرى موقف ابن عطية و أمضاه كما رأينا من تعقيبه قبل قليل.

______________________________

(1)- تسوّر عليه: هجم عليه كاللص، أي أقدم على التفسير بغير بصيرة و لا تدبّر، و من دون استناد إلى قوانين الاجتهاد و اصول النظر و مناهج الاستنباط.

(2)- المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1: 41. الجدير بالذكر أنّ الإشارة إلى موقف ابن عطية هذا كانت تتمّ فيما مضى عبر الإشارة إلى ما ذكره القرطبي عنه. ينظر: الجامع لأحكام القرآن 1: 32.

(3)- الجامع لأحكام القرآن 1: 32.

فهم القرآن، ص: 202

ففي مقدّمات تفسيره خصّص القرطبي فصلا للتفسير بالرأي جاء فيه على ما ذكره ابن عطية فصار مصدرا له، بحيث أخذ عنه جلّ من تلاه إلى أن طبع تفسير ابن عطية مؤخّرا. ثمّ عمد إلى نقل ما ذكره الغزالي من تحليل و ما ساقه من حالات و وجوه بنصّه و حذافيره من غير نقص أو زيادة «1»، لكن من دون أن يشير إليه كما جرت على ذلك عادة أغلب الأقدمين «2»، حيث صار ذلك سببا لالتباس الأمر على كثيرين بنسبة ما ذكره إليه لا إلى الغزالي كما هو الحقّ و الصواب «3».

ما دفعنا إلى ذكره هو هذه النقطة بالذات، لا أنّه يختصّ بنظرية أو قول مستقلّ في المسألة. فقد سقنا رأي الغزالي فيما سبق، و قلنا إنّ أفكاره على هذا الصعيد سجّلت لها حضورا قويّا فيمن بعده، و ها هو القرطبي خير شاهد على ما ذكرناه، بيد أنّه لن يكون الأخير كما سيأتي.

ربما يكون الغزالي نفسه قد أخذ قوله في المسألة و ما تبنّاه

فيها، كلّه أو بعضه، عن غيره أيضا.

و- ابن تيمية (ت: 728 ه):

و قد أرجع التفسير بالرأي إلى الجهل و الهوى معا، حيث انتهى في تحديده إلى أنّه التفسير بغير علم أو من قبل أنفسهم، مضيفا:

______________________________

(1)- ينظر: إحياء علوم الدين 1: 290- 292.

(2)- الجامع لأحكام القرآن 1: 32- 34.

(3)- كما وقع ذلك لباحث معاصر، حيث نقل ما كان كتبه الغزالي منسوبا إلى القرطبي، ثمّ قال معقبا: «و هذا الذي ذكره القرطبي و شرحه شرحا وافيا، هو الصحيح في معنى الحديث، و أكثر العلماء عليه». راجع: التفسير و المفسّرون 1: 66. و الصحيح- كما مرّ- أنّ ما ذكره القرطبي هو كلام الغزالي، و أكرّر أنّ الغزالي ربما يكون قد أخذه كلّه أو بعضه عن غيره و لم يذكر النسبة أيضا.

فهم القرآن، ص: 203

«فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلّف ما لا علم له به، و سلك غير ما امر به» «1».

و مع أنّ مقتضى هذا القول أن يخرج كلّ تفسير يستند إلى العلم بمعناه العريض الذي يشمل علوم اللغة و القرآن و النقل و الاصول الثابتة في الاستنباط و قواعد الفهم العقلي، عن دائرة التفسير بالرأي المنهي عنه، إلّا أنّ ما يلحظ على منحى ابن تيمية هو غير هذا. فهو يميل إلى تبديع من يفسّر بغير الرجوع إلى الصحابة، بل يجزم بذلك و يقول: «من عدل عن مذاهب الصحابة و التابعين و تفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك، بل مبتدعا» «2»، لأنّ الصحابة و التابعين أعرف بتفسير القرآن و معانيه، كما أنّهم أعلم بالحقّ الذي بعث به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

بذلك يضيق عنده العلم إلى ما ينحصر بالمسموع سواء أ كان مأثورا عن

النبي أو الصحابة و تابعيهم، و ما دون ذلك جهل، و من ثمّ فهو تفسير بالرأي.

هنا تستبين المساحة الشاسعة بين هذه الرؤية و ما ذهب إليه ابن عطية و من قبله الغزالي و من تابعهما، و هما يفسحان المجال للتفسير الدرائي و الاجتهاد المبني على قوانين العلوم و ما تقتضيه، إذ كلّ ذلك عندهم خارج عن صفة القول بمجرّد الرأي.

ز- الزركشي (ت: 794 ه):

ما قام من التفسير على غير الاصول العلمية و جاء به صاحبه من دون دليل صحيح، هو التفسير بالرأي. إلى هذا ذهب الزركشي في كتابه المهمّ عن علوم القرآن، حين ميّز بين ضربين من الرأي أحدهما ممنوع و الآخر جائز. فالتفسير بمجرّد الرأي و الاجتهاد من غير أصل هو المنهي عنه.

______________________________

(1)- مقدّمة في اصول التفسير: 100.

(2)- نفس المصدر: 81.

فهم القرآن، ص: 204

من نصوصه: «الرأي: القول من غير معرفة باصول العلم و فروعه». و من ثمّ فإنّ: «المنهي عنه هو الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه» أو هو التكلّم بالقرآن بمجرّد الرأي ممّا لا شاهد له.

«و أمّا الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به جائز» «1».

ح- السيوطي (ت: 911 ه):

أهمّية السيوطي لا تكمن في الاستقلال بما يبديه من نظر، بل بما يحويه كتابه من آراء الآخرين و نظرياتهم.

ففي التفسير بالرأي نقل عن ابن النقيب خمسة أقوال، هي:

1- التفسير من غير حصول العلوم اللازمة في التفسير.

2- تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلّا اللّه.

3- التفسير المقرّر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا و التفسير تابعا، فيردّ إليه بأيّ طريق أمكن، و إن كان ضعيفا.

4- التفسير بأنّ مراد اللّه كذا على القطع من غير دليل.

5- التفسير بالاستحسان و الهوى «2». كما نقل عن ابن أبي الدنيا بأنّ هناك علوما «العلوم الخمسة عشر» «3» ينبغي للمفسّر تحصيلها و التوفّر عليها، و إلّا «فمن فسّر بدونها كان مفسّرا بالرأي المنهي عنه» «4».

______________________________

(1)- البرهان في علوم القرآن 2: 178- 180، و أهمّية هذا الكتاب لا تقتصر على ما يبديه فيه الزركشي من آراء و حسب، بل تمتدّ إلى ما يتسم به من موسوعية على صعيد حفظ و استقصاء الآراء و تتبّع الأقوال فيما

يطرقه من مواضيع.

(2)- الإتقان في علوم القرآن 4: 219 220.

(3)- نفس المصدر: 216.

(4)- راجع في هذه العلوم: الإتقان في علوم القرآن 4: 213- 215.

فهم القرآن، ص: 205

ممّا يلتقي مع الوجوه ذاتها ما نقله عن ابن الانباري من أنّ «الرأي معنيّ به الهوى» ثمّ حصر إصابة الحقّ بأخذ التفسير «عن أئمّة السلف» و «مذهب أهل الأثر و النقل» «1» و إلّا أخطأ!

كما نقل عنه أيضا ما ذهب إليه من أنّ التفسير بالرأي الذي يستحقّ سخط اللّه، هو أن يقول «في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة و التابعين» أو أن يقول «في القرآن قولا يعلم أنّ الحقّ غيره» «2» و هو الأصحّ كما ذكر.

من الآراء التي نقلها في معنى التفسير بالرأي، ما ذكره عن البيهقي من قوله في مراد الحديث إن صحّ، أنّه: «الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، و أمّا الذي يسنده برهان فالقول به جائز» «3»، كما نقل عنه قوله أيضا: «و قد يكون المراد به: من قال فيه برأيه من غير معرفة منه باصول العلم و فروعه» «4».

لا يعقب السيوطي على هذه الآراء بما يفصح عن الرأي المنتخب عنده. لكن يبدو من الفضاء العام للبحث ميله إلى وجهين في معناه:

الأوّل: ما يتمّ من التفسير من دون حصول العلوم الخمسة عشرة.

الثاني: ما لا يتصل من التفسير بالمأثور السمعي و النقلي عن النبي و الصحابة و التابعين و من يليهم.

ط- الشيرازي (ت: 1050 ه):

عرض الشيرازي في كتابه «مفاتيح الغيب» فهم القرآن 205 ط - الشيرازي(ت: 1050 ه): ..... ص : 205

____________________________________________________________

(1)- نفس المصدر: 212.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر: 210.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 206

الذي أراد له أن يكون مقدّمة لتفسيره،

إلى مبحث التفسير بالرأي. و ما يلحظ أنّه تناول الموضوع على الطريقة ذاتها التي فعلها الغزالي، و بألفاظ مقاربة بل بألفاظه نفسها أحيانا.

ففي البدء اختار المنطلق التالي: «و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من فسّر القرآن برأيه، و النهي عنه، فلا يخلو إمّا أن يكون ترك الاستنباط و الاستقلال بالفهم و الاقتصار على ظاهر المنقول، أو أمرا آخر، و الأوّل باطل لوجوه» «1». من الواضح أنّ هذا هو المنطلق ذاته الذي اختاره الغزالي «2»، ثمّ تابعه عليه الآخرون كالقرطبي «3» و صدر الدين و غيرهما، حيث ذكر الشيرازي الوجوه نفسها التي ذكرها الغزالي لإبطال الاحتمال المذكور، لينتهي بعدئذ إلى حمل معنى التفسير بالرأي، على الوجهين نفسيهما اللذين انتهى إليهما الغزالي، و مرّت إليهما الإشارة فيما سبق.

تأسيسا على هذا المنطلق سجّل الشيرازي مشروعية عملية الاجتهاد في التفسير، حيث يجوز «لكلّ أحد أن يستنبط من القرآن بقدر قوّة فهمه و غزارة علمه» «4» بعد أن يتحاشى الوجهين المذكورين في الرأي المنهي.

ثمّ نقطة اخرى أثارها الشيرازي من خلال هذا المبحث تمثّل محور التقاء مع ما ذهب إليه الإمام الخميني فيما بعد؛ من أنّ مقولة التفسير بالرأي تحوّلت إلى عنصر سلبي لتجميد حركة التفسير، و إلى عقبة تحول دون الانفتاح على كتاب اللّه، إذ خلقت هذه المقولة انطباعا خاطئا بتجميد التفسير على النقل من جهة و قصر

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 71.

(2)- إحياء علوم الدين 1: 290 حيث وردت العبارة نصّا.

(3)- الجامع لأحكام القرآن 1: 32.

(4)- مفاتيح الغيب: 71.

فهم القرآن، ص: 207

الإفادة من القرآن على الموروث التفسيري من جهة اخرى «و إنّ ما وراء ذلك تفسير بالرأي، و إنّ من تجاوز عن النقل منهم فورد عليه

مفاد: من فسّر القرآن برأيه فقد تبوّأ مقعده من النار» ليسجّل صراحة بأنّ هذا «من الحجب العظيمة التي أوقعها الشيطان ليصرف قلوب الكثيرين عن فهم معاني التأويل و أنوار التنزيل» «1». و هذا هو عين ما ذهب إليه الإمام الخميني كما سيأتي لاحقا.

ي- ابن عاشور (ت: 1970 م):

ممّن غطّى موضوع البحث، المفسّر التونسي المعاصر محمد الطاهر بن عاشور «2»، إذ رفض في البدء أن تقتصر حركة التفسير على المأثور عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أقوال السلف من الصحابة فمن يليهم، متسائلا:

«و هل اتسعت التفاسير و تفننت مستنبطات معاني القرآن إلّا بما رزقه الذين اوتوا العلم من فهم في كتاب اللّه؟» «3» مشيرا في ذلك إلى ما يكاد يروى بالإجماع عن

______________________________

(1)- نفس المصدر: 63.

(2)- ولد في تونس عام 1296 ه/ 1879 م، تدرّج في تحصيل العلوم الدينية حتّى تبوّأ موقع قاضي قضاة المالكية، ثمّ مفتي المالكية، ثمّ شيخ الإسلام المالكي. له دور بارز في العمل الديني و إشاعة الثقافة الإسلامية في تونس، كما ترك وراءه عددا من المؤلّفات منها تفسيره:

التحرير و التنوير، مقاصد الشريعة، اصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الوقف و آثاره في الإسلام، نقد علمي لكتاب الإسلام و اصول الحكم، الواضح في مشكل المتنبي، أ ليس الصبح بقريب.

على رغم ما يتسم به تفسيره من جهد علمي كبير و نكهة خاصّة، فقد بقي مجهولا لا يعبأ به في مشرق العالم الإسلامي و مغربه إلى أن تنبّهت لأهمّيته العقول فطبع خلال العقد الأخير أكثر من ثلاث مرّات رغم ضخامته، حيث يقع في ثلاثين جزءا، و تمّت العناية به بعد أن غادر صاحبه إلى ربّه سنة 1382 ه/ 1970 م.

(3)- التحرير و التنوير 1: 26.

فهم القرآن، ص:

208

الإمام أمير المؤمنين في قوله عليه السّلام حين سئل: هل عندكم شي ء من الوحي إلّا ما في كتاب اللّه؟ قال: «لا و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة لا أعلمه إلّا فهما يعطيه اللّه رجلا في القرآن» «1».

على ذلك فإنّ حركة التفسير مفتوحة لكلّ من توفّرت فيه شروط الضلاعة في العلوم اللازمة، و إنّ التفسير بمعان تقتضيها العلوم التي يستمدّ علم التفسير ليست من التفسير بالرأي. إنّما مرجع التفسير بالرأي إلى أحد خمسة وجوه، هي:

الأوّل: القول عن مجرّد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلّة العربية و مقاصد الشريعة و تصاريفها.

الثاني: الاقتصار على بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية، كأن يعتمد على ما يبدو من وجه العربية فقط.

الثالث: أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب فيتأوّل القرآن على وفق رأيه، و يصرفه عن المراد، و يرغمه على تحمّله ممّا لا يساعد عليه المعنى المتعارف.

الرابع: أن يفسّر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ، ثمّ يزعم أنّ ذلك هو المراد دون غيره.

الخامس: أن يكون القصد من التحذير في الأحاديث الواردة، أخذ الحيطة في التدبّر و التأويل و نبذ التسرّع إلى ذلك «2».

يكشف التأمّل بهذه الوجوه مدى تأثّر صاحبها بموقف الغزالي من المسألة، بل أشار ابن عاشور صراحة إلى الغزالي و اقتبس عباراته أحيانا، في حين أخذ

______________________________

(1)- يروي هذا الحديث عن البخاري في صحيحه، و قد ذكره جلّ- بل كلّ من ذكرنا- آراءهم في مبحث التفسير بالرأي.

(2)- التحرير و التنوير 1: 28- 30.

فهم القرآن، ص: 209

أمثلته في مواضع اخرى دون تغيير «1».

ك- الذهبي (ت: 1978 م):

ينطلق محمد حسين الذهبي في «التفسير و المفسّرون» من معاني الرأي التي تنصرف إلى الاعتقاد و إلى الاجتهاد و إلى القياس «2»،

و عنده أنّ الرأي هنا هو الاجتهاد، و من ثمّ «فالتفسير بالرأي عبارة عن تفسير القرآن بالاجتهاد» «3» لكن بعد توفّر المفسّر على المؤهّلات اللازمة و العلوم الضرورية.

بعد أن يستعرض جملة الآراء في المسألة، و من ذهب إلى أنّ المراد بالرأي المنهي هو الذي يغلب على صاحبه من غير دليل يقوم عليه، و التأوّل على وفق الهوى «4»، يعود ليذكر بأنّ «الخلاف لفظي لا حقيقي» «5» بين من يجوّز التفسير بالرأي و من لا يجوّزه، و ذلك استنادا إلى تقسيم الرأي إلى قسمين:

أحدهما: الموافق لكلام العرب، و الكتاب و السنّة، و شروط التفسير، فهو رأي ممدوح.

______________________________

(1)- راجع نفس المصدر: 28- 29.

(2)- الرأي هو الاعتقاد (لسان العرب 14: 300). و في مجمع البحرين: الرأي التفكّر في مبادئ الأمور و النظر في عواقبها و علم ما يؤول إليه من الخطأ و الصواب. و قيل: الرأي أعمّ لتناوله مثل الاستحسان. و أصحاب الرأي عند الفقهاء هم أصحاب القياس و التأويل، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ»، أي قال فيه قولا غير مستفاد من كتاب و لا سنّة و لا من دليل يعتمد عليه، بل قال برأيه حسب ما يقتضيه عقله و يذهب إليه وهمه بالظنّ و التخمين. نفس المصدر، مادّة (رأي).

(3)- التفسير و المفسّرون 1: 255.

(4)- نفس المصدر: 258.

(5)- نفس المصدر: 264.

فهم القرآن، ص: 210

الثاني: أمّا من لا يراعي في تفسير القرآن قواعد اللغة، و لا أدلّة الشريعة جاعلا هواه رائده و مذهبه قائده، فهو الرأي المذموم.

خلاصة القول أنّ التفسير بالرأي قسمان: «قسم مذموم غير جائز، و قسم ممدوح جائز» «1»، و القسم الجائز هو الذي يتمّ برعاية

العلوم التي يحتاج إليها المفسّر، و هي خمسة عشر علما كما ذكرها السيوطي «2»، ثمّ الذهبي تبعا له «3»، يستند إليها المفسّر في اجتهاده.

لقد أخذ أحد الدارسين المعاصرين هذه النتيجة و أشاد عليها بناء شاهقا.

فانطلاقا من أنّ الرأي هو الاجتهاد أو هو الاعتقاد الناتج عن الاجتهاد تحوّل التفسير بالرأي إلى منهج قنّن له الباحث المذكور قواعد محدّدة، و نظّر له ضوابط و اصولا و منطلقات حتّى كتب في ذلك مجلّدا ضخما «4»، ممّا جاء فيه: «و هذه الضوابط ...

و قواعد للتفسير بالرأي التي سيتمّ توضيحها بالتفصيل ... هي من الضرورة بمكان، لأنّها الفيصل بين الحقّ و الباطل في تفسير القرآن» «5».

فمن يتحرّى تفسير القرآن عليه أن (يلتزم بتلك الضوابط و القواعد التزاما تامّا، و إلّا كان تفسيره مجانبا للحقيقة و الصواب، و يكون ممّن ينطبق عليه قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» «6»).

______________________________

(1)- نفس المصدر: 265.

(2)- الإتقان في علوم القرآن 2: 180- 182.

(3)- التفسير و المفسّرون 1: 265- 268.

(4)- التفسير بالرأي، قواعده و ضوابطه و أعلامه.

(5)- التفسير بالرأي: 100.

(6)- نفس المصدر: 101.

فهم القرآن، ص: 211

ثمّ يعود ليلتقي مع تنظير الذهبي في نقطة اخرى، و هو يسجّل: «من هذا المنطلق يمكن القول إنّ الالتزام بضوابط التفسير بالرأي و قواعده، هو الحدّ الفاصل بين التفسير بالرأي المحمود و الذي نتحدّث عنه في هذا البحث و بين التفسير بالرأي المذموم» «1».

كخلاصة دالّة على المطلوب، يذكر هدفه في الكتاب، كما يلي: «سأجمل ضوابط التفسير بالرأي، و التي هي بمثابة مبادئ يمكن من خلالها معرفة الحدود المسموح لعمل العقل فيها، و ما هي الشروط التي لا

بدّ أن يتحلّى بها المفسّر لكتاب اللّه، و العلوم التي لا بدّ من الإلمام بها» «2».

ل- الخوئي (ت: 1413 ه):

انطلاقا من أنّ التفسير هو كشف القناع، فإنّ حمل اللفظ على ظاهره لا يعدّ عند السيّد الخوئي تفسيرا، فضلا عن أن يكون تفسيرا بالرأي. ثمّ حتّى لو عدّ تفسيرا فهو يتحرّك في إطار الضوابط الاصولية المتداولة للفهم، و من ثمّ لا تشمله الروايات الناهية التي يذهب الخوئي إلى أنّها متواترة «3». على ضوء ذلك يقرّر الخوئي النتيجة التالية: «و على الجملة، حمل اللفظ على ظاهره بعد الفحص عن القرائن المتّصلة و المنفصلة من الكتاب و السنّة، أو الدليل العقلي لا يعدّ من التفسير بالرأي، بل و لا من التفسير نفسه» «4».

بعد هذه المقدّمة يميل السيّد الخوئي إلى تحديد منطقة الرأي المنهي عنه في

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- نفس المصدر: 101- 102.

(3)- البيان في تفسير القرآن: 287، حيث يذهب إلى أنّ روايات النهي عن التفسير بالرأي «متواترة بين الفريقين».

(4)- نفس المصدر: 287- 288.

فهم القرآن، ص: 212

التفسير في نطاق الأحكام، حيث يكتب: «و يحتمل أنّ معنى التفسير بالرأي الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمّة عليهم السّلام ... فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب، و لم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة عليهم السّلام، كان هذا من التفسير بالرأي» «1».

ما يبدو هنا احتمالا عند السيّد الخوئي سيتحوّل عند الإمام الخميني إلى ظنّ راجح في تحديد المراد من التفسير بالرأي، كما سيأتي إن شاء اللّه.

م- آملي (معاصر):

خصّص جوادي آملي بحثا موسّعا نسبيّا في مقدّمات تفسيره لمقولة التفسير بالرأي «2»، انتهى في تحديد معناه إلى أنّه:

1- ما يكون خلاف معايير الفهم العربي.

2- ما يكون خلاف الاصول العقلية.

3- ما يكون خلاف الخطوط الكلّية العامّة للقرآن «3».

من الواضح أنّ هذه المحدّدات ترجع التفسير بالرأي المنهي إلى الجهل، بعكس ما

لو استندت الممارسة التفسيرية إلى مبادئ العلوم المختصّة و قوانينها، إذ ستكون عندئذ اجتهادا مشروعا.

على هذا الضوء يتبنّى آملي مشروعية التفسير الدرائي أو الاجتهادي الذي يرتكز إلى القرآن و السنّة و العقل في تركيب منظومي يذكره مفصّلا، مع ما يلحق بها من علوم «4»، رافضا في الوقت ذاته تحميل المفسّر مسبقاته الذهنية و إسقاطه لآرائه

______________________________

(1)- نفس المصدر: 287.

(2)- تسنيم 1: 59- 60 و 175- 190.

(3)- نفس المصدر: 177.

(4)- نفس المصدر: 59.

فهم القرآن، ص: 213

و معتقداته و نزعاته الخاصّة على التفسير «1»، لأنّ مثل هذه العملية هي «تطبيق» و ليست «تفسيرا» «2»، و من ثمّ فهي تفسير بالرأي المنهي عنه.

إنّ المجتهد الذي يمارس عملية الاستنباط الفقهي على ضوء المؤهّلات المعروفة لا تعدّ فتواه مصداقا للإفتاء بدون علم، و كذلك الأمر في التفسير الدرائي على حدّ مقاربة آملي للمسألة «3».

كما تعود عملية التفسير بالرأي إلى الجهل أو نقص العقل النظري في مقابل العلم، فهي تعود أيضا إلى الجهالة و الهوى أو ضعف العقل العملي في مقابل التقى «4».

بتنوّع حالات الجهل و تعدّد متعلّقها ينتهي التفسير بالرأي المنهي عند الشيخ جوادي آملي إلى خمسة أقسام، يذكرها بالتفصيل مقرونة مع الأمثلة «5».

ن- الطباطبائي (ت: 1403 ه):

يسجّل الطباطبائي بدءا أنّ المفسّرين تشتّتوا في معنى التفسير بالرأي إلى أقوال ينقلها عمّن سبقه، كما يلي:

1- إنّ المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.

2- إنّ المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلّا اللّه.

3- التفسير المقرّر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا و التفسير تبعا.

4- التفسير بأنّ مراد اللّه كذا على القطع من غير دليل.

5- التفسير بالاستحسان و الهوى.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 60.

(2)- نفس المصدر: 59.

(3)- نفس المصدر: 177.

(4)- نفس المصدر: 176.

(5)-

نفس المصدر: 180- 184.

فهم القرآن، ص: 214

6- إنّ المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة و التابعين.

7- القول في القرآن بما يعلم أنّ الحقّ غيره.

8- إنّ المراد به القول في القرآن بغير علم و تثبّت، سواء علم أنّ الحقّ خلافه أم لا.

9- هو الأخذ بظاهر القرآن بناء على أنّه لا ظهور له، بل يتبع في مورد الآية النصّ الوارد عن المعصوم.

10- إنّه الأخذ بظاهر القرآن بناء على أنّ له ظهورا لا نفهمه، بل المتّبع في تفسير الآية هو النصّ عن المعصوم.

يعقّب الطباطبائي على هذه الأقوال بقوله: «و كيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل» «1». ثمّ يذهب إلى أنّ التفسير بالرأي مقولة في المنهج و في طبيعة الطريق الذي يسلك في تفسير القرآن، فإذا ما سلك الإنسان الطريق الخاطئ وقع في محذور التفسير بالرأي، و ترتب على ذلك منطقيا و طبيعيّا خطأ النتائج، و إن كان يمكن أن يصيب الواقع أحيانا.

يكتب: «فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف» «2». و عندئذ من الطبيعي أن تعود المقولة إلى السؤال التالي: كيف نفسّر القرآن؟ يطرح الطباطبائي على هذا الصعيد حدّين أو ضابطتين إذا ما تخطّاهما الإنسان ينزلق إلى التفسير بالرأي، هما:

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 3: 78.

(2)- نفس المصدر: 76.

فهم القرآن، ص: 215

الاولى: أن يعتمد الإنسان على نفسه من غير الرجوع إلى غيره، في حين إنّ من اللازم وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه. و هذا الغير إمّا أن يكون القرآن نفسه أو السنّة، و ما دمنا مأمورين بعرض السنّة على القرآن فلا يبقى إلّا القرآن للرجوع إليه و الاستمداد منه في تفسيره،

و إلّا صرنا في محذور الرأي المنهي.

و عدم عرض الطباطبائي للعودة إلى العقل لا يعني الخفض من شأنه، بل لأنّ المطلوب في التفسير معرفة مراد صاحب الخطاب، و هذا يتمّ من خلال العودة إلى خطابه متمثّلا بالقرآن الكريم نفسه. أمّا العقل البرهاني القطعي فله منطقته و دوره الذي يمارسه كشفا على نحو الاستقلال، أو إثباتا أو إرشادا و تأييدا.

الثانية: أن يسلك في فهم كلام اللّه على نحو ما يفعله في فهم كلام غيره من المخلوقين، مع أنّ للوحي لغته و منطقه الخاصّ لا سيّما في تحديد المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.

هذان الحدّان توضحهما نصوص الطباطبائي كما يلي: «إنّ المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن و اعتماد المفسّر على نفسه من غير الرجوع إلى غيره» «1» و الغير هو القرآن نفسه كما سبق.

كذلك قوله: «إنّ النهي في الروايات إنّما هو متوجّه إلى الطريق، و هو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين» «2».

أجل، القرآن «كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي»

______________________________

(1)- نفس المصدر: 77.

(2)- نفس المصدر: 78.

فهم القرآن، ص: 216

لا خلاف في ذلك و لا مراء «و إنّما الاختلاف من جهة المراد و المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام» «1».

على هذا ينتهي الطباطبائي إلى أنّ التفسير بالرأي يتجه إلى المنهج، بل هو أساسا مقولة في المنهج و أسلوب التفسير، و لا علاقة له بالنتائج إلّا تاليا و عن هذا الطريق. يكتب: «فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف. و بعبارة اخرى إنّما نهى عليه السّلام عن تفهّم كلامه سبحانه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره و إن

كان هذا النحو من التفهّم ربما صادف الواقع» «2».

في ضوء هذا الفهم، تفضي مجانبة الطريقة السليمة في التفسير إلى السقوط في هوّة الرأي المنهي عنه الذي يؤدّي بدوره إلى ظهور التنافي بين الآيات، و إبطال الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها، و دفع مقاصد بعضها ببعض، و هو ما تعبّر عنه الروايات بضرب بعض القرآن ببعض، كما في الحديث الشريف: «ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض إلّا كفر» «3».

3- موقف الإمام الخميني

اشارة

ينعى الإمام على الثقافة القرآنية أنّها حوّلت التفسير بالرأي إلى حجاب كبير يحول دون الانفتاح على كتاب اللّه، و ذلك من جهتين على الأقلّ، هما:

الاولى: الخلط بين التفسير بالرأي و بين عملية التدبّر بآيات القرآن و التفكّر

______________________________

(1)- نفس المصدر: 78.

(2)- نفس المصدر: 76.

(3)- الكافي 2: 632/ 17، البرهان في تفسير القرآن 1: 18/ 15.

فهم القرآن، ص: 217

بها، للتزوّد من معاني كتاب اللّه و عطايا القرآن و مواهبه. فالأوّل هو الممنوع، في حين أنّ الثانية هي حالة مشروعة تضع الإنسان في أفق رحب من المعاني المتكثّرة التي لا نهاية لها.

الثانية: عدم تحرير النزاع في تحديد المراد من التفسير بالرأي على نحو دقيق، و ما يؤدّي إليه ذلك من خلط و التباس يفضي بدوره إلى تبعات سلبية على علاقة الإنسان مع كتاب اللّه.

من التحديدات الرئيسية التي ينطلق منها الإمام هي الاستناد إلى معنى محدّد للتفسير لكي يتضح ما سواه. و تفسير الكتاب عنده، هو: «شرح مقاصد ذلك الكتاب» «1»، و من ثمّ فإنّ «المفسّر يكون مفسّرا حين يفهمنا المقصد من النزول» «2».

على ضوء هذا التحديد يستنتج سماحته: «إنّ الاستفادات الأخلاقية و الإيمانية و العرفانية لا شأن لها بالتفسير أبدا، فكيف بالتفسير بالرأي!» «3».

يضرب الإمام لهذه الحالة مثالا تطبيقيا،

يقول فيه: «مثلا، إذا ما استفاد أحد من طبيعة مباحثات حضرة موسى مع الخضر، و كيفية معاشرتهما، و شدّ حضرة موسى رحاله إليه مع مقام النبوّة العظيم الذي يحظى به، لكي يحصل على ذلك العلم الذي لم يكن عنده، ثمّ إذا ما تأمّل بكيفية عرض موسى لحاجته على حضرة الخضر، و ذلك بالطريقة المذكورة في الكريمة الشريفة: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً «4»، و كيفية جواب الخضر، و ضروب الاعتذار التي ساقها حضرة

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192.

(2)- نفس المصدر: 193.

(3)- نفس المصدر: 199.

(4)- الكهف (18): 66.

فهم القرآن، ص: 218

موسى؛ إذا ما استفاد الإنسان من التفكير بكلّ ذلك جلال مقام العلم، و آداب سلوك المتعلّم مع المعلّم، ممّا قد يصل في الآيات المذكورة إلى عشرين أدبا؛ فأيّ صلة لذلك كلّه بالتفسير، فضلا عن أن يكون تفسيرا بالرأي!» «1».

ينعطف الإمام إلى مثال تطبيقي آخر، يقول فيه: «و في المعارف مثلا، إذا ما استفاد أحد من قول اللّه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» الذي حصر جميع المحامد للّه و خصّ الأثنية [من الثناء] بتمامها بالحقّ تعالى؛ التوحيد الأفعالي، و قال بأنّه يستفاد من الآية الشريفة أنّ كلّ ما موجود في العالم من كمال و جمال، و كلّ ما فيه من عزّة و جلال، ممّا تنسبه العين الحولاء و القلب المحجوب إلى الموجودات، هي من الحقّ تعالى، و ليس لموجود شي ء من قبل نفسه، و لهذا فإنّ المحمدة و الثناء خاصّان بالحقّ لا يشاركه فيهما أحد؛ إذا استفاد الإنسان من الآية هذه المعاني فما علاقة ذلك بالتفسير، فضلا عن أن يكون اسمه تفسيرا بالرأي أو لا يكون!» «3».

يعقّب الإمام على هذين المثالين، بقوله: «إنّ كثيرا

من استفادات القرآن هي من هذا القبيل» «4»، ليضيف بعدئذ: «إلى غير ذلك من الامور التي تستفاد من لوازم الكلام، و لا تعدّ تفسيرا كما لا شأن لها بالتفسير بأيّ وجه» «5».

إذا كانت الاستفادات التي يخرج بها الإنسان و هو يعيش أجواء القرآن تقع خارج نطاق التفسير بمعناه العلمي و الرسمي، و كذلك حال ما يعدّ من لوازم الكلام،

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 199.

(2)- الفاتحة (1): 2.

(3)- آداب الصلاة: 199.

(4)- نفس المصدر.

(5)- نفس المصدر: 200.

فهم القرآن، ص: 219

فإنّ للإمام تحديدا آخر يضيّق من منطقة الرأي الممنوع، يتمثّل بإخراج ما يتطابق مع العلوم العقلية و يتوافق و الموازين البرهانية عن نطاق هذه الدائرة. و هذا المدار يستوعب آيات المعارف دون آيات الأحكام التي لا دور للعقل فيها، بل تؤخذ على سبيل التعبّد المحض. يتحدّث الإمام عن التحديد الجديد، بقوله: «بالإضافة إلى ذلك هناك كلام في التفسير بالرأي، إذ ربّما لا يكون هذا التفسير له صلة بآيات المعارف و العلوم العقلية التي توافق الموازين البرهانية و الآيات الأخلاقية ممّا للعقل فيه دخل. فمثل هذه التفاسير تطابق البرهان العقلي المتين أو الاعتبارات العقلية الواضحة، فإذا ما كان ظاهر الكلام على خلافها من اللازم صرف الكلام عن ذلك الظاهر، مثلا في الكريمة الشريفة: وَ جاءَ رَبُّكَ «1» و الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «2» اللتين يكون فيهما الفهم العرفي مخالفا للبرهان، لا يعدّ ردّ هذا الظاهر و التفسير بما يتطابق البرهان تفسيرا بالرأي، و من ثمّ هو ليس ممنوعا على الإطلاق» «3».

يواصل الإمام تضييقه لمساحة الرأي الممنوع و هو يضع محدّدا آخر، يتمثّل بإخراج ما قامت عليه شواهد سمعية قرآنية و حديثية عن هذه المساحة. و بتعبيره بعد الانتهاء من تفسيره

سورة القدر: «إنّ جميع هذه المعارف و اللطائف مستفادة من القرآن الشريف و الأحاديث الشريفة، و لها شواهد سمعية» «4» و من ثمّ لا يمكن نسبتها إلى الرأي.

______________________________

(1)- الفجر (89): 22.

(2)- طه (20): 5.

(3)- آداب الصلاة: 200.

(4)- نفس المصدر: 347.

فهم القرآن، ص: 220

لقد ساق الإمام وجوها متعدّدة لمعنى ليلة القدر و حقيقتها، و لتنزّل الملائكة و الروح «1»، ثمّ عاد بنفسه ليثير النقطة التالية: «ربما ظنّ البعض أنّ قسما من مطالب هذه الرسالة تفسير بالرأي» «2»، فردّ على ذلك بإجابات متعدّدة، منها أنّه استمدّ المعاني و الوجوه المذكورة من القرآن و الحديث، حيث ثمّ شواهد مكثّفة تدلّ عليها، ساق بعضها في ثنايا البحث و أغمض عن أغلبها رعاية للاختصار كما ذكر «3». و ما هذا حاله لا يدخل في نطاق التفسير بالرأي كما قال.

من التحديدات الاخرى التي يرتكز إليها الإمام في تضييق منطقة التفسير بالرأي، و فتح المجال للتفاعل مع معاني القرآن و حقائقه بعيدا عن هذا المحذور، هو بيان مصاديق المفاهيم، و التوغّل في مراتب الحقائق. و كلا هذين الأمرين لا يدخلان في دائرة التفسير بالرأي، بل لا علاقة لهما بالتفسير أساسا، كما يذهب إلى ذلك سماحته، و هو يكتب: «إنّ بيان المصداق و مراتب الحقائق لا صلة له بالتفسير، فضلا عن أن يكون تفسيرا بالرأي» «4».

من الخطوات الإجرائية التي استند إليها الإمام في المجال التفسيري، لكي ينأى عن محذور التورّط بالرأي المنهي عنه، هو ابتعاده عن لغة الجزم و البتّ القطعي. فلا يكاد يؤثر عنه فيما تركه من تراث تفسيري أنّه استخدم لغة جزمية بحيث يقطع أنّ المراد من الآية هو ما وصل إليه دون غيره، بل تراه يقدّم للنتائج التي يبلغها

بكلمة «يحتمل» أو «من المحتمل»، فيكون ما ذكره أحد المحتملات، و ذلك

______________________________

(1)- راجع نفس المصدر: 328- 347.

(2)- نفس المصدر: 347.

(3)- نفس المصدر.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 221

رعاية لغاية الاحتياط في الدين كما يقول «و إنّما هو بيان أحد المحتملات و من الواضح أنّ أحدا لم يغلق باب الاحتمال، و من ثمّ- فإنّ ما يبلغه- لن يكون متصلا بالتفسير بالرأي» «1».

كما يقول في الدرس الأوّل من دروس تفسير سورة الحمد، ما نصّه:

«الكلمات التي سأعرض لها بشأن بعض آيات القرآن الكريم، لا أقول فيها إنّ هذا هو المقصود، سأتحدّث على نحو الاحتمال لا على سبيل الجزم، و لن أقول إنّ هذا هو المقصود و غيره لا» «2».

المعايير الخمسة

بشكل عام يمكن أن نستلهم من نصوص الإمام عددا من الضوابط و المحدّدات التي تسهم في تمييز ما يدخل في التفسير بالرأي الممنوع عمّا يخرج عنه، من خلال المعايير التالية:

1- ما يستفيده الإنسان من معطيات أخلاقية و إيمانية و عرفانية من آيات القرآن ليست هي من سنخ التفسير، بل هي من لوازم الكلام، و من ثمّ لا علاقة لها بالتفسير بالرأي.

2- إذا كانت الامور و المعاني و الأفكار، و بتعبير الإمام المعارف و اللطائف مستمدّة من القرآن و الحديث و لها شواهد سمعية، فلا معنى لنسبتها إلى التفسير بالرأي.

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- تفسير سورة حمد: 96.

فهم القرآن، ص: 222

3- ما قام عليه الدليل في الامور المستوحاة من القرآن، من البرهان العقلي أو العرفاني، و ما اتسق معهما لا يدخل في عداد التفسير بالرأي، إذ لا معنى لنسبة شي ء إلى الرأي و قد قام عليه البرهان العقلي القطعي أو انسجم مع الاعتبارات العقلية و الموازين البرهانية أو العرفانية القطعية.

4- ما

يسوقه الباحث على سبيل بيان الآيات و توضيحها يدخل في الغالب ببيان مصاديق المفاهيم، و بيان المصداق و مراتب الحقائق لا شأن له بالتفسير فضلا عن أن يكون تفسيرا بالرأي.

5- إذا لم يجزم الباحث بأنّ المراد هو ما يذكره دون سواه، بل يسوق ما يصل إليه بوصفه أحد المحتملات و وجها من الوجوه، فلا معنى لنسبته إلى الرأي الممنوع.

بتحكيم هذه المعايير الخمسة و تطبيقها في المجال القرآني تضيق دائرة التفسير بالرأي إلى أدنى حدّ ممكن، و تتحرّر ليس حركة التفسير وحدها بل علاقة الإنسان المسلم مع كتاب اللّه من هذه العقدة و ما كانت تسبّبه- و لا تزال- من مخاوف تردع الغالبية العظمى عن التعامل المباشر مع القرآن، خشية الوقوع في الرأي الممنوع. فأمام الإنسان فسحة واسعة بمقدوره أن يطلّ من خلالها على معاني كتاب اللّه و يرتاد فضاءاته، و يغور في أعماقه، و يغترف من عطائه و مواهبه على قدر سعته و استعداده من دون خوف، شرط أن يتحاشى تلك المساحة الضيّقة.

وجهان
اشارة

تحرّي نصوص الإمام و دراستها جيّدا يكشف عن أنّه يعيد التفسير بالرأي المنهي عنه، إلى وجهين:

فهم القرآن، ص: 223

الأوّل: آيات الأحكام.

الثاني: تحميل الآراء و الأهواء على القرآن.

الوجه الأوّل: آيات الأحكام

تدخل الأحكام الشرعية عامّة في النطاق التعبّدي بحيث لا سبيل للعقل إلى تفاصيل الملاكات و علل التشريع إلّا ما ذكرته الشريعة ذاتها من علل أو حكم و احتجاجات كما في قوله سبحانه: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ «1»، و قوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2»، و قوله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «3»، و قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «4».

على هذا تحسبت الشريعة للحالات التي قد يفكّر فيها الإنسان بإقحام عقله في منطقة لا علاقة لها به، و يلجأ إلى استخدام الاستحسان و القياس و الرأي و ما شابه في دين اللّه و تشريعه، بحيث شدّدت النكير على ذلك و ردعت منه بعشرات الأحاديث.

______________________________

(1)- المائدة (5): 90.

(2)- المائدة (5): 91.

(3)- العنكبوت (29): 45.

(4)- البقرة (2): 183.

فهم القرآن، ص: 224

ما يراه الإمام الخميني أنّ أحاديث النهي عن التفسير بالرأي تصبّ في هذا الإطار، و تختصّ بآيات الأحكام دون غيرها من آيات المعارف و المواعظ و الأخلاق و القصص النبوي. يكتب: «فإذا من المحتمل، بل من المظنون أنّ التفسير بالرأي راجع إلى آيات الأحكام التي تقصر عنها الآراء و تعدّ بعيدة عن متناول العقول، ممّا لا بدّ من أخذه من خزّان الوحي و

مهابط ملائكة اللّه بصرف التعبّد و على نحو الانقياد، على ما يلحظ ذلك من أنّ أكثر الروايات الشريفة في هذا الباب قد وردت في مقابل فقهاء العامّة الذين كانوا يريدون فهم دين اللّه و إدراكه بعقولهم و مقايساتهم. و ما جاء في بعض الروايات الشريفة من أنّ: «ليس شي ء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» «1»، و كذلك الرواية الشريفة: «دين اللّه لا يصاب بالعقول» «2» يشهد على أنّ المقصود من «دين اللّه» أحكام الدين التعبّدية، و إلّا فباب إثبات الصانع، و التوحيد و التقديس، و إثبات المعاد و النبوّة، بل مطلق المعارف هو حقّ طلق للعقول و من مختصّاتها» «3».

يلتقي الإمام في هذا المعنى الذي يسوقه للتفسير بالرأي مع عدد من المفسّرين القدماء و المعاصرين. فمن القدماء ثمّ قرابة بين هذا الموقف و ما التزم به الطبري (ت: 310 ه) و الطوسي (ت: 460 ه) و لو بوجه من الوجوه. فالطبري يذهب إلى حرمة القول بالقرآن فيما لا يدرك علمه إلّا بنصّ بيان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بنصبه الدلالة عليه «4». و هذا الوجه يشمل آيات الأحكام لا محالة.

______________________________

(1)- تفسير العياشي 1: 11، بحار الأنوار 89: 95/ 48.

(2)- بحار الأنوار 2: 303/ 41.

(3)- آداب الصلاة: 200، الآداب المعنوية للصلاة: 344.

(4)- تفسير الطبري 1: 27.

فهم القرآن، ص: 225

أمّا الطوسي فيقسّم التفسير إلى أربعة أقسام، يمثّل الثالث ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصّلا «1». و لا ريب أنّ أبرز مصاديقه هي آيات الأحكام.

من المعاصرين تتطابق نظرية الإمام مع ما كان ذهب إليه السيّد الخوئي من حمل التفسير بالرأي على الاستقلال بالفتوى، حيث مرّ معنا قوله:

«و يحتمل أنّ معنى التفسير بالرأي الاستقلال بالفتوى من غير مراجعة الأئمّة عليهم السّلام، مع أنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسّك و لزوم الانتهاء إليهم. فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب، و لم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة عليهم السّلام كان هذا من التفسير بالرأي» «2».

الوجه الثاني: تحميل الآراء و الأهواء

الوجه الأوّل المارّ هو الذي ساقه الإمام في إطار بحث علمي منظّم كان قد كتبه قبل أكثر من ستّة عقود من الآن «3». بيد أنّ ما يلحظ أنّ سماحته أرفق الوجه المذكور بوجه آخر عرض له في العقد الأخير من حياته و أسهب في الحديث عنه، بل أولاه عناية تفوق الوجه الأوّل بكثير، ربما بسبب كثرة وقوعه و الابتلاء به خاصّة بعد انفتاح الأجواء على القرآن و الإسلام إبان انطلاق نهضته رضوان اللّه عليه.

يتلخّص الوجه الثاني بتحميل آيات القرآن الآراء و الأهواء و النزعات الذاتية

______________________________

(1)- التبيان في تفسير القرآن 1: 5- 6.

(2)- البيان في تفسير القرآن: 287.

(3)- تناول الإمام مبحث التفسير بالرأي في إطار كتابه «آداب الصلاة» الذي كان قد انتهى من تأليفه في شهر ربيع الثاني من عام 1361 ه.

فهم القرآن، ص: 226

و الشخصية، و دمجها مع النصّ القرآني للخروج بحصيلة تخدم تلك الآراء و النزعات. و هذه الممارسة قد تتمّ عن عمد و بتخطيط مسبق كما تفعل ذلك الاتجاهات الفكرية و الحركية الهجينة و المنحرفة، و قد تأتي نتيجة طبيعية لعدم تحلّي الإنسان بالمؤهّلات المطلوبة التي تسمح له بإبداء الرأي في القرآن عن اجتهاد و دليل.

يتحدّث الإمام بعيد انتصار الثورة الإسلامية عن الفريق الأوّل، بقوله: «لقد ظهر في المدّة الأخيرة أشخاص ليسوا من أهل التفسير أساسا، بل غرضهم نسبة مقاصدهم و

وصلها بالقرآن و السنّة، حتّى أنّ هناك فئة من اليساريين و الشيوعيين راحت تتمسّك بالقرآن بغية تنفيذ مآربها، و إلّا لا شأن لهؤلاء بالتفسير أساسا، و لا شغل لهم بالقرآن نفسه، إنّما يبتغون تغذية شبابنا عن طريق ذلك، بعنوان أنّ هذا هو الإسلام!» «1».

عن الاتجاه ذاته الذي انتعش في أجواء الحرية التي عمّت إيران بعد شباط 1979 م، تحدّث الإمام مرّة اخرى، بقوله: «لقد ابتلينا مؤخّرا بفريق هو عكس الفريق السابق؛ فهؤلاء يرجعون جميع الجوانب المعنوية إلى المادّيات. هم يزعمون أنّهم مسلمون، لكن لا توحيدهم توحيد إسلامي، و لا بعثتهم بعثة إسلامية، و لا نبوّتهم نبوّة إسلامية، و لا إمامتهم و لا معادهم، كلّ هذه خلاف الإسلام. لم يبرز هؤلاء حديثا قبل عشر أو خمس عشرة سنة مثلا، ففي وقت يعود ربما إلى أوائل الحوزة العلمية في قم، جاءني بعض هؤلاء الناس من هذا السنخ، و قد كانوا معمّمين، و قالوا لي: ما فهمناه أنّ المعاد يكون في هذا العالم، و كذلك الجزاء!

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 95.

فهم القرآن، ص: 227

هؤلاء كانوا قديما و قد ازدادوا الآن، عند ما كنت في النجف جاء أحدهم عن جماعة معيّنة و مكث أكثر من عشرين يوما، بل ذكر بعضهم أنّه مكث أربعا و عشرين يوما، حيث كان يزورني كلّ يوم. لقد أعطيته ساعة من الوقت أو أكثر لكي يتحدّث، و كان كلّ كلامه من القرآن و نهج البلاغة، بيد أنّني شككت به» «1» و ذلك تبعا لطريقته في تفسير كلّ المفاهيم المعنوية و الغيبية و الإيمانية التي يحويها القرآن الكريم على اسس مادّية، ناتجة عن إسقاط رؤى جماعته و أفكارها و منهجها على كتاب اللّه.

أمّا الفريق الثاني الذي

يروح ضحية جهله، أو يقع تحت تأثير المناهج و الأفكار و هو يفسّر القرآن أو يستنتج منه كما يشاء ليكون مصداقا للتفسير بالرأي، فقد وجّه إليه الإمام تحذيراته المتكرّرة، منبّها إيّاه المصير الذي ينتظر هذا الصنف من الناس. يقول سماحته: «يتضح من أقوال بعض الأجنحة و كتاباتها أنّ بعض الأفراد يبادر إلى تفسير آيات القرآن الكريم و نصوص الأحاديث بحسب رأيه و يحمل رأيه عليها، من دون أن يتوفّر على صلاحية تشخيص الأحكام و المعارف الإسلامية، و إنّما يفعل ذلك تحت تأثير المدارس المنحرفة. إنّ هذا البعض لا يلتفت إلى أنّ مدارك الفقه الإسلامي تبتني على أساس يحتاج إلى الدرس و البحث و يتطلّب التحقيق الواسع بحيث لا يمكن بلوغ المعارف الإسلامية العميقة بتلك الاستدلالات السطحية المضحكة، من دون أن تؤخذ بنظر الاعتبار الأدلّة المعارضة و يتمّ تناول الأمر في إطار دراسة مستوعبة و شاملة» «2».

______________________________

(1)- صحيفه امام 10: 459- 460.

(2)- نفس المصدر 9: 309.

فهم القرآن، ص: 228

كما يسجّل في موضع آخر: «إنّما انتهت الحالة في صدر الإسلام إلى تكرار المعنى الذي يفيد: إنّ من فسّر [القرآن] برأيه فليتبوّأ مقعده من النار، تحسّبا لمثل هذه المسائل، حيث يقوم كلّ واحد باصطناع رأي من عنده، و يريد أن يتخذ ما هو خلاف القرآن. إنّ فعل هؤلاء أصعب نسبيا لأنّهم يتشبّثون بالقرآن» «1».

لهذا كلّه يحذّر الإمام غير المؤهّلين من الجنوح إلى هذا الوادي الخطير، و يقول: «لا ينبغي لمن لا يتوفّر على النضج العلمي الكافي، و لا للشباب الذين لا أهلية لهم في المسائل الإسلامية، و من لا اطلاع له على الإسلام، أن يدخل دائرة تفسير القرآن، و إذا ما ولج بعضهم التفسير لمآرب معيّنة فلا

ينبغي لشبابنا أن يعبأ بتلك التفاسير.

فمن الممنوعات في الإسلام التفسير بالرأي؛ و ذلك بالمعنى الذي يعمد كلّ إنسان إلى فرض آرائه على آيات من القرآن، ثمّ يفسّر القرآن و يؤوله بآرائه» «2».

طبيعي لا يعرف هذا النهي فرقا بين الجامعي و الحوزوي و لا بين العالم و المفكّر، فحتى الحوزوي الذي لا يتوفّر على المؤهّلات المطلوبة للتفسير لا ينبغي له أن يرد هذا المجال، كما لا يجوز له أن يفرض آراءه الشخصية و يحملها على كتاب اللّه. في هذا المعنى، يسجّل الإمام إبان انطلاق أحداث الثورة محذّرا من حالات التطرّف الفكري التي تصاحب الهيجان الثوري: «ينبغي لكم أيّها الطلبة الجامعيّون، و سائر طبقات الروحانيين [طلّاب الحوزات العلمية] و غيرهم أن

______________________________

(1)- نفس المصدر 8: 143.

(2)- تفسير سورة حمد: 95- 96.

فهم القرآن، ص: 229

تحترزوا على نحو مطلق من إدخال أذواقكم الشخصية و آرائكم الخاصّة في تفسير الآيات الكريمة للقرآن المجيد، و في تأويل أحكام الإسلام و مصادره، كما عليكم أن تلتزموا أحكام الإسلام بجميع أبعادها، و كونوا على ثقة أنّ ما فيه صلاح المجتمع من بسط العدالة و رفع الأيادي الظالمة و تأمين الاستقلال و الحرية و المسائل الاقتصادية و تعديل الثروة موجود في الإسلام كاملا على نحو عقلاني و قابل للعمل و التطبيق، من دون حاجة إلى تأويلات تقع خارج المنطق» «1».

كما لا فرق أيضا في طبيعة الرأي الذي يحمل على آيات القرآن و يفرض عليها، حتّى لو تمثّل ذلك في المعاني الروحية، إذ يعدّ الإمام مثل هذا التحميل من التفسير بالرأي الممنوع أيضا، حيث يقول: «من الممنوعات في الإسلام التفسير بالرأي، و ذلك بالمعنى الذي يعمد كلّ إنسان إلى فرض آرائه على آيات من القرآن

... كأن يبادر أحد أهل المعاني الروحية مثلا إلى تأويل كلّ ما يقدر عليه من القرآن و يرجعه إلى ما يتوافق مع رأيه» «2». يفيد هذا النصّ أنّ تحميل الآراء ممنوع بصرف النظر عن طبيعتها و لون النزعات التي تتلبّس بها سواء أ كانت معنوية أم مادّية. بتعبير الإمام: «ليس الميدان رحيبا مفتوحا بحيث يجوز للإنسان أن ينسب إلى القرآن كلّ نظر يخطر له، ليقول: هذا هو القرآن!» «3».

______________________________

(1)- صحيفه امام 3: 323.

(2)- تفسير سورة حمد: 96.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 230

4- التبعات السلبية

اشارة

كان الغزالي (ت: 505 ه) في أوائل من حذّر من تحوّل مقولة التفسير بالرأي إلى ذريعة لتعطيل الانفتاح على القرآن، و إلى عقبة مانعة من تدبّر معانيه و الوقوف بها على ما يفيده الظاهر و حسب أو على ما يقصر على السمع و النقل دون التملي و الاجتهاد الذي يتيح مجالا رحبا.

ثمّ تابعه على الخط ذاته الشيرازي (ت: 1050 ه) الذي أشار بوضوح إلى أنّ هذه المقولة تحوّلت إلى عنصر سلبي أفضى إلى تجميد حركة التفسير و الإفادة من كتاب اللّه، إلّا في حدود ما يأتي من النقل و السمع من جهة و عن طريق الموروث التفسيري من جهة اخرى «و إنّ ما وراء ذلك تفسير بالرأي» «1»، ليسجّل بعد ذلك صراحة بأنّ هذا «من الحجب العظيمة التي أوقعها الشيطان، ليصرف قلوب الكثيرين عن فهم معاني التأويل و أنوار التنزيل» «2».

امّا الإمام الخميني فيرى أنّ الانسياق وراء هذه المقولة تحوّل عمليا إلى هجر كامل القرآن و حصر الإفادة منه على الموروث التفسيري وحده، و هذا من الحجب العظيمة و الموانع الكبيرة التي تحول بين المسلمين و كتابهم، و هو إلى ذلك من

أخطر التبعات السلبية التي ترتبت على المسألة.

فمن جهة تحوّل الخوف من الرأي الممنوع إلى عقدة تحجب الناس عن القرآن. و من جهة اخرى تحوّل إغراق القرآن و تحميله بالآراء إلى مانع يحجب

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 63.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 231

القرآن عن الناس. و كلا الحالين مرفوضان.

الحالة الاولى ناتجة عن الخلط بين التفسير الممنوع و بين غيره، خاصّة عملية التفكّر و التدبّر التي ندب إليها القرآن نفسه.

عن هذا الخلط و ما أفضى إليه يكتب الإمام: «لقد خلطوا بين التفكّر و التدبّر في الآيات الشريفة و التفسير بالرأي الممنوع. و عن طريق هذا الرأي الفاسد و العقيدة الباطلة جرّدوا القرآن عن جميع ضروب الاستفادة، و اتخذوه مهجورا بنحو كلّي» «1».

أجل، إنّ التحرّز عن تحميل الآراء لا ينبغي أن يتحوّل إلى ذريعة لتضييق القرآن نفسه و حصر معانيه، فما دلّ عليه الدليل هو: «أنّنا لا نستطيع أن نؤول القرآن برأينا» و إلّا «فنحن نتوفّر على كتاب يتضمّن المصالح الشخصية، و المصالح الاجتماعية و المصالح السياسية، و إدارة البلد و كلّ شي ء» لكن بشرط أن يتمّ التعاطي مع ذلك كلّه عن طريق «التفاسير الواردة عن أهل الاختصاص» «2» إذا كان المورد ممّا يختصّ بالتفسير، و لا حقّ لنا بفرض الآراء الشخصية. أي المطلوب هو تمييز الدوائر بين ما يقع في اختصاص التفسير، و بين ما يعدّ استفادات من القرآن و عيشا في ظلاله، و بين ما يكون تفسيرا بالرأي، و الأخير هو الممنوع دون غيره، و مساحته ضيّقة كما رأينا.

كما يفضي التردّد عن ولوج معاني القرآن حذرا من الرأي الممنوع إلى هجر القرآن، كذلك يؤدّي إلى النتيجة ذاتها الوجه الآخر في الحالة، متمثّلا بتحميل القرآن بالآراء المنحرفة الشاذّة

و بالأهواء. فحصار الآراء و الأهواء ليس أقلّ ضررا

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 199.

(2)- صحيفه امام 18: 423، حيث تعود الاقتباسات القصيرة الثلاث إلى هذا النصّ.

فهم القرآن، ص: 232

على القرآن من التردّد عن النفوذ إلى دائرته. يقول الإمام: «إنّ القرآن، هذا الكتاب الذي يعدّ كتاب معرفة اللّه و طريق السلوك إليه، جرّ بيد الأصدقاء الجهلة نحو الانحراف و الانزواء، و اتخذت الآراء الانحرافية و تفسيرات الرأي سبيلها إليه، حتّى راح كلّ إنسان يتصرّف به على وحي نفسانيّاته، مع كلّ هذا التأكيد عن أئمّة الإسلام عليهم السّلام في النهي عنه» «1».

إنّ القرآن يعيش حجابا مزدوجا، أفضى به إلى نتيجة مروّعة، يقول الإمام في وصفها: «إنّ كتاب الحياة و الكمال و الجمال- هذا- قد اختفى في الحجب التي اصطنعناها، و انتهت خزينة أسرار الوجود- هذه- إلى أن تدفن في أعماق تراب انحرافاتنا الفكرية، كما تنزّلت لغته؛ لغة الانس و الهداية و الحياة، و التي تصنع فلسفة الحياة؛ تنزّلت إلى لغة الوحشة و الموت و القبر» «2».

المطلوب أن يسفر القرآن عن نفسه كما هو، و أن تبرز حقائق هذا الكتاب كما هي، من دون أن نحمّله حجب الآراء و الأهواء: «ينبغي أن نعرض الإسلام كما هو، و أن نعرض القرآن كما هو. إذا ما عرضنا القرآن و الإسلام على العالم كما هما فسيقبل عليهما الجميع» «3».

المناطق الثلاث

على ضوء ما جاء في هذا البحث و بعض ما جاء في الفصل السابق، ننتهي في العلاقة مع القرآن و التعاطي معه إلى ثلاث مناطق، هي:

______________________________

(1)- قرآن كتاب هدايت در ديدگاه امام خميني: 174.

(2)- صحيفه امام 21: 78.

(3)- نفس المصدر 6: 509.

فهم القرآن، ص: 233

الاولى: منطقة التفسير، و فيها يتحرّى المفسّر الكشف

عن مقاصد القرآن و بيانها و شرحها. هذه هي مهمّة التفسير التي يضطلع بها المفسّرون و لا يجوز لغير ذي الاختصاص أن يلج هذا المضمار.

الثانية: منطقة التفكير و التدبّر و استفادة المعاني و العظات الأخلاقية و التربوية و الإيمانية، و كذلك المفاهيم و الدروس السياسية و الاجتماعية، و وعي السنن و ما شابه. و هذه منطقة واسعة تشمل لوازم الكلام، و مصاديق المفاهيم، و مراتب الحقائق و المعاني، و ما قام عليه البرهان العقلي أو العرفاني.

ما يذهب إليه الإمام هو: «أنّ الكثير من استفادات القرآن هي من هذا القبيل» «1» و لا شأن لها بالتفسير. بيد أنّ ما حصل هو الخلط بين المنطقتين و إقحام كلّ استفادة قرآنية بالتفسير و وصمها أحيانا بالتفسير بالرأي، مع أنّ التفسير هو تحرّي المقاصد، و من ثمّ فإنّ الحديث عن وجود مقاصد محدّدة للقرآن هو لتحديد وظيفة المفسّر لا حصر طريق الاستفادة من القرآن على التفسير وحده. معنى ذلك أنّ طريق المسلمين مفتوح كي يستفيدوا من القرآن المعاني و الأفكار و النظريات التربوية و السياسية و التاريخية و السنن التاريخية و الوجودية و لا علاقة لذلك بالتفسير، و لا اختصاص له بالمفسّرين، بل بمقدور كلّ إنسان أن يستفيد من كتاب اللّه على قدره و على وفق سعته الفكرية و الوجودية، مع رعاية الضوابط التي تنسجم مع مرتبة الاستفادة و لونها، بل ربما جاءت بعض الاستفادات و ما يستوحيه الإنسان من القرآن، أعمق من بحوث المفسّرين و أقرب إلى قلب الإنسان و أوصل إلى روحه، لا سيّما مع ما عليه أغلب التفاسير.

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 199.

فهم القرآن، ص: 234

فإذا، هذه المنطقة أرحب من التفسير و هي تسع الجميع و تستوعب

كلّ الأذواق و المواقع و الاتجاهات، إذ كلّ يجد في كتاب اللّه بغيته و يغترف منه ما شاء اللّه له أن يغترف، و يبقى عطاء اللّه ممدودا دون انقطاع، إذ لا نفاد لكلمات اللّه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً «1» و لا مدى للشجرة الطيبة: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ* تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها «2».

إنّ تجميد هذه المنطقة و تعطيل عقول المسلمين و نفوسهم من الانفتاح على القرآن من خلالها، يساوق عند الإمام مهجورية القرآن نفسه، فما ذا يبقى من عطاء القرآن لو اقتصر الأمر على بحوث المفسّرين وحدها، و ما ذا يبقى للآخرين من نصيب فيه لو انحصرت مراجعته بالمفسّرين وحدهم دون أن يكون للمسلمين حقّ العودة إليه! يقول سماحته: «إنّ في القرآن كلّ شي ء، لكن مع الأسف أنّنا لم نستفد منه، و قد هجر المسلمون القرآن؛ بمعنى أنّهم لم يستفيدوا منه كما ينبغي» «3».

أجل، من يحدّث نفسه بالتصدّي إلى التفسير بمعناه الوظيفي، و أن يعبّر عن مراد اللّه سبحانه على نحو قطعي و بصيغة علمية، ينبغي له أن يسلك المنهج العلمي المعروف في التفسير. كما أنّ للاستفادة نفسها ضوابط تنسجم مع مرتبتها و طبيعة المعرفة المستوحاة كما مرّت الإشارة لذلك تفصيلا.

الثالثة: منطقة التفسير بالرأي الممنوع، و هي منطقة ضيّقة لا تتعدّى عند

______________________________

(1)- الكهف (18): 109.

(2)- إبراهيم (14): 24- 25.

(3)- صحيفه امام 12: 320.

فهم القرآن، ص: 235

الإمام آيات الأحكام و تحميل الآراء و الأهواء بالتفصيل الذي سبق.

يتبيّن ممّا سلف أنّ منطقة التفسير بالرأي المحرّم هي

أضيق المناطق الثلاث، ثمّ تأتي منطقة التفسير التي تختصّ بالمفسّرين، ثمّ هناك منطقة واسعة بينهما مفتوحة للتعامل مع كتاب اللّه و النهل من عطاياه و التملي بأنواره، هي بمتناول الجميع بحسب موضوعها و بشرطها و لوازمها.

و الحاصل فعلا هو الخلط بين المناطق الثلاث، و في النتيجة حرمان المسلمين عمليا من التعامل مع القرآن تحت طائلة التخويف من التفسير و التفسير بالرأي.

فهم القرآن، ص: 237

الفصل الخامس نظرية مراتب الفهم

اشارة

تنطلق نظرية مراتب الفهم من أفق يفيد أنّ للقرآن الكريم معاني مترتبة بعضها على بعض و لهذه المعاني المتكثّرة حقائق يرجع إليها، إلى أن يعود الجميع إلى حقيقة غيبية ما ورائية واحدة.

قد يمثّل لهذا المعنى بأمثلة سمعية و حسية، من قبيل أنّ القرآن مأدبة تضمّ أغذية متنوّعة أو أنّه يتألف من قشور و لباب، أو ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع و هكذا.

تعكس هذه الحقيقة آثارها على العالم الإنساني، حيث يكون للإنسان إدراك متفاوت لمعاني القرآن و حقائقه تبعا لاستعداده الوجودي وسعته النفسية و طاقاته الفكرية، و بذلك تتعدد مراتب الفهم الإنساني للقرآن من الفهم الظاهري و أوائل المفهومات كحد أدنى، إلى أن ترتقي على خط متصاعد لتبلغ الذروة مع المطهرين كحد أقصى، حيث يعكس الإنسان الكامل متمثّلا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام آخر مراتب الفهم و أقصاها، قبل أن ينحدر الخط البياني باتجاه نازل و هو يستوعب من يلي اولئك الكرام من الخاصة و الأولياء و أهل اللّه، ثمّ من يليهم و هكذا.

لهذه النظرية ثلاثة أنماط من الاستدلال، هي الأدلّة الوجودية التي تقوم على

فهم القرآن، ص: 238

أساس تعدّد مراتب الواقع، و من ثمّ وجود تشابه بل تماثل بين القرآن

و الإنسان و العالم، فكما أنّ للقرآن مراتب، فكذلك الإنسان و العالم. الإنسان في نطاق هذه الرؤية كون مطوي، و العالم إنسان مفتوح:

أ تزعم أنّك جرم صغيرو فيك انطوى العالم الأكبر كما أنّ الوجود كتاب- قرآن- تكويني، و القرآن وجود تدويني. و القرآن و الإنسان الكامل لهما حقيقة واحدة في عالم البساطة قبل التنزّل، ثمّ افترقا في عالم الكثرة و الظاهر بعد التنزّل.

و الثلاثة أي الإنسان و القرآن و العالم، هي مظاهر لأسماء اللّه و تجليات للألوهية.

هذا التماثل الوجودي بين الإنسان و القرآن و العالم هو روح النظرية في وجهها و تفسيرها العرفاني، و ما نظرية تعدد مراتب الفهم إلّا أثر معرفي مترتب على تعدّد مراتبها.

في اتجاه ثان ترتكز النظرية إلى مجموعة من الأدلة المعرفية و الإدراكية، و هي تفيد أنّ طبيعة المعرفة و الإدراك الإنساني تقوم على أساس وجود مراتب متعددة. فلا الإدراك الإنساني ينحصر في مرتبة واحدة بطبعه و ذاته، و لا المعرفة تجمد بطبعها و ذاتها عند مرتبة واحدة، فمن ذاتيّات الإدراك الإنساني أنّه مقولة مشككة ذات مراتب، و كذلك الحال في المعرفة نفسها.

كما هناك نمط ثالث من الاستدلال، تقدم فيه النظرية حشدا من الأدلة النقلية و السمعية من القرآن و السنة على صحة محتواها.

الحقيقة إذا استثنينا بعض الآراء الظاهرية المتشنجة التي لا يعبأ بها، فلا نكاد نجد من يشذ عن هذه النظرية و ينكر أنّ لفهم القرآن مراتب. إنّما يعود الاختلاف في

فهم القرآن، ص: 239

طبيعة التعبير عن النظرية، و في طبيعة المرتكز الذي تستند إليه و التفسير الذي يساق لها. فمن لا يأنس بالرؤية العرفانية يتمسّك بالأدلّة المعرفية و النقلية و هكذا.

من النتائج المترتبة على النظرية هي تقديم تفسير للغة

الوحي، و لما ذا انصبّت ألفاظ القرآن في إطار لغة المثال و كثر أسلوب التمثيل في الكتاب العزيز. كما تبرز نتائج اخرى من قبيل وجود حدّ أدنى للفهم يشترك فيه الجميع و هو حق مطلق لهم، و حد أقصى يختصّ بالمطهرين أو بالإنسان الكامل أو بالنبي و آله. يلتحق بهذه النتيجة و يتمّها الإقرار المنطقي بضرورة وجود الظاهر و الباطن في القرآن، على كلا التفسيرين المعرفي و الوجودي، و سواء أ كان الظاهر و الباطن من المفاهيم و المقولات اللفظية أو كان من الحقائق و الأعيان.

على أفق هذه النظرية يكون بمقدور الفكر القرآني بل الفكر الإسلامي أن يقدم تفسيرا منطقيا متماسكا لعمق القرآن، و لم أنّه لا يبلى على مرّ الأيام، بل يزداد غضاضة على مدى الزمان، لتنحل على الأرضية ذاتها إشكالية المعاصرة و قدرة النص القرآني الثابت على مواكبة متغيرات الحياة و متجدداتها. و كذلك قضية التاريخية و الاستمرارية التي تشير إلى نزول القرآن في إطار بيئة اجتماعية و ثقافية و تاريخية خاصة أو في إطار زمان و مكان خاصّين، ثمّ استمراره في أداء دوره خارج نطاق تلك البيئة التأريخية و بعيدا عن مكوّناتها الخاصّة، بحيث يكون صالحا لكلّ زمان و مكان، و ذلك إلى بقية الآثار و النتائج.

هذه صورة عامّة عن نظرية مراتب الفهم. أمّا البحث التفصيلي فيمر بالخطوط التالية:

1- المستوى الوجودي. و يتضمّن دراسة التفسير الوجودي عبر خطوتين متكاملتين، هما:

فهم القرآن، ص: 240

أ- مرتكزات النظرية الوجودية عبر ثلاثة من أكبر رادتها و رموزها.

ب- النتائج المترتبة على النظرية كما سيتم استعراضها عند هؤلاء الأقطاب الثلاثة، ابن عربي و صدر الدين الشيرازي و الإمام الخميني.

2- المستوى الإدراكي و النقلي. و يتضمّن إشارات سريعة

لنظرية التفسير التي تتبناها المدرسة و أقطابها على هذا الصعيد.

1- المستوى الوجودي

اشارة

يمكن القول إنّ الاتجاه العرفاني عامّة يعضده فريق من الحكماء جمعوا بين الكشف و البرهان، هم طليعة من يتبنّى النظرية الوجودية كإطار تفسيري لتفاوت درجات فهم القرآن و اختلاف مراتب معانيه.

على هذا سيتمّ بيان مرتكزات النظرية من خلال علمين اثنين، هما ابن عربي (ت: 638 ه) و صدر الدين الشيرازي (ت: 1050 ه). و أهمّية ابن عربي أنّه يمثّل رأس المدرسة و رائد هذا الاتجاه بلا منازع، فضلا عن أنّه نظّر لمرتكزات النظرية على نحو واف.

أمّا أهمّية صدر الدين فتعود إلى أنّه امتداد تجديدي لابن عربي في إيران، ليس على صعيد نظرية التفسير الوجودي لمراتب الفهم القرآني و حسب، بل على مستوى العناصر الأساسية في مدرسة الحكمة المتعالية برمّتها، من دون إهمال المائز الدقيق القائم بين العرفان و بين الحكمة المتعالية كاتجاه فلسفي محاذ للعرفان.

و الإمام الخميني ينتمي منهجيا إلى هذا الاتجاه الذي يبرز فيه هذان العلمان، و ما يتبنّاه من مقولات على مستوى القرآن الكريم يرجع إلى هذه المدرسة. تشهد

فهم القرآن، ص: 241

على ذلك نصوص الإمام و تراثه القرآني و هي لا تخفي انتماءها إلى هذين العلمين و ولاءها لهما، فضلا عن اقتباساته النصوصية العريضة من آثارهما و متابعتهما في الأفكار، كما يبرز ذلك جليّا في مؤلفاته المعنوية و العرفانية «1». إلى هذا المعنى أشارت الدكتورة فاطمة طباطبائي، بقولها: «لا يمكن معرفة عرفان الإمام الخميني بدون معرفة المبادئ و الاصول و الجذور الأساسية لأدبياتنا العرفانية القديمة ... و إنّ الشخصية التي أن تعرّفنا بعمق نظريات الإمام وسعتها على مستوى أقدم لحظات التاريخ العرفاني و أكثرها توغّلا، هي شخصية الشيخ محيي الدين بن عربي»

«2».

أولا: ابن عربي (560- 638 ه)
أ- مرتكزات النظرية:

تنطلق نظرية ابن عربي من التماثل أو التناظر الذي يقيمه بين الوجود و الإنسان و القرآن. فللوجود مراتب ثمّ ما يوازيها في الإنسان، فالإنسان جامع لحقائق الكون و هو عالم صغير مثلما أنّ الكون إنسان كبير. و للوجود ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع أو عوالم أربعة هي عالم الملك و الشهادة، و عالم الغيب و الملكوت، و عالم البرزخ و عالم الأسماء الإلهية، تماما كما للإنسان و للقرآن.

العالم و الإنسان كلاهما مظاهر كلمات اللّه، و الإنسان الكامل أتمّها حيث

______________________________

(1)- في مؤلّف واحد من مصنّفات الإمام هو «شرح دعاء السحر» ذكر ابن عربي أكثر من عشر مرّات، ثمّ جاء صدر الدين الشيرازي بالمرتبة الثانية، هذا فضلا عن كثافة الاقتباس من نصوصهما و أفكارهما، بخاصّة الأوّل.

(2)- سخن عشق، ديدگاه هاى إمام خميني و ابن عربى: 131.

فهم القرآن، ص: 242

اجتمعت فيه كلّ حقائق الوجود، و هو الكلمة الجامعة، و القرآن كلمات اللّه الذي نزل على الإنسان الكامل الذي يمثّل الذروة في الفهم، ثمّ يأتي من يليه يأخذ منه بحسب مرتبته و استعداده الوجودي.

هذه الموازاة أو التناظر الكائن بين الوجود و الإنسان، قائم بنفسه بين القرآن و الوجود. فالعالم عند ابن عربي مصحف كبير تلاه اللّه علينا تلاوة حال، تماما كما أنّ القرآن عالم مطوي تلاه الحقّ علينا تلاوة قول. و بتعبيره: «خذ الوجود كله على أنّه كتاب مسطور، و إن قلت مرقوم فهو أبلغ» «1».

من خلال هذا التوازي الوجودي سيكون هناك تناظر بين مراتب الإنسان و مراتب القرآن، ينجم عنه تعدّد مراتب الفهم و ترتب بعضها على بعض.

يكتب في أصل التناظر الوجودي بين الوجود بعوالمه العلوية و السفلية و بين الإنسان، ما نصّه: «و معرفة

أفلاك العالم الأكبر و الأصغر الذي هو الإنسان؛ فأعني به عوالم كلياته و أجناسه، و أمراؤه الذين لهم التأثير في غيرهم، و جعلتها [أي أفلاك العالم الأكبر و الأصغر] مقابلة؛ هذا نسخة من هذا» «2». ثمّ ينعطف لإعطاء أمثلة تفصيلية من العوالم الوجودية العليا و السفلى و أفلاكها و ما يناظرها من الإنسان.

يعدّ الإنسان في هذا النسق عالم صغير و العالم إنسان كبير، و الإنسان عالم مجتمع الأجزاء و العالم إنسان متفرّق الأجزاء: «و الإنسان الذي هو آدم عبارة عن مجموع العالم، فإنّه الإنسان الصغير و هو المختصر من العالم الكبير ... كذلك الإنسان و إن صغر جرمه عن جرم العالم فإنّه يجمع جميع حقائق العالم الكبير،

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 4: 106.

(2)- نفس المصدر: 230 فما بعد، حيث يسوق تطبيقات و أمثلة كثيرة على هذا التطابق.

فهم القرآن، ص: 243

و لهذا يسمّي العقلاء العالم إنسانا كبير». على ضوء هذا التناظر الوجودي بين الإنسان و العالم، و كون الوجود مظاهر للأسماء الإلهية، انتهى إلى أنّه ما من معنى أو حقيقة ظهرت في الوجود إلّا و ظهرت في نظيره الذي هو الإنسان: «لم يبق في الإمكان معنى إلّا و قد ظهر في العالم، فقد ظهر في مختصره» «1» الذي هو الإنسان، إذ ما من حقيقة من حقائق الوجود إلّا و توجد فيه، أو في مثاله الأعلى الذي هو الإنسان الكامل.

يجد هذا الفهم الذي يقيم موازاة وجودية بين القرآن و الإنسان و الوجود نصوصا مكثّفة دالّة عليه في تراث ابن عربي، مبثوثة في فتوحاته المكّية و غير واحد من مصنّفاته. يصف عالم الإمكان و أنّه و ما فيه تعبير عن كلمات اللّه الوجودية، بما نصه: «اعلم أنّ الممكنات هي

كلمات اللّه التي لا تنفد، و بها يظهر سلطانها الذي لا يبعد، و هي مركّبات لأنّها أتت للإفادة فصدرت عن تركيب يعبّر عنه في اللسان العربي بلفظة «كن» فلا يتكوّن عنه إلّا مركّب من روح و صورة، ثمّ تلتحم بعضها ببعض لما بينهما من المناسبات، فتحدث المعاني بحدوث تأليفها الوضعي». يواصل النصّ وصف الموازاة الوجودية ليفصح في الثنايا عن المعطى المعرفي له، متمثّلا بتعدّد مراتب الفهم بتعدّد المراتب الوجودية، و تعدّد ظهور الحقائق تبعا لذلك، فيقول: «ثمّ اعلم أنّ اللّه تعالى لما أظهر من كلماته ما أظهر قدّر لهم من المراتب ما قدّر، فمنهم الأرواح النورية و النارية و الترابية، و هم على مراتب مختلفة، و كلّهم أوقفهم مع نفوسهم و أشهدهم إيّاها و احتجب لهم فيها، ثمّ طلب منهم أن يطلبوه و نصب لهم معارج يعرجون عليها في طلبها إيّاه، فدخل لهم بهذه المعارج

______________________________

(1)- نفس المصدر: 124.

فهم القرآن، ص: 244

في حكم الحدّ و جعل لهم قلوبا يعقلون بها، و لبعضهم فكرا يتفكّرون به ... ثمّ نصب لهم الدلالة على صدق خبره إذا أخبرهم، فتفاضلت أفهامهم لتفاضل حقائقهم في نشأتهم» «1».

ما دام الإنسان عند ابن عربي جامعا لحقائق الكون كله، و القرآن هو عالم مطو مثلما أنّ العالم هو مصحف كبير، فسيكون للإنسان مراتب مختلفة في فهم القرآن تبعا لمراتبه الوجودية التي تناظر المراتب الوجودية لظهور حقائق القرآن، على أن يكون للإنسان الكامل أو للحقيقة المحمّدية الذروة في سلّم المراتب، و هذا ما أشار إليه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بقوله: «اوتيت جوامع الكلم» «2». إذا شئنا الدقّة فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عاش حقيقة القرآن مشاهدة

و معاينة، بل لا حقيقة للقرآن إلّا حقيقة النبي، و لا حقيقة للنبي إلّا حقيقة القرآن، و كلاهما مظهر لأسماء اللّه. على هذا «فمن أراد أن يرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّن لم يدركه من أمّته فلينظر إلى القرآن، فإذا نظر فيه فلا فرق بين النظر إليه و بين النظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فكأنّ القرآن انتشأ صورة جسدية يقال لها محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، و القرآن كلام اللّه، و هو صفته، فكأنّ محمّد صفة الحقّ تعالى بجملته» «3».

يترتب على هذه الموازاة الوجودية بين القرآن و الإنسان نتيجة معرفية تتمثّل في أن تكون أقصى درجات المعرفة هي تلك الموجودة عند الإنسان الكامل أو عند

______________________________

(1)- نفس المصدر: 65- 66.

(2)- أخرجه بلفظ «اعطيت» البخاري في صحيحه، و كذلك مسلم و الترمذي بالإضافة إلى ابن حنبل في مسنده. كما أخرجه أيضا البخاري و النسائي بلفظ «بعثت بجوامع الكلم». راجع في توثيق المصادر: الفتوحات المكّية، السفر الأوّل: 499.

(3)- الفتوحات المكّية 4: 61.

فهم القرآن، ص: 245

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؛ لأنّه عاش حقيقة القرآن على سبيل المشاهدة و التعيّن، حتّى صار النبي هو القرآن و القرآن هو النبي. ثمّ يليه من يليه من أمّته على قدر سعته الوجوديّة و الإدراكية، إذ يستلهم كلّ إنسان من القرآن و يكون له نصيبه من حقائقه «على قدر نفوذه و فهمه، و قوّة عزمه وهمه، و اتساع نفسه» «1».

ثمّ نصوص مكثّفة لابن عربي تبيّن أنّ النبي يمثّل الحد الأقصى من معرفة القرآن و فهمه، ثمّ تتوالى المراتب و تتسع من دونه لتشمل أفراد أمته، و ذلك

على خلفية قاعدة التوازي الثلاثي بين القرآن و الإنسان و الوجود، منها النصّ الذي سنأتي عليه بعد قليل و الذي يستخدم تعبيرا رائعا في وصف العلاقة بين الإنسان و القرآن، حينما يصفه بوصف النزول. أجل، فالقرآن على ضوء هذا الفهم الوجودي، كما نزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو في عملية نزول مطّردة على قلوب أمّته إلى يوم القيامة. يكتب: «فقوله: الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ. نصب القرآن. ثمّ قال: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ. فينزل عليه القرآن ليترجم منه بما علّمه الحقّ من البيان الذي لم يقبله إلّا هذا الإنسان، فكان للقرآن علم التمييز فعلم أين محلّه الذي ينزل عليه من العالم، فنزل على قلب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل به الروح الأمين، ثمّ لا يزال ينزل على قلوب أمّته إلى يوم القيامة. فنزوله في القلوب جديد لا يبلى فهو الوحي الدائم، فللرسول- صلوات اللّه عليه و سلامه- الأوّلية في ذلك و التبليغ إلى الأسماع من البشر و الابتداء من البشر، فصار القرآن برزخا بين الحقّ و الإنسان و ظهر في قلبه على صورة لم يظهر بها في لسانه، فإنّ اللّه جعل لكلّ موطن حكما لا يكون لغيره فتلاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلسانه أصواتا و حروفا سمعها

______________________________

(1)- نفس المصدر 1: 73.

فهم القرآن، ص: 246

الأعرابي بسمع أذنه في حال ترجمته، فالكلام للّه بلا شكّ و الترجمة للمتكلّم به كان من كان، فلا يزال كلام اللّه من حين نزوله يتلى حروفا و أصواتا إلى أن يرفع من الصدور و يمحى من المصاحف، فلا يبقى مترجم يقبل نزول القرآن عليه» «1».

الارتقاء في الفهم على ضوء

هذه الرؤية الوجودية لا يتمّ على أساس آليات الإدراك و ما يشهده العلم من نموّ نتيجة ذلك، بل هو رهين تنقية الداخل و تزكية القلب و توسيع قدرة التلقّي من خلال التقوى و زيادة التهيّؤ و النظافة الداخلية. بين أيدينا نص يفتتحه ابن عربي بالإشارة إلى أنّ النبي بوصفه الإنسان الكامل لديه حقيقة القرآن، ثمّ يغترف من القرآن كلّ بحسب استعداده و مقدار تزكيته و تقواه، أو بحسب تعبيره: «و لنا منه من الحظّ على قدر صفاء المحل و التهيّؤ و التقوى» «2».

ب- النتائج المترتبة:

في ظلّ هذا التوازي الوجودي بين الإنسان و القرآن و العالم تصير تلاوة الإنسان للقرآن استماعا لكلمات الوجود من الخارج و استماعا لكلمات نفسه من الداخل، فكلاهما جانبان يكشفان عن حقيقة واحدة هي كلام اللّه «3». و يكون القرآن موازيا لحقيقة الوجود و مراتبه، كما هو مواز لحقيقة الإنسان و مراتبه، بحيث تناظر كلّ مرتبة عند الإنسان مرتبة تماثلها في القرآن، لتتعدّد بذلك التلاوات و تبعا لها المعاني و مراتب الفهم. على هذا هناك تلاوة وجودية و فهم وجودي للقرآن المبثوث في العالم (المصحف الوجودي الكبير) كما الكائن في الوجود الإنساني، يتفاوت فيه نصيب الإنسان بحسب حظّه و استعداده الوجودي للتلقّي: «و لا تظن يا بني أنّ

______________________________

(1)- نفس المصدر 3: 108.

(2)- نفس المصدر 1: 56.

(3)- فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي: 275.

فهم القرآن، ص: 247

تلاوة الحقّ عليك و على أبناء جنسك من هذا القرآن العزيز خاصة. ليس هذا حظ الصوفي، بل الوجود بأسره كِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ تلاه عليك سبحانه و تعالى لتعقل عنه إن كنت عالما. قال تعالى: ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ، و لا

يحجب عن ملاحظة المختصر الشريف من هذا المسطور الذي هو عبارة عنك، فإنّ الحقّ تعالى تارة يتلو عليك من الكتاب العظيم الخارج، و تارة يتلو عليك من نفسك فاستمع و تأهّب لخطاب مولاك إليك في أي مقام كنت، و تحفّظ من الوقر و الصمم، فالصمم آفة تمنعك من إدراك تلاوة الحقّ عليك من نفسك المختصرة، و هو الكتاب المعبّر عنه بالفرقان، إذ الإنسان محلّ الجمع لما تفرق في العالم الكبير» «1».

حين نعطف على هذه الرؤية الحقيقة التي يسجّل فيها ابن عربي أنّ ما من شي ء في الوجود إلّا و له ظاهر و باطن و حدّ و مطلع بما في ذلك القرآن و الإنسان، فستكون الحصيلة الأولية أنّ هناك أربع مراتب رئيسية للفهم منبثقة عن الكينونة الوجودية ذاتها، يمكن لكلّ مرتبة فيها أن تتضمّن عددا آخر من المراتب الفرعية.

يكتب ابن عربي: «ما من شي ء إلّا و له ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع، فالظاهر منه ما أعطتك صورته، و الباطن ما أعطاك ما يمسك عليه الصورة، و الحدّ ما يميّزه عن غيره و المطّلع منه ما يعطيك الوصول إليه» «2».

مع أنّ الكلام هنا يدور حول واقع وجودي حقيقي لا اعتباري، إلّا أنّ ابن عربي لا يهمل المدلولات أو الثمار المعرفية لهذه الكينونات الوجودية. فما دام لكلّ شي ء ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع ينطبق ذلك على العالم و على القرآن، فإنّ التقسيم

______________________________

(1)- مواقع النجوم: 67- 68، نقلا عن: فلسفة التأويل: 275- 276.

(2)- الفتوحات المكّية 4: 411.

فهم القرآن، ص: 248

بذاته ينطبق على الإنسان. فالرجال أربعة أصناف تأتي متوازية مع مراتب الوجود و النصّ، و المهمّ هي الدلالة المعرفية المترتبة على هذا التقسيم الوجودي للإنسان،

التي تنتج أربعة مستويات لإدراك القرآن و فهمه داخل كلّ مرتبة درجات. يكتب في تصوير هذه الرؤية الوجودية للإنسان التي ينبثق عنها مدلول معرفي، ما نصه:

«اعلم أنّ رجال اللّه على أربع مراتب، رجال لهم الظاهر، و رجال لهم الباطن، و رجال لهم الحدّ و رجال لهم المطّلع. فإنّ اللّه سبحانه لما أغلق دون الخلق باب النبوّة و الرسالة أبقى لهم باب الفهم عن اللّه فيما أوحى به إلى نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كتابه العزيز، و كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يقول: إنّ الوحي قد انقطع بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما بقي بأيدينا إلّا أن يرزق اللّه عبدا فهما في هذا القرآن. و قد أجمع أصحابنا أهل الكشف على صحة خبر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال في آي القرآن: إنّه ما من آية إلّا و لها ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع، و لكلّ مرتبة من هذه المراتب رجال» «1».

يجمع النصّ إلى هنا بين المدلولين الوجودي و المعرفي، أو أنّه على نحو أدقّ يؤسس للمدلول المعرفي الذي يفيد تفاوت درجات فهم القرآن و توزّعها في مراتب، على كينونة وجودية مكينة. و هذا يكفينا لإثبات المطلوب، لكن من المهم استكمال الصورة بإبراز الأثر الوجودي المترتب على كلّ مرتبة من هذه المراتب في التعامل مع القرآن، و ما تهبه لأهلها من قدرات وجودية مضافا إلى الحصيلة المعرفية التي نحن بصددها.

يواصل ابن عربي جوانب الصورة حاكيا كلام شيخه أبي محمد عبد اللّه

______________________________

(1)- نفس المصدر 1: 187.

فهم القرآن، ص: 249

الشكّاز الذي التقى به في غرناطة سنة 595

ه: «الرجال أربعة؛ رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه و هم رجال الظاهر، و رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر اللّه و هم رجال الباطن جلساء الحقّ تعالى و لهم المشورة، و رجال الأعراف و هم رجال الحدّ، قال اللّه تعالى: وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ أهل الشمّ و التمييز و السراح عن الأوصاف فلا صفة لهم ... و رجال دعاهم الحقّ إليه يأتونه رجالا لسرعة الإجابة لا يركبون وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا و هم رجال المطّلع. فرجال الظاهر هم الذين لهم التصرّف في عالم الملك و الشهادة ... و أمّا رجال الباطن فهم الذين لهم التصرّف في عالم الغيب و الملكوت ... فيفتح لهؤلاء الرجال في باطن الكتب المنزلة و الصحف المطهّرة، و كلام العالم كله و نظم الحروف و الأسماء من جهة معانيها ما لا يكون لغيرهم اختصاصا إلهيا، و أمّا رجال الحدّ فهم الذين لهم التصرّف في عالم الأرواح النارية عالم البرزخ و الجبروت ... و أمّا رجال المطّلع فهم الذين لهم التصرّف في الأسماء الإلهية فيستنزلون بها منها ما شاء اللّه، و هذا ليس لغيرهم، و يستنزلون بها كلّ ما هو تحت تصريف الرجال الثلاثة رجال الحدّ و الباطن و الظاهر، و هم أعظم الرجال» «1».

من الواضح أنّ النص يتحدّث عن مراتب وجودية، أي عن حقيقة في مقابل حقيقة، و ليس عن فهم أو إدراك أو معرفة نظرية بإزاء حقيقة وجودية، و ما ينسبه لهؤلاء الرجال من التصرّف الوجودي خير دليل على ما نقول. بيد أنّ ذلك كله لا يلغي المدلول المعرفي الذي أومأ إليه النصّ الذي سبق هذا النصّ، كما هناك ما يدل عليه في

نصوص اخرى.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 187- 188.

فهم القرآن، ص: 250

على أنّ هذا التصوّر بكامل أجزائه ينسجم تمام الانسجام مع رؤية هذا التيار التي لا تنظر إلى القرآن الكريم في حدود رسوم الكلمات و الصور اللفظية، بل هي تعتقد أنّ وراء هذه الألفاظ حقيقة وجودية، و ما الصورة اللفظية التي بين الدفتين إلّا التنزّل الأخير لتلك الحقيقة الوجودية.

تنوّع التلاوات و تنوّع الفهم

ينتج عن هذا التصوّر الوجودي لمراتب القرآن و مراتب الرجال، ما يكمّله في واقع التلاوة حيث لكلّ تلاوة معنى وجودي و معرفي أيضا. فليس الإنسان بإزاء تلاوة واحدة بل هو بإزاء تلاوات، تلاوة القرآن في الوجود، و تلاوته من خلال النفس، و تلاوة للنصّ من خلال الوجود الإنساني الذي يتفاعل فيه التالي مع النصّ تبعا لحالاته بحيث يكون لكلّ عضو تلاوته الخاصة به، بلوغا إلى التلاوة القصوى أو السماع عن اللّه. يقول: «إنّ على اللسان تلاوة، و على الجسم بجميع أعضائه تلاوة، و على النفس تلاوة، و على القلب تلاوة، و على الروح تلاوة، و على السرّ تلاوة، و على سرّ السرّ تلاوة. فتلاوة اللسان ترتيل الكتاب على الحدّ الذي رتب المكلّف له، و تلاوة الجسم المعاملات على تفاصيلها في الأعضاء التي على سطحه، و تلاوة النفس التخلّق بالأسماء و الصفات، و تلاوة القلب الإخلاص و الفكر و التدبّر، و تلاوة الروح التوحيد، و تلاوة السرّ الاتحاد، و تلاوة سرّ السرّ الأرب و هو التنزيه الوارد عليه في الإلقاء منه جلّ و علا. فمن قام بين يدي سيده بهذه الأوصاف كلها، فلم ير جزء منه إلّا مستغرقا فيه على ما يرضاه منه كان عبدا كليا، و قال له الحقّ إذ ذاك:

حمدني عبدي، أو ما يقول على حسب ما

ينطق به العبد قولا أو حالا» «1».

______________________________

(1)- مواقع النجوم: 83، نقلا عن فلسفة التأويل: 292- 293.

فهم القرآن، ص: 251

من الواضح أنّ النص يجمع بين الجانبين أو القراءتين الإدراكية و الوجودية، و من ثمّ فهو يدفع الالتباس الذي يوهم أنّ العرفاء يلغون الجانب العقلي و الإدراكي.

أجل، نصوصهم صريحة في تخطّي منطقة العقل و الإدراك، إلى ما هو أعلى منها حيث المعرفة القلبية، بل التوحّد الوجودي مع الموضوع أي مع حقيقة القرآن، كلّ بحسب مرتبته و مستواه وسعته الوجودية. و تخطّي منطقة العقل و الإدراك إلى ما وراءها، هو غير إلغاء هذه المنطقة و نفي قيمة العقل و المعرفة الإدراكية القائمة على الفهم النظري.

هذا الاتجاه يعترف بقيمة المعرفة القائمة على أساس الفهم النظري و الإدراك العقلي، لكنه لا يكتفي بهما و إنّما يدفع بالإنسان صوب الارتقاء نحو ذرى جديدة تأتي ما بعد المعرفة العقلية. في نصّ مزدوج يجمع بين الدلالتين المعرفية و الوجودية و ما ينطويان عليه من مراتب مختلفة في الفهم، و في التوحّد مع القرآن و التخلّق بصفاته، نقرأ لابن عربي: «و اعلم أنّ الاتباع إنّما هو فيما حدّه لك في قوله و رسمه، فتمشي حيث مشى بك و تقف حيث وقف بك، و تنظر فيما قال لك أنظر، و تسلّم فيما قال لك سلّم، و تعقل فيما قال لك اعقل، و تؤمن فيما قال لك آمن، فإنّ الآيات الإلهية الواردة في الذّكر الحكيم وردت متنوّعة، و تنوّع لتنوّعها وصف المخاطب بها. فمنها آيات لقوم يتفكّرون، و آيات لقوم يعقلون، و آيات لقوم يسمعون، و آيات للمؤمنين، و آيات للعالمين، و آيات للمتّقين، و آيات لأولي النهى، و آيات لأولي الألباب، و آيات لأولي

الأبصار.

ففصّل كما فصّل و لا تتعدّ إلى غير ما ذكر، بل نزّل كلّ آية و غيرها بموضعها، و انظر فيمن خاطب بها و كن أنت المخاطب بها، فإنّك مجموع ما ذكر، المنعوت بالبصر و النهي و اللّب و العقل و التفكّر و العلم و الإيمان و السمع و القلب، فاظهر بنظرك

فهم القرآن، ص: 252

بالصفة التي نعتك بها في تلك الآية الخاصّة تكن ممّن جمع له القرآن، فاجتمع عليه فاستظهره فكان من أهله، بل هو عين القرآن إذا كان على هذا الوصف، و هو من أهل اللّه و خاصّته» «1».

النص وافي الدلالة على تنوّع الخطاب تبعا لتنوّع المخاطب بحيث يكون لكلّ إنسان من الفهم «على قدر نفوذه و فهمه، و قوّة عزمه و همّه، و اتساع نفسه» «2»، بالإضافة إلى دلالته الوجودية و حثّه الإنسان كي يتحلّى بصفات القرآن و يتوحّد معها ليعيشها وجوديّا و يتذوّقها عيانا. و كلا الطريقان مفتوحان أمام الإنسان مع فارق أنّ الثاني (الوجودي) للخاصة و الأوّل ميسور للقاعدة العريضة، و الحصيلة واحدة و هي تعدّد مراتب الفهم وجوديا كان أو معرفيا نظريا.

تتحرّك القراءة الوجودية- كما المعرفية أيضا- على خطّ صاعد لتتجاوز التطابق مع القرآن في المرحلة التي تكون فيها لكلّ عضو تلاوته الخاصة به، بلوغا إلى مرحلة السماع عن اللّه و التلقّي منه و الفهم عنه. يكتب في الباب الحادي و الأربعين الخاص بمعرفة أهل الليل، مميّزا بين ضروب التلاوة، و مركّزا على التلاوة التي تكون من اللّه على لسان العبد: «فأنا [اللّه جلّ جلاله] أتلو كتابي عليه بلسانه و هو يسمع، فتلك مسامرتي، و ذلك العبد هو الملتذّ بكلامي، فإذا وقف مع معانيه فقد خرج عنّي بفكره و تأمّله،

فالذي ينبغي له أن يصغي إليّ و يخلي سمعه لكلامي، حتّى أكون أنا في تلك التلاوة كما تلوت عليه و أسمعته أكون أنا الذي أشرح له كلامي و أترجم له عن معناه، فتلك مسامرتي معه فيأخذ العلم مني لا من فكره

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 4: 105- 106.

(2)- نفس المصدر 1: 73.

فهم القرآن، ص: 253

و اعتباره، فلا يبالي بذكر جنّة و لا نار و لا حساب و لا عرض و لا دنيا و لا آخرة، فإنّه ما نظرها بعقله و لا بحث عن الآية بفكره، و إنّما ألقى السمع لما أقوله له، و هو شهيد حاضر معي، أتولى تعليمه بنفسي فأقول له يا عبدي أردت بهذه الآية كذا و كذا، و بهذه الآية الاخرى كذا و كذا، هكذا إلى أن ينصدع الفجر فيحصل من العلوم على يقين ما لم يكن عنده، فإنّه منّي سمع القرآن، و منّي سمع شرحه و تفسير معانيه، و ما أردت بذلك الكلام و بتلك الآية و السورة» «1».

هكذا تخلص هذه الرؤية إلى أنّ السرّ في تعدّد مراتب الفهم، يرجع إلى كينونة القرآن و محتواه و أنّه يتألّف من حقائق ذات مراتب متعدّدة. و هذا النسيج يلتقي على نحو مماثل مع كينونة مماثلة للإنسان و العالم ليؤلّف الثلاثة نسقا أو منظومة وجودية متوازية، يكون فيها الإنسان و القرآن و العالم تجليات للاسم الأعظم و ما يقع تحته من أسماء، لها ما يناظرها في مراتب تلك المنظومة الوجودية.

على هذا نحن أمام منظومة وجودية متكاملة لا تفسّر مراتب الفهم و اختلافه و حسب، بل تتخطّى ذلك إلى تقديم تفسير شامل للوجود برمّته بما في ذلك القرآن.

تؤسّس هذه المدرسة لقاعدة معرفية مهمّة تفيد بأنّه: «لا

يمكن لأحد أن يعلم شيئا ليس فيه مثله البتة» «2». فما لم تكن حقيقة القرآن موجودة في الإنسان و مبثوثة في الكون من حوله، يستحيل عليه أن يتلو كتاب اللّه و يفقهه و يتعلّم منه سواء أ كانت تلك التلاوة أنفسية أو آفاقية أو نصية. فنحن إزاء حقيقة واحدة لها مراتب و مظاهر متعدّدة في الإنسان- و الإنسان الكامل ذروته- و في الكون، و في

______________________________

(1)- نفس المصدر: 239.

(2)- نفس المصدر 2: 102.

فهم القرآن، ص: 254

و شاح الألفاظ و كسوتها حيث تجلّت تلك الحقيقة بين الدفتين في تنزّلها الأخير، ماثلة في المصحف الذي بين أيدينا.

ثانيا: صدر الدين الشيرازي (ت: 1050 ه)
اشارة

يتحرّك صدر الدين الشيرازي على هدي المنظومة الوجودية ذاتها التي وضع ابن عربي مرتكزاتها. و الأمر لا يقتصر على نظرية مراتب فهم القرآن، بل هو يحذو حذوه في جميع اشتغالاته الحكمية و رؤاه في المعرفة الإلهية.

أ- مرتكزات النظرية:

فبشأن مراتب الفهم يصدر الشيرازي عن التصوّر ذاته الذي يذهب إلى الموازاة بين الوجود و القرآن و الإنسان، و أنّها جميعا تجليات لأسماء اللّه و مجالي لها. فالإنسان و القرآن و الوجود و إن كانت مظاهر لاسم اللّه الأعظم و ما تحته من أسماء، إلّا أنّها تنطوي على مراتب و درجات يناظر كلّ واحد منها ما هو موجود في الآخر و يوازيه.

على أساس هذه المطابقة صحّ أن يكون بين أيدينا قرآن تدويني و تكويني و آفاقي و أنفسي، و نصوص الشيرازي وافية في التدليل على هذا المعنى و إثباته، و هي في الغالب مقاربة لنصوص ابن عربي بل مقتبسة منها في غالب الأحيان، تماما كما سنرى في نصوص الإمام الخميني، ممّا يدلّ على وحدة المدرسة.

يقدّم صدر الدين نصوصا مكثّفة للتوازي القائم بين الإنسان و العالم، و أنّ الإنسان هو على صورة العالم يحاكيه في المراتب الوجودية و ما تنطوي عليه من درجات، منها: «كما أنّ العالم بتمامه منقسم إلى غيب و شهادة، كذلك الإنسان الذي

فهم القرآن، ص: 255

هو على صورة العالم؛ عالم صغير مشتمل على غيب و شهادة، أي روح و جسم» «1».

هذا التوازي الوجودي بين العالم و الإنسان، له صورة مماثلة تماما بين الإنسان و القرآن: «و بالجملة إنّ للقرآن درجات و منازل كما للإنسان، و أدنى مراتب القرآن و هو ما في الجلد و الغلاف كأدنى مراتب الإنسان، و هو ما في الإهاب البشرة» «2».

من مقتضيات

الفلسفة الوجودية في الخط الذي يتبنّاه ابن عربي و صدر الدين و من والاه تبعا له، وحدة حقيقة الإنسان كما القرآن، بيد أنّ لهذه الحقيقة أسماء و مجالي و تجليات تبعا لمراتبها الوجودية: «فكما أنّ الإنسان حقيقة واحدة و له مراتب كثيرة و أسامي مختلفة يسمّى في كلّ عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في الصعود، فكذلك القرآن حقيقة واحدة و له مراتب كثيرة و أسامي مختلفة يسمّى في كلّ عالم باسم خاص مناسب لمقامه الخاص في النزول» «3». في نص آخر يتناول صدر الدين علاقة التوازي الوجودي بين القرآن و الإنسان على نحو أكثر تفصيل، نقرأ فيه: «اعلم أنّ القرآن كالإنسان ينقسم إلى سرّ و علن، و لكلّ منها أيضا ظهر و بطن و لبطنه بطن آخر إلى أن يعلمه اللّه، و لا يعلم تأويله إلّا اللّه. و قد ورد أيضا في الحديث (أنّ للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن)، و هو كمراتب باطن الإنسان من الطبع و النفس و الصدر و القلب و العقل و الروح و السرّ و الخفي» «4».

______________________________

(1)- تفسير القرآن الكريم 6: 55.

(2)- الحكمة المتعالية 7: 39.

(3)- تفسير القرآن الكريم 6: 22- 23.

(4)- الحكمة المتعالية 7: 36، و قد عقب الشيخ هادي السبزواري المتوفى في سنة 1289 ه-

فهم القرآن، ص: 256

ثمّ انعطف لبيان النتيجة المعرفية المترتبة على هذا التناظر الوجودي القائم بين القرآن و الإنسان، متمثّلة بتفاوت درجات المعرفة و اختلاف مراتب الفهم تبعا لذلك، حيث أضاف: «أمّا ظاهر علّته فهو المصحف المحسوس الملموس و الرقم المنقوش الممسوس، و أمّا باطن علّته فهو ما يدركه الحسّ الباطن و يستثبته القرّاء و الموجودون في خزانة مدركاتهم

و مخزوناتهم كالخيال و نحوه .. فهاتان المرتبتان من القرآن دنياويتان ممّا يدركه كلّ إنسان بشري. و أمّا باطنه و سرّه فهما مرتبتان أخراويتان، و لكلّ منهما مراتب و درجات و منازل و مقامات» «1».

يوضّح صدر الدين الرؤية ذاتها على نحو آخر عند ما يسجّل: «إنّ العوالم بكثرتها ثلاثة، و المدارك الإنسانية على شجونها ثلاثة، و الإنسان بحسب غلبة كلّ واحد منها يقع في عالم من هذه العوالم و النشآت، فبالحسّ يقع في العالم الدنياوي و به ينال الصور الحسّية ... و بالقوّة الباطنية الجزئية يقع في النشأة الثانية ... و بالقوّة الباطنة يقع في النشأة الثالثة ... فالناس أصناف ثلاثة أهل الدنيا و هم أهل الحس ...

و أهل الآخرة و هم الصلحاء ... و أهل اللّه و هم العرفاء باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر» «2».

و العوالم المشار لها ليست متناظرة وجوديا و حسب، بل هي متطابقة بالصورة أيضا: «فاللّه تعالى ما خلق شيئا في عالم الصورة إلّا و له نظير في عالم المعنى، و ما خلق شيئا في عالم المعنى و هو الآخرة إلّا و له حقيقة في عالم الحقّ و هو غيب

______________________________

- على النص في الهامش، بقوله: «و لعل الصدر- و هو مقام الخيال كما مرّ- زيادة من النساخ، و إلّا لكانت المراتب ثمانية».

(1)- نفس المصدر: 36- 37.

(2)- تفسير القرآن الكريم 4: 101- 102.

فهم القرآن، ص: 257

الغيب، إذ العوالم متطابقة الأدنى مثال الأعلى، و الأعلى حقيقة الأدنى و هكذا إلى حقيقة الحقائق» «1».

على ضوء هذا التطابق يكتسب العالم المادّي عمقه في عالم أرقى منه و أكثر تكاملا، بحيث يكون الأدنى مثالا للأعلى و مرقاة إليه: «ما من

شي ء في هذا العالم إلّا و هو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنّه روحه و معناه، و ليس هو في صورته و قالبه، و المثال الجسماني مرقاة إلى المعنى الروحاني» «2».

إمعانا في تركيز هذا التصوّر و عطفا له على الإنسان، نقرأ في نص آخر:

«فجميع ما في هذا العالم أمثلة و قوالب لما في عالم الآخرة، و ما في الآخرة هي مثل و أشباه للحقائق و الأعيان الثابتة التي هي مظاهر أسماء اللّه تعالى، ثمّ ما خلق في العالمين شي ء إلّا و له مثال و أنموذج في عالم الإنسان» «3». و قد مرّ علينا التناظر بين الإنسان و القرآن، الذي لنا أن نؤكّده بنص جديد يسجّل فيه الشيرازي: «فإذا تقرّر هذا ثبت أنّ للقرآن منازل و مراتب، كما للإنسان درجات و معارج» «4». كما قوله أيضا: «و بالجملة للقرآن درجات كما مرّ، و كذلك للإنسان بحسبها» «5».

و كذلك: «فعلم من هذا أنّ الإنسان و مراتبه مثال مطابق للإيمان و مراتبه، و كذا حكم القرآن» «6».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 166.

(2)- نفس المصدر: 172.

(3)- نفس المصدر: 166.

(4)- نفس المصدر 7: 112.

(5)- نفس المصدر: 109.

(6)- نفس المصدر: 110.

فهم القرآن، ص: 258

ب- النتائج المترتبة:
اشارة

أوّل ما يترتب على هذا التصوّر الوجودي لثلاثية العالم و الإنسان و القرآن، أنّ القرآن الكريم ليس ألفاظا هي هذه التي تقع بين الدفتين و حسب، و إنّما هو: «علم بحقائق الأشياء» «1». و ما الصورة اللفظية إلّا التنزّل الأخير لتلك الحقائق أو للحقيقة القرآنية، فالقرآن: «نزل إلى العالم الأسفل لنجاة المحبوسين في سجن الدنيا ... [و] تلبّس بلباس الحروف و الأصوات و اكتسى بكسوة الألفاظ و العبارات رحمة من اللّه و شفقة على عباده و تأنيسا

لهم، و تقريبا إليهم و إلى أفهامهم و مداراة معهم و منازلة إلى أذواقهم، و إلّا فما للتراب و ربّ الأرباب» «2».

من النتائج أيضا وجود علاقة تفاعلية بين الإنسان و القرآن و العالم، فالإنسان يقرأ العالم من خلال المصحف، و تتحوّل وجودات عالم الإمكان إلى شفرات و مفاتيح لقراءة القرآن آفاقيا و استشراف حقائقه، كما أنّه يطل على القرآن من داخله و يتلوه أنفسيا و هكذا. يكتسب القرآن عبر شبكة التفاعل الوجودي هذه صورة أو بعدا تكوينيا و تدوينيا و آفاقيا و أنفسيا. يكتب الشيرازي في الإيماء إلى أحد مستويات هذه العلاقة التفاعلية: «و اعلم أنّ اختلاف صور الموجودات و تباين صفاتها و تضادّ أحوالها، شواهد عظيمة لمعرفة بطون القرآن و أنوار جماله و أضواء آياته و أسرار كلماته، و لتعلّم أسماء اللّه الحسنى و صفاته العليا، لما مرّت الإشارة إليه من أنّ الكتاب الفعلي الكوني بإزاء الكلام القولي العقلي، و هو بإزاء الأسماء و الصفات الإلهية، لكن هناك على وجه الوحدة و الإجمال و هاهنا على وجه الكثرة

______________________________

(1)- نفس المصدر: 103.

(2)- نفس المصدر 6: 8- 9.

فهم القرآن، ص: 259

و التفصيل ... و كما أنّ صور الكائنات من الأرض و السماوات و ما بينهما- و هي عالم الخلق- تفصيل لما في عالم العقل و هو عالم الأمر، فكذلك جميع ما في العالمين الأمر و الخلق كتاب تفصيلي لما في العالم الإلهي من الأسماء و الصفات» «1».

يضع النصّ الكون و ما فيه بإزاء النصّ القرآني، و ذلك على النحو الذي تتحوّل به موجودات عالم الإمكان إلى مفاتيح لما يطويه النص القرآني من بطون و معان، و الاثنان هما مظاهر لأسماء اللّه. و هذا هو المعنى

ذاته الذي أسس له ابن عربي، و عاد الشيرازي لتكراره و هو يقول: «فكل ما في عالم الإمكان صورة اسم من أسماء اللّه و مظهر شأن من شئونه» «2».

أمامنا نص آخر يتحدّث عن العلاقة التفاعلية بين القرآن و الإنسان و الوجود، على النحو التالي: «فعالم الكلام و القول فيه آيات أمرية عقلية و علمية، و عالم الكتاب و الفعل فيه آيات خلقية كونية عملية. و ما لم يطّلع الإنسان أوّلا بمشاعر نفسه و بدنه هذه الآيات الفعلية الكتابية و الآفاقية و الأنفسية، لم يترقّ بها ذاته من مقام الحسّ و النفس إلى مقام القلب و الروح، فيسمع و يفهم تلك الآيات العقلية [القولية] الكلامية حتّى يعرف بها الحقّ الأوّل، كما قال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ «3»» «4».

صحيح أنّ الإنسان في هذا التصور الفلسفي هو كون، بل: «هو أشرف

______________________________

(1)- الحكمة المتعالية 7: 31- 32.

(2)- تفسير القرآن الكريم 1: 34.

(3)- فصلت (41): 53.

(4)- تفسير القرآن الكريم 7: 112- 113.

فهم القرآن، ص: 260

الأكوان» «1» له في ذاته قابلية الترقّي إلى حد الكمال و التعانق مع أنوار المبدأ، و صحيح أيضا أنّ في القرآن سعة و رحابة في الفهم، حيث أنّ: «العلم بكتاب اللّه أوسع من أن يحصره حدّ معين أو يضبطه قانون مبين» «2»؛ إلّا أنّ المقصود من الإنسان بالدرجة الاولى هو الإنسان الكامل الذي يتحلّى بالمرتبة القصوى من معرفة القرآن، بل هو مظهر وجودي للقرآن، كما القرآن مظهر نصّي له، و كلاهما مظهران لاسم اللّه الأعظم و ما يندرج تحته من الأسماء، ثمّ يليه من يليه بحسب سعته الوجودية. و هذه نتيجة اخرى تترتب على التصور الصدرائي تماما

كما لحظنا عند ابن عربي.

يسجّل في نص دال و مكثّف عن مكانة الإنسان الكامل: «الإنسان الكامل كتاب جامع لآيات ربّه القدّوس، و سجّل مطوي فيه حقائق العقول و النفوس، و كلمة كاملة مملوّة من فنون العلم و الشجون، و نسخة مكتوبة من مثال كُنْ فَيَكُونُ بل أمر وارد من (الكاف و النون) لكونه مظهر اسم اللّه الأعظم الجامع لجميع الأسماء» «3». كما قوله أيضا: «إنّ الإنسان الكامل هو الكتاب الجامع لجميع آيات الحكمة، المشتمل على حقائق الكون كلّه حديثه و قديمه» «4». و لهذا الإنسان قوّة كلّ موجود في العالم، و له جميع المراتب، لهذا: «اختصّ وحده بالخلافة الإلهية و بكونه مخلوقا على الصورة، فجمع بين الحقائق الإلهية و هي الأسماء، و بين

______________________________

(1)- نفس المصدر 1: 2.

(2)- نفس المصدر 4: 338.

(3)- نفس المصدر: 396- 397.

(4)- نفس المصدر 1: 188.

فهم القرآن، ص: 261

المراتب الكونية و هي الأجزاء، فيظهر به ما لا يظهر بجزء جزء من العالم و لا بكلّ اسم من الحقائق الإلهية، فكان الإنسان أكمل الموجودات» «1».

و عليه يضحى هذا الإنسان العبد الحقيقي الذي يجسّد العبودية في وجوده بأعلى ممكناتها، بحكم ما يحظى به من معرفة، لأنّ العبودية فرع المعرفة: «أمّا الإنسان الكامل فهو الذي يعرف الحقّ بجميع المشاهد و المشاعر، و يعبده في جميع المواطن و المظاهر، فهو عبد اللّه يعبده بجميع أسمائه و صفاته، و لهذا سمّي بهذا الاسم أكمل أفراد الإنسان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «2». على هذا: «فالكتاب إشارة إلى ذات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المعبّر عنه تارة بالقرآن ... و تارة بالفرقان» «3» و إنّ «حقيقة القرآن عند المحقّقين من العرفاء

هو جوهر ذات النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «4».

رفض منطق الحتمية

تضعنا هذه الحصيلة عن الإنسان الكامل أمام نتيجة مزدوجة، هي من أهمّ النتائج التي تترتب على هذا التصوّر الوجودي. فحيث يمثّل الإنسان الكامل الذروة القصوى في معرفة القرآن، فمعنى ذلك أنّ هناك خطّا معرفيا نازلا و متدرّجا يستوعب بقية البشر يكون لكلّ واحد منهم حظّه من المعرفة بحسب سعته

______________________________

(1)- نفس المصدر: 190.

(2)- نفس المصدر: 41- 42.

(3)- نفس المصدر 6: 22 عند تفسير قوله سبحانه: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. (السجدة (32): 2)

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 262

الوجودية أساسا، و لكن من دون إهمال قدراته الإدراكية و العقلية. لكن هل يعني ذلك الانزلاق إلى منطق الحتمية و حصر نصيب كلّ إنسان من المعرفة القرآنية في نطاق مرتبة أو درجة بعينها لا يستطيع تخطّيها؟ أبدا، الطريق للارتقاء مفتوح أمام الجميع، و بوسع كلّ إنسان أن يتحرّك على خط صاعد يقطع على أساسه الأشواط و يرتقي مراتب أعلى من المعرفة، و الشرط الأساس في ذلك هي التزكية و طهارة الباطن، لكن مرة اخرى من دون إهمال دور الإدراك. فللإدراك العقلي و المعرفة النظرية دورهما اللذان ينهضان به، إلّا أنّهما محدودان في إطار منطقة معينة.

فإذن طريق الارتقاء المعرفي للتزوّد من حقائق القرآن مفتوح أمام الإنسان، و الحركة فيه تتمّ على خلفية التزكية و نقاء القلب و طهارة الباطن، بحيث كلّما ازداد رصيد الإنسان من هذه العناصر ازداد حظّه من المعرفة القرآنية و صار بوسعه الارتقاء من مرتبة إلى ما هو أعلى منها. و النصوص على ذلك وفيرة، منها: «قد انكشف لك و دريت ممّا سرد عليك أنّ هذه العوالم كلها كتب إلهية و

صحائف رحمانية، لإحاطتها بصور الحقائق و المعاني ... يتلوها القاري العارف بقوّة فكره و صفاء سرّه و سلامة طبعه عن كدورات هذه التعلّقات، و تجرّد ذهنه و جلاء عينه عن علوق هذه الغشاوات، فيطالع ما فيها و يتدبّر في معانيها و يرتقي من بعضها إلى بعض» «1». لا يهمل النصّ الإشارة إلى الذهن و الفكر و عموم النشاط الإدراكي، لكنه لا يعوّل عليه و إنّما على تصفية الباطن و تنقية الداخل، و يجعل ذلك شرطا في قوّة الفكر و فاعلية الممارسة الذهنية.

أمامنا نص آخر يفسّر التفاوت المعرفي للناس في إدراك القرآن و فهمه على

______________________________

(1)- نفس المصدر 4: 396.

فهم القرآن، ص: 263

أساس وجودي، بحيث يوازي بين تنوّع خطابات القرآن و بين درجات الناس، بل يفسّر تنوّع الخطاب القرآني على أساس اختلاف الدرجات: «إنّ من عادة اللّه سبحانه في هذا الكتاب أن يخاطب جمهور المكلفين ب أَيُّهَا النَّاسُ، و أهل المعرفة و الإيمان منهم ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، و لأهل الولاية و القرب ب يا عِبادِيَ تنبيها على تفاوت الدرجات و تباين الرتب و المقامات؛ فإنّ لنوع الإنسان درجات متفاوتة في الحقيقة و الذات عند أهل الشهود. فمن الناس من هو في طبقة النفس الحيوانية، إلّا أنّه قابل للترقّي بالتكليف و هم أكثر الناس، و منهم من تجاوزها و بلغ حدود النفس الناطقة و هم العلماء، و منهم من بلغ إلى مرتبة العقل بالفعل و هم عباد اللّه الربانيّون» «1».

ثنائية المعرفي- الوجودي

لا ينكر صدر الدين و سلفه ابن عربي و غيرهما من أتباع هذا الاتجاه قيمة المعرفة النظرية كما لا يسقطون النشاط الإدراكي، و إنّما يتحدّثون عن طور آخر يأتي ما بعد طور العقل حيث يقتصر

دور العقل على إدراك المفهومات، أمّا التوغّل عمقا فلا يفي به النشاط الإدراكي وحده بل لا بدّ من التجرّد و صفاء القلب، و على قيمة ما يبذله المرء في هذا المجال تتفاوت العقول في الفهم العميق بعد اشتراكها في معرفة الظاهر و وعيه. يكتب: «إنّما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره و أغواره بقدر غزارة علومهم و صفاء قلوبهم، و توفّر دواعيهم على التدبّر و تجرّدهم للطلب، و يكون لكلّ عالم منهم حظّ نقص أو كمل، و لكلّ مجتهد ذوق كثر أو قلّ،

______________________________

(1)- نفس المصدر 2: 40.

فهم القرآن، ص: 264

فلهم درجات في الترقّي إلى أطواره و أغواره ... فمن هذا الوجه تتفاوت العقول في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير الذي ذكره المفسّرون، و ليس ما حصل للراسخين في العلم من أسرار القرآن و أغواره مناقضا لظواهر التفسير، بل هو استكمال له و وصول إلى لبابه عن ظاهره» «1». مرة اخرى يؤكّد النص على أنّ السعة الإدراكية و الفاعلية الذهنية و قوّة الفكر، تتوقّف على السعة الوجودية المتأتية من طهارة الباطن و صفاء القلب و سلامته. لكن في النصّ إشارة إلى ما هو أهم، و هو يصرّح أنّ الرحلة إلى أعماق القرآن لا بدّ أن تبدأ من الظاهر و تؤسّس من دون إلغاء له أو الدخول في تعارض أو قطيعة معه، ممّا تفعله الاتجاهات الباطنية في التفسير التي تلقى من صدر الدين هجوما عنيفا.

يسعى صدر الدين كابن عربي تماما إلى الاستدلال على هذا التصور الوجودي أو مقاربته على أقل تقدير من خلال القرآن نفسه، و ذلك انطلاقا من العديد من الآيات كما في قوله: «و اعلم أنّ الحقّ تعالى إله واحد و

رازق واحد و باسط واحد، ينزل منه فيض واحد ينبسط على الكلّ بقدر واحد من جانبه، لكن يختلف باختلاف الأذواق و المشارب، قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ «2» و قوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «3» فمنه عذب فرات لصفاء المحل و سلامة القلب، و منه ملح أجاج لكدورة المحل بسبب المعاصي و الآثام» «4».

______________________________

(1)- نفس المصدر 4: 161- 162.

(2)- الحجر (15): 22.

(3)- الرعد (13): 4.

(4)- تفسير القرآن الكريم 4: 413.

فهم القرآن، ص: 265

في موضع آخر يستمد من قوله سبحانه: فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1»؛ المعنى التالي: «يسمعون القول فيتبعون أحسنه، بصفاء طويّة و حسن إصغاء بعد تطهير قلبهم من صفتي الجدل و النزاع و نحوهما، متعرّضين لنفحات جود اللّه في أيام دهرهم». و هؤلاء هم الصفوة أو بتعبيره هم قبلة مخاطبي معاني القرآن و هم «المحقّقون من أهل اللّه خاصّة أو المحبّون لهم و المتشبّهون بهم، و المؤمنون بأحوالهم من أهل القلوب المنوّرة الصافية، العقول القويّة النافذة في أقطار الملكوت» «2».

على ضوء هذا التأسيس لا ينبغي أن نستغرب حديث هذه المدرسة عن قراءة أو تلاوة القلب، بل مرّ معنا في نصوص ابن عربي أنّ لكلّ عضو و جارحة في الإنسان نصيبه من القراءة و حظّه من التلاوة، ذلك أنّ: «العلم علمان، علم اللسان و علم القلب» «3». ثمّ هكذا يصف الشيرازي حال القلب في استماع كتاب اللّه:

«فاسمعوا بأسماع قلوبكم قراءة آيات اللّه، و لينفذ في بواطنكم أنوار معجزة رسول اللّه، فاتقوا اللّه و أطيعوا كلمته بقلوب صافية و بصائر مجلوّة و مرائي نقية عن الرين و الغشاوة، و اسمعوا حكمته و اقبلوا قوله بنفوس سليمة

عن الأمراض النفسانية، و أسماع خالية عن أقاويل المبتدعة الضالّة المضلّة الحائلة كالسّحاب بين صفحة الباطن و نور شمس الحقيقة، فمن لم يتصل أنوار كلام الحقّ بطباعه أو لم يتحرّك بخواطره نحوه، فلفساد فطرته الأصلية أو لغشاوة الظلمة و تراكم الحجب الحائلة بينه و بين نور الحقّ ... فلا بدّ لمن أراد أن يسلك سبيل أهل الحقّ و اليقين بعد أن يطهّر

______________________________

(1)- الزمر (39): 17- 18.

(2)- تفسير القرآن الكريم 4: 338.

(3)- نفس المصدر 6: 13.

فهم القرآن، ص: 266

نفسه عن رذائل الأخلاق أولا؛ أن يجتنب صحبة المعطّلين». النص كثيف الدلالة على دور التزكية و الطهر الباطني في الانفتاح على معاني القرآن و الارتقاء فيها من خلال ذلك.

ثالثا: الإمام الخميني
اشارة

تأتي رؤى الإمام الخميني على صعيد مرتكزات نظرية مراتب الفهم متّسقة مع تصوّرات المدرسة الوجودية، بل نجد أنّ خلفيات الرؤية متطابقة حتّى بالألفاظ بحيث يقتبس الإمام في أحايين كثيرة الصيغ التعبيرية لابن عربي و الشيرازي و عبد الرزاق الكاشاني و غيرهم من أقطاب المدرسة.

أ- مرتكزات النظرية:
اشارة

ما القرآن؟ ربما كان جواب هذا السؤال هو المفتاح الأفضل للنفوذ إلى دائرة التصور الخميني. «القرآن حقيقة» «1»؛ و هذه الحقيقة تسبق الألفاظ و تعلو عليها:

«و لا تتوهمنّ أنّ الكتاب السماوي و القرآن النازل الربّاني، لا يكون إلّا هذا القشر و الصورة» «2». و من ثمّ فهو «ليس من مقولة السمع و البصر، و لا من مقولة الألفاظ، و لا من مقولة الأعراض، لكن أنزلوه- إلى هذه- لأجلنا» «3».

الحقيقة القرآنية رفيعة سامية، يحجبها علوّها و يجعلها عصية على الإدراك ما دامت هناك، معتصمة عن الجميع لا تظهر لأحد من عمّار الملك و الملكوت ما لم

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 165.

(2)- شرح دعاء السحر: 59.

(3)- تفسير سورة حمد: 139- 140.

فهم القرآن، ص: 267

تتنزّل، و عظمة البعثة النبوية و من أهم بركاتها أنّها أذنت بتنزّل تلك الحقيقة من عالم الغيب على قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ ظهرت للبشر في كسوة الألفاظ و الحروف بحيث أصبح من الممكن التعاطي معها في نطاق الوجود الإنساني و على صعيد دائرة الإدراك: «للقرآن أبعاد، و ما دام الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يبعث، و لم يتنزّل القرآن بعد من مقام الغيب ذاك، و لم يتجلّ في جلوته النزولية على قلب رسول اللّه، فإنّه لم يظهر لأحد من موجودات الملك و الملكوت» «1»، و إنّما ظهر القرآن و

صار بين يدي البشر بفعل اتصال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمبدإ الفيض، بحيث تجلّى في قلبه، ثمّ و بعد أن قطع مراتب النزول السبع جرى على لسانه؛ و هذا النزول هو «من بركات البعثة ...

فلسان القرآن من البركات الجليلة للبعثة؛ من البركات العظيمة لبعثة رسول اللّه» «2».

هذا النزول على نحو التجلّي «3» على قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن ذا معنى

______________________________

(1)- صحيفه امام 17: 431.

(2)- نفس المصدر.

(3)- يميّز البحث العلمي بين ضربين من النزول، هما النزول على نحو التجافي و النزول على نحو التجلّي. في الأوّل ينظر إلى العلوّ و السفل على نحو مكاني، فهذا الكتاب يوجد في مكان عال الآن، عند ما يأخذه أحدهم و يضعه في مكان دان، يقال فيه أنّه كان عاليا و صار الآن سافلا. من أبرز خصائص النزول على نحو التجافي أنّ الشي ء يكون في مكان و لا يكون في آخر. على هذا جرت الآية في قوله سبحانه: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، (السجدة (32): 16)، فعند ما ينهض هؤلاء لا تبقى جنوبهم في المضجع بل تتجافى عنه و تتباعد.

أمّا الضرب الآخر من النزول (على نحو التجلّي) فأبرز خصوصية فيه أنّ الشي ء إذا تنزّل لا يفقد وجوده في العلوّ و لا يفقد مرتبته الحضورية فيه، على ما يومئ إليه القرآن بقوله: فَلَمَّا

فهم القرآن، ص: 268

لو كان القرآن هو مجرّد هذه الألفاظ و الصورة اللفظية المطويّة بين الدفتين، بل صار ذلك ممكنا لأنّه تعبير عن حقيقة: «لو كان القرآن هو هذه الأجزاء الثلاثين لم يكن ممكنا أن ينفذ إلى القلب مرّة واحدة، خاصة هذه القلوب العادية. لكن القلب هو باب آخر

و القرآن تعبير عن حقيقة، و هذه الحقيقة تنفذ إلى القلب أيضا» «1».

يبدو هذا الفهم للقرآن الذي يتعامل مع كتاب اللّه على أنّه حقيقة متنزّلة من عالم الغيب، و أنّ الصورة اللفظية هي آخر ضروب التنزّل لكي يكون التعامل مع هذه الحقيقة و فهمها ممكنا؛ هذا الفهم يبدو أيسر إدراكا و هضما حين ننظر إليه في إطار المنظومة بأكملها، إذ ستبدو الصورة أكثر اتساقا و ستكون الأجزاء مترابطة على نحو منسجم.

المنطلق في الاتجاه الوجودي هو التوازي بين العالم و القرآن و الإنسان، و إنّ هذه العناصر الثلاثة هي تجليات لاسم اللّه الأعظم و ما تحته من الأسماء، و من ثمّ فهي متعدّدة المراتب.

الوجود في إطار هذه الرؤية كتاب أو كتب إلهية، و ما تحويه تضاعيفها هي سور و آيات تكوينية: «إنّ سلسلة الوجود من عنصرياتها و فلكياتها، و أشباحها

______________________________

- تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ (الأعراف (7): 143). يمكن تقريب الفارق بمثال من النشاط العلمي للإنسان، فإذا ما كانت عند الإنسان فكرة في ذهنه، ثمّ بادر إلى كتابتها على الورق، فستتنزّل هذه الفكرة من مرتبة العقل إلى مرتبة الورق، لكن من دون أن تفقد الفكرة وجودها في الذهن، فهي مع تنزّلها إلى مرتبة التدوين على الورق تحافظ على وجودها في الذهن.

و كذلك تنزّل القرآن الكريم، فهو على نحو التجلّي، إذ أنّ وجوده الكتبي ما بين الدفتين، ليس بديلا عن وجوده في المراتب الأخرى.

(1)- تفسير سورة حمد: 165.

فهم القرآن، ص: 269

و أرواحها، و غيبها و شهودها، و نزولها و صعودها، كتب إلهية و صحف مكرّمة ربوبية و زبر نازلة من سماء الأحدية، و كلّ مرتبة من مراتبها و درجة من درجاتها من السلسلتين الطولية و العرضية، آيات مقروّة

على آذان قلوب الموقنين الذين خلصت قلوبهم عن كدورة عالم الهيولى و غبارها و انتبهوا عن نومتها، متلوّة على الذين انبعثوا من قبر عالم الطبع، و تخلصوا من سجن المادة الظلمانية و قيودها» «1».

الوجود كتب إلهية تطوي سورا و آيات، و له مراتب، و هو يتلى تلاوة نفسية قلبية. هذه الدلالات نلمسها بأجمعها في نص آخر يسجّل فيه الإمام: «إنّ عوالم الوجود و إقليم الكون من الغيب و الشهود كتاب و آيات و كلام و كلمات، و له أبواب مبوّبة، و فصول مفصّلة، و مفاتيح يفتتح بها الأبواب و مخاتيم يختتم بها الكتاب.

و لكلّ مفتاح أبواب، و لكلّ باب فصول، و لكلّ فصل آيات، و لكلّ آية كلمات، و لكلّ كلمة حروف، و لكلّ حرف زبر و بيّنات». ثمّ يضيف مواصلا بعد سوق عدد من المقاربات بين الوجود و الإنسان، بما نصّه: «و بين فاتحة الكتاب [التكويني] و خاتمته سور و آيات و أبواب و فصول. فإن اعتبر الوجود المطلق و التصنيف الإلهي المنسّق بمراتبه و منازله كتابا واحدا، يكون كلّ عالم من العوالم الكلية بابا و جزء من أبوابه و أجزائه، و كلّ عالم من العوالم الجزئية سورة و فصلا، و كلّ مرتبة من مراتب كلّ عالم أو كلّ جزء من أجزائه آية و كلمة، و كأنّ قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ «2» إلى آخر الآيات راجع إلى هذا الاعتبار. و إن اعتبرت سلسلة الوجود كتبا متعدّدة و تصانيف متكثّرة يكون كلّ عالم

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 145.

(2)- الروم (30): 20.

فهم القرآن، ص: 270

كتابا مستقلا، له أبواب و آيات و كلمات باعتبار المراتب و الأنواع

و الأفراد، و كان قوله تعالى: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1» بحسب هذا الاعتبار.

و إن جمعنا بين الاعتبارين يكون الوجود المطلق كتابا له مجلّدات، كلّ جلد له أبواب و فصول و آيات بيّنات» «2».

يتكامل هذا التصوّر الوجودي الذي يذهب إلى أنّ الكون قرآن تكويني؛ يتكامل عبر ضلعين آخرين يفيد الأوّل أنّ الإنسان على صغره هو كون جامع، على حين يفيد الثاني بأنّه قرآن مطو. عن الضلع الأوّل نقرأ للإمام قوله: «اعلم أنّ الإنسان هو الكون الجامع لجميع المراتب العقلية و المثالية و الحسية، منطو فيه العوالم الغيبية و الشهادية» «3». ثمّ يستشهد بهذا البيت من الشعر المنسوب، إلى الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام:

أ تزعم أنّك جرم صغيرو فيك انطوى العالم الأكبر يعقّب على هذا المعنى بقوله: «فهو مع الملك ملك، و مع الملكوت ملكوت، و مع الجبروت جبروت». ثمّ ينعطف بعدئذ للاستدلال بكلام مروي عن الإمامين علي بن أبي طالب و جعفر الصادق عليهما السّلام فيه: «اعلم أنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجج اللّه على خلقه، و هي الكتاب الذي كتبه بيده، و هي الهيكل الذي بناه بحكمته، و هي مجموع صورة العالمين، و هي المختصر من اللوح المحفوظ، و هي الشاهد على كلّ غائب، و هي الطريق المستقيم إلى كلّ خير، و الصراط الممدود بين الجنة و النار» «4».

______________________________

(1)- الأنعام (6): 59.

(2)- شرح دعاء السحر: 51 و 53.

(3)- نفس المصدر: 7.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 271

إمعانا في تركيز هذا المعنى الذي يفيد توازي الإنسان مع الوجود و أنّه الجامع للصور الكونية بأجمعها ينقل عن عبد الرزاق الكاشاني، قوله: «الإنسان هو الكون الجامع الحاصر

لجميع مراتب الوجود» «1».

الوجود كلّه و بمداه الأقصى الذي يضم عالم الإمكان و ما فيه هو كلمات اللّه المبثوثة في العالم و الإنسان و القرآن، و هذه بأجمعها آيات و تجليات و مظاهر لأسماء اللّه، و الكلّ من عند اللّه و لا شي ء غير اللّه سبحانه. يقتبس الإمام النص التالي عن صدر الدين الشيرازي: «إنّ هذا القرآن انزل من الحقّ إلى الخلق مع ألف حجاب لأجل ضعفاء عيون القلوب» ليعقّب عليه بما يفيد أنّ الكتاب التكويني (الوجود) و القرآن الإلهي الناطق في ذروته العليا التي يمثلها الإنسان الكامل، هو أيضا نازل عن اللّه سواء بسواء مع القرآن: «و أنا أقول: إنّ الكتاب التكويني الإلهي [الوجود] و القرآن الناطق الربّاني [الإنسان الكامل] أيضا نازل من عالم الغيب و الخزينة المكنونة الإلهية مع سبعين ألف حجاب لحمل هذا الكتاب التدويني الإلهي [القرآن الكريم] و خلاص النفوس المنكوسة المسجونة عن سجن الطبيعة و جهنامها ... فهذا الكتاب التكويني الإلهي و أولياؤه الذين كلّهم كتب سمائية نازلون من لدن حكيم عليم، و حاملون للقرآن التدويني، و لم يكن أحد حاملا له بظاهره و باطنه إلّا هؤلاء الأولياء المرضيين» «2».

انطلاقا من هذا التوازي الوجودي و تأسيسا عليه تواجهنا كثافة ملحوظة في نصوص الإمام تتحدّث عن التطابق بين الوجود و الإنسان و القرآن، من ذلك مثلا ما

______________________________

(1)- نفس المصدر: 8.

(2)- نفس المصدر: 57- 58.

فهم القرآن، ص: 272

يذكره عن القرآن و الإنسان و العالم: «اعلم أنّه كما أنّ للكتاب التدويني الإلهي بطونا سبعة باعتبار و سبعين بطنا بوجه، لا يعلمها إلّا اللّه و الراسخون في العلم و لا يمسّها إلّا المطهّرون من الأحداث المعنوية و الأخلاق الرذيلة السيّئة، و المتحلّون بالفضائل

العلمية و العملية ... كذلك الكتب التكوينية الإلهية الأنفسية [الإنسان] و الآفاقية [العالم] حذوا بالحذو و نعلا بالنعل، فإنّ لها بطونا سبعة أو سبعين» «1».

في نص آخر تظهر المحاكاة واضحة بين القرآن و الإنسان، إذ نقرأ في وصف القرآن «القرآن سرّ، سرّ السرّ، سرّ مستسرّ بالسرّ، سرّ مقنّع بالسرّ، ينبغي أن يتنزّل، أن يهبط، لكي يصل إلى هذه المراتب النازلة ثمّ ينبغي أن يتنزّل أيضا [من مقام قلب النبي] ليصير إلى الموضع الذي يفهمه به الآخرون» «2». و عن الإنسان: «كذلك الإنسان، الإنسان أيضا سرّ، و هو سرّ السرّ أيضا. ما نراه من الإنسان هو بعد ظاهري و حسب، هو البعد الحيواني. ما نراه هو هذا الحيوان و حسب و لا شي ء غيره، حيوان أسوأ من بقية الحيوانات. لكن حيوان له هذه الخاصية: بمقدوره بلوغ الإنسانية، و بلوغ مراتب الكمال و الكمال المطلق ... تلك المراتب هي سرّ بأجمعها، و هذا هو الظاهر [الذي يبدو أمامنا]».

بعد هذه الموازاة بين القرآن و الإنسان ينعطف النص مباشرة إلى الضلع الثالث المتمثل بالعالم، ليخضع بدوره إلى المقاربة ذاتها، و إلى العلاقة التوازويّة نفسها، حيث يقول: «إنّ عالم الطبيعة هذا هو من السرّ أيضا، فثمّ هاهنا مسألة هي أنّنا لا نستطيع أن ندرك شيئا من الجواهر، و كلّ ما ندركه من الأجسام هو الأعراض.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 59.

(2)- تفسير سورة حمد: 165- 166.

فهم القرآن، ص: 273

فأعيننا ترى هذا اللون و هذه الظواهر، و آذاننا تسمع الصوت، و ذائقتنا تدرك الطعم، و أيدينا تلمس الظاهر و حسب؛ و هذه أعراض بأجمعها، فأين الجسم؟ ... و عند ما يريد الإنسان أن يمارس التعريف فهو يفعل ذلك بالأوصاف و الأعراض، فإذن أين

هو الجسم نفسه؟ الجسم أيضا سرّ، ظلّ لذلك السرّ، ظلّ لتلك الأحدية التي نعرف أسماءها و صفاتها، و إلّا فالعالم نفسه غيب، الظاهر منه أسماؤه و صفاته» «1».

هذه القاعدة التي تتمثّل باندراج كلّ ممكن من الممكنات في نطاق عالمي الغيب و الشهادة، بحيث ينطوي كلّ موجود إمكاني على المرتبتين معا، لا تقتصر على الطبيعة وحدها بل تسري في كلّ شي ء: «ربّما كانت إحدى مراتب (الغيب) و (الشهادة) هو هذا المعنى الذي يفيد أنّ عالم الطبيعة نفسه يتألّف من غيب و شهادة ... و هذا السرّ موجود في كلّ شي ء، بمعنى أنّ الغيب و الشهادة يسريان في كلّ مكان» «2».

الإنسان الكامل

تبقى نقطة بحاجة إلى إيضاح ترتبط بالإنسان، فعند ما تتحدّث النظرية الوجودية عن التناظر بين القرآن و الإنسان و العالم، فإنّما تعني بالإنسان في الدرجة الاولى الإنسان الكامل الذي يعدّ الذروة العليا لتجلّيات الأسماء و الصفات، بل هو الكون الجامع و التجلّي الأكبر للاسم الأعظم، و من ثمّ فهو يمثّل على خطّ المعرفة المرتبة القصوى، إذ هو يعيش الحقيقة القرآنية مباشرة و عيانا، بل هو هي، و هي هو

______________________________

(1)- نفس المصدر: 166.

(2)- نفس المصدر: 166- 167.

فهم القرآن، ص: 274

قبل أن يفترقا في النزول و يصيران مظهرين و تجليين. ثمّ يلي هذا الإنسان من يليه بدرجات الكمال، و يستمرّ التدرّج ليكون لكلّ إنسان حظّه من المعرفة الذي يتوازى مع كماله وسعته الوجودية.

فعند ما يصف الإمام الإنسان بأنّه «كون جامع و له بحسب المراتب النزولية و الصعودية نشأت و ظهورات و عوالم و مقامات، فله بحسب كلّ نشأة و عالم لسان يناسب مقامه» «1»، فإنّ المقصود بذلك في الدرجة الاولى هو الإنسان الكامل، أو أنّ هذا الأخير

هو المصداق الأتمّ لهذا التصوّر ثمّ يليه من يليه بالكمال.

هذه المنزلة التي يحظى بها الإنسان تبدو أوضح في النصّ التالي: «ثمّ اعلم أنّ الإنسان الكامل لكونه كونا جامعا و خليفة اللّه في الأرضين و آية اللّه على العالمين، كان أكرم آيات اللّه و أكبر حججه ... فهو بوحدته واجد لجميع مراتب الغيب و الشهادة، و ببساطة ذاته جامع لكلّ الكتب الإلهية، كما في الآثار العلوية صلوات اللّه عليه:

أ تزعم أنّك جرم صغيرو فيك انطوى العالم الأكبر و قال الشيخ الكبير محيى الدين العربي الأندلسي:

أنا القرآن و السبع المثاني و روح الروح لا روح الأواني ... و قيل:

ليس من اللّه بمستنكرأن يجمع العالم في واحد» «2» على أنّ الإنسان الكامل لا يحظى بهذه المرتبة الجامعة لنواميس الوجود في

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 129.

(2)- نفس المصدر: 146- 147.

فهم القرآن، ص: 275

مرتبتي الغيب و الشهادة و الملك و الملكوت جزافا، بل لموقعه إزاء الأسماء و الصفات: «و الإنسان الكامل لكونه كونا جامعا و مرآة تامّة لجميع الأسماء و الصفات الإلهية، أتمّ الكلمات الإلهية، بل هو الكتاب الإلهي الذي فيه كلّ الكتب الإلهية، كما قال مولانا أمير المؤمنين و سيد الموحدين صلوات اللّه و سلامه عليه:

أ تزعم أنّك جرم صغيرو فيك انطوى العالم الأكبر

و أنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر» «1» لهذا الإنسان نشأة و كينونة غير هذه النشأة الترابية في العالم الأرضي، تسبق بحسب تعبيرهم قوس النزول، حيث يستدلّ الإمام عليها كما يلي: «قال اللّه تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «2» و هذا بحسب القوس النزولي، و يدلّ على الكينونة السابقة قبل عالم الطبيعة» «3». ليس هذا فحسب بل له التقدّم على غيره

من مظاهر الأسماء و الصفات لأنّه المصداق الأتمّ للاسم الأعظم، و ما دامت بقية الأسماء تندرج تحت الاسم الأعظم، فكذلك مظاهرها الوجودية و تجلّياتها في عالم الإمكان تندرج تحت سلطة المظهر الأعظم و المتمثّل بالإنسان الكامل. يكتب الإمام: «فالإنسان الكامل [جامع ل] جميع سلسلة الوجود و به يتمّ الدائرة، و هو الأوّل و الآخر و الظاهر و الباطن، و هو الكتاب الكلّي الإلهي. و الاعتبارات الثلاثة يأتي فيه أيضا، فإن اعتبر كتابا واحدا كان سرّه و روحه و عقله و نفسه و خياله و طبعه أبوابا و سورا و مراتب كلّ واحد منها آيات و كلمات إلهية، و إن اعتبر كتبا متعدّدة كان كلّ واحد منها كتابا مستقلا له أبواب

______________________________

(1)- نفس المصدر: 54.

(2)- التين (95): 4- 5.

(3)- شرح دعاء السحر: 55.

فهم القرآن، ص: 276

و فصول، و إنّ جمع بين الاعتبارين كان كتابا ذا مجلدات و قرآنا ذا سور و آيات، فهو بالوجود التفريقي و باعتبار التكثّر فرقان، كما ورد أنّ عليا عليه السّلام فيصل بين الحقّ و الباطل، و باعتبار الوجود الجمعي قرآن» «1».

على هذا يغدو من الطبيعي أن نقرأ في وصف هذا الإنسان: «اعلم أنّ الإنسان الكامل هو مثل اللّه الأعلى و آيته الكبرى و كتابه المستبين و النبأ العظيم، و هو مخلوق على صورته و منشؤه بيدي قدرته و خليفة اللّه على خليقته، و مفتاح باب معرفته، من عرفه فقد عرف اللّه، و هو بكلّ صفة من صفاته و تجلّ من تجلياته آية من آيات اللّه» «2».

ذكرنا أنّ الإنسان الكامل استحقّ موقعه و هذه النعوت و الأوصاف، لأنّه التجلي الأكمل الأتمّ للأسماء و الصفات خاصّة الاسم الأعظم: «و اعلم أنّ الأسماء و

الصفات الإلهية كلّها كامل بل نفس الكمال، لعدم النقص هناك حتّى يجبر، و كلّ كمال ظهور كمال الأسماء الإلهية و تجلياتها، و أكمل الأسماء هو الاسم الجامع لكلّ هذه الكلمات، و مظهره الإنسان الكامل المستجمع لجميع الصفات و الأسماء الإلهية و المظهر لجميع تجلياته» «3».

ما دمنا نتحرّك في نطاق الرؤية الوجودية التي تنظر إلى عالم الإمكان و ما فيه بوصفه مظاهر و تجليات و آيات لأسماء اللّه و صفاته التي ترجع بأجمعها إلى الاسم الأعظم، فمن المهمّ أن نلحظ مكانة هذا الاسم في نصوص هذه المدرسة لكي ندرك على أساس ذلك مكانة الإنسان الكامل الذي يعدّ مظهر ذلك الاسم. يكتب الإمام

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- نفس المصدر: 56.

(3)- نفس المصدر: 66.

فهم القرآن، ص: 277

موضّحا: «أمّا الاسم الأعظم بحسب مقام الالوهية و الواحدية هو الاسم الجامع لجميع الأسماء الإلهية، جامعية مبدئ الأشياء و أصلها لها و النواة للأشجار من الفروع و الأغصان و الأوراق، أو اشتمال الجملة على أجزائها كالعسكر [على] الأفواج و الأفراد. و هذا الاسم بالاعتبار الأوّل بل بالاعتبار الثاني أيضا حاكم على جميع الأسماء، و جميعها مظهره، و مقدّم بالذات على مراتب الإلهية» «1».

من الطبيعي أن يحظى مظهر هذا الاسم و تجليه في عالم الوجود بما لهذا الاسم من شمول و جامعية، و أن يكون حاكما على مظاهر بقية الأسماء و الصفات ممّا يقع دون الاسم الأعظم. لكن من هو متجلّى هذا الاسم، أو من هو مصداقه أو مظهره في العالم الإنساني؟ يواصل الإمام النص المذكور آنفا بقوله: «لا يتجلّى هذا الاسم بحسب الحقيقة تامّا إلّا لنفسه، و لمن ارتضى من عباده و هو مظهره التامّ، أي صورة الحقيقة الإنسانية التي هي صورة جميع

العوالم و هي مربوب هذا الاسم، و ليس في النوع الإنساني أحد يتجلّى له هذا الاسم على ما هو عليه إلّا الحقيقة المحمدية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أولياؤه الذين يتحدون معه في الروحانية» «2».

تتقدّم هذه الرؤية خطوة اخرى إلى الأمام في بيان موقع الإنسان الكامل أو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من الاسم الأعظم حين نقرأ في نصوصها: «أمّا الاسم الأعظم بحسب الحقيقة العينية فهو الإنسان الكامل خليفة اللّه في العالمين، و هو الحقيقة المحمّدية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ... و هذه البنية المسماة بمحمد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النازلة من عالم العلم الإلهي إلى عالم الملك لخلاص المسجونين في سجن عالم الطبيعة، مجملة

______________________________

(1)- نفس المصدر: 76- 77.

(2)- نفس المصدر: 77.

فهم القرآن، ص: 278

تلك الحقيقة الكلّية، و انطوى فيها جميع المراتب انطواء العقل التفصيلي في العقل البسيط الإجمالي» «1».

ليس غريبا أن يلجأ النص إلى استخدام الألفاظ ذاتها التي يصف بها بركة نزول القرآن إلى البشرية، و يوحّد بينهما في الغاية، إذ القرآن هو الآخر نزل ل «خلاص النفوس المنكوسة المسجونة من سجن الطبيعة و جهنامها، و هداية غرباء هذا الديار الموحشة إلى أوطانها» «2». كما قوله أيضا: «إنّ نزول هذا الكتاب الإلهي العظيم من عالم الغيب الإلهي و القرب الربوبي، لاستفادتنا نحن المهجورين و لخلاصنا نحن المسجونين في سجن الطبيعة و المغلولين في سلاسل هوى النفس المغلقة المكبّلين بآمالها؛ نزوله بصورة اللفظ و صيرورته في هيئة الكلام، إنّما هو من أعظم مظاهر الرحمة الإلهية المطلقة» «3».

ترجع واحدة من بواعث هذا التوحّد في الوصف بين الإنسان الكامل و القرآن،

إلى أنّ القرآن الكريم هو أيضا صورة الاسم الأعظم و نظير الإنسان الكامل، بل حقيقتهما عند مقام الغيب واحدة، ثمّ افترقا بالنزول: «هذا الكتاب الشريف هو صورة أحدية جمع جميع الأسماء و الصفات، و معرّفا لمقام الحقّ المقدس بتمام الشئون و التجليات. بعبارة اخرى إنّ هذه الصحيفة النورانية صورة الاسم الأعظم تماما كما أنّ الإنسان الكامل هو صورة الاسم الأعظم أيضا؛ بل حقيقة هذين الاثنين في الحضرة الغيبة واحدة، و إنّما تفرّقا في عالم التفرقة بحسب الصورة، على حين أنّهما لن يفترقا أيضا بحسب المعنى. و هذا أحد معاني: «لن

______________________________

(1)- نفس المصدر: 77- 78.

(2)- نفس المصدر: 58.

(3)- آداب الصلاة: 66.

فهم القرآن، ص: 279

يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض» «1». فكما أنّ الحقّ تعالى خمّر طينة آدم الأوّل و الإنسان الكامل بيدي الجلال و الجمال، فبيدي الجلال و الجمال كذلك أنزل الكتاب الكامل و القرآن الجامع. و ربما لهذه الجهة يقال له «قرآن»؛ لأنّ مقام الأحدية جمع الوحدة و الكثرة. لهذا لا يعدّ هذا الكتاب قابلا للنسخ و الانقطاع، لأنّ الاسم الأعظم و مظاهره أزليان و أبديان، و الشرائع كافة ما هي إلّا دعوة إلى هذه الشريعة و الولاية المحمدية» «2».

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الإنسان الكامل و الإنسان الكامل هو تجلّ للأسماء و الصفات، فالنبي تجلّ للأسماء و الصفات و بخاصّة الاسم الأعظم، و القرآن كذلك، و عندئذ يكون النبي تجلّيا للقرآن النصّي مثلما أنّ هذا القرآن هو تجلّ للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

هذه العلائق الوثيقة بين الإنسان و القرآن و الأسماء و الصفات تدلّل عليها نصوص الإمام بكثافة، من ذلك قوله: «رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم إنسان كامل يقع على رأس مخروط هذا العالم. و الذات المقدسة للحق تعالى التي هي غيب و في الوقت ذاته ظاهرة، و تستجمع كلّ الكمال [الكمالات] على نحو غير متناه، متجلّية في الرسول الأكرم بتمام الأسماء و الصفات، مثلما هي متجلّية في القرآن بتمام الأسماء و الصفات» «3». و عن العلاقة التبادلية بين النبي و القرآن و كيف أنّ القرآن هو مفتاح معرفة النبي لأنّه مجلاة له و كاشف لحقيقته، و من ثمّ فهو مفتاح معرفة اللّه، بحكم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو التجلّي التام للحق سبحانه؛ عن هذه العلاقة يواجهنا النص التالي: «القرآن معرّف الرسول الأكرم تماما كما الرسول الأكرم نفسه ... ولي اللّه فهم القرآن 279 الإنسان الكامل ..... ص : 273

____________________________________________________________

(1)- إشارة إلى حديث الثقلين الشهير، ينظر: بحار الأنوار 2: 100.

(2)- آداب الصلاة: 321.

(3)- صحيفه امام 12: 421، و النص يعود إلى سنة 1980.

فهم القرآن، ص: 280

الأعظم جلوة تامّة للحق تعالى تماما كما القرآن أيضا، فالقرآن هو كذلك جلوة تامّة للّه تعالى. بمعنى أنّ القرآن تجلّى بجميع الأسماء و الصفات، و أنّ ولي اللّه الأعظم و الرسول الأكرم مع ما له من تلك الإشراقات التي لا معرفة لنا بها تحقّق في القرآن مع جميع الأسماء و الصفات ... و كلّما بذل الإنسان جهدا في التأمّل بهذا الكتاب المقدس و اهتم به أكثر، سيكون له نصيب أكبر في معرفة من جاء به، و أي إنسان كان» «1».

ب- النتائج المترتبة:
اشارة

يترتب على المرتكزات المذكورة عدد من النتائج التي يمكن الإشارة إلى أهمّها، كما يلي:

1- حقيقة ما وراء اللفظ

ليس القرآن الكريم هو هذه الألفاظ الموجودة ما بين الدفتين و حسب، بل هو قبل هذا حقائق و واقعيات لها تأثيرها الخاص. يكتب الإمام: «إنّ القرآن كلّه حقائق في العوالم، و لها تأثيرات مخصوصة، و ليست حقيقتها مجرّد مقرويتها من جبرائيل بل المقرويّة لجبرائيل لا ربط لها في الماهية» «2». و هذه الصور اللفظية التي بين أيدينا تمثّل النزول الأخير للحقيقة القرآنية من مقام الغيب، لكي يكون بمقدور

______________________________

(1)- نفس المصدر 20: 408، و النص يعود إلى السنة 1987.

(2)- شرح دعاء السحر: 90، و يلحظ و يقارن مع الشيرازي الذي قال عن القرآن بأنّه «علم بحقائق الأشياء» تفسير القرآن الكريم 7: 103. و الحقيقة أنّ هذه المقارنة تجري في النتائج كافة التي سنتوفر على ذكرها، و هي لا تقتصر على صدر الدين الشيرازي وحده بل تشمل ابن عربي أيضا.

فهم القرآن، ص: 281

العقل الإنساني أن يتماسّ بها و يغترف منها، رحمة من اللّه بعباده: «لقد أنزل اللّه تبارك و تعالى هذا الكتاب من مقام قربه و قدسه لسعة رحمته بالعباد، و قد تنزّل به بحسب تناسب العوالم حتّى بلغ هذا العالم الظلماني و سجن الطبيعة، و صار بكسوة الألفاظ و على صورة الحروف» «1».

لذا فإنّ المهمة الأساسية في التعاطي مع القرآن الكريم لا ينبغي أن تحدّ بهذا الظاهر و حسب، بل لا بدّ من التوغّل صوب تلك الحقيقة.

2- معرفة الحدّ الأقصى

المقصود من الإنسان بالدرجة الأساس هو الإنسان الكامل الذي يتحلّى بالمرتبة القصوى من معرفة القرآن، بل هو مظهر وجودي له كما القرآن مظهر نصّي له، بل هو حقيقته. فكما أنّ: «هذه الصحيفة النورانية [القرآن الكريم] صورة «الاسم الأعظم» فكذلك الإنسان الكامل صورة الاسم الأعظم أيضا، بل حقيقتهما واحدة

في حضرة الغيب» «2». و المصداق الإنساني و المظهر الأتمّ الأكمل للإنسان الكامل هو النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته.

على هذا سيكون من الطبيعي أن يحظى النبي و أهل بيته بالمرتبة القصوى من معرفة القرآن، و هي معرفة معايشة و معاينة، لأنّ القرآن هو جوهر ذات النبي و آله تبعا له، ثمّ يليه من يليه تبعا لسعته الوجودية و الفكرية. يكتب الإمام: «و لم يكن أحد حاملا له بظاهره و باطنه، إلّا هؤلاء الأولياء المرضيون» «3».

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 184.

(2)- نفس المصدر: 321.

(3)- شرح دعاء السحر: 58.

فهم القرآن، ص: 282

مع أنّ هذه النتيجة في انحصار المعرفة القصوى بالنبي و أهل بيته تبدو طبيعية من حيث البناء المنطقي لتصوّرات هذه المدرسة، إلّا أنّ الإمام يقرّبها بل يستدلّ عليها بضروب الاستدلال، فمن النقل يسوق عددا من النصوص الروائية الدالة، منها: «فمن طريق «الكافي» عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كله ظاهره و باطنه غير الأوصياء» «1». و من طريق «الكافي» أيضا عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلّا كذّاب، و ما جمعه و حفظه كما نزّله اللّه تعالى إلّا علي بن أبي طالب عليه السّلام و الأئمّة من بعده عليهم السّلام» «2». و منه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، أنّه قال: «و عندنا و اللّه علم الكتاب كله «3»» «4».

ممّا قارب به هذا المعنى من النقل أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو المخاطب بالقرآن أولا و بالذات، و وفاقا لقاعدة: «إنّما يعرف

القرآن من خوطب به» «5» فهو الذي يتحلّى بالذروة العليا في فهمه، و له منه الحدّ الأقصى الذي لا يشاركه به حتّى واسطة الوحي جبرائيل عليه السّلام. ففي معرض إشارته إلى تفاوت الانتفاع بكتاب اللّه و الإفادة منه يشير الإمام إلى الحدّ الأقصى، بقوله: «تلك الاستفادة التي ينبغي [و التي يعجز عنها الآخرون] الاستفادة تلك هي بحسب: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به»

______________________________

(1)- الكافي 1: 228/ 2.

(2)- نفس المصدر 1: 228/ 1.

(3)- نفس المصدر 1: 229/ 5.

(4)- شرح دعاء السحر: 58- 59.

(5)- الكافي 8: 311/ 485، بحار الأنوار 24: 237/ 6 و 46: 349/ 2.

فهم القرآن، ص: 283

هي التي يختصّ بها رسول اللّه نفسه» «1».

و في موضع آخر يشير إلى الحدّ الأقصى المتمثّل بالنبي و آله، على النحو التالي: «إنّ حدّ القرآن هو: إنّما يعرف القرآن من خوطب به ... و مفاد لا يعرفه إلّا من خوطب به هو الرسول الأكرم نفسه، بمعنى أنّ الواسطة تعجز عن الفهم أيضا، أي أنّ جبرائيل لا يستطيع الفهم أيضا. إنّ جبرائيل الأمين هو محض واسطة تلا على النبي الآيات التي أتى بها من الغيب و امر بإيصالها إليه، لكنّه ليس «من خوطب به»؛ «من خوطب به» هو الرسول الأكرم فقط، و الآخرون فهموا بواسطته؛ بواسطة ذلك النور الذي في قلب حضرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهموه بواسطة ذلك التعليم النوري الذي تحوّل به من قلبه إلى قلب الخواص» «2».

كما يعبّر عن المعنى ذاته الذي يفيد أنّ للنبي من القرآن الحد الأقصى، في موضع آخر بقوله: «إنّ الفائدة التي يجنيها النبي الأكرم من القرآن، هي غير الفائدة التي يجنيها الآخرون، ذلك إنّما يعرف القرآن

من خوطب به ... فمن نزل عليه القرآن يعرفه، يعرف كيف نزل، و كيفية النزول، و يعرف المقصد من هذا النزول، و محتواه و الغاية من هذه العملية» «3».

إلى جوار ما تقتضيه المنظومة الفكرية ذاتها و ما ساقه الإمام من أدلة نقلية، استدلّ على هذه النتيجة التي تفيد أنّ الفهم الأقصى هو من نصيب الإنسان الكامل و حسب، باستدلال عقلي مؤدّاه أنّ المحدود لا يحيط بغير المحدود، و للإنسان الكامل أحاطه لأنّه مظهر الكامل، فهو في معرفة القرآن يمثّل الحدّ الأقصى. يقول:

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 139.

(2)- صحيفه امام 18: 262، و النص يعود إلى خطاب الإمام عام 1983.

(3)- نفس المصدر 19: 355- 356، و النص يعود لخطاب ألقاه الإمام صيف 1985.

فهم القرآن، ص: 284

«لا يستطيع المحدود أن يحيط بغير المحدود إلّا أن يكون غير محدود أيضا. الإنسان الكامل غير محدود، الإنسان الكامل غير محدود في جميع الصفات و هو ظلّ الذات الإلهية المقدسة، و من ثمّ فهو الذي يستطيع أن يدرك الإسلام كما هو، و الإنسان كما هو، و البعثة كما هي، و القرآن كما هو و العالم كما هو» «1».

3- معالجة معضلة «السرّ»

على ضوء النتيجتين السالفتين يمكن التعامل بوضوح مع كثرة وافرة من نصوص الإمام حيال القرآن و حل معضلها؛ تلك النصوص التي تنصّ على أنّ القرآن سرّ و سرّ السرّ، و هو ليس من شأننا، و لا يدركه إلّا من خوطب به. فالمقصود بهذه النصوص أولا حقيقة القرآن، و ليس ألفاظه و أوائل مفهوماته و أحكامه الفقهية و منطقة واسعة من عظاته و زواجره و نواهيه بل كلّ ظواهره. و كذلك المقصود بها ثانيا الحدّ الأقصى من المعرفة الوجودية الكنهية الحقيقية، و ليس المعرفة

النظرية التي هي متاحة للجميع بعد توفر أدواتها. من ذلك مثلا، قوله: «القرآن سرّ، سرّ السرّ، سرّ مستسر بالسرّ، سرّ مقنّع بالسرّ». القرآن في هذه المرحلة هو ممّا يختصّ بالنبي و آله صلوات اللّه عليهم أجمعين. لكن بعد التنزّل من ذلك الأفق إلى عالم العقل و الحس يكون متاحا للجميع و إن بدرجات تلي الدرجة القصوى للنبي و آله.

و هذا ما تفيده تتمّة النص نفسه، التي نقرأ فيها: «ينبغي أن يتنزّل و يتنزّل، لكي يصل إلى المراتب النازلة. حتّى عند ما نفذ إلى قلب رسول اللّه فقد تنزّل أيضا، تنزّل تنزّلا حتّى ورد إلى القلب. ثمّ ينبغي أن ينزل من هناك أيضا إلى أن يبلغ الموقع الذي

______________________________

(1)- نفس المصدر 12: 420.

فهم القرآن، ص: 285

يمكن للآخرين أن يفهموه» «1».

كذلك قوله: «ليس القرآن بمستوانا، ليس هو بمستوى البشر، القرآن سرّ بين الحقّ و وليّ اللّه الأعظم الذي هو رسول اللّه». هنا الحديث أيضا عن حقيقة القرآن في مقام الغيب قبل أن يتنزّل إلى أفق عالم الشهادة و يقع في كسوة الحروف و الألفاظ و في نطاق الإدراك العقلي، كما تدلّ على ذلك تتمّة النص الذي نقرأ فيه: «نزل القرآن بتبع رسول اللّه، حتّى بلغ المرتبة التي ظهر بها بصورة الحروف، و بصيغة كتاب» «2». كذلك عند ما يسجّل سماحته عن القرآن: «إن يد آمال العائلة البشرية قصيرة عن نيله». فالكلام كلّه ينصب على حقيقة القرآن من جهة، و على معرفة الحد الأقصى من جهة اخرى. و ربّما كان في المقتبس التالي الذي وردت فيه الجملة أعلاه ما يضي ء هذه الحقيقة، حيث يكتب في كتاب «آداب الصلاة» ما نص ترجمته: «إنّ فهم عظمة كلّ شي ء بفهم حقيقته،

و حقيقة القرآن الإلهي الشريف قبل التنزّل إلى المنازل الخلقية [من الخلق] و التطوّر بالأطوار الفعلية، هي من الشئون الذاتية و الحقائق العلمية للحضرة الواحدية، و تلك حقيقة «الكلام النفسي» الذي هو مقارعة ذاتية في الحضرات الأسمائية. و هذه الحقيقة لا تحصل لأحد لا بالعلوم الرسمية و لا بالمعارف القلبية و لا بالمكاشفة الغيبية، إلّا المكاشفة الإلهية التامّة لذات النبي الخاتم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «3».

ثمّ بعد أن يذكر أنّ معرفة القرآن في هذا الأفق الذي يكون فيه على حقيقته هي ممّا يختصّ به النبي وحده و يأخذه عنه أهل بيته بالوراثة عنه، يشير في السياق

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 165.

(2)- صحيفه امام 19: 285.

(3)- آداب الصلاة: 181.

فهم القرآن، ص: 286

إلى أنّ: «يد آمال العائلة البشرية قاصرة عنه» من دون «التنزّل بالمنازل و التطوّر بالأطوار» أو على نحو أوضح: «إنّ سائر الخلق لا يقدرون أخذ هذه الحقيقة إلّا بالتنزّل عن مقام الغيب إلى موطن الشهادة، و التطوّر بالأطوار الملكية [نسبة إلى عالم الملك و الحس و المادة] و التكسّي بكسوة الألفاظ و الحروف الدنياوية» «1».

فإذن الكلام في أمثال هذه النصوص يدور حول حقيقة القرآن العليا في عالم الغيب قبل التنزّل حيث يكون القرآن سرّا لا يقوى على التماسه أحد، ثمّ و بعد النزول يكون نصيب الحدّ الأقصى للنبي الذي خوطب به و لأهل بيته، ثمّ يتاح ما دون ذلك للآخرين.

4- الانفتاح المعرفي و الوجودي الرحيب

أن تكون للقرآن حقيقة عليا قبل النزول، و أن تكون معرفة الحدّ الأقصى بعد النزول حصرا للنبي و آل بيته؛ كلّ ذلك لا يمكن أن يتحوّل إلى تعلّة لحرمان الإنسانية- و ليس المسلمين وحدهم- من خير هذا الكتاب العميم. فما دون تلك

الحقيقة الغائبة و ما تحت الحدّ الأقصى متاح للجميع، كلّ على وفق مرتبته و إمكاناته و مجاهداته وسعته الوجودية و الفكرية.

فبعد أن تنحل معضلة أنّ القرآن سرّ بين اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما يلحق بها من مفاهيم اخر ترتبط بها، تنفتح نصوص الإمام على رؤى غاية في الرحابة تأتي مترتبة على التصوّر الوجودي الذي عرضنا له، بنحو منطقي و منسجم مع النتائج الاخرى أشدّ الانسجام. في هذه المرّة نقرأ «أنّ القرآن و الكتاب الإلهي هو مائدة

______________________________

(1)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 287

ممتدّة يستفيد منها الجميع، و لكن كلّ إنسان يستفيد بحالة خاصّة، و الأساس في وجهة الكتاب الإلهي و الأنبياء العظام قائم على تنمية المعرفة و توسعتها» «1».

يواجهنا أيضا قوله و بالنص: «الباعث إلى نزول هذا الكتاب المقدّس، و الدافع إلى بعثة النبي الأكرم، هو أن يكون هذا الكتاب بمتناول الجميع، يستفيد منه الجميع كلّ بحسب سعته الوجودية و الفكرية» «2».

في نص آخر يشير الإمام كيف طوى القرآن مراتبه و بطونه الوجودية، لهدف أن يكون على مستوى الإدراك الإنساني: «للقرآن مراتب، له سبعة أو سبعون بطنا، لقد تنزّل من هذه البطون إلى أن بلغ الموضع الذي يريد أن يخاطبنا به. اللّه عرّف نفسه بالجمل: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ «3»» «4».

لم تختف لغة أنّ القرآن سرّ و تعجيز الإنسان عن إدراك القرآن و حسب، بل رحنا نشهد كثافة ملحوظة في التركيز على الجانب الإدراكي المعرفي و دور إنماء المعرفة و توسيعها بوصف ذلك هدفا للقرآن و البعثة على سواء، و كذلك ما ينهض به الفكر و بقية العناصر الإدراكية على هذا الصعيد، ما دام الحديث يبتعد

عن الحدّين السالفين (الحقيقة العليا و معرفة الحدّ الأقصى). و حتّى حين نعود إلى النصوص التي تتحدّث عن الحدّ الأقصى، نراها لا تهمل الإفصاح عن هذه الجوانب و ذكر نصيب الآخرين و ما لهم من حظّ من معارف القرآن. على سبيل المثال نقرأ في امتداد النص الذي يستدلّ به الإمام عقليا على انحصار معرفة الحدّ الأقصى بالإنسان الكامل،

______________________________

(1)- صحيفه امام 19: 115.

(2)- نفس المصدر 14: 387.

(3)- الغاشية (88): 17.

(4)- تفسير سورة حمد: 136.

فهم القرآن، ص: 288

لأنّ ما دونه محدود و هو غير محدود، فإذن بمقدوره وحده أن يحيط بالمحدود و أن يعرف القرآن كما هو؛ نقرأ ما تكملته: «للآخرين معطيات و فهوم بحسب مراتبهم الوجودية و بحسب مراتب كمالهم، بيد أنّها محدودة. ينبغي لهم أن يسيروا [من السير و السلوك] و يبلغوا مراتب الكمال الواحدة تلو الاخرى ليكون لهم من هذه الحقائق و من بينها حقيقة البعثة على قدر كمالهم» «1». صحيح أنّ النص يحصر الرقي المعرفي بالرقي الوجودي، لكنه يتحدّث أيضا عن حظّ الآخرين من المعرفة و إمكان الرقي. ثمّ إنّ هناك نصوصا اخرى تركّز بوضوح و صراحة على الجانب النظري و قيمة المعرفة الناشئة عن النشاط الإدراكي و الممارسة العقلية و الذهنية.

5- مناهضة الجبرية و السكونية

لا يعكس هذا التصوّر في المعرفة الوجودية حتمية جبريّة بل و لا يحكي حالة ساكنة، بحيث يكون لكلّ إنسان نصيب خاصّ من المعرفة ليس بمقدوره أن يتجاوزه، و له منها قدر محتّم لا يستطيع أن يتخطّاه. أجل، هذه النظرية تبدي اصرارا كبيرا على الربط بين مقدار المعرفة و الدرجة الوجودية للإنسان، لكن الطريق مفتوح أمام الإنسان للصيرورة و الحركة آنا بعد آن و حالا بعد حال لكي يتجاوز مرتبته إلى

ما هو أعلى منها، و ليس أمامه ما يصدّه عن الصعود و الارتقاء.

الإنسان في هذه المدرسة ذو مراتب و له نشآت و عوالم و مقامات، كما له قابلية الارتقاء على خطّ صاعد، و قد مرّ علينا نص الإمام الذي يصف فيه الإنسان بقوله: «الإنسان ... حيوان أسوأ من بقية الحيوانات، لكنّه حيوان له هذه الخاصّية:

______________________________

(1)- صحيفه امام 12: 420.

فهم القرآن، ص: 289

بمقدوره أن يرتقي إلى الإنسانية و إلى مراتب الكمال، و إلى الكمال المطلق» «1».

غاية ما هناك أنّ هذه الامكانات موجودة في الإنسان بالقوّة، تحتاج إلى من يستثيرها و يحرّرها و يحوّلها من دائرة القوّة إلى نطاق الفعل. و هذه هي المهمّة الأساسية التي تنهض بها الأديان و النبوّات و الكتب الإلهية، و خاصة القرآن: «يأتي القرآن الكريم في طليعة جميع الاتجاهات و المدارس و الكتب كافة حتّى الكتب الإلهية الاخرى، في مهمة أنسنة الإنسان و بنائه؛ يحوّل الإنسان بالقوّة إلى إنسان و موجود بالفعل. على هذه المهمة تلتقي دعوات الأنبياء بأجمعهم بحسب اختلاف مراتبهم، فكلّ الدعوات جاءت من أجل أن تصيّر الإنسان إنسانا، و تحوّل الإنسان بالقوّة إلى الإنسان بالفعل ... القرآن كتاب أنسنة الإنسان، كتاب لو تمّت العناية به يكفي لصناعة الإنسان و بنائه بجميع ما ينطوي عليه من مراتب، كتاب عني بكلّ مراتب الإنسان» «2».

بعد أربع سنوات من هذا النص عاد الإمام ليؤكّد المفهوم ذاته بالعبارات نفسها، و هو يتحدّث عن دور القرآن في استثارة مكنونات الإنسان و ما ينطوي عليه من خزين تكويني و استعدادات بالقوّة، لكي يحوّلها إلى مرتبة الفعل و يدفع بالإنسان صوب الارتقاء مرتبة بعد مرتبة، حين قال: «القرآن كتاب لصناعة الإنسان و بنائه و أنسنته، و

للقرآن كلمة و موقف إزاء جميع المراحل و الأشواط التي يقطعها الإنسان» «3».

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 165- 166.

(2)- صحيفه امام 3: 218- 219، و النص يعود إلى صيف عام 1977 حين كان الإمام لا يزال بالنجف الأشرف.

(3)- نفس المصدر 15: 504، و النص يعود إلى شتاء 1981. يلحظ هذا التصور و يقارن

فهم القرآن، ص: 290

فإذن التصوّر الوجودي للمعرفة القرآنية هو أبعد ما يكون عن الجبرية و السكونية، بل لا يمكن لهذا التصور أساسا أن يتسم بالجبرية و السكونية، لأنّ طبيعته تأبى ذلك. فهي طبيعة جدلية متحرّكة تضجّ الموجودات فيها بحركة متجدّدة دائبة لا تكفّ أبدا، و إذا كان هناك معنى للجدل فهو الذي ينطبق بعمق على العلاقة ما بين الإنسان و القرآن و العالم. لكن كيف تتحرّك هذه العلاقة الجدلية؟ و بم تتمّ الاستثارة التي تسمح للإنسان أن يرتقي مراقي الصعود و الكمال؟ بفاعل وجودي أم بحافز نظري إدراكي أم بالاثنين معا؟ جواب هذا السؤال هو الذي يقودنا إلى محتوى النتيجة الآتية.

6- علاقة التزكية بالمعرفة

تولي المدرسة الوجودية عنايتها الكبرى بعنصر التزكية، فبالتزكية و تطهير الباطن تتفتّح مكنونات الإنسان و قابلياته التكوينية، و تزداد سعته الوجودية فيرتقي

______________________________

- بحذافيره مع الشيرازي في قوله: «فاعلموا أنّ الإنسان- هو أشرف الأكوان- لما كان في أوّل تكوّنه في حدود السفالة و النقصان ... كسائر أنواع الحيوان و هي في مراتب التسفّل ... إلّا أنّ في ذاته قوّة الترقي إلى حدّ الكمال و الارتقاء إلى أنوار المبدأ المتعال». و هذه النقلة بالإنسان هي التي تنهض بها الأديان و النبوات عامة، و بالنسبة لنا هي ما تنهض به بعثة نبينا محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن: «و هذه ممّا

لا يتيسّر إلّا بالهداية و التعليم و التهذيب و التقويم، فبعث اللّه عزّ و جل رسولا هاديا معلما، و أنزل إلينا كتابا إلهيا محكما فيه جوامع العلوم الإلهية و الأسرار الربانية و السنن و الآداب العملية و الأحكام السياسية ... فجعله سورا و آيات كلّ سورة من سوره بحر مملوّ من جواهر المعاني و البيان، بل فلك محشو من كواكب الحقائق و الأعيان». راجع تفسير القرآن الكريم 1: 2.

فهم القرآن، ص: 291

مرتبة على سلّم وعي حقائق القرآن.

نبدأ بنصوص للإمام باللغة العربية نقتبسها من كتابه «شرح دعاء السحر» الذي يعود تأليفه إلى عام 1347 ه، حيث يواجهنا نصّ يربط بوضوح تام بين طهارة الباطن و معرفة الحقيقة القرآنية، نقرأ فيه: «و أنت إذا كنت ذا قلب منوّر بالأنوار الإلهية و ذا روح مستضي ء بالأشعة الروحانية، و أضاء زيت قلبك و لو لم تمسسه نار التعاليم الخارجية، و كنت مستكفيا بالنور الباطني الذي يسعى بين يديك، لانكشف لك سرّ الكتاب الإلهي، بشرط الطهارة اللازمة في مسّ الكتاب الإلهي، و لعرفت في مرآة المثل الأعلى و الآية الكبرى حقيقة الكلام الإلهي و غاية تكلّمه تعالى» «1». في هذه المعرفة الشهودية لا مكان للعلم المكتسب، بل يتوقّف إدراك سرّ القرآن و حقيقته و غايته على توهّج نور الباطن.

في نص عربي آخر يميّز الإمام بين ضربين من المعرفة القرآنية أحدهما معرفة الظاهر و هي التي تتمّ بالفعّالية العقلية و النشاط الإدراكي، و الثاني هو ما يلي ذلك من مراتب معرفية وجوديّة تتوقّف على طهارة الباطن، إذ يقول: «فإنّ للقرآن منازل و مراحل و ظواهر و بواطن. أدناها ما يكون في قشور الألفاظ و قبور التعيّنات ... و هذا المنزل

الأدنى رزق المسجونين في ظلمات عالم الطبيعة. و لا يمسّ سائر مراتبه إلّا المطهّرون عن أرجاس عالم الطبيعة و حدثه، و المتوضّئون بماء الحياة من العيون الصافية، و المتوسلون بأذيال أهل بيت العصمة و الطهارة، و المتّصلون بالشجرة المباركة الميمونة، و المتمسّكون بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها و الحبل المتين الذي لا نقض له ... فإذا انشرح صدره للإسلام و صار على هدى

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 56- 57.

فهم القرآن، ص: 292

و نور من ربّه علم أنّ النور لم يكن محصورا في هذه المصاديق العرفية ... بل يظهر له أنّ العلم أيضا نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء من عباده» «1».

كما يقول في نصّ آخر يربط فيه بين السلوك المعنوي و توالي المعاني، ما نصه: «و اعلم أنّ من أجلّ ما يرد على السالك بقدم المعرفة إلى اللّه من عالم الملكوت، و أعظم ما يفاض على المهاجر من القرية الظالم أهلها من حضرة الجبروت، و أكرم خلعة البست عليه ... و أحلى ما يذوقه ... انشراح صدره لأرواح المعاني و بطونها و سرّ الحقائق و مكنونها، و انفتاح قلبه لتجريدها» «2».

الحقيقة يخلص الإمام إلى قاعدة جدلية تطّرد بين التزكية و المعرفة، يقول في تقريرها نصّا: «كلّ من [كان] تنزّهه و تقدّسه أكثر، كان تجلّي القرآن عليه أكثر و حظّه من حقائقه أوفر» «3». فالتزكية تأتي في البدء ثمّ يأتي دور العلم و التعليم، و هذا هو منطق القرآن: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ «4». أجل، الهدف هو إيجاد المعرفة، بيد أنّ الطريق إلى هذه المعرفة لا بدّ و أن يمر بالتزكية

و إلّا فالنفوس لا تبلغ هذا الهدف:

«الهدف الأساسي للوحي هو إيجاد المعرفة عند البشر؛ المعرفة بالحقّ تعالى التي تقع في طليعة جميع الامور. و إنّما تمّ الحديث عن التزكية أولا ثمّ جاء التعليم من

______________________________

(1)- نفس المصدر: 38، و فيه إشارة إلى الحديث الشريف عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: «ليس العلم بالتعلم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه». بحار الأنوار 1: 225.

(2)- شرح دعاء السحر: 37.

(3)- نفس المصدر: 59.

(4)- الجمعة (62): 2.

فهم القرآن، ص: 293

بعدها [المنطق القرآني] و ذلك لأنّ النفوس ما لم تتزك لا يمكنها بلوغ المقصد» «1».

7- الوجودي- الإدراكي

بصراحة و وضوح هل يعني الركون إلى التزكية و عدّها شرطا في تحصيل المعرفة القرآنية، إهمال الجانب الآخر المرتبط بالنشاط العقلي و الفعاليّات الذهنية كطريق لمعرفة القرآن و فهمه؟ الجواب الأساسي يستدعي دراسة شاملة لرؤية المدرسة الوجودية في نظرية المعرفة، و هذا ما يخرج عن حيّز البحث. لكن يمكن الإشارة إجمالا إلى الضابطين التاليين فيما يرتبط بالمعرفة القرآنية:

الأوّل: في الوقت الذي تركّز فيه هذه المدرسة على تنقية الباطن و تعدّ التزكية هي الشرط الأساس للمعرفة و الرقي فيها، فإنّها لا تهمل العقل و المدركات الذهنية التي تتّسع و تنظف و تزيد استعدادا للتلقّي عبر التزكية.

الثاني: المفتاح الأساسي الذي يسهم في حلّ هذا المعضل، هو إعادة بناء فهمنا للتصوّر الذي تطرحه المدرسة حيال العلاقة بين الوجودي و الإدراكي أو بين الشهودي و الكسبي أو بين القلبي و العقلي. فهذا التصوّر لا يقوم على أساس النفي و القطيعة و التصادم، و إنّما يؤسّس لنفسه على أساس التكامل كلّ بحسب منطقته.

فللعقل مساحته و للمعرفة النظرية منطقتها الخاصّة، و كذلك الحال

بشأن المعرفة القلبية التي لها مساحتها و منطقتها الخاصّة، و من ثمّ فالعقل و القلب ليسا نقيضين، بل هما مترتبان في علاقة طولية بحيث تأتي المعرفة القلبية طورا آخر بعد طور المعرفة العقلية، و بهذا فما يتأتى عنهما لا تحكمه علاقة النفي و الإلغاء

______________________________

(1)- صحيفه امام 19: 225، و قد كان يتحدث إلى جمع من مسئولي الحكومة عام 1985.

فهم القرآن، ص: 294

و التصادم بل الجمع و التكامل.

بالنسبة إلى الضابط الأوّل، بين أيدينا نصوص وافرة لا تهمل العقل و الإدراك النظري إلى جوار تركيزها الفائق على التزكية، بل تجمع بينهما على وفق علاقة طولية متكاملة غير متوترة و لا نافية. فمن النصوص العربية يواجهنا نص يجمع بوضوح تام بين التزكية القلبية و النظر العقلي، بل يقدّم البرهان أو النظر العقلي على التزكية و يعدّه عنصرا للرسوخ في العلم. ففي بحث يرتبط بالوحي و نزول الكتاب انطلاقا من قوله سبحانه: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «1»، و كذلك قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2» إلى آخر المقطع، يسجّل الإمام: «و لعمري إنّ الأسرار المودعة في هذا الكلام الإلهي المشير إلى كيفية الوحي و دنوّ روحانية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى مقام التدلّي ... [هي] ممّا لم يصل إليه فكر البشر، إلّا الأوحدي الراسخ في العلم بقوّة البرهان المشفوع إلى الرياضات و نور الإيمان» «3».

بين أيدينا نص طويل نسبيا، يجمع بين المستويين المعرفي الوجودي الذي يستند إلى التزكية و المعرفي العقلي الذي يستند إلى النشاط النظري و الفعّالية الذهنية، و يؤكّد أنّ لكلّ من القرآن بحسبه؛ أي بما له من قابلية و مرتبة معنوية و باطنية منزّهة،

و ما له من استعدادات عقلية و علمية. من مزايا هذا النص أنّه متأخّر زمنيا يرجع إلى صيف عام 1986 م، و هو إلى ذلك نص عام جاء في سياق بيان وجهه الإمام إلى حجاج بيت اللّه الحرام في موسم حج سنة 1406 ه.

______________________________

(1)- الشعراء (26): 193- 194.

(2)- النجم (53): 4.

(3)- الطلب و الإرادة: 15، و النص باللغة العربية.

فهم القرآن، ص: 295

نقرأ في النصّ، ما ترجمته: «هذا الكتاب السماوي- الإلهي الذي هو الصورة العينية و الكتبية لجميع الأسماء و الصفات و الآيات و البيّنات؛ نحن قاصرون عن مقاماته الغيبية، و لا يعرف أسرارها إلّا الوجود الأقدس الجامع [المتمثّل ب] «من خوطب به» [أي النبي] و ببركة تلك الذات المقدّسة و ببركة تعليمه أخذ عنه خلّص الأولياء العظام [أي الأئمّة] ثمّ انتهل خلّص أهل المعرفة قبسا من ينبوعه ببركة المجاهدات و الرياضات القلبية بمقدار استعدادهم و بحسب مراتب سيرهم. أمّا الآن و قد حلّت بين ظهرانينا صورته الكتبية بلسان الوحي بعد النزول من المراحل و المراتب، من دون نقص و من دون أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفا واحدا، فالحذر من أن يقع مهجورا لا سامح اللّه.

أجل، إنّ الأبعاد المختلفة لهذا الكتاب على صعيد كلّ بعد من مراحله و مراتبه و إن كانت بعيدة عن متناول البشر العاديّين، لكن ينبغي لأهل المعرفة و لأهل البحث و التحقيق في الاختصاصات المختلفة، أن يبادروا للإفادة من هذه الخزينة العرفانية الإلهية اللامتناهية، و يستمدّوا من البحر الموّاج للكشف المحمّدي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على قدر علمهم و معرفتهم و استعداداتهم، و أن يعرضوا ذلك للآخرين بألسنة و وسائل شتّى و بمختلف البيانات و الصيغ

التعبيرية التي تقرّبه إلى الفهم.

على أهل الفلسفة و البرهان أن يدرسوا الرموز الخاصّة بهذا الكتاب الإلهي و ما فيه من إشارات إلى مسائل عميقة، ليكتشفوا براهين الفلسفة الإلهية و يجلّوها، و يضعوها في متناول يد أهلها. كذلك على المهذّبين من أصحاب الآداب القلبية و المراقبات الباطنية أن يرتشفوا جرعة من قلب عوالم (أدّبني ربي) ليقدّموها إلى عطاشى هذا الكوثر، و يؤدّبوهم بآداب اللّه إلى الحدّ الميسور. و على المتّقين التوّاقين إلى الهداية أن يلتمسوا بارقة ممّا أخذوه من نور التّقوى المتدفّق من هذا النبع

فهم القرآن، ص: 296

الفيّاض: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ليقدموها إلى العشّاق الوالهين إلى هداية اللّه. و أخيرا على كلّ مجموعة من العلماء الأعلام و المفكّرين العظام، أن تشمّر عن ساعد الجدّ لتناول بعد من الأبعاد الإلهية لهذا الكتاب المقدّس، و يقدّموا بأقلامهم ما يحقّق آمال عشّاق القرآن. و لتنفقوا أوقاتكم في الأبعاد السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و العسكرية و الثقافية في القرآن و ما فيه من مسائل الحرب و السلم، ليتبيّن أنّ هذا الكتاب مصدر كلّ شي ء من عرفان و فلسفة و أدب و سياسة» «1».

يجمع هذا النص على نحو واف بين الجانبين الوجودي و الإدراكي في المعرفة، و يركّز على التزكية و الجهد العقلي معا، لكن بشرط أن تفهم العلاقة بين الاثنين على نحو تراتبي و بصيغة طولية، بحيث يكون لكلّ واحد منطقته الخاصّة به، فيأتي بعده و يؤثّر فيه من دون أن يتقاطع معه أو يلغيه. فالتزكية أو الصقالة الذاتية للقلب هي سبب لحصول العلم، كما أنّ ظهور المعلوم للقلب سبب لحصول العلم أيضا على حدّ وصف ابن عربي في فتوحاته «2». و هذا ما يقودنا إلى الضابط الثاني الذي

يتحدّث عن طورين للمعرفة، و ضرورة عدم العكوف على المعرفة العقلية وحدها في المعارف الإلهية و بضمنها القرآنية.

لبّ القول في المدرسة الوجودية أنّها لا تقف بالمعرفة عند حدود معطيات الحس و العقل، و إنّما تؤمن بطور يأتي وراء طور العقل و لا يلغيه، و بتعبير ابن عربي رائد هذه المدرسة: «إنّ ثمّ وراء العقل و ما يعطيه بفكره، أمرا آخر يعطي من العلم باللّه ما لا تعطيه الأدلّة العقلية» «3». فالمقصود ليس إلغاء العقل بل الوقوف به عند

______________________________

(1)- صحيفه امام 20: 92- 93.

(2)- راجع الفتوحات المكّية 2: 84.

(3)- نفس المصدر 4: 315.

فهم القرآن، ص: 297

حدّه و معرفة منطقته و عدم تجاوزها، فاللّه سبحانه: «قد أعطى كلّ شي ء خلقه، فأعطى السمع خلقه فلا يتعدّى إدراكه، و جعل العقل فقيرا إليه» «1» كما هو فقير إلى القوّة البصرية و إلى غير ذلك ممّا يدخل في إنجاز النشاط الإدراكي للعقل. فكلّ رصيد العقل علمه بالضروريات التي فطر عليها، و ما وراء ذلك هو استعداد و حسب لقبول أو رفض ما يعرض عليه «2». و المهمّ أن يعرف الإنسان أنّ: «ثمّ قوّة اخرى وراءك» «3» نالها أهل اللّه من الأنبياء و الأولياء و نطقت بها الكتب المنزلة، تصل العبد بالربّ قد يقال لها القلب «فالقلب هو القوّة التي وراء طور العقل» «4».

و إذا كان العقل قسمة عامّة بين الناس أجمع، فما ذلك بالنسبة إلى القوّة التي وراءه: «فإنّ كلّ إنسان له عقل، و ما كلّ إنسان يعطى هذه القوّة التي وراء طور العقل المسمّاة قلبا في هذه الآية، بقصد قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «5» و لذلك قال: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» «6».

بل يتوقّف تحصيل هذه القوّة فيما يتوقّف عليه؛ على الرياضات و الخلوات و المجاهدات أو التزكية و تطهير الباطن:

«و لمّا رأت عقول أهل الإيمان باللّه تعالى أنّ اللّه قد طلب منها أن تعرفه بعد أن عرفته بأدلتها النظرية، علمت أنّ ثمّ علما آخر باللّه لا تصل إليه من طريق الفكر، فاستعملت الرياضات و الخلوات و المجاهدات و قطع العلائق، و الانفراد و الجلوس

______________________________

(1)- نفس المصدر: 317.

(2)- نفس المصدر: 329.

(3)- نفس المصدر: 320.

(4)- نفس المصدر: 323.

(5)- ق (50): 37.

(6)- الفتوحات المكّية 4: 323.

فهم القرآن، ص: 298

مع اللّه بتفريغ المحل، و تقديس القلب عن شوائب الأفكار» «1».

المنطق ذاته نلمسه لدى رمز آخر من رموز المدرسة هو صدر الدين الشيرازي، الذي يحذو حذو ابن عربي و هو يكتب: «ثمّ إنّ بعض أسرار الدين و أطوار الشرع المبين بلغ إلى حدّ هو خارج عن طور العقل الفكري، و إنّما يعرف بطور الولاية و النبوة. و نسبة طور العقل و نوره إلى طور الولاية و نورها كنسبة نور الحسّ إلى نور الفكر، فليس لميزان الفكر كثير فائدة و تصرّف هناك» «2».

الشيرازي يريد للعقل أن يبقى في حيطته المتمثلة في «الذهنيات و الكليّات التي هي طور العقل، و أمّا في الامور التي هي وراء طور العقل من أحوال الآخرة و أحكام البرازخ، فيثبت فيها عقولهم و يقف من غير أن يهتدي إليها إلّا باتباع الشريعة» «3». هنا دخل عنصر الشريعة بحكم أنّ الموضوع يتوقّف على إخبار عن مغيّبات، ممّا يخرج عن دائرة العقل، و اختصاصه.

و إذا كان العقل يخرج هنا بحكم انتفاء موضوعه، فإنّ الشيرازي لا يخفي انحيازه إلى معرفة أسمى تأتي ما بعد المعرفة العقلية تتمثّل بالمعرفة القلبية، و

ذلك لأنّ الإنسان نفسه موجود ذو مراتب «أعلاها القلب و الروح» «4»، بل إنّ العلم أساسا علمان «علم باللسان و علم بالقلب» «5». على هذا تأتي مهمّة «تطهير القلب عن خبائث المعاصي و أرجاس العقائد الفاسدة» في طليعة شروط التهيّؤ لنيل المعرفة

______________________________

(1)- نفس المصدر: 321.

(2)- شرح اصول الكافي: 461/ 3.

(3)- تفسير القرآن الكريم 4: 129.

(4)- نفس المصدر 5: 88.

(5)- نفس المصدر 6: 13.

فهم القرآن، ص: 299

القلبية، ذلك أنّ «للقرآن مراتب و درجات و له ظهرا و بطنا، فكما أنّ ظاهر جلد المصحف و ورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلّا إذا كان متطهّرا، فباطن معناه أيضا محجوب عن باطن القلب إلّا إذا كان متطهّرا عن كلّ رجس ... و كما لا يصلح لمس نقوش الكتابة كلّ يد، فلا يصلح لنيل معانيه إلّا القلوب الصافية» «1». ليس هنا علاقة تصادم أو توتر و نفي بين العقل و القلب، بل هي إعادة ترسيم للمجال الوظيفي بين الاثنين بحيث يكون لكلّ واحد حيّزه.

المعنى الوظيفي المستند إلى التمييز بين منطقتي العقل و القلب يبرز بحذافيره عند الإمام الخميني، و يعبّر عن نفسه بنصوص عديدة. فالإمام يحثّ على البرهان العقلي و يمجّد بمعطيات العقل لكن في منطقته و على أساس الوظيفة التي ينهض بها، ثمّ يترك الدور لما بعده متمثّلا بالمجاهدة و التزكية و السير المعنوي الذي يدفع الفكرة من منطقة العقل و الاقتناع العقلي إلى منطقة القلب و التبنّي الإيماني: «لا أقول إنّ البرهان ليس حسنا، [كلّا] ينبغي أن يكون هناك برهان، لكن البرهان وسيلة و حسب. البرهان وسيلة يتمثّل دوره في أنّك تدرك مسألة ما بعقلك». بيد أنّ محطة الإنسان لا تقف عند هذه التخوم، بل تواصل

سيرها إلى ما بعد العقل، إذ إنّك:

«تؤمن بتلك المسألة من خلال المجاهدة» فيتكامل العقل و القلب و لا يتعارضان.

و بتعبير آخر: «إنّك توصل المعارف إلى عقلك بالبرهان» «2». بيد أنّ هذه مرتبة يليها ما هو أرفع منها و أسمى متمثّلا بنفوذ تلك المعارف العقلية إلى القلب و تحوّلها من قناعات نظرية مجرّدة إلى إيمان و وجدان و تجسيد و معايشة، و هذا ما يتطلب طورا

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 59.

(2)- راجع في نصوص هذه الفقرة تفسير سورة حمد: 112.

فهم القرآن، ص: 300

آخر يأتي ما بعد طور العقل «1».

على أنّ أمام الإنسان صرحا من الحقائق لا يستطيع مقاربتها بالعقل و البرهان، و إنّما تستدعي صفاء الباطن. و بتعبير الإمام في نصّ من نصوصه العربية:

«و الإيمان بهذه الحقائق لا يمكن بالتسويلات الكلامية و لا بالبراهين الفلسفية، بل يحتاج إلى لطف قريحة و صقالة قلب و صفاء باطن بالرياضات و الخلوات» «2».

تكشف هذه الحصيلة في نصوص ابن عربي و الشيرازي و الإمام الخميني عن الموقع الركين للتزكية و صقالة القلب في بلوغ المعرفة القرآنية، لكن من دون أن يعني ذلك- كما توحي بعض التعقيبات العجلى- إلغاء الجانب المعرفي النظري العقلي و تجاوز الفهم كعملية إدراكية، يتعاطاها الإنسان مع النص عبر أدوات الفكر و محدّدات النصّ.

8- مراتب التلاوة و آفاقها

من المعطيات المباشرة التي تترتب على التفسير الوجودي لنظرية مراتب الفهم، تعدّد التلاوات. التلاوة تتعدّد بتعدّد مراتب الإنسان و درجاته، و تأتي متوائمة مع جوارحه، فهناك تلاوة الظاهر و تلاوة الباطن، و تلاوة لكلّ جارحة من الجوارح الإنسانية، و هكذا يرتقي الإنسان إلى أن يبلغ مرحلة التلقّي عن اللّه سبحانه، بل المعايشة و التجسّد و مشاهدة حقيقة القرآن. و هذه مرحلة تفوق كلّ مدركات

العقل، كما هو حال الإنسان الكامل الذي يمثّل الذروة: «ليست القضية قضية إدراك عقلي

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- شرح دعاء السحر: 142.

فهم القرآن، ص: 301

و حركة برهان، بل القضية، قضية مشاهدة؛ هي من ضرب المشاهدة الغيبية. هذه المشاهدة ليست مشاهدة بالعين و لا مشاهدة بالنفس و لا مشاهدة بالعقل، هي ليست مشاهدة بالقلب الإنساني المألوف، و إنّما هي مشاهدة بقلب النبي، فقلبه تلقّى [حقيقة] القرآن بيد أنّه لا يستطيع بيانه إلّا بطريقة الأمثلة و لفافة الألفاظ» «1».

التلاوة عند الإنسان الكامل المتمثّل بالنبي و الأئمّة عليهم جميعا- صلوات اللّه و سلامه- هي تحقّق باطنهم و ذواتهم بالقرآن: «ثمّ في حملة القرآن إنسان تعدّ ذاته هي تمام حقيقة الكلام الإلهي الجامع، و هي القرآن الجامع و الفرقان القاطع نفسه، مثل علي بن أبي طالب عليه السّلام و المعصومين من ولده عليهم السّلام، فوجود هؤلاء متحقّق بأجمعه بالآيات الإلهية الطيّبة، و هم آيات اللّه العظمى و القرآن التامّ و الكامل» «2».

ما دون هؤلاء تتوالى درجات التلاوة، التي يأتي في طليعتها تلاوة الباطن التي تنفذ إلى أعماق قلب الإنسان: عن الصادق عليه السّلام، قال: «و من قرأه كثيرا و تعاهده بمشقّة من شدّة حفظه، أعطاه اللّه عزّ و جلّ أجر هذا مرّتين» «3». يتضح من هذا الحديث أنّ المطلوب في تلاوة القرآن الشريف هو تأثيرها في أعماق قلب الإنسان، بحيث يكون باطن الإنسان صورة الكلام الإلهي، و أن يتحوّل من مرتبة الملكة إلى مرتبة التحقّق. إشارة إلى هذا المعنى ما جاء في قوله عليه السّلام: «من قرأ القرآن و هو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه و دمه» «4»، فهذه كناية على استقرار

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 141.

(2)- شرح چهل حديث: 498.

(3)-

الكافي 2: 603/ 4.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 302

صورة القرآن في القلب و حلولها فيه، على النحو الذي صار فيه باطن الإنسان نفسه كلام اللّه المجيد و قرآنا حميدا، بمقدار يتناسب مع وعائه و استعداده» «1».

القلب هو المستهدف في هذه الرتبة من التلاوة: «المطلوب في تلاوة القرآن الكريم أن يترسّخ في قلوب القرّاء، و أن تحلّ فيه و تستقرّ أوامره و نواهيه و دعواته» «2». لكن التلاوة لا تقف عند هذا الحد بل تتحرّك على خطّ متصاعد يكون فيه لكلّ جارحة من الجوارح حظها من التلاوة، بحيث يبلغ من اندماجها مع القرآن و توحّدها فيه أنّها تغدو آية من آيات اللّه: «و إن حظي بالتوفيق الإلهي [التالي الذي يبلغ رتبة المتّقين] فسيتجاوز ذلك المقام [تلاوة القلب] بحيث يصير كلّ عضو من أعضائه و جارحة من جوارحه و قوّة من قواه آية من الآيات الإلهية». ثمّ يستمرّ التصاعد بعد ذلك أيضا: «و ربّما نالته جذوات الخطابات الإلهية و جذباتها و أذهلته عن نفسه، بحيث يدرك حقيقة: «اقرأ و اصعد» «3» في هذا العالم، و يبلغ إلى مرحلة سماع الكلام من المتكلّم بدون واسطة، و يصير إنسانا نعجز نحن عن إدراكه حتّى بأوهامنا» «4».

الحصيلة حتّى الآن أنّ هناك تلاوات على قدر تنوّع الفهوم، بحيث تنسجم كلّ تلاوة مع مرتبتها في المعرفة الوجودية. و من الواضح أنّ هذا التعاطي مع التلاوة يضع المسلمين في حرج إذ لا يرتقي إليها سوى الأوحدي من الناس، فما ذا يكون

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 498.

(2)- نفس المصدر: 499.

(3)- إشارة إلى حديث شريف في فضل حامل القرآن، حيث يقال له في القيامة: «هذه الجنة مباحة لك فاقرأ و اصعد، فإذا قرأ آية صعد

درجة». الكافي 2: 602/ 12.

(4)- شرح چهل حديث: 500.

فهم القرآن، ص: 303

مصير عامتهم؟ ثمّ هل يغلق هذا التصوّر الوجودي الطريق على التلاوة الإدراكية، التي يكون فيه لكلّ إنسان نصيب يتناسب و مستواه العقلي و ما يحمله من علوم و قابليات نظرية؟ و إلا تتعارض التلاوة الوجودية التي تنزع نزوعا نخبويا و أقليا، مع الهدف من نزول القرآن و مع مقولة: «إنّ القرآن نعمة يستفيد منها الجميع» «1» و هي تخرج السواد الأعظم من المسلمين عن دائرتها؟

نسجّل مرة اخرى أنّ التصوّر الوجودي للتلاوة أو التلاوات لا يدفع التلاوة أو التلاوات الإدراكية و لا ينفيها، بل غايته أن يؤكّد أنّ هناك طورا ما وراءها يأتي ما بعدها، هو أغنى و أثرى.

بقدر ما يتعلّق الأمر بهذه الفقرة نكتفي بنص واحد للإمام الخميني مدهش في دلالاته، حتّى ليصعب أن نتصوّر أنّه صادر عنه حين نضعه إلى جوار بقية نصوصه في التلاوة الوجودية. يقول سماحته: «بنيّ تعرّف على القرآن، هذا الكتاب المعرفي الكبير، و بتلاوته و المرور من خلاله شقّ طريقا لنفسك إلى المحبوب. لا تتصورن أنّ القراءة بدون معرفة لا أثر لها فهذه وسوسة شيطانية، فهذا الكتاب جاء من جهة المحبوب لك و للجميع، و رسالة المحبوب محبوبة حتّى و لو لم يعرف العاشق و المحبّ مفادها» «2». هنا التلاوة مطلوبة حتّى من دون فهم و معرفة و علم، لأنّها تعبير عن ضرب من ضروب الصلة بصاحب الكتاب جلّ و علا، و في النبوي الشريف: «و عليك بتلاوة القرآن على كلّ حال» «3».

بهذا يكون الطريق مفتوحا أمام الجميع لممارسة جميع ضروب التلاوة

______________________________

(1)- صحيفه امام 19: 115.

(2)- جلوه هاى رحمانى: 26.

(3)- وسائل الشيعة 6: 186، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن،

الباب 11، الحديث 1.

فهم القرآن، ص: 304

وجوديا و معرفيا حتّى ما كان منها بدون معرفة، و لا مكان للحذف و الإلغاء إذ لكلّ بحسب سعته الوجودية و استعداده الفكري، و السفر مفتوح في آفاق الكتاب الكريم سواء كان سفرا قلبيا بتلاوة القلب و الروح، أم سفرا عقليا بتلاوة العقل و النظر.

9- باب معرفة اللّه

على ضوء مجموع هذه الحصائل بخاصّة النتيجة الاولى التي تحدّثت عن أنّ للقرآن حقيقة ما وراء هذه الألفاظ، و إنّ للإنسان الكامل أو النبي و آله الحدّ الأقصى من معرفة هذه الحقيقة، و تأسيسا على مقولة أنّ الاثنين هما تجلّ للاسم الأعظم و ما يندرج تحته من أسماء و صفات، فمن الطبيعي أن يكون القرآن الكريم هو و لا غير، باب معرفة اللّه «1»، لا فرق بينه و بين الإنسان الكامل من هذه الجهة. يكتب الإمام:

«القرآن الكريم و الأحاديث الشريفة مشحونان من معارف العلم بالذات و الكمالات و أسماء الذات المقدّسة و صفاتها ... و ليس ثمّ كتاب من مصنفات الحكماء و المتكلّمين عني بالغور في إثبات الذات و الأسماء و الصفات، كما عني بذلك الكتاب الإلهي الكريم و كتب الأخبار المعتبرة مثل اصول الكافي و توحيد الشيخ الصدوق» «2». و هذا شي ء طبيعي ينسجم مع المنحى المقاصدي عند الإمام الذي

______________________________

(1)- في المكتبات كتاب بعنوان: قرآن باب معرفت اللّه، هو ليس من تأليف الإمام الخميني مباشرة، و إنّما يضم مجموعة من كتاباته و بياناته حول القرآن الكريم، بين يدي الآن طبعته الخامسة الصادرة عام 1997. و لا ريب أنّ التسمية موفقة و تنسجم تماما مع رؤية الإمام في أنّ القرآن باب معرفة اللّه.

(2)- شرح چهل حديث: 193.

فهم القرآن، ص: 305

يذهب فيه إلى

القول: «المقصد التامّ و الكامل للكتب الإلهية و أسماها القرآن الكريم، هو تعريف الحقّ تعالى بجميع ما له من أسماء و صفات» «1». في نص ثالث و أخير يواجهنا الإمام بقوله: «لو لم يكن القرآن لا غلق باب معرفة اللّه إلى الأبد» «2».

ما دام النبي و القرآن كلاهما صورة الاسم الأعظم بل هما حقيقة واحدة قبل التنزّل، فهما يستويان في تمثّل هذه المهمّة، و كلاهما يعدّان و على حدّ سواء باب معرفة اللّه، بخاصة إذا استعدنا علاقات التناظر التي تقيمها المدرسة الوجودية بين الإنسان الكامل و القرآن في مرحلة التنزّل و على مستوى عالم الشهادة أيضا.

إلى هنا نكون قد استوفينا أبرز النتائج التي تترتب على مرتكزات التصوّر الوجودي لنظرية مراتب فهم القرآن، لكن تبقى نتيجتان مهمّتان أولاهما رموز المدرسة في السابق و الحاضر عناية مكثّفة تتمثّل الاولى بطبيعة العلاقة التي تتبنّاها المدرسة بين الظاهر و الباطن، على حين ترتبط الثانية بطبيعة لغة القرآن التي تنزع بحسب هذه المدرسة نحو المثال و الرمز، لكن بأي معنى؟ هل يعني استعمال القرآن للرمز و لجوئه إلى لغة المثال، الغموض و تخلخل المباني و غياب الضوابط؟ و هل يعني التمثيل التخييل و عدم وجود الحقيقة و الضياع في غياهب الاعتبار؟

هاتان النتيجتان و ما يرتبط بهما يؤلّفان موضوع الفصل السابع من هذه الدراسة بإذن اللّه.

______________________________

(1)- صحيفه امام 20: 409 حيث يعود النص إلى أواخر عام 1987.

(2)- نفس المصدر 17: 433.

فهم القرآن، ص: 306

2- المستوى الإدراكي و النقلي

اشارة

لسنا بحاجة إلى التفصيل، و إنّما الغرض إثبات وجود التصوّر الإدراكي و النقلي في النظرية الوجودية، خاصة و هي تزعم أنّها تؤسس لرؤيتها في مراتب الفهم على ضوء النص و الأدلّة النقلية.

ملخص الرؤية هنا تتمثّل بإثبات

مراتب متعدّدة لفهم القرآن، عن طريق العقل و البرهان و بدليل النص أيضا.

تعود المسألة في الصيغة العقلية إلى اختلاف الناس في الإدراك و مراتب الفهم، إذ فيهم اللمّاح و المستعدّ و سريع الفهم و النابغة كما فيهم الخامل ذهنيا قليل الاستعداد و الغبي و هكذا. و هذه مسألة بديهية في تحليل عملية الإدراك الإنساني لا تكاد تحتاج إلى استدلال، توازيها حقيقة اخرى لا تكاد تقلّ عن هذه الحقيقة بداهة، تتمثّل في تعدّد مستويات النص القرآني نفسه. على أنّ المسألة لا تقتصر على عقل الإنسان المسلم و إدراكه الذهني و حسب و لا تنحصر بالقرآن وحده كنص معرفي منتج للمعاني و الدلالات، بل تعمّ لتشمل الذهن الإنساني عامة و تمتدّ لتستوعب جميع ضروب المعارف و العلوم التي تختلف مستوياتها ذاتا، و بالتبع لمستوى النشاط الإدراكي الذي يبذل حيالها.

و النظر إلى القرآن و المعارف الدينية في مرتبة واحدة، و كذلك التعامل مع الناس على مستوى واحد من الدقّة في الفهم فيه هلاك المعارف و تعطّل مسار النموّ عند الإنسان و بوار العلم.

يكتب الطباطبائي (ت: 1403 ه) أبرز رموز المدرسة الوجودية من

فهم القرآن، ص: 307

المعاصرين: «إنّ اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض و بعضها تحت بعض ممّا لا ينكره إلّا من حرم نعمة التدبّر، إلّا أنّها جميعا و خاصة لو قلنا إنّها لوازم المعنى مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام و ذكاء السامع المتدبّر و بلادته» «1». يعيد النص بوضوح تعدّد مراتب الفهم إلى بنية النص القرآني كنصّ معرفي قابل للتعقّل و الإدراك، و إلى بنية الذهن الإنساني، و مستواه كآلة مدركة، و لا أثر في النص- للتزكية و طهارة الباطن- كعلّة للمعرفة الإدراكية

العقلية.

على هذا ستضطلع الرياضات العلمية و ليست المعنوية و القلبية، بالدور الأساس في تنمية الفهم و الارتقاء على خط المعرفة في هذه الدائرة، و سيعود اختلاف مراتب الفهم إلى هذا العامل: «و كان من ارتقى فهمه منهم [الناس] بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني و كليّات القواعد و القوانين، يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسّرت له الورود في عالم المعاني و الكليات، كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس و المحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة، و هذا أمر لا ينكره أحد» «2».

تأسيسا على هذا يخلص الطباطبائي إلى تقرير القاعدة التالية، في مراتب الفهم و تعدّد المعاني: «إنّ للقرآن مراتب مختلفة مترتبة طولا من غير أن تكون الجميع في عرض واحد ... بل هي معان مطابقية يدل على كلّ واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام» «3». ترتدّ هذه القاعدة إلى عموم الهداية القرآنية من جهة، و إلى اختلاف الأفهام الناشئ عن تفاوت الأذهان و القابليات العقلية

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 3: 48.

(2)- نفس المصدر: 60.

(3)- نفس المصدر: 64.

فهم القرآن، ص: 308

و الحمولة المعرفية من جهة اخرى، حيث «لا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلّا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيّأت عنده في خلال حياته و معيشته» «1». و هذه القاعدة تطّرد لتشمل القرآن و السنّة على سواء «2».

قد يتمّ الاعتراض بأنّ الطباطبائي ينطلق من مبنى في تعدّد مراتب الفهم يختلف عن ذلك الذي ترتكز إليه المدرسة الوجودية في التفسير، و من ثمّ قد يتمّ التشكيك في مدى تمثيله لرؤى هذه المدرسة كما رأيناها عند ابن عربي و صدر الدين و الإمام الخميني. الحقيقة

أنّ الطباطبائي ينتمي إلى المدرسة الوجودية، غاية ما هناك أنّه يعبّر عن رؤاها على الصعيد الإثباتي بأسلوب عقلي و عن طريق الاستدلال البرهاني. و هذه ميّزته التي منحته موقعا متميّزا، بالمقارنة ببقية المنتمين إلى هذه المدرسة. على سبيل المثال يسجّل الطباطبائي أسوة ببقية أتباع المدرسة أنّ للقرآن حقيقة عليا ما ورائية لن تنال بالعقول، ثمّ أنزله اللّه عناية بعباده و كساه كسوة الحروف لكي تناله العقول: «إنّ القرآن النازل كان عند اللّه أمرا أعلى و أحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطّع و التفصيل، لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتابا

______________________________

(1)- نفس المصدر 3: 60، و راجع أيضا في التفسير الإدراكي لتعدد مراتب الفهم: القرآن في الإسلام، الترجمة العربية: 40، 42- 44.

(2)- في تعليقة له على الشيخ المجلسي أخذ عليه حمله الأخبار على مستوى واحد، حيث يقول: «أخذ الجميع في مرتبة واحدة من البيان، و هي التي ينالها عامة الأفهام ... مع أنّ في الأخبار غررا تشير إلى حقائق لا ينالها إلّا الأفهام العالية و العقول الخالصة ... فما كلّ سائل من الرواة في سطح واحد من الفهم و ما كلّ حقيقة في سطح من الدقّة و اللطافة. و الكتاب و السنة مشحونان بأنّ المعارف ذوات مراتب مختلفة و أنّ لكلّ مرتبة أهلا، و أنّ في إلغاء المراتب هلاك المعارف الحقيقية». (بحار الأنوار 1: 100، تعليقة في الهامش)

فهم القرآن، ص: 309

مقرّرا، و ألبسه لباس العربية» «1».

كما يسجّل على نحو أوضح: «و بالجملة فالمحصّل من الآيات الشريفة أنّ وراء ما نقرأه و نعقله من القرآن، أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد و المتمثّل من المثال ... و ليس من سنخ الألفاظ المفرّقة المقطّعة

و لا المعاني المدلول عليها بها» «2». و بقدر ما تكون الحقيقة القرآنية هذه عصية على الناس، فهي بمتناول المطهّرين أو الإنسان الكامل المتمثّل مصداقه الأتمّ الأكمل بالنبي و أهل بيته: «نعم، المطهّرون هم الذين يلمسون الحقيقة القرآنية و يصلون إلى غور معارف القرآن ...

[و] النبي و أهل بيته هم المطهّرون» «3».

في السياق الوجودي ذاته يتحدّث الطباطبائي عن مراتب للمعرفة القرآنية متوازية مع مراتب أهل القرآن في سلّمهم الوجودي، تعتمد على طهارة الباطن و تزكية النفس و انفتاح القلوب بالبصيرة، حيث يسجّل نصا: «إنّ للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله و مقاماتهم، و قد صوّر الباحثون عن مقامات الإيمان و الولاية من معانيه ما هو أدق ممّا ذكرناه» «4».

مع ممثّل آخر للمدرسة و تلميذ من تلاميذ الإمام الخميني يبرز التفسير الإدراكي ذاته لمراتب الفهم، الذي يرجع المسألة إلى الاختلاف في الذكاء و الرصيد

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 3: 53، و يلحظ أنّ المعنى ذاته مرّ عند الشيرازي و الإمام الخميني، غاية ما هناك أنّهما استعملا لفظ «رحمة بعباده» في التدليل على نزول الكتاب إلى الناس و الطباطبائي استبدل ذلك بلفظ «عناية بعباده».

(2)- نفس المصدر: 54.

(3)- القرآن في الإسلام: 64.

(4)- الميزان في تفسير القرآن 3: 73.

فهم القرآن، ص: 310

العقلي المكتسب، حيث يكتب: «إنّ الناس و إن كانوا يحظون بالثقافة الفطرية المشتركة إلّا أنّهم غير متساوين في الذكاء و مراتب الفهم، و بتعبير بعض الروايات هم متفاوتون كمعادن الذهب و الفضّة: «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضّة» «1»، فبعض مخاطبي القرآن اناس ساذجون، و بعضهم حكماء أجلاء و مفكرون لامعون.

على هذا ينبغي للكتاب الإلهي الشامل، أن يبيّن المعارف الفطرية بوسائل مختلفة و على مستويات

متنوّعة» «2».

أمّا الإمام الخميني نفسه فلطالما مرّت علينا مقولته الشهيرة: «القرآن نعمة يستفيد منها الجميع» «3». و هذا ما ينسجم مع مبدأ عموم الهداية الدينية و شمولها للجميع. بعد أن نزل القرآن إلى أفق العقل و الحس صار بمتناول الجميع: «لقد جاء القرآن و الحديث لمختلف طبقات الناس» «4» يغترف كلّ واحد منهما «بمقدار فهمه» «5» و ينهل منه «بحسب سعته الفكرية» «6». و عند ما تتحرّك المسألة في أفق الإدراك و النشاط العقلي بحيث يكون لكلّ بحسبه، و حيث يكون القرآن بمتناول الإنسانية جمعاء: «العامّي و العالم و الفيلسوف و العارف و الفقيه» «7» فمن الطبيعي أن تتعدّد مراتب الفهم و تتنوّع تبعا لاختلاف مدركات الناس و تفاوت أمزجتهم العقلية

______________________________

(1)- بحار الأنوار 58: 65.

(2)- تسنيم 1: 40.

(3)- صحيفه امام 19: 115.

(4)- كشف الأسرار: 323.

(5)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 63.

(6)- صحيفه امام 14: 387.

(7)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 311

و مراتبهم في المعرفة و الفهم بحسب تعبير ابن عربي الذي يسجّل: «لم يكن في الوسع أن تكون آحاد العالم على مزاج واحد، فلمّا اختلفت الأمزجة كان في العالم العالم و الأعلم و الفاضل و الأفضل فمنه [فمنهم] من عرف اللّه مطلقا من غير تقييد، و منهم من لا يقدر على تحصيل العلم باللّه حتّى يقيّده بالصفات ... و منهم من لا يقدر على العلم باللّه حتّى يقيّده بصفات الحدوث ... فعمت الشرائع ما تطلبه أمزجة العالم، و لا يخلو المعتقد من أحد هذه الأقسام، و الكامل المزاج هو الذي يعمّ جميع هذه الاعتقادات» «1».

المقاربة النقلية و الحسية

استدلّ هذا التيار للتدليل على اختلاف مراتب فهم القرآن بعدّة نصوص من النقل، مشفوعة بأمثلة و تقريبات حسية تكاد

تشترك بين رموز المدرسة قدماء و محدثين. من القرآن الكريم يرتكز هؤلاء إلى قوله سبحانه: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «2»، و هم يرون أنّ الآية تقرّر قاعدة مفادها أنّ الفيض أو العطايا و المواهب تنزل من اللّه دون تحديد و قيد، و إنّما هي تتحدّد و تأخذ حجوما صغيرة أو كبيرة تبعا للأوعية و الحوامل و القابليات. يكتب الطباطبائي معقبا على الآية: «إنّ الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات ... خال في نفسه عن الصور و الأقدار، و إنّما يتقدّر من ناحية الأشياء أنفسها ... فإنّما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 2: 219- 220.

(2)- الرعد (13): 17.

فهم القرآن، ص: 312

و الأوعية» «1». و هذه قاعدة عامّة تجري في الامور العينية و الحقائق الخارجية كما «تجري في العلوم و الاعتقادات» «2» أيضا.

يقدّم صدر الدين الشيرازي ما يشبه الشرح لهذا المبدأ في تفسير التفاوت الإدراكي انطلاقا من النص القرآني، حين يكتب: «اعلم أنّ الحقّ تعالى إله واحد، و رازق واحد، و باسط واحد، ينزل منه فيض واحد ينبسط على الكلّ بقدر واحد من جانبه، لكن يختلف باختلاف الأذواق و المشارب، قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً «3»، و قوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «4»» «5». ثمّ ينعطف ليكتب في موضع آخر عن قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها «6»، ما نصّه: «فأودية الفهم سالت من فيضه بقدرها، و جداول العقول فاضت من رشحة نهرها» «7».

من التمثيلات التي يستند إليها هؤلاء كافّة، هي وصف القرآن بالمائدة التي يأكل منها الجميع كلّ بحسب

شهيّته و استعداده و بمقدار صحته و خلوّه من الأمراض.

من السّهل أن نلحظ أنّ هذا التمثيل مستمد من الحديث النبوي الشريف: «إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه، فتعلموا مأدبته ما استطعتم» «8» بحيث يكون لكلّ إنسان رزقه من

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 3: 338.

(2)- نفس المصدر: 339.

(3)- الحجر (15): 22.

(4)- الرعد (13): 4.

(5)- تفسير القرآن الكريم 4: 413.

(6)- الرعد (13): 17.

(7)- مفاتيح الغيب: 17.

(8)- وسائل الشيعة 6: 168، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 1، الحديث 13.

فهم القرآن، ص: 313

هذه المأدبة بحسبه و بمقدار استعداده.

ربّما كان الغزالي (ت: 505 ه) من أوائل من نظّر لهذا التقريب الحسّي الذي يمثّل القرآن بالمأدبة و بالرزق الذي ينتهل منه الجميع، فالقرآن عند أبي حامد مركز العلوم، فكل «ما اختلف فيه الخلائق في النظريات و المعقولات ففي القرآن إليه رموز و دلالات عليه، يختصّ أهل الفهم بدركها» «1». و الطريق إلى العلوم يمر عبر تثوير القرآن: «من أراد علم الأوّلين و الآخرين فليثوّر القرآن» «2». لكن لمّا كانت معارف القرآن و علومه ممتدّة إلى ما لا نهاية له، فإذن: «لا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأنّ ذلك لا نهاية له، و إنّما لكلّ عبد بقدر رزقه، فلا رطب و لا يابس إلّا في كتاب مبين قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً «3»» «4».

انطلاقا من قاعدة أنّ: «غذاء كلّ موجود من جنسه و ممّا يشابهه» «5» جاء القرآن الكريم مملوّا من المعاني، و على كلّ إنسان: «اصطياد نوع خاص منها برزق مخصوص معلوم من العلوم ... فما من رزق إلّا و يوجد في القرآن نوع من لبّه

و قشره و أصله و فرعه و سنبله و تبنه لقوله تعالى: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 289.

(2)- نفس المصدر 1: 283.

(3)- الكهف (18): 109.

(4)- إحياء علوم الدين 1: 283.

(5)- تفسير القرآن الكريم 1: 291، هذا المعنى استمده القوم من ابن عربي، و هو يحوله إلى حجر أساس لمبدأ: لا يمكن لأحد أن يعلم شيئا ليس فيه مثله البتة. راجع: الفتوحات المكّية 2: 102.

فهم القرآن، ص: 314

كِتابٍ مُبِينٍ «1»» «2». هكذا يجاري الشيرازي الغزالي في المقاربة الحسية ذاتها، ليضيف في كتاب آخر أنّ القرآن: «بمنزلة مائدة نازلة من السماء إلى الأرض ...

فيها من الأطعمة من سماء عالم العقول إلى أرض النفوس ... و فيها لكلّ صنف من أصناف الخلق رزق معلوم و نصيب مقسوم ... ففيها لأهل الخصوص أغذية لطيفة و فواكه غير مقطوعة و لا ممنوعة، فالحكمة و البرهان لقوم، و الموعظة و الخطابة لقوم و يوجد لغيرهما أيضا أغذية متوسطة ... على حسب مرامهم و مقامهم إلى أن ينتهي الأغذية ... إلى حد القشور و النخالة، و هي للعوام» «3».

طبيعي ينبغي أن نفهم هذه المقاربة لتفاوت معارف القرآن على ضوء مبدأ سبق و أن تحدّثت عنه المدرسة بل الشيرازي نفسه، حين أفاد أنّ الفيض ينزل من اللّه واحدا بسيطا، إنّما يكتسب هذه التعيّنات و المقادير تبعا للنفوس و العقول التي هي بمنزلة الأوعية التي تتفاوت بالحجوم. فهذا هو الإنسان يحدّد رزقه بما له من محدوديّة وجودية أو إدراكية، هي التي تبعث على تحديد نصيبه أو رزقه المعرفي و المعنوي: «اعلم أنّ للإنسان أرزاقا مختلفة سوى رزق المعدة، و هي رزق القلب و رزق الروح و

رزق السرّ» «4».

في نص آخر و أخير يمثّل الشيرازي للمعنى بقوله: «يوجد في القرآن ما فيه

______________________________

(1)- الأنعام (6): 59.

(2)- تفسير القرآن الكريم 6: 9.

(3)- مفاتيح الغيب: 30 و 55 و 90، تفسير القرآن الكريم 7: 286، النص، لكلّ رزق بآيات من القرآن.

(4)- تفسير القرآن الكريم 7: 286.

فهم القرآن، ص: 315

صلاح كلّ أحد، و ما رزق من الأرزاق المعنوية و الصورية إلّا و يوجد في الكتاب قسم منه لأهله ... و كما يوجد فيه من حقائق الحكم و طرائف النعم التي فيها غذاء للأرواح و القلوب، فكذلك يوجد فيه العلوم الجزئية و الأغذية و الأدوية الصورية من القصص و الأحكام و المواريث و الديات و المناكحات و غيرها ممّا ينتفع به المتوسّطون في المنازل و العوام، ففيه الأغذية المعنوية و الصورية معا و الأقسام الأخروية و الدنيوية جميعا، فما من شي ء إلّا و فيه تبيانه» «1».

لننظر الآن كيف حضرت هذه التمثيلات الحسية المستمدّة من الحديث النبوي الشريف الذي يصف القرآن بأنّه «مأدبة اللّه» الهابطة إلى الإنسان من السماء، في النص الخميني و عبّرت عن نفسها فيه بكثافة. يقول في دروسه التفسيرية لسورة «الفاتحة»: «القرآن مائدة فرشها اللّه للبشر جميعا، مائدة ممتدّة يستفيد منها كلّ إنسان بحسب اشتهائه، هذا إذا لم يكن مريضا لا شهية له».

ثمّ يقارب القرآن بالدنيا و كيف يستفيد منها الجميع، كلّ بقدره، إذ يستفيد الحيوان من علفها و الإنسان من فاكهتها و هكذا، ليعود و يقول: «كذلك القرآن مأدبة ممتدّة للجميع يستفيد كلّ إنسان منها على قدر شهيّته، و حسب الطريق الذي يسلكه للتعامل مع القرآن» «2».

كما يقول في نصّ آخر: «هذه المأدبة الممتدّة في الشرق و الغرب و من زمان الوحي

حتّى القيامة؛ هذا الكتاب الذي يستفيد منه البشر جميعا» «3». ثمّ يصف ضروب الاستفادة على غرار ما ذكرها الشيرازي، إذ لكلّ من هذه المائدة نصيب بقدره،

______________________________

(1)- الحكمة المتعالية 7: 45.

(2)- تفسير سورة حمد: 173.

(3)- صحيفه امام 14: 387.

فهم القرآن، ص: 316

يستوي الأمر بين الإنسان العادّي و العارف و الفقيه و الفيلسوف و الأولياء و غيرهم.

في موضع آخر يسوق الإمام المقاربة ذاتها التي تمثّل للقرآن بالمائدة، فيقول: «القرآن مأدبة ممتدّة من الأزل إلى الأبد، استفاد منها و يستفيد جميع طبقات البشر و فئاتهم. غاية ما هناك أنّ كلّ فئة ترتكز إلى مسلكها الخاصّ الذي تتوفّر عليه، فالفلاسفة يركّزون على المسائل الفلسفية للإسلام، و العرفاء على المسائل العرفانية للإسلام، و الفقهاء على المسائل الفقهية للإسلام، و السياسيون على المسائل السياسية و الاجتماعية للإسلام، لكن يبقى الإسلام و القرآن هما كلّ شي ء، فالقرآن رحمة للبشر جميعا» «1».

آخر ما نقف عنده من النصوص كلام للإمام يرجع إلى أواخر عام 1987 م يكرّر فيه المعنى ذاته، و هو يقول: «القرآن مائدة مدّت لجميع الفئات و الطبقات، بمعنى أنّه ينطوي على خطاب يتضمّن على سواء لغة عامّة الناس، و لغة الفلاسفة، و لغة العرفاء الاصطلاحية و لغة أهل المعرفة أيضا» «2».

من النصوص النقلية الاخرى التي كثيرا ما يتم الاستناد إليها في تفسير تعدد مراتب الفهم، هو الحديث الشريف الذي يروى عن الإمام الصادق عليه السّلام: «كتاب اللّه عزّ و جل على أربعة أشياء: على العبارة و الإشارة و اللطائف و الحقائق. فالعبارة للعوام و الإشارة للخواص و اللطائف للأولياء و الحقائق للأنبياء» «3». يقول الإمام الخميني في نص يعود إلى منتصف الثمانينات: «للقرآن الكريم إشارات لطيفة جدا، لكن لأنّه جاء

إلى العموم فقد قيل بصيغة يدركها الخواصّ كما يدركها العموم أيضا.

______________________________

(1)- نفس المصدر 19: 112.

(2)- نفس المصدر 20: 408- 409.

(3)- بحار الأنوار 75: 278، تفسير الصافي 1: 31.

فهم القرآن، ص: 317

القرآن الكريم مركز جميع ضروب العرفان، و مبدأ كلّ المعارف» «1». ما دام القرآن مبدأ جميع المعارف و مركزها و خطابا مفتوحا للجميع، فمن الطبيعي أن يضمّ العبارة و الإشارة و اللطيفة و الحقيقة.

يستدلّ أحد تلامذة الإمام بهذا النص الروائي على اختلاف معارف القرآن و تنوّع مراتبها بحيث يكون لكلّ فئة مرتبة، ثمّ يخلص للقول: «يستفيد كلّ إنسان من القرآن على قدر استعداده إلى أن ينتهي الخط إلى (المقام المكنون) الذي لا طريق إليه إلّا للنبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام» «2».

هكذا تنتهي الحصيلة إلى إثبات تعدّد مراتب الفهم و ما يترتب على ذلك من نتائج، سواء كان الدليل عليه هو التصوّر الوجودي، أو المرتكز العقلي المتمثّل بطبيعة المعرفة الإنسانية و الإدراك البشري أو النقل.

______________________________

(1)- صحيفه امام 19: 438.

(2)- تسنيم 1: 37.

فهم القرآن، ص: 319

الفصل السادس موانع فهم القرآن

اشارة

لنا أن نتصوّر عظم المنافع التي تترتب على الدرس القرآني، لو أنّ هذا البحث أخذ طريقه إلى علوم القرآن و منهجيات التفسير و سبل التعاطي مع كتاب اللّه. فما من إنسان إلّا و هو يعاني من موانع الفهم و يرغب بإزالتها و التخلّص منها كي ينعم بعطاءات القرآن. بيد أنّ ذلك لم يحصل على نحو منهجي و إن كانت الكتب المعنية لم تخل من إشارات إليه.

خلفية الفكرة

لا نعرف على وجه التحديد متى ظهر هذا العنوان كبحث منظّم في الدراسات القرآنية، غير أنّ الاستقراء الناقص يدلنا على أنّ أبا حامد الغزالي (ت: 505 ه) ربما كان أوّل من نظّر له و تناوله على نحو منهجي منظّم. ففي الباب الثالث من كتاب «آداب تلاوة القرآن» تحدّث عن عشرة أعمال درجها تحت عنوان الآداب الباطنية للتلاوة. هذه الأعمال باختصار، هي: فهم أصل الكلام، ثمّ التعظيم، ثمّ حضور القلب، ثمّ التدبّر، ثمّ التفهّم، ثمّ التخلّي عن موانع الفهم، ثمّ التخصيص، ثمّ التأثّر،

فهم القرآن، ص: 320

ثمّ الترقّي، ثمّ التبرّي «1».

نلحظ أنّ مصطلح «موانع الفهم» برز في سياق التعامل العميق مع القرآن الذي يتجاوز ظاهر الألفاظ و يغوص في أغوار معانيها، فلا بدّ لمن يطمح أن يتعاطى القرآن على هذا المستوى أن يتخلّى عن موانع الفهم أو الحجب التي تحول بينه و بين القرآن، و هي ترتدّ عند الغزالي إلى أربعة يرتبط بعضها بالفاعل الإنساني نفسه و بعضها الآخر بطريق الكشف عن معاني القرآن أو بالمنهج، كما أنّ منها ما هو أخلاقي و ما هو نظري.

مع أنّ الموضوع يرتبط بمشكلة نظرية و اجتماعية حقيقية على صعيد التعامل مع القرآن، إذ ما من إنسان يزعم أنّه خال من موانع الفهم سواء

على مستوى التعامل النظري التفسيري أو على مستوى التعامل الاجتماعي العادّي، إلّا أنّ ما يبعث على الأسف هو خلوّ مصنّفات علوم القرآن قديما و الكتب المعنية بمنهجيات التفسير حديثا من هذا المبحث، ما خلا إيماءات متناثرة كما سلفت الإشارة إليه. و الغريب أنّ هذا يحصل في الوقت الذي نجد فيه هذه الكتب، خاصّة كتب الأقدمين في علوم القرآن لا تخلو من الحشو و من المباحث الهامشية التي لا تمتّ بصلة مسيسة إلى ما يحتاج إليه الإنسان من علوم القرآن و قواعد التفسير، من قبيل الاستغراق ببعض النواحي اللغوية أو الإثقال بمعلومات لا طائل من ورائها.

على سبيل المثال نجد أنّ أفكار الغزالي و ما كتبه عن معنى التفسير و التمييز بينه و بين التفسير بالرأي المنهي عنه، كذلك ملاحظاته عن الظاهر و الباطن و العلاقة بينهما، و انطواء القرآن على معان عميقة مدفونة تحت النصّ تفضي إلى فهوم

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 280.

فهم القرآن، ص: 321

متعدّدة، قد ظهرت بصماته على من كتب بعده في التفسير و في علوم القرآن على سواء «1»، لكن الغريب أنّهم لم يأخذوا عنه تنظيره لمقولة موانع الفهم، ما خلا إشارة عابرة. ففي كتابين هما الأهمّ و الأكثر شيوعا في مصنّفات علوم القرآن و منهجيات التفسير منذ القرن الهجري الثامن، هما «البرهان في علوم القرآن» للزركشي (ت: 794 ه)، و «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي (ت: 911 ه) لا نعثر إلّا على إيماءة سريعة نقلها السيوطي عن الزركشي لخّص فيها الأخير أبرز ما ذكره الغزالي من موانع الفهم و حجبه، في عبارة مكثّفة نقرأ فيها: «قال في البرهان: اعلم أنّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، و لا يظهر له أسراره

و في قلبه بدعة أو هوى أو حبّ الدنيا، أو هو مصرّ على ذنب، أو غير متحقّق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسّر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، و هذه كلها حجب و موانع بعضها آكد من بعض» «2».

في المقابل نلمس العناية الفائقة التي أولاها رموز المدرسة السلوكية إلى هذا الجانب. فعند ما أراد صدر الدين الشيرازي لكتابه «مفاتيح الغيب» أن يتحوّل إلى

______________________________

(1)- لاحظ أنّ الزركشي نقل موقف الغزالي من تعدد مراتب الفهم و انطواء القرآن على الظاهر و الباطن و طبيعة العلاقة بينهما، بنصه و طوله عند حديثه عن التفسير. (راجع البرهان في علوم القرآن 2: 170 172، و يقارن مع إحياء علوم الدين 1: 289، 291، 293)

عن الموضوع ذاته ساق السيوطي نص عباراته عن تعدد مراتب الفهم و رحابة معاني القرآن بعد أن قدّم لها بقوله: «و قال بعض العلماء» بعكس الزركشي الذي لم يشر إليه. (راجع الإتقان في علوم القرآن 4: 226)

(2)- الإتقان في علوم القرآن 4: 216، و رغم رجوعي للبرهان مباشرة و بحثي فيه، فلم اعثر على أثر لهذا النص.

فهم القرآن، ص: 322

مقدّمة منهجية لتفسيره القرآني، فقد مكث غير قليل مع مقولة موانع الفهم و ضرورة التخلّي عنها لمن يريد النظر في علم القرآن و التدبّر بآياته. على أنّ من المهمّ أن نعرف أنّ الشيرازي تابع الغزالي في هذه المسألة على مستوى المنهج و المضمون و العبارة، إذ أنّ أغلب عبارات صدر الدين في هذا المضمار هي عبارات الغزالي بحذافيرها، ربّما زاد عليها أو أنقص منها عبارة، أو أتى لها بتأييد نقلي أو شاهد حسي و هكذا.

أمّا من زاوية منهجية العرض فيلحظ أنّ الشيرازي

تناول المسألة عند حديثه عن آداب الناظرين في علم القرآن و المتدبرين في آيات اللّه، حيث ذكر عشرة عناصر هي نفسها التي ذكرها الغزالي و بالتسلسل و المصطلحات ذاتها. ففي سياق حديثه عن هذه الآداب نصّ بأنّ الأدب السادس، هو التخلّي عن موانع الفهم تماما كما فعل الغزالي من قبل «1».

______________________________

(1)- راجع مفاتيح الغيب: 58 فما بعد، و قارن مع إحياء علوم الدين 1: 280 فما بعد. على أنّ المهم هنا أنّ الشيرازي أشار صراحة إلى أنّه أخذ هذه التحقيقات القرآنية التي أودعها المفتاح الثاني من كتابه «مفاتيح الغيب» (قرابة مائة صفحة) من الغزالي، و هو و إن ذكر أنّه أخذ هذه التحقيقات مصفّاة و انتخب منها أفضلها، حين نص على أنّها «إشارة وجيزة من بسيط تمثيلات حجة الإسلام» (الغزالي المشهور بهذا اللقب) و خلاصة مجملة من وسيط منخولات ذا الحبر الهمّام، محصّلة لنجاة النفوس و شفاء الأرواح، ملخّصة لطريق الهداية و الفلاح»، إلّا أنّه عاد ليمتدحه بكلام يندر أن يصدر عن الشيرازي في مدح أحد اللهم إذا استثنينا الشيخ الأكبر ابن عربي، فقد كتب عن الغزالي يقول في امتداد النص السابق: «إذ هو أيّده اللّه بحر زاخر يقتنص من أصدافه جواهر القرآن، و نار موقدة يقتبس من مشكاته أنوار البيان، ذهنه الوقّاد كبريت أحمر يتخذ منه كيمياء السعادة الكبرى، و فكره غوّاص يستنبط-

فهم القرآن، ص: 323

أجل، نلمس تغييرا ملحوظا لكنّه طفيف أدخله الشيرازي على المعالجة من حيث المنهج عند ما قسّم الحجب إلى داخلية و خارجية، ثمّ عاد ليذكر تحت كلّ واحد من هذين القسمين حجبا عدمية و أخرى وجوديّة. تعود أهمّية هذا التعديل المنهجي الطفيف إلى أنّه سمح للشيرازي أن يتحدّث في

وقت واحد عن منطلقين لهذه الحجب و الموانع، أحدهما وجودي يرتبط بالإنسان نفسه من حيث قلبه و روحه و قواه المعنوية، و الآخر إدراكي يرتبط بالإنسان أيضا لكن من حيث عقله و نظره و قواه العقلية. نضيف إلى ذلك أنّ الشيرازي طوّر نظرية موانع الفهم و حجبه من حيث المحتوى قياسا لما هي عليه عند الغزالي، عند ما أمعن في تناول أبعادها في مواضع مختلفة من تفسيره كما سنرى ذلك.

عند ما نصل إلى الإمام الخميني نراه أولى موضوع الحجب و الموانع اهتماما كبيرا، أسوة ببقية رموز المدرسة السلوكية التي ينتمي إليها تبعا لمنهجية صدر الدين الشيرازي. و إذا كان ثمّ شكّ يساورنا فيما إذا كان الإمام قد اطّلع على ما كتبه الغزالي على هذا الصعيد أم لا، فنحن نجزم أنّه أطّلع على ما كتبه عنه صدر الدين الشيرازي و تابعه فيه و حذا حذوه، كما يدلّ على ذلك تطابق الفكرة و وحدة المنهج في العرض و تشابه العبارة و أحيانا تماثلها «1».

______________________________

- من بحار المباني لآلي المعاني، فهمه صرّاف محك دنانير العلوم على معيار العلوم، عقله ميزان يزن مثاقيل البرهان القويم على منهج الصراط المستقيم، و له الحكم المسيحية في إحياء أموات علوم الدين و المعجزة الموسوية من إخراج اليد البيضاء لإيضاح معالم اليقين، فطوبى لنفس هذه آثارها و خواصّها، و سقيا لروح إلى اللّه مصيرها و مناصّها». مفاتيح الغيب:

97- 98. على أنّ في النصّ كنايات تومئ بلطف إلى مصنّفات الغزالي و مؤلفاته.

(1)- راجع آداب الصلاة: 195 فما بعد، و قارن مع صدر الدين الشيرازي في المعطيات المذكورة

فهم القرآن، ص: 324

الحقيقة لا تقتصر متابعة الإمام لصدر الدين الشيرازي و اقتباسه منه و من ابن

عربي على هذا المورد وحده، بل تمتدّ لتشمل جلّ بل كلّ الجوانب المعرفية التي تناولها الإمام خاصة في مؤلفاته التي صنّفها مطلع حياته العلمية «1»، و قبل تصديه للمرجعية الفقهية و انخراطه في النهضة و نشاطاتها. و هذه المتابعة لا تحمل على أساس ما لابن عربي أو صدر الدين الشيرازي من تفوّق علميّ و نبوغ معرفي مع أنّ هذا النبوغ و التفوّق ممّا لا ينكر لهما، و إنّما تقرأ في إطار وحدة المدرسة و تفسّر على أساس الانتماء إلى الإطار المعرفي نفسه.

منهج العرض

على ضوء الخلفية التأريخية التي سعت إلى متابعة الفكرة في أبرز محطّاتها، نعرض لأبرز موانع الفهم و حجبه في إطار مدرسي تتكامل فيه الرؤية بين هذا الرمز و ذاك من رموز المدرسة السلوكية، مع الكشف عن حصّة كلّ رمز و مساهمته.

الحقيقة ستكون نقطة الانطلاق في هذا الفصل، هي الأفكار التي طرحها الإمام و عدّها موانع تحجب الإنسان عن فهم القرآن و تملّي معانيه، ثمّ نعمد في

______________________________

سابقا. و لاحظ أيضا أنّ الإمام ساق الحديث عن الموانع في نطاق الحديث عن آداب التلاوة، حيث كتب في الصفحة ذاتها: «واحد آخر من الآداب التي ينبغي الالتزام بها كي تحصل الاستفادة، هي رفع موانع الاستفادة (الفهم) و نحن نعبّر عنها بالحجب بين المستفيد و القرآن» تماما كما لاحظنا ذلك عند الغزالي و الشيرازي.

(1)- مثل كتاب: شرح دعاء السحر، الأربعون حديثا، آداب الصلاة، مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية، سرّ الصلاة، شرح حديث جنود عقل و جهل، و كتاب التعليقة على الفوائد الرضوية.

فهم القرآن، ص: 325

الأثناء إلى تشييد كلّ محور من محاور البحث من خلال الخلفيات المتوافرة بين أيدينا على هذا الصعيد خاصّة في تراث صدر الدين

الشيرازي و الغزالي. و الهدف في ذلك ليس علميا محضا يتلخّص بعوامل متابعة مناشئ الفكرة و تطوّرها قبل أن تكتسب صيغتها الحاضرة في النص الخميني، و إنّما هو أيضا تربوي يتمثّل بما تحمله اطروحة موانع الفهم من منافع عظيمة على وعي المسلمين للقرآن و تفاعلهم مع كتاب اللّه، فالشطر الأعظم محروم من هداية القرآن سواء على مستوى التعامل النظري التفسيري مع كتاب اللّه و التعاطي الفكري معه، أو على مستوى التعامل الاجتماعي العام للإنسان المسلم في حياته اليومية.

و معرفة موانع الفهم و الحجب الصادّة يوفّر للجميع مفتاحا مؤثّرا لتعامل أفضل مع القرآن، إذ يسعى كلّ إنسان للتخلّي عن هذه الموانع و إزالة هذه الحجب بعد معرفتها، و وعي تأثيرها السلبي المدمّر على علاقة الإنسان المسلم مع كتاب اللّه.

إذا، ستكون أفكار الإمام هي المحور في صوغ البحث و عرضه، معزّزة بالميسور من تراث المدرسة السلوكية على هذا الصعيد، مع تركيز شديد على البعد التربوي و المعطى العملي و الاجتماعي للبحث من دون إغفال لعناصره العلمية و النظريّة، التي تكشف في بعض جوانبها عن ارتباط هذا الفصل بالذي سبقه و تكاملهما في أداء الفكرة. على أنّ من المهمّ أن نلحظ أنّ الإمام الخميني و من قبله الشيرازي و الغزالي، يركّزون على الجوانب الأخلاقية و المعنويّة التي تنصبّ على تزكية النفوس و تطهير الباطن و إعداد القلوب إعدادا سليما، ممّا ينسجم أشدّ الانسجام مع التصوّر الوجودي الذي عرضنا له سابقا، و ما يتضمّنه من تواز بين الإنسان و القرآن و تناظر في مراتب الاثنين و درجاتهما. فمثل هذا التصوّر الذي لا يكتفي بالجانب الإدراكي العقلي بل يقول بمرتبة في الفهم و المعرفة تفوق هذا

فهم القرآن، ص: 326

الجانب

و تأتي طورا ما وراءه، أعلى منه و أسمى، هي المعرفة القلبية؛ لا بدّ و أن يفرض على أتباعه إيلاء أهمّية قصوى للحجب التي تمنع من انفتاح القلب على القرآن، ثمّ تأتي عنايتهم بعد ذلك بالجوانب الاخرى التي ترتبط بالمعرفة النظريّة أو الطريق المؤدّي إليها.

موانع الفهم و الحجب الصادّة

اشارة

يبدأ الإمام فصله عن الحجب و الموانع بعبارات تبعث على توتر النفس و إثارتها، و شدّ العقل و انتباهه ارتقابا لأمر خطير: «نتلو القرآن الشريف أربعين عاما، و ليس ثمّ ثمرة أو نفع يحصل من ذلك مطلقا سوى أجر القراءة و ثوابها» «1».

بداية تذكّرنا في حدّة إثارتها ببداية الغزالي للموضوع، و هو يكتب: «أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب و حجب» «2» إذ المحصّل بين الاثنين واحد، هو احتجاب الأكثرية عن النفوذ إلى دائرة القرآن.

ما هي أسباب ذلك؟ و ما هو السبيل إلى تخطّيها؟ بالقدر الذي يتصل بالبحث يعود السبب إلى ترسّخ موانع الفهم و تراكم الحجب بين الإنسان و القرآن، و من ثمّ يكمن الحلّ بمعالجة هذه الحجب و إزالتها و التخلّي عن الموانع. و الخطوة الاولى في ذلك كله تكمن بوعي المسألة و معرفة الموانع و الحجب. يكتب الإمام منبّها: «واحد آخر من الآداب المهمّة التي ينبغي الالتزام به لكي تتحقّق الاستفادة، هو رفع موانع الاستفادة الذي نعبّر نحن عنه بالحجب بين المستفيد و القرآن». ثمّ يردف موضّحا:

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192.

(2)- إحياء علوم الدين 1: 284.

فهم القرآن، ص: 327

«و هذه الحجب كثيرة نشير إلى بعضها» «1»، ثمّ يبدأ باستعراضها على طريقته الخاصّة.

أبرز ما أشار إليه الإمام من هذه الموانع و الحجب، هو:

1- حجاب غياب قصدية التعلّم

في هذه النقطة ينطلق الإمام من مسألة مبدئية أو إطار منهجي لم أعثر له على مثيل في موضوع بحثنا عند الغزالي أو الشيرازي. فما دام الحديث يدور عن فهم القرآن و الحجب المانعة عن ذلك، فالإمام يطالب بدءا بتأسيس العلاقة بين المستفيد و القرآن على نحو خاص منتج، حتّى لا يتورّط بالحجب التي تعطّله عن الفهم.

علاقة الإنسان مع

القرآن ينبغي أن تتأسّس على آصرة التعلّم بحيث يكون الإنسان قاصدا أن يفهم من القرآن و يتعلّم منه، كما المفروض أن لا يتخلّى الإنسان عن هذه الآصرة في أي مرحلة من مراحل تعاطيه مع كتاب اللّه، ذلك أنّ الإنسان يعيش حالة التعلّم من القرآن أبدا مهما كانت المرحلة التي بلغها.

قصد التعلّم عند الإمام يأتي تاليا لمعرفة الإنسان لمقاصد القرآن و سابقا أو ممهّدا لموضوع الحجب و الموانع، إذ يكتب منبّها إليه بعد أن يستعرض أبرز المقاصد: «الآن و بعد أن عرفت مقاصد هذه الصحيفة الإلهية و مطالبها، ثمّ مسألة مهمّة ينبغي أن تأخذها بنظر الاعتبار يفضي الالتفات إليها إلى أن ينفتح أمامك طريق الاستفادة من الكتاب الشريف، و تنفرج على قلبك أبواب حكمه و معارفه؛ و تلك المسألة هي أن تنظر إلى الكتاب الإلهي الشريف بقصد التعلّم، و أن تعدّه كتاب تعليم

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 195.

فهم القرآن، ص: 328

و إفادة، و ترى نفسك موظّفا بالتعلّم و الإفادة منه» «1».

على هذا القصد ينبغي أن تتأسّس علاقة الإنسان المستفيد مع كتاب اللّه لكي تنفتح عليه أبواب معارفه و عطاياه، و من دون ذلك ستؤصد أمامه الأبواب و من ثمّ يكون ذلك أوّل عهده بالحجب و الموانع. على خلفية غياب القصد التعليمي يفسّر الإمام ضآلة ما ينتج عن علاقتنا مع القرآن: «و السبب في أنّ استفادتنا من هذا الكتاب العظيم ضئيلة جدا يعود إلى غياب هذا القصد، فنحن لا نتعامل معه بقصد التعليم و التعلّم، بل غالبا ما تقتصر علاقتنا مع القرآن على القراءة و حسب، نقرأ القرآن لغرض نيل الثواب و الأجر، لهذا لا نهتمّ إلّا بجهاته التجويديّة، فقصدنا أن نتلو القرآن صحيحا لينالنا الثواب، نحن نقنع

بهذا القدر و تجمد علاقتنا مع القرآن عند هذه التخوم من دون أن نتخطّاها» «2».

طبيعي لا يعني الإمام إهمال تلاوة القرآن الكريم في النسق الذي تمليه قواعد التجويد، فهذه مسألة خارجة عن موضوع البحث. البحث يدور حيال فهم القرآن و موانع ذلك، و من يروم الفهم عليه أن يؤسّس علاقته مع كتاب اللّه على قصديّة التعلّم، و قصديّة التعلّم لا علاقة لها بالتلاوة و آدابها كغاية، فحيث يكون التعلّم هو المقصود، فالإنسان يقرأ القرآن ليتجاوز القراءة إلى الفهم، لا أن يمكث عند تخوم التلاوة و ينشغل بآداب التجويد. فنحن إذن بإزاء موضوعين لكلّ واحد منهما قصده الذي يؤسّس له، و لوازمه التي تترتب عليه.

لكن هل يعني تأسيس العلاقة مع القرآن على قاعدة قصديّة التعلّم،

______________________________

(1)- نفس المصدر: 191- 192.

(2)- نفس المصدر: 192.

فهم القرآن، ص: 329

الانخراط في العلوم الجزئية و الاستغراق بالمقدمات و العكوف عليها؟ ليس هذا هو المقصود، لأنّ مثل هذا الانخراط التفصيلي و إن كان يريح الذات و يوحي لها بأوهام الامتلاء و الاكتفاء و يوقعها داخل أشراك الغرور و الاستغناء، إلّا أنّه لا يعدو هو الآخر أن يكون حجابا مانعا عن الولوج إلى لباب المعاني و الاقتراب من مقاصده.

2- الغرور و الإحساس الكاذب بامتلاء الذات

يعيش الإنسان غالب الأحيان إحساسا مضخّما بذاته، يفضي به أخلاقيا إلى التعالي و الغرور و معرفيا إلى العزوف عن الفهم و التعلّم و اكتفائه بما عنده. هذا الإحساس الوهمي يطغى على المشتغلين بمختلف حقول العلم بما في ذلك العلوم الدينية، و هو من البلاءات التي تصيب العاملين بالفكر و المعرفة و العلم، خاصّة إذا ما أحرز الإنسان تقدّما في أحد الاختصاصات، إذ سيطغى عليه إحساسه بالتفوّق فيكسبه حالة من القناعة بما عنده و الرضا

عن الذات، و يعيش الاستغناء عن معرفة بقية حقول العلم و ربما ازدراءها و الاستخفاف بأصحابها.

و حيث يمثّل هذا الشعور الوهمي بالاكتفاء حالة عامّة تشمل المهتمّين بمختلف حقول العلم و المعرفة، فلا معنى أن نستثني منه المشتغلين في حقول الدراسات القرآنية و عامّة اطر المعرفة الدينية، بل ربما فاق الابتلاء به في هذا الوسط ما تعانيه بقية الأوساط العلمية و المعرفية، للملابسات الخاصّة التي يعيشها الجوّ الديني.

قد تنشأ الذاتية المتضخّمة من خلل أخلاقي و قد تقترن بالممارسة العلمية ذاتها و تكون نتيجة مصاحبة لها، لكنّها على كلا التقديرين تنتهي إلى إلحاق الضرر ببنية المعرفة القرآنية بعد أن تتحوّل إلى مانع أو حجاب. يكتب الإمام: «من الحجب

فهم القرآن، ص: 330

الكبيرة حجاب الذاتية و الغرور و تضخّم الذات، حيث يرى الإنسان المتعلّم نفسه بواسطة هذا الحجاب مستغنيا لا يحتاج إلى الاستفادة» «1». و هذه الخصلة هي «من أهمّ كبريات مكايد الشيطان الذي يوحي للإنسان بالكمالات الموهومة على الدوام و يدعه راضيا بما عنده قانعا به، مستخفّا بما وراءه عازفا عن كلّ ما سواه» «2».

ينتقل الإمام بعد ذلك ليتابع تجليات هذه الحالة و مصاديقها، و كيف تبرز على صعيد مختلف علوم القرآن و ما يتصل بدائرته الفسيحة من معارف، دون أن تستثني أحدا: «مثلا:

1- يقنع الشيطان أهل التجويد بذلك العلم الجزئي [علم التجويد] و يزيّنه لهم و يسقط بقية العلوم من أعينهم، و يوهمهم بتطبيق عنوان حملة القرآن على أنفسهم [حتّى يظنّوا أنّهم بحظّهم من علم التجويد هم حملة القرآن و حسب] و من ثمّ يحرمهم من فهم الكتاب الإلهي المنوّر و الإفادة منه.

2- كما يرضي أصحاب الاهتمام الأدبي بتلك القشور و الشكليات الخالية من اللب، و

يوحي لهم أنّ القرآن بتمام شئونه يتمثّل بما عندهم و حسب.

3- و يشغل أهل التفاسير المألوفة بوجوه القراءات و الآراء المختلفة لأرباب اللغة، و وقت النزول و شأن النزول، و المدني و المكّي، و عدد الآيات و الحروف و أمثال هذه الامور.

4- كما يعمد أيضا إلى إقناع أهل العلوم و إرضائهم بمعرفة فنون الدلالات و وجوه الاحتجاجات و أمثال ذلك» «3».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 195.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 331

لو عدنا خطوة إلى الوراء لوجدنا هذا النص يلتقي مع ما ذكره الغزالي في الحجاب الأوّل من حجب الفهم الأربعة، و لخصه بقوله: «أوّلها: أن يكون الهمّ منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، و هذا يتولّى حفظه شيطان و كلّ بالقرّاء ليصرفهم عن فهم معاني كلام اللّه عزّ و جلّ، فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف يخيّل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه» «1». بيد أنّ الإمام وسّع في مداه و ساقه إلى مجالات أرحب، حيث لم يقف بهذا الحجاب على علم التجويد و أهله و حسب، بل امتدّ به حتّى غطّى مجالات الدراسات الأدبية و اللغوية، و علوم القرآن و الحجاجات الكلامية، و أي نزعة استغراقية تجرّ الإنسان إليها و تبعده عن مقاصد القرآن حتّى لو انطلقت باسم الفلسفة و العرفان «2».

مع صدر الدين الشيرازي تكتسب تعرية هذا الحجاب و نقده صياغة اخرى تتمثّل بمهاجمة الشيرازي للنزعة الظاهرية، التي يكتفي فيها الإنسان بالمقدّمات و العلوم الجزئية و أوائل المفهومات و يغتر بهذا الحشد عن النفوذ إلى حريم المعاني، فالمطلوب من هذه جميعا أن تكون خوادم لما بعدها، و المقصود من الظاهر أن يكون طريقا إلى الباطن و حقائق القرآن. يكتب: «معظم الآفات

الحاجبة للإنسان عن درك حقايق القرآن الاغترار بظواهر الأخبار، و الاحتجاب بأوائل الأنظار، من دقائق العلوم الجزئية و معارف الأحكام الفرعية، و إلّا فما من شي ء إلّا و في القرآن ما يكشف عن حقيقة ذاته» «3». لكن استغراق الإنسان بالقشور و المقدمات و العلوم

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 284.

(2)- لم يوفر الإمام في نقده المجالين الفلسفي و العرفاني حين يكتفي الفيلسوف و العارف بالاصطلاح و ينشغل به عن القرآن، كما سيأتي الحديث عنه تفصيلا.

(3)- تفسير القرآن الكريم 6: 10- 11.

فهم القرآن، ص: 332

الجزئية و الفته بالمشهور يحرمه من بلوغ اللب، وفاقا لقاعدة: «و بالقشر لا ينال إلّا القشر» «1». في الواقع يتقارب هذا النص الذي يهاجم فيه الشيرازي العكوف على العلوم الجزئية و الاستغراق بالمقدمات عن بلوغ المقصد، مع نصّ للإمام الخميني يؤكّد المدلول ذاته مع إيضاحات أكثر: «و إذا ما قصدنا التعلّم فسنبذل عنايتنا بالنقاط البديعية و البيانية، و وجوه إعجازه. و إذا ما تخطّينا ذلك إلى ما هو أرفع منه فلن تتجاوز اهتماماتنا [القرآنية] الجوانب التاريخية، و أسباب نزول الآيات و أوقاتها، و مكّية السور و الآيات و مدنيّها، و اختلاف القراءات، و اختلافات المفسّرين من العامّة و الخاصّة، و إلى ما غير ذلك من الامور العرضية الخارجة عن المقصد، التي تستوجب بنفسها الاحتجاب عن القرآن و الغفلة عن الذكر الإلهي» «2».

الحقيقة لا يتجه النقد في نطاق هذه الرؤية إلى العلوم التمهيدية و المقدّمات في نفسها، و إنّما هو يبتغي التعامل معها في نطاقها الوظيفي كمقدمات أو خوادم و آلات، بحيث لا يصار للإطناب بها فتتحوّل إلى غاية تصدّ عن المقصد و حجاب يمنع عن الفهم و هو يورث صاحبه الانتفاخ و

الغرور، و يدعه يعيش إحساس الاستغناء و الرضا عن الذات.

3- النزعات اللغوية المضخّمة

القرآن نصّ عربي، و من ثمّ فللغة العربية و آدابها وظيفتها التي تنهض بها إزاء هذا النص. هذه حقيقة واضحة لا ريب فيها، يزيدها أهمّية دعوة الإسلام نفسه إلى

______________________________

(1)- نفس المصدر: 21.

(2)- آداب الصلاة: 192.

فهم القرآن، ص: 333

تعلّم هذه اللغة من زاوية أنّها كلام اللّه: «تعلّموا العربية فإنّها كلام اللّه الذي كلّم به خلقه» «1».

لكن تبقى هناك مسافة كبيرة بين التوفّر على موضع الحاجة من قواعد اللغة و آدابها في فهم معاني القرآن و درك مراميه، و بين اختزال القرآن إلى نصّ لغوي و التعامل معه على هذا الأساس. في نطاق الفهم الأوّل تكون اللغة و آدابها محض آلة كالمنطق بالنسبة للتفكير بشكل عام، و كاصول الفقه بالنسبة إلى الفقه و كالرجال بالنسبة للحديث و هكذا. أمّا في نطاق الفهم الثاني فتتحول اللغة و آدابها إلى هدف مطلوب بذاته، بحكم أنّ القرآن نفسه هو نص لغوي. كما تكون العربية و علومها و آدابها في نطاق الفهم الأوّل محطة عابرة يتجاوزها الإنسان بعد أن يستنفد طاقاتها، في حين ليست هي كذلك مع الفهم الثاني حيث تملأ اللغة جميع اهتمامات الإنسان و تشغل آدابها وعيه و مداركه، و تطغى على جميع أبعاد عنايته بالقرآن و تصبغها بلونها ما دام يعي القرآن نصا لغويا و حسب.

الحقيقة أنّ هذه النظرة التي تتعاطى مع اللغة و آدابها على نحو مضخّم يستغرق جل الاهتمامات، موجودة عند القدماء كما عند المحدثين، و ربّما هي التي عناها الغزالي و حذّر منها قبل قرابة ألف عام، بقوله: «و قد انتهى الجهل بطائفة إلى أن ظنّوا أنّ القرآن هو الحروف و الأصوات» «2».

لكن حتّى

من دون هذا التمييز في بنية القرآن و حقيقة الظاهرة القرآنية، فما أكثر من انجرّ من الماضين إلى علوم اللغة و آدابها و أطنب في التصنيف بها و تحرّي

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 6: 220، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 30، الحديث 2.

(2)- جواهر القرآن: 36.

فهم القرآن، ص: 334

تفصيلاتها، حتّى إذا ما انتهينا إلى المحدثين، نجد أنّ هذه النزعة اكتسبت مع بعض الاتجاهات الحديثة و المعاصرة منحى تنظيريا يسجّل صراحة أنّ: «القرآن نص لغوي» «1» و حسب، و إنّه لا مفهوم لهذا النص خارج طبيعته اللغوية، ذلك: «إنّ البحث عن مفهوم (النص) ليس في حقيقته إلّا بحثا عن ماهية (القرآن) و طبيعته بوصفه نصا لغويا» «2». يساوق هذا النص بصراحة بين ماهية القرآن و طبيعته و بين بنيته اللغوية، و يجعل أحدهما مساويا للآخر.

في نطاق رؤية كهذه تؤسّس لنفسها على هذه المبادئ من الطبيعي أن يكون البحث اللغوي بضروبه المختلفة، هو الطريق الوحيد المفضي إلى إدراك القرآن و وعي الحقيقة القرآنية، و يتحوّل إلى ضرورة لا مناص منها، و ليس إلى مجرّد مرحلة و محطّة أو في الأقل خيار من بين عدة خيارات كلها مؤدية و مشروعة. نقرأ في نص دال يعبّر عن هذه الرؤية بجرأة و صراحة: «إنّ اختيار منهج التحليل اللغوي في فهم النص و الوصول إلى مفهوم عنه ليس اختيارا عشوائيا نابعا من التردّد بين مناهج عديدة متاحة، بل الأحرى القول إنّه المنهج الوحيد الممكن من حيث تلاؤمه مع موضوع الدرس و مادته» «3»، و من ثمّ فإنّ «الدراسة الأدبية و محورها مفهوم (النص) بحقيقته اللغوية هي الكفيلة بتحقيق وعي علمي» «4» بالقرآن دون بقية

______________________________

(1)- مفهوم النص: 9.

(2)- نفس المصدر: 10.

(3)- نفس

المصدر: 25.

(4)- نفس المصدر: 10. تبقى هنا نقطة تمليها أمانة النقل و فهم الرأي في إطار متبنيات صاحبه و المبادئ التي تؤطّر فهمه و الاصول التي تصوغ مرجعيته، فصاحب هذه الرؤية لا ينكر-

فهم القرآن، ص: 335

المناهج و الدراسات.

المدرسة الوجودية أو السلوكية و من تأثّر بها هي أشدّ من واجه هذه النزعة و حذّر منها في الماضي كما في الحاضر، كما سنلمس ذلك عمّا قليل في نصوص الإمام الخميني من المعاصرين، و صدر الدين الشيرازي من الأقدمين مع إشارات دالّة للغزالي الذي رام الانفتاح على هذه المدرسة خاصّة أواخر سني عمره، فكان له بعض نصيب من معارفها منحه قدرة فائقة على التنظير في المعرفة القرآنية و في جوانب اخر من المعارف الدينية.

يجمع رموز هذه المدرسة في موقفهم الرافض لنزعة التوغّل التفصيلي الزائد في اللغة و آدابها، بين منطلقين:

الأوّل: هو منطلقهم الخاص الذي ينسجم مع مبادئهم في الفهم. فهذا الاتجاه لا يتعامل مع القرآن كنص لغوي و حسب كما مرّ معنا في الفصول السابقة خاصة الخامس، و إنّما له حقيقة ما ورائية، و قد مرّ بتنزّلات كثيرة حتّى صار في صيغته الأخيرة المتمثّلة بحلّة الألفاظ و كسوة الحروف، و ما صيغته النصية التي بين أيدينا إلّا التنزّل الأخير للحقيقة القرآنية.

______________________________

وجود حقيقة ما ورائية للقرآن الكريم كما لا يحرص على إثباتها و الدفاع عنها، و إنّما يمر عليها مرورا محايدا مفترضا- وفاقا لمنهجه و إطاره في الفهم- أنّ: «الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص» في «العلم الإلهي أو في اللوح المحفوظ» لا يتعارض و التعامل مع القرآن كنصّ لغوي و حسب، كما لا يتعارض أيضا «مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها»، إذ ما بين

أيدينا فعلا في عالم الشهادة و الملك هو هذا «النص اللغوي» فقط دون تلك الحقيقة الغيبية الماورائية. (راجع: مفهوم النص: 24، 25 و مواضع اخرى من الكتاب)

فهم القرآن، ص: 336

المطلوب من الإنسان الذي يناظر القرآن و يوازيه وجوديا أن لا يمكث عند هذه الألفاظ و يعكف على القشرة الأخيرة، و إنّما يرتقي على خطّ وجودي صاعد إلى ماوراء الحروف و الألفاظ، ثمّ يواصل رقيه ليعيش معاني القرآن و حقائقه على قدر سموّه الوجودي و التكاملي. هذا النمط من الفهم يقتضي طبيعيا بحكم بنيته و انسجامه المنطقي الخاص به، عدم تضخيم جانب اللغة و آدابها، و يكتفي منها بالنزر القليل الذي يدع الإنسان يفهم ظاهر النص القرآني الذي هو نص لغوي عربي في نهاية المطاف، فهما صحيحا منسجما مع قواعد اللغة، ثمّ يغادر هذه المنطقة إلى ما هو أرقى حيث تبرز لوازم و أدوات اخرى كما مرّ تفصيلا في الفصل الخامس أثناء الحديث عن نظرية مراتب الفهم.

الثاني: أجل، القرآن نص لغوي، هذه حقيقة لا يستراب بها، بيد أنّ ذلك لا يسوّغ العكوف على اللغة، لأنّ للنص اللغوي هذا آفاقا مديدة تشمل الكون و الإنسان و الحياة، و له معارف تعمّ عالمي الغيب و الشهادة، يكفينا في ذلك ما وصف به نفسه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1» و قوله: وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ «2» كما قوله:

ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ «3».

و من السنة: «إنّ العزيز الجبار أنزل عليكم كتابه و هو الصادق البار، فيه خبركم و خبر من قبلكم و خبر من بعدكم، و خبر السماء و الأرض» «4». و كذلك: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء، حتّى و اللّه ما

ترك شيئا تحتاج

______________________________

(1)- النحل (16): 89.

(2)- الأعراف (7): 145.

(3)- الأنعام (6): 38.

(4)- الكافي 2: 599/ 3.

فهم القرآن، ص: 337

إليه العباد» «1».

نص بهذه المثابة له كلمة فصل في مسائل العقيدة من مبدأ و معاد و رحلة الإنسان ما بينهما و مصيره بعد ذلك، إلى عناية فائقة بالجانب الروحي و الحياة المعنوية، إلى بيان الأحكام الفقهية، و طواف في حركة المجتمع و التأريخ و دراسة سنن نهوض الأمم و أفولها، و اهتمام متميّز بتربية الإنسان و تفجير مكنوناته و استعداداته الداخلية، إلى إشارات في الطبيعة و العلوم و غير ذلك؛ كيف يمكن أن تستوفيه اللغة وحدها أو أن تكون هي المنهج الأفضل لإدراك معارفه و اكتناه معانيه؟ و كيف يصحّ أن تكون اللغة و الدراسات الأدبية هي السبيل الوحيد للتعامل مع هذا الطيف الواسع من الموضوعات و المعارف و المعاني؟ إنّ للغة على أيّ حال طاقات محدودة لا تتعدّاها، و لها وظيفة خاصّة تنهض بها، لتترك المجال لما بعدها.

أزيد من ذلك تفيدنا الدراسات الحديثة عن النص، أنّ النص الديني و إن كان نصا لغويا إلى أنّه يمثّل «حالة خاصّة من النص اللغوي» بحيث يتجاوز «من حيث مبناه و معناه و أثره، حدود اللغة إلى ما بعدها و ما فوقها و ما وراءها، لما يتضمّنه من معان سامية» «2». و هكذا «يمكن القول إنّ النص جهاز عبر لغوي، يتجاوز اللغة إلى العالم الرحيب خارجها» «3».

على ضوء هذه الخلفية جاء تحذير الإمام من تضخيم النزعة اللغوية و ما يصاحبها من اهتمامات تفصيلية تتراكم و تعلو، حتّى تحجب معارف القرآن و معانيه

______________________________

(1)- نور الثقلين 3: 74/ 176.

(2)- سلسلة عالم المعرفة الكونية، العدد 276: 453 و 457، الثقافة العربية و

عصر المعلومات، الدكتور نبيل علي.

(3)- نفس المصدر: 457.

فهم القرآن، ص: 338

و تتحوّل إلى غاية مطلوبة بذاتها. لقد مرّت علينا بعض نصوص الإمام التي حذّر فيها من استهلاك الجهود و تضييع العمر بالاستغراق بجهات: «الفصاحة و البلاغة و النكات البيانية و البديعية» «1»، و قد كان المهمّ أنّه أسّس لهذا النقد على ضوء رؤية تفيد أولا بأنّ للقرآن حقيقة خارج هذه الألفاظ هي التي ينبغي للإنسان أن يطلبها، و تتحرّك ثانيا على هدي نظرية المقاصد، فللقرآن مقاصد أساسية ينشدها صاحب الكتاب جلّ جلاله هي التي ينبغي تحرّيها، و الاستغراق في اللغة و آدابها ليس فقط لا يشفي غليل النفس في بلوغ مقاصد القرآن، بل هو يبعد عنها و يصدّ العقول و النفوس عن تحصيلها خاصة بعد أن تتراكم و تتحوّل إلى سدّ منيع يحول بين الإنسان و القرآن، ذلك لأنّ: «صاحب هذا الكتاب ليس السكاكي و الشيخ حتّى يكون مقصده جهات البلاغة و الفصاحة، و لا سيبويه و الخليل حتّى يكون منظوره جهات النحو و الصرف، و لا المسعودي و ابن خلّكان حتّى يكون مبتغاه البحث في أطراف تأريخ العالم، كما أنّ هذا الكتاب ليس مثل عصا موسى و يده البيضاء أو روح عيسى التي تحيي الأموات لكي تكون الغاية منه الإعجاز و الدلالة على صدق النبي الأكرم و حسب، و إنّما هذه الصحيفة الإلهية هي كتاب إحياء القلوب بالحياة الأبدية العلمية و المعارف الإلهية» «2». ثمّ يعرج إلى تعداد بقية المقاصد كما مرّ الكلام فيها تفصيلا في فصل مقاصد القرآن.

ينقلنا هذا النص على الفور إلى ما كان سجله رمز آخر من رموز المدرسة التي ينتمي إليها الإمام، و يعبّر عن اعتزازه به على الدوام،

أعني به صدر الدين

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 192.

(2)- نفس المصدر: 194.

فهم القرآن، ص: 339

الشيرازي الذي تناول هذا الحجاب و شدّد نكيره على نزعة التراكم اللغوي، و عرّض بمن: «يكون مستغرقا بعلم العربية و دقائق الألفاظ، مصروف العمر في تحقيقها» لأنّ: «المقصود الأصلي من إنزال القرآن ليس إلّا سياقة الخلق إلى جوار اللّه بتكميل ذواتهم و تنوير قلوبهم بنور معرفة اللّه و آياته، دون صرف الأوقات في نحو الكلام و تحسين الألفاظ و علم البلاغة و فن البديع، فإنّ ذلك من التوابع التي بها يقع الاحتجاج على المنكرين» «1»، و من ثمّ فهي مطلوبة بالعرض لا بالذات، و على قدر الحاجة إليها دون مبالغة و إطناب.

للمقصد في هذه المدرسة مكانة عظيمة، و هو أصل في طليعة الاصول التأسيسية التي ترجع إليها، و المفسّر في هذه المدرسة هو من «يفهمنا (المقصد) من النزول» «2» لأنّ التفسير عندها هو «شرح المقاصد» «3»، و مقاصد القرآن لا نأخذها من اللغة، بل هذه الأخيرة تعزلنا عنها: «من تدبّر في إعراب ألفاظه [القرآن] و دقائق عربيته و نكاته البديعية، و هو بمعزل عن أسرار حكمته و مقاصده الأصلية من المعارف الإلهية ... إلى غير ذلك من المعارف التي هي الغرض الأصلي من إنزال الكتاب و الوحي و الإلهام و الخطاب ... فهو أحرى بهذا التمثيل» «4» الذي يكون مثله فيه كالحمار يحمل أسفارا.

صحيح أنّ النص مصدر المعرفة، بيد أنّ الصحيح أيضا أنّ الحرفية اللغوية لا تفجّر حيويّة النص و تسفر بالتالي عن مكنوناته و ما وراءه من معان و حقائق، بل هي

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 62.

(2)- آداب الصلاة: 193.

(3)- نفس المصدر: 192.

(4)- تفسير القرآن الكريم 7: 185.

فهم القرآن، ص: 340

تكبّل الإنسان

و تغلّه عن إدراك المقاصد، شأنها في ذلك شأن بقية المقدّمات و العلوم إذا تجاوزت حدّها و تخطّت وظيفتها كخوادم و آلات: «فمن أراد أن يقف على أنّه لم طوّلت الباء في «بسم اللّه» و مدّت السين؟ أو لم حذفت الألف في الخطّ هاهنا و أثبتت في قوله «باسم ربك»؟ أو لم أسقطت الألف بعد اللام في «اللّه» أو هل تفخّم لام الجلالة أم لا فليرجع إلى أهل الخطّ و القراءة» «1» ليكون ذلك مبلغه من الكتاب.

كذلك «من أراد أن يعرف بم تعلقت الباء و بأي محذوف ارتبطت، و لم قدّر المحذوف متأخّرا ... أو كيف بنيت الباء على الكسرة و من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تبنى على الفتحة التي هي أخت السكون نحو كاف التشبيه و لام الابتداء و واو العطف وفائه و غير ذلك، و إنّ كلمة الجلالة اسم هي أو صفة مشتقّة أم جامدة، فليرجع إلى مطالعة التفاسير المشهورة سيّما «الكشاف» فإنّه كامل في بابه فائق على أترابه» «2».

إذا أردنا أن نستعير من أبي حامد الغزالي تمييزه علوم القرآن إلى ما يندرج تحت علوم القشر و الصدف و ما يندرج تحت علوم اللباب، فإنّ علوم العربية بجميع طبقاتها تدخل في «علوم الصدف و القشر» «3»، و إنّ ذوي الاهتمامات اللغوية «كلهم يدورون على الصدف و القشر و إن اختلفت طبقاتهم» «4». المهمّ أن لا يطيل الإنسان مكوثه في منطقة الصدف و القشر، بل يتجاوز إلى اللباب، فإذا مكث يكون قد خرج باللغة و آدابها عن مهمّتها كواسطة إلى غيرها و مرحلة ينبغي تجاوزها بعد استنفاد

______________________________

(1)- نفس المصدر 1: 29.

(2)- نفس المصدر: 30.

(3)- جواهر القرآن: 36.

(4)- نفس المصدر:

37.

فهم القرآن، ص: 341

أغراضها و طاقاتها. و هذا هو معنى أن تتحوّل اللغة و آدابها إلى حجاب و مانع يصدّ عن الفهم، و يدفع بالإنسان إلى الخسران و أن يكون مصداقا لقوله (سبحانه): مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «1». فمن «لم يطّلع من القرآن إلّا على تفسير الألفاظ، و تبيين اللغات، و دقائق العربية و الفنون الأدبية و علم الفصاحة و البيان و علم بدائع اللسان، و هو عند نفسه إنّه من علم التفسير في شي ء، و أنّ القرآن إنّما أنزل لتحصيل هذه المعارف الجزئية، فهو أحرى بهذا التمثيل ممّن لا خبر له أصلا لا من إعراب الألفاظ، و لا من حقائق المعاني مع اعترافه بعجزه و قصوره» «2».

ثمّ أردف مستشهدا بهذين البيتين لأبي سعيد الضرير «3»:

زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيّدها إلّا كعلم الأباعر «4»

لعمري ما يدري المطي إذا غدابأسفاره إذ راح ما في الغرائر «5» بودّي أن أختم الكلام عن هذه الفقرة بنص دالّ للإمام، يسجّل فيه: «هل ترانا إذا ما أنفقنا عمرنا في التجويد و الجهات اللغوية و البيانية و البديعية، نكون قد حرّرنا هذا الكتاب الشريف من المهجورية؟ و هل ترانا إذا تعلّمنا ضروب القراءات و أمثال ذلك، نكون قد تخلّصنا من عار هجر القرآن؟ و هل إذا تعلّمنا وجوه إعجاز القرآن

______________________________

(1)- الجمعة (62): 5.

(2)- تفسير القرآن الكريم 7: 185.

(3)- نسب أبو العبّاس المبرّد الشعر إلى مروان بن سليمان بن يحيى يهجو به قوما من رواة الشعر. راجع: الكامل 3: 857.

(4)- الزاملة: بعير تحمل المتاع.

(5)- الغرائر: الجوالق العظام.

فهم القرآن، ص: 342

و فنونه و محسّناته، نكون قد نجونا من شكوى رسول صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم؟ هيهات، إذ لا يعدّ أيّ واحد من هذه الامور مورد عناية القرآن و منزّله العظيم جلّ شأنه» «1». ثمّ ينعطف النص لبيان أنّ القرآن هو كتاب يتوفّر على الشئون الإلهية، و هو حبل اللّه المتّصل بين الخالق و المخلوق، و المهمّ فيه أن تتأسّس علاقة الإنسان معه على اسس معنوية و غيبية تهدف إلى تحصيل العلوم الإلهية و المعارف الدينية، و التربّي في ظل علومه و دعواته و حكمه و مواعظه، لينتهي بعد ذلك كله إلى القول محذّرا: «و إلّا فإنّ الغور في صورة ظاهر القرآن [عبر اللغة و ما سبق أن أشار إليه] هو إخلاد إلى الأرض أيضا، و هو من وساوس الشيطان التي ينبغي الاستعانة باللّه منها» «2».

4- النعرة العلمية الاصطلاحية

يأتي الحديث عن النعرة العلمية و الاصطلاحية كحجاب في امتداد النقطة السابقة، ذلك أنّ نزعة التضخّم في المقدّمات و العلوم الجزئية لا تقتصر على اللغة وحدها بل تمتدّ لتشمل جميع العلوم و كلّ المعارف. كلّ عملية توغّل في العلوم التي تتّصل بالقرآن تزيد عن حدّها تبعد صاحبها عن المقصد، تماما كالإنسان الذي يحفر في الأرض، فهو يبتعد عن النور و يموج في غياهب الظلمات كلّما ازداد توغلا في العمق و ابتعد عن السطح.

النقد في هذا الاتجاه الذي يرتفع صاحبه على ركام من الاصطلاحات لا يوفّر علما من العلوم و لا اتجاها من الاتجاهات، بل يشمل كلّ ما من شأنه أن يتحوّل إلى

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 198.

(2)- نفس المصدر: 199.

فهم القرآن، ص: 343

موانع و حجب و سدود متراكمة تحول دون الاستبصار بالقرآن، و يهاجم النزعة الشكلانية بتمظهراتها كافة، مهما كان أداتها و مجالها الذي تتحرّك فيه.

يعبّر الإمام عن هذا النقد بقوله: «و يقنع

[الشيطان] أهل العلوم بمعرفة فنون الدلالات و وجوه الاحتجاجات و أمثال ذلك فقط». ثمّ ينعطف مباشرة ليسجّل أنّ هذه النزعة تعمّ حتّى تستوعب الفلاسفة و العرفاء حين تحاصر عقولهم بالاصطلاحات، بحيث لا يعودون يرون القرآن و لا يفقهونه إلّا من خلال هذا الكمّ المتراكم من المصطلحات التي تفرزها صناعتهم و علومهم، هذا إذا توفّرت لهم الفرصة للإطلالة على القرآن، إذ أنّ هذه العلوم تستغرق أصحابها في الأغلب و تستهلك أوقاتهم و جهودهم و أعمارهم؛ إنّها تشغلهم بالنظر إلى الطريق و المكث فيه عن الوصول إلى المقصد و الغاية. يضيف سماحته مستأنفا: «حتّى أنّه [الشيطان] يحبس الفيلسوف و الحكيم و العارف بالمصطلح المألوف في حجاب الاصطلاحات و المفاهيم الغليظة و أمثال ذلك» «1».

هذا ما كان كتبه الإمام عن النعرة العلمية و حجاب الاصطلاحات و النزعة الشكلانية في العلوم، عند ما درس المسألة في كتاب «آداب الصلاة» عام 1361 ه. بيد أنّه عاد إلى الفكرة ذاتها بعد قرابة الأربعين عاما و بحث في أطرافها على نحو أوفى خلال دروسه التفسيرية التي دأب على إلقائها أسبوعيا أوائل عام 1400 ه بعد عودته المظفّرة إلى مدينة قم غداة انتصار الثورة. في الدرس الثاني من تلك الدروس ركّز على هذا الحجاب بكثافة، عند ما راح يقول: «من الحجب الكبيرة هذا العلم نفسه، فهو يشغل الإنسان و يلهيه بهذه المفاهيم العقلية الكلية، و من

______________________________

(1)- نفس المصدر: 195- 196.

فهم القرآن، ص: 344

ثمّ يصدّه عن الطريق». يضيف: «كلّما ازداد العلم صار الحجاب أكثر غلاظة» «1».

على أنّ المسألة تأخذ أبعادا أكثر تعقيدا من خلال الإحساس الكاذب الذي يساور الإنسان كلّما توغّل في علم من العلوم أكثر، إذ يعيش من خلال تضلّعه بذلك العلم

و اختصاصه بصناعته و إحاطته بمصطلحاته حالة من الامتلاء الوهمي من جهة و الاستخفاف ببقية العلوم و الاختصاصات من جهة اخرى، بل لا يعدّها علوما أساسا، فما عنده هو العلم (بألف و لام التعريف) و ما عند الآخرين لا شي ء:

«يحسب الإنسان مع أيّ علم يحصل عليه و يكون قد أدركه و درسه، أنّ الكمالات بأجمعها منحصرة بذلك العلم. يخيّل للفقيه أنّه لا شي ء في العالم غير الفقه، و يخيّل للعارف أنّه لا شي ء غير العرفان، و يخيّل للفيلسوف أنّه لا شي ء غير الفلسفة، كما يخيّل للمهندس أنّه لا شي ء في هذا العالم غير الهندسة» «2».

على أنّ هناك وجوها اخر لهذا الحجاب تبرز هذه المرّة بالتصوّر الآحادي لمفهوم العلم الناشئ من ألفة الإنسان لمصدر واحد في المعرفة و وحشته أو عدم معرفته ببقية المصادر، ممّا يقوده إلى الإنكار كنتيجة للتصوّر الاختزالي: «أو إنّه [الإنسان] يقصر العلم على المشاهدة و التجربة و أمثال ذلك، فهذا هو العلم و ما سواه لا يعدّه علما؛ هذا حجاب كبير للجميع. الحجب كثيرة بيد أنّ أغلظها جميعا هو حجاب العلم هذا» «3».

تصدر هذه الرؤية من تعليل يسير لوظيفة العلم بالنسبة لموضوعنا الذي نحن فيه متمثّلا بفهم القرآن، مفرط بوضوحه. فوظيفة العلم ببساطة هو أن يكون وسيلة

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 142.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 345

و مقدّمة لبلوغ المقصد لا فرق بين العلوم العقلية و النقلية: «فالعلوم الشرعية و العلوم العقلية؛ هذه [العلوم] التي يطلق عليها هؤلاء المساكين اسم الذهنيات، هذه التي يطلق عليها هؤلاء المحجوبون (الذهنيات) و هي ذهنيات حقا، بمعنى أنّه لا عينية لها؛ ما هي إلّا وسيلة لبلوغ المقصد» «1». و في نص آخر قصير و

دال نقرأ لسماحته:

«جميع العلوم وسيلة» «2». و المشكلة تبرز عند ما تنقلب هذه العلوم إلى ضدّها، فبدلا من أن توصل الإنسان إلى المقصد تصدّه عنه، و بدلا من أن تكون وسيلة و مقدّمة تتحوّل إلى هدف و غاية.

أجل، هذه هي المشكلة، و بقدر ما يتعلّق الأمر بدائرة الدراسات الإسلامية فإنّ هذا المحذور لا يوفّر أي علم من العلوم المتداولة في هذا المجال: «فالعلوم الرسمية «3» جميعها على هذا النحو، إذ هي تحجب الإنسان عمّا ينبغي أن يصير إليه، إنّها تورث الغرور» «4».

العلم يتحوّل إلى حجاب عند ما يصدّ عن المعرفة و يمنع من الهداية، و من ثمّ يسدّ الطريق بوجه الإنسان: «بمعنى أنّ ما ينبغي العثور عليه من خلال ذلك الطريق [العلم] يتحوّل بنفسه إلى مانع؛ فالعلم الذي ينبغي له هداية الإنسان ينقلب إلى مانع عن الهداية» «5».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 144.

(2)- نفس المصدر.

(3)- مصطلح يشمل جميع العلوم الكسبية المتداولة في نطاق العلوم الإسلامية ذلك في مقابل المعارف الكشفية.

(4)- تفسير سورة حمد: 142.

(5)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 346

و العلّة لا تكمن بالعلم بل بالإنسان الذي يفتقر إلى التهذيب و الأخلاقية التي تحصّنه من السقوط في هوّة التعالي و الغرور و الإحساس بالامتلاء و الاكتفاء:

«ينبغي أن لا يجرّ الاشتغال بالعلم إلى أن يكون سببا لغفلتنا عن اللّه، و ينبغي أن لا يصير الاشتغال بالعلم سببا لنشوء حالة من الغرور ينجم عنها صدّنا عن مبدأ الكمال. هذا الغرور الموجود في الملالي [إشارة إلى طلبة العلوم الدينية و الحوزات العلمية] سواء اولئك الذين يتوفّرون على العلوم المادية و الطبيعية أو اولئك الذين يتوفّرون على العلوم الشرعية و العقلية» «1».

لا يعرف هذا الداء اختصاصا بعلوم دون اخرى، بل هو

كالنار تسري في الهشيم يشمل الجميع. فهو لا يختصّ بعلوم القشور دون علوم اللباب بحسب تصنيف الغزالي، و لا بعلوم اللغة دون العلوم الشرعية، بل و لا بعلم التفسير و الأكثر من ذلك علم التوحيد الذي يكتسب في دائرة تصنيف العلوم الإسلامية قيميا وصف أشرف العلوم.

فحتّى أشرف العلوم يمكن أن يتحوّل إلى حجاب إذا قعد بالإنسان عن بلوغ المقصد، انسجاما مع القاعدة التي تفيد: «أنّ العلم الذي هو مقدّمة لبلوغ المقصود يتحوّل إلى رادع يصدّ الإنسان عن المقصد» «2». و ما يتحوّل إلى رادع عن المقصد لا يعدّ علما بل هو حجاب، يستوي في ذلك: «العلم الشرعي، و علم التفسير و علم التوحيد، فعلم التوحيد يتحوّل إلى مانع حين يسلك طريقه إلى قلب غير مهيّأ و غير مهذّب؛ علم التوحيد هذا يتحوّل [في مثل هذه القلوب] إلى غلّ و قيد، و كذا بالنسبة

______________________________

(1)- نفس المصدر: 143.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 347

إلى العلوم الشرعية. فهذه جميعا وسائل، و المسائل الشرعية هي وسيلة و حسب، هي وسائل للعمل، و العمل وسيلة أيضا. جميعها وسيلة لمقصد واحد هو أن تتيقّظ هذه النفس» «1».

على ضوء هذا الفهم يكتسب النص الصدرائي التالي كامل مدلولاته، و نحن نقرأ فيه: «ربّ رجل أديب أريب، له اطلاع تام على علم اللغة و الفصاحة، و الاقتدار على صنعة البحث و المجادلة مع الخصام في علم الكلام، و هو مع براعته في فصاحته لم يسمع حرفا من حروف القرآن بما هو قرآن، و لا فهم كلمة واحدة.

و كذلك أكثر المشتغلين بالبحث البحت المغترّين بلامع سراب الحكمة، المحرومين من شراب المعرفة في كأس القرآن المبين ... لعدم حواسهم الباطنية التي هذه الحواس الدنياوية قشور لها،

و بالقشر لا ينال إلّا القشر، و أمّا اللباب فلا يناله إلّا أولو الألباب» «2».

كما يتضح أيضا مدلول اتفاق الجميع على مقولة: «إنّ العلم حجاب» التي ينقلها الغزالي عن الصوفية، ثمّ يعقّب عليها بقوله: «و أرادوا بالعلم العقائد التي استمرّ عليها أكثر الناس بمجرّد التقليد، أو بمجرّد كلمات جدلية حرّرها المتعصّبون للمذاهب و ألقوها إليهم. فأمّا العلم الحقيقي الذي هو الكشف و المشاهدة بنور البصيرة فكيف يكون حجابا و هو منتهى الطلب؟» «3». و بعد الغزالي بخمسة قرون جاء صدر الدين الشيرازي ليتبنّى الموقف ذاته و بعبارة الغزالي نفسها في كتابه عن

______________________________

(1)- نفس المصدر: 143- 144.

(2)- تفسير القرآن الكريم 6: 20- 21، مفاتيح الغيب: 17.

(3)- إحياء علوم الدين 1: 284.

فهم القرآن، ص: 348

مقدمات التفسير «1».

أمّا في عصرنا الحاضر فقد سجل الإمام الخميني نصا: «العلم هو الحجاب الأكبر» «2»، و ذلك في نطاق الرؤية التي مررنا على عناصرها فيما سبق. مهما اختلفت التفسيرات فإنّ المحصّلة تكاد تكون واحدة، فسواء تخلّف العلم عن أداء دوره كوسيلة و مقدّمة لأسباب تعود إلى بنية المعرفة ذاتها و كحصيلة للممارسة العلمية نفسها، أو كان ذلك بسبب يرجع إلى بنية الإنسان و تكوينه التربوي و الأخلاقي فإنّ النتيجة واحدة ما دمنا في مرحلة وصف المشكلة، و إن كان الأمر يختلف في مرحلة المعالجة و التجاوز.

لا يخفى أنّ الإمام يميل إلى تفسير المشكلة على أساس أخلاقي لا صلة له بطبيعة العلم أو بالممارسة العلمية نفسها، فالمتلقّي أو الفاعل الإنساني هو المسئول و لا جريرة للعلم في ذلك، بسبب ضعفه الأخلاقي و الروحي: «عند ما يرد العلم إلى قلب غير مهذّب يفضي إلى تراجع الإنسان. فكلّما تراكم العلم أكثر كانت المصيبة به

أكبر. فعند ما تكون الأرض مالحة و سبخة فهي لا تثمر مهما بذر بها من بذور» «3».

هنا يكون العلم حجابا، بل هو الحجاب الأكبر.

______________________________

(1)- راجع مفاتيح الغيب: 62، حيث جاء الشيرازي بعبارة الغزالي و نقلها دون تغيير حرف ممّا يدل على تبنية موقفه من المسألة.

(2)- تفسير سورة حمد: 142.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 349

5- قناع المذهبيات الفكرية و التعصبات الباطلة

بعد نقد النزعات المتضخّمة في اللغة و غيرها، و التحذير الشديد من الاتجاه الجدلي- الاصطلاحي المتلبّس بالعلم، و بعد نقد حجاب العلم نفسه، تصل نظرية الحجب أو موانع الفهم إلى مفصل أساسي آخر عانى منه الفكر الإسلامي على طول مساره و لا يزال، بما في ذلك الفكر القرآني باتجاهاته المتنوّعة و أطيافه المختلفة.

لأسباب يعرفها الجميع صاغ كلّ فريق من الفرقاء الأساسيّين في تاريخ المسلمين الفرقي علم الكلام الخاص به، و من ثمّ أسّس لرؤية معرفية مستقلّة في فهم الإسلام و بخاصّة القرآن، بحيث تحوّل القرآن إلى ساحة فسيحة لمنظومات فكرية و كلامية و معرفية مختلفة. على أنّ المسألة لم تقف عند هذه التخوم، بل اضيف إليها أيضا خطوط التقاطع و الصراع بين المرجعيات المعرفية الثلاث المتمثّلة بالفقهاء و الفلاسفة و العرفاء، ليتّسع ميدان النص القرآني على هذه الإسقاطات الفكرية و المنهجية التي تجي ء إليه من الاختلاف و الصراع الفرقي من جهة و تعدّد المرجعيات المعرفية و صراعها من جهة اخرى، ليتحوّل إلى مضمار لا يتخلّف عنه اتجاه و لا فرقة و لا مذهب و لا مرجعية من كلّ ما حفل به تأريخ المسلمين و لا يزال. و بتعبير دالّ للشيرازي بعد إشارات مسهبة لإسقاطات المذاهب على التفسير، بل على علم القرآن عامّة: «الغرض من هذا الكلام أنّ علم القرآن مختلف،

فالأذواق فيه متفاوتة حسب اختلاف أهل الإسلام في المذاهب و الأديان، و كلّ حزب بما لديهم فرحون» «1».

______________________________

(1)- تفسير القرآن الكريم 1: 31.

فهم القرآن، ص: 350

على أنّ انعكاس الاختلاف على النص القرآني يأتي في غالب الأحيان مركّبا، تجتمع فيه حصائل الصراع بين فريق و آخر و مرجعية معرفية و مرجعية اخرى كما هو الحال مثلا في الخلاف الأشعري- المعتزلي، أو الشيعي- الأشعري، أو ما بين الفلاسفة- المتكلّمين و ما إلى ذلك، مضافا إليه حصائل الصراع الناشئة داخل الاتجاه الفرقي الواحد أو المرجعية المعرفية الواحدة. ففي المنظومة الشيعية مثلا هناك أنساق معرفية تتوزّع هذا الفريق إلى فلاسفة و عرفاء و فقهاء، و الاصطكاك الكائن بين هذه الأنساق يعكس نتائجه على النص القرآني، مضافا إلى الممارسة الإدراكية الذهنية و ما ينجم عن العمل النظري نفسه من تبعات تأخذ موقعها في ثقافة الفكر القرآني.

هذا الخليط المتراكم المتكوّن من سليم و سقيم، و صحيح و خاطئ و حق و باطل يعلو أمام الإنسان و يتحوّل إلى بناء شاهق يحجب القرآن و يمنع من رؤيته على غضاضته الاولى. ثمّ تتعقّد المشكلة و تكتسب أبعادا مضاعفة حينما يضاف إلى هذا الخليط من الأفكار و الأنظار و الاطر، التعصّبات التي تتخندق حول الأفكار و الأنظار و الرجال، و تتحوّل إلى قناع كثيف يغذّيه الجهل و التقليد و الاتباع الأعمى فيزيد من سمكه و صلابته، خاصّة و إنّه: «ليس من الطوائف المنتسبة إلى العلم و الأدب شرّ على العلماء المحقّين، و لا أضر على الأنبياء الهادين، و لا أشد عداوة للمؤمنين بالحقيقة، و لا أفسد للعقول من كلام هؤلاء المجادلة و خصوماتهم و تعصّباتهم في الآراء و المذاهب» «1».

في نص تنظيري مبكّر

لبعض جوانب هذا المشهد، نقرأ في وصفه: «ثانيهما

______________________________

(1)- نفس المصدر: 415.

فهم القرآن، ص: 351

[ثاني الحجب]: أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد و جمد عليه و ثبت في نفسه التعصّب له، بمجرّد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة و مشاهدة. فهذا شخص قيّده معتقده عن أن يتجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه». ليس هذا وحده و حسب، فالتقليد و الاتباع و غياب الاستقلال بالنظر و الإبداع فيه، لا يتوقّف عند حدود الجمود على الموروث، بل يولّد أيضا حساسية ضدّ التجديد و الإبداع. فإذا كان جوهر عملية الإبداع هي مجاوزة المألوف أو إعادة النظر به، فإنّ الحساسية النفسية التي يورثها الجمود على الموروث الآتي من تقليد المذاهب و الرجال، تتحوّل إلى حجاب يمنع من مسايرة لمعات الذهن و خطرات العقل و ما تفرزه حركة الفكر، ليقعد بالإنسان عند موروثه:

«فإن لمع برق على بعد و بدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه، حمل عليه شيطان التقليد حملة و قال: كيف يخطر هذا ببالك و هو خلاف معتقد آبائك؟ فيرى أنّ ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه و يحترز عن مثله». على حين لو سمح الإنسان بتفاعل لمعات الذهن و توارد المعاني على عقله، لا نجرّ ذلك إلّا كشوفات جديدة يتوالد منها معنى «ثان و ثالث و لتواصل، و لكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده الباطل» «1».

أكثر من ذلك أنّ للحق مراتب و درجات، و له مناهج متعدّدة و منطلقات متنوّعة. لكن المبدأ في ذلك كله هو الظاهر، أو أوائل المفهومات، فقد يكون ما عند الإنسان رأيا سليما و نظرا صحيحا يمثّل الحقّ، إلّا أنّه يتطابق

مع المرتبة الاولى فيه، و لا يجوز لهذه المرتبة أن تدفع ما سواها من المراتب أو الدرجات، و إلّا لتعطّلت

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 284.

فهم القرآن، ص: 352

عملية نمو المعرفة، و ماتت المعارف. نقرأ في تتمة النص أعلاه: «و قد يكون [ما عند الإنسان] حقا و يكون أيضا مانعا من الفهم و الكشف» كيف؟ لأنّ: «الحقّ الذي كلف الخلق اعتقاده له مراتب و درجات، و له مبدأ ظاهر و غور باطن، و جمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن» «1».

على أنّ التنزيه و عدم التشكيك بالنوايا لا يبقى موقفا مطلقا لا يقبل الاستثناء، فهناك «المفسدون» عن قصد و سبق إصرار، و أكثر هؤلاء «من مجادلة أهل الكلام و المتعصّبة لمذاهب أخذوها تلقّفا و تقليدا من غير بصيرة» «2». من خصائص هؤلاء أنّهم: «يجادلون أهل الدين و الورع بالشبهات، و ينبذون كتب اللّه وراء ظهورهم، و يفرغون إلى الآراء و المذاهب بعقولهم السخيفة و آرائهم الفاسدة، و يضعون لمذاهبهم قياسات متناقضة و احتجاجات مغالطية مموهة، فيضلّون العقول السليمة عن سنن الحقّ و مسلك الدين» «3».

مشكلة هذا الصنف ليست في البيان و لا حتّى في القدرة الذهنية المحضة، و لكن في الجهل الناشئ عن عدم صبّ الفعالية العقلية في إطارها الصحيح: «و إنّك لتجد من فيهم جودة عبارة و فصاحة بيان و سحر كلام، ما يقدر أن يصوّر الباطل في صورة الحقّ بالوصف البليغ و يصوّر الحقّ في صورة الباطل، و هو مع ذلك جاهل القلب ميّت النفس عن إدراك حقائق الأشياء، بعيد الذهن عن فهم المعارف العقلية» «4».

______________________________

(1)- نفس المصدر 2: 284، و قد ثبته عنده الشيرازي عند حديثه عن هذا الحجاب

ما خلا تغيير طفيف في عدد من الكلمات. (راجع مفاتيح الغيب: 62)

(2)- تفسير القرآن الكريم 1: 415.

(3)- نفس المصدر: 416.

(4)- نفس المصدر: 417.

فهم القرآن، ص: 353

أمّا الإمام الخميني، فهو يرجع هذا الحجاب و يردّه إلى عاملين إدراكي يتمثّل بضعف الاستعداد العقلي، و الثاني ذاتي- ثقافي ناشئ عن الاتباع و التقليد، و عنده أنّ الثاني أغلب في تفسير الظاهرة من الأوّل: «من الحجب الاخرى، حجاب الآراء الفاسدة و المسالك و المذاهب الباطلة. و هذا الحجاب ينشأ تارة من سوء استعداد الإنسان نفسه، و في الأغلب من التبعية و التقليد». يضيف: «إنّ هذا من الحجب التي حجبتنا بالأخصّ عن معارف القرآن. مثلا إذا رسخ اعتقاد ما في قلوبنا لمحض الاستماع من الوالدين أو كنتيجة للأخذ من بعض جهلة أهل المنبر، فإنّ هذه العقيدة لا تلبث أن تتحوّل إلى حاجب ما بيننا و بين الآيات الإلهية الشريفة. و بعد ذلك لو جاءت الوف الآيات و الروايات مناهضة لتلك العقيدة، ترانا إمّا إنّنا نصرف تلك الآيات و الروايات عن ظاهرها أو لا ننظر إليها بعين الفهم. الأمثلة عن هذه الحالة كثيرة في مجال العقائد و المعارف، بيد أنّني أعرف عن عدّها، لأنّني أعرف أنّ هذا الحجاب لا يخرق بكلام مثلي» «1».

الهدف الذي تتوخّاه المدرسة بإثارة الكلام عن هذا الحجاب، هو مواجهة الشكلانية و السطحية في التعامل مع النص القرآني و شنّ معركة لا هوادة فيها على الاتباع و التقليد و الجمود على الموروث، و التسليم إلى المرجعيات المذهبية و الأطر المنهجية و الكلامية و الفكرية المتوارثة، بغية تثوير النص و تفجير مكنوناته و التوغّل إلى طبقات المعاني الغائرة وراء الظاهر، انسجاما مع مقاصد القرآن كما تفهمها هذه المدرسة،

و لكي يكون القرآن هو باب معرفة اللّه.

هذه المعاني و الأهداف تحضر بوضوح مشهود في المثال الذي يضربه الإمام

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 196- 197.

فهم القرآن، ص: 354

لهذا الحجاب. فبرغم أنّه يقرّر العزوف عن ذكر الأمثلة كما مرّ معنا آنفا، إلّا أنّه سرعان ما يستدرك قائلا: «بيد أنّني سأكتفي بالإشارة إلى مثال منها من حقل العقائد و المعارف بحكم أنّه سهل المأخذ. يلحظ أنّه و برغم هذا الكمّ من الآيات الراجعة إلى لقاء اللّه و معرفة اللّه، و مع هذا العدد من الروايات حيال الموضوع مضافا اليهما هذا الكمّ من الإشارات و الكنايات و الصراحات التي تنطوي عليها أدعية الأئمة عليهم السّلام و مناجاتهم، يلحظ أنّهم صاروا إمّا إلى تأويل كلّ تلك الآيات و الروايات و ما هو موجود بالأدعية و المناجاة و توجيهه [بدفعه عن مقصده] أو أنّهم لا يردون هذا المضمار أساسا و لا يتعرفون على المعارف التي هي قرّة عين الأنبياء و الأولياء. كلّ ذلك قد حصل لمجرد فشوّ هذه العقيدة التي أشاعها العامّيون في هذا المجال و المبتدءون، التي تفيد أنّ طريق معرفة اللّه مغلق بالمطلق، و ذلك بعد ما قاسوا باب معرفة اللّه و مشاهدة الجمال بذلك الوجه الممنوع، بل الممتنع المتمثّل بباب التفكّر في ذات اللّه». يضيف: «إنّه ممّا يبعث على الأسف الكبير لأهل اللّه، أنّ بابا من المعرفة يمكن القول فيه إنّه يمثّل غاية بعثة الأنبياء و منتهى مطلوب الأولياء، قد سدّوه على الناس على نحو بحيث يعدّ التفوّه به كفر محض و زندقة صرفة. لقد ساوى هؤلاء معارف الأنبياء و الأولياء بخصوص الذات و أسماء الحقّ و صفاته بمعارف العوام و العجائز، بل تخطّوا هذه التخوم أحيانا، و

أحدهم يقول: إنّ لفلان عقائد عامية حسنة، فيا ليت لي مثل عقيدته العامية تلك!

أجل، هذا الأمر صحيح لأنّ هذا المسكين الذي يتفوّه بهذا الكلام خسر العقائد العامية من جهة، و هو إلى ذلك يعدّ بقية المعارف التي هي معارف الخواصّ و أهل اللّه باطلة. هذه الامنية تشبه امنية الكفار على ما تحكيه عنهم الكريمة الإلهية:

فهم القرآن، ص: 355

وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1»». ثمّ يضيف مشيرا إلى التبعات العظيمة التي تترتب على هذا الحجاب: «إذا أردنا أن نذكر الآيات و الأخبار التي تدور حيال لقاء اللّه تفصيلا لكي تتبيّن فضيحة هذه العقيدة الفاسدة، التي ظهرت مع الجهالة و الغرور الشيطاني، لاحتاج الأمر إلى كتاب مستقلّ، فضلا عمّا إذا أردنا أن نذكر المعارف التي تقع وراء ستار النسيان إثر هذا الحجاب الشيطاني الغليظ، حتّى يتضح بأنّ هذا الحجاب هو أحد مراتب مهجورية القرآن و عزلته، و ربما كان أكثرها أسفا» «2».

بعد تفصيلات اخرى يذكرها الإمام عن هذا الحجاب ينتهي إلى أنّ العكوف على التقليد و التعصب للظاهر و رفض ما وراء ذلك، هو أيضا من مصاديق:

«الإخلاد إلى الأرض، و من وساوس الشيطان التي ينبغي الاستعاذة منها باللّه» «3».

و إنّ مصادرة ما عند الآخرين عبر قناع المذهبية الفكرية و أن لا يرى الإنسان شيئا إلّا من قناة مذهبه و من خلال إطاره الفكري و المنهجي، بحيث حتّى لو لمع له معنى خارج الإطار دفعه بقوّة التقليد و عصبية الانتماء إلى المذهب الفكري؛ هو من أبرز مصاديق مهجورية القرآن التي اشتكاها رسول اللّه على ندرة شكواه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وفاقا لما نطق به الحقّ في قوله سبحانه: وَ قالَ الرَّسُولُ يا

رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً «4».

______________________________

(1)- النبأ (78): 40.

(2)- آداب الصلاة: 197- 198.

(3)- نفس المصدر: 199.

(4)- الفرقان (25): 30.

فهم القرآن، ص: 356

6- حجاب التفسير و الجمود على أقوال المفسّرين
اشارة

تحوّل النص القرآني في تأريخ الفكر الإسلامي إلى منتج لعدد كبير من المعارف و العلوم، يأتي التفسير في طليعتها. بيد أنّ المشكلة أنّ الثقافات التي تولّدت من حول النص تحوّلت إلى سياج رفيع و فرضت حصارها عليه، على النحو الذي و أدته بعد أن أنشبت عوامل التشويه فيه.

هذه الظاهرة لم تستثن التفسير، فبقدر ما كانت ولادة التفسير حركة انعكاسية للنص القرآني، فإنّ نموّ هذه الظاهرة و استفحالها عاد ليتحوّل بالتفسير أحيانا إلى سور منيع يفرض بحصاره على النص القرآني، حتّى غابت في أغلب الأحيان إمكانية معاينة النص الأصلي، إلّا من خلال التفسير و عبر منظوره و منهجياته و مفاهيمه و تراكماته المذهلة و تقاطعاته العجيبة. على أنّ التفسير أفاد كثيرا من متاخمته للنص القرآني المقدّس ليستمدّ منه بعض قداسته و يحقّق لنفسه موقعا راسخا في العقول و النفوس و في حركة التعامل مع القرآن، حتّى غدا للتفسير سلطة لا تقلّ في هيبتها و سطوتها عن سلطة النص القرآني نفسه إن لم تفقها، مع أنّ التفسير مهما بلغ شأوه لا يزيد عن كونه اجتهادا إنسانيا في منطقة الفكر الديني، من المفروض أن لا يتعدّى دوره الكشف عن مقاصد القرآن لا طمسها و تشويهها و تغييبها «1».

______________________________

(1)- راجع في حركة التفسير و كيف تحولت إلى سياج يؤطر النص القرآني، و يحول دون فهمه إلّا من خلال ما أفرزه التفسير من أدوات و منهجيات و مفاهيم، بحيث استحال التفسير نفسه-

فهم القرآن، ص: 357

تزداد مشكلة التفسير أكثر إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما مرّ

معنا في الفقرة السابقة من مساهمة كلّ المذهبيات الفرقية (شيعة، أشاعرة، معتزلة) و الفكرية (فلاسفة، متكلمين، صوفية، عرفاء) و المنهجية (علميا، اجتماعيا، سياسيا) في هذا النشاط العلمي و الفكري، إذ سيكون الإنسان أمام موروث تفسيري متكوّن من إسقاطات فكرية و منهجية لا عدّ لها و لا حصر، ذلك أنّ كلّ اتجاه يسعى إلى أن يقرأ في القرآن مصادراته و مسبقاته الذهنية الثابتة عنده سلفا، كما أنّ كلّ عصر يسقط على النصّ القرآني حاجاته و يصوغها بثوب التفسير و هكذا.

بإزاء ذلك كلّه ليس غريبا أن يتمّ تناول التفسير بوصفه حجابا و مانعا عن الفهم، وفاقا لقاعدة أنّ كلّ ما يخرج عن المقصد ينقلب إلى الضدّ و يستحيل إلى حجاب و مانع، خاصة مع ملاحظة الملابسات التي رافقت العصور الاولى لانبثاق التفسير و تقعيده كممارسة علمية لها اصولها و مبادئها، و تحولها في الأغلب إلى موروث ثابت و مقدّس لا يسمح بتجاوزه و تخطيه.

على سبيل المثال لقد شهد المجال القرآني خلطا عجيبا بين مكانة الصحابي و تفسيره و بين مكانة التابعي و تفسيره، و ذلك على النحو الذي يرسل بإهاب التقديس و الثبات و التفوّق المعرفي النهائي لتفسير الصحابي أو التابعي أو تفسير الأوائل عموما، مع أنّه لا ملازمة بين الاثنين. فمكانة الصحابي أو التابعي يحسمها البحث الكلامي و لا علاقة بذلك بالتفسير كبحث معرفي، و مهما تكن المنزلة التي يمنحها البحث الكلامي للصحابي فإنّ ذلك لا يوجب بالضرورة مكانة مماثلة في

______________________________

إلى سلطة شبه تقديسية تجعله بمثابة نص ثان، راجع: التفاسير القرآنية المعاصرة: قراءة في المنهج.

فهم القرآن، ص: 358

التفسير. هكذا شأن بقية المفارقات.

هذا المنحى في التحذير من تحوّل التفسير إلى مانع و آراء المفسّرين إلى سلطة

تجمّد تدفّق المعرفة القرآنية و تحول دون نموّها، انطلق باكرا خاصّة مع الغزالي الذي كتب في آخر الحجب التي ذكرها: «رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا، و اعتقد أنّه لا معنى لكلمات القرآن إلّا ما تناوله النقل عن ابن عباس و مجاهد و غيرهما، و إنّ ما وراء ذلك تفسير بالرأي و إنّ من فسّر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة» «1».

سلطتا السلف و المأثور

يتوغّل النص الغزالي في حجاب التفسير حتّى يلامس قاعدته التحتية التي يشيد بناءه عليها، متمثّلة بالارتكاز إلى سلطتي المأثور و السلف خاصّة الصحابة منهم. فبعد أن يومئ إلى الانبهار و كيف يتحوّل إلى حجاب يثير قضيتين أساسيتين، هما:

الاولى: الجمود على الظاهر و التمنّع من ممارسة الفهم و الاجتهاد بذريعة الخوف من الانزلاق إلى هوة التفسير بالرأي الممنوع. و هذا حجاب عظيم استوفينا الحديث عنه في الفصل الرابع قاد من جهة إلى تعطّل انطلاق التفسير الدرائي في واقع المسلمين و ضعف حضوره بعد ذلك، كما تحوّل من جهة ثانية إلى سلطة لإرهاب المسلمين و صدّهم عن التعامل المباشر مع كتاب اللّه، ممّا أفضى إلى حرمان عظيم و ساهم على نحو فاعل بهجر القرآن و تهميشه.

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 285، مفاتيح الغيب: 63.

فهم القرآن، ص: 359

الثانية: العكوف على المأثور و المراوحة في نطاق قول الصحابي و تفسيره و تفاسير الأوائل من التابعين و غيرهم، حتّى «غلب على طبائع أكثر الناس أنّ لا معنى للقرآن إلّا ما نقل عن ابن عباس و سائر المفسّرين» «1».

الحقيقة أنّ هناك تفاعلا سلبيا بين العاملين عاد بنتائج مدمّرة على بنية المعرفة القرآنية و نموّها، عطّلت الإنسان من الانطلاق مع آفاق النص

القرآني و ما ينطوي عليه من معان متكثرة رحيبة. فما دام المرء يخشى السقوط في هوة الرأي الممنوع فهو عاكف على النقل، و بعكوفه يجمّد الممارسة الدرائية و إعمال الاجتهاد في الفهم بذريعة النهي عن التفسير و هكذا، لينتهي الحال بالإنسان إلى أن يعيش «الجمود و الوقوف على ما قرأه من التفاسير، و أن يعتقد أنّ لا معنى لكلمات القرآن إلّا ما يتناوله على النقل عن ابن عباس و قتادة و مجاهد و مقاتل و غيرهم، و إنّ ما وراء ذلك تفسير بالرأي، و إنّ من تجاوز عن النقل منهم فورد عليه مفاد: من فسّر القرآن برأيه فقد تبوّأ مقعده من النار» «2».

يحذّر الشيرازي من توغّل هذه النزعة في النفوس و غلبتها على العقول، و يعزو بعض مناشئها إلى هيمنة التقليد، و هو يخاطب أصحابها بالقول: «فإن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط [من المعاني و الإشارات [ما لم يسند التفسير إلى قتادة أو مجاهد أو السدي، فالتقليد غالب عليك» «3».

أمّا الإمام الخميني فيرى أنّ حجر التعامل مع القرآن على ما كتبه المفسّرون و فهموه، و منع الآخرين من التدبّر في آياته و التفكير بنصوصه بذريعة التفسير

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 69.

(2)- نفس المصدر: 63.

(3)- تفسير القرآن الكريم 4: 174، مفاتيح الغيب: 96.

فهم القرآن، ص: 360

الممنوع، يعني عمليا تعطيل القرآن و هجره بالكامل: «من الحجب الأخر المانعة عن الاستفادة من هذه الصحيفة النورية، الاعتقاد بأنّه لا يحقّ لأحد أن يستفيد من القرآن الشريف غير ما كتبه المفسّرون و باستثناء ما فهموه.

لقد خلطوا عملية التفكّر بالآيات الشريفة و التدبّر بها بالتفسير بالرأي الذي يعدّ ممنوعا، و عن طريق هذا الرأي الفاسد و

العقيدة الباطلة عطّلوا القرآن الشريف من جميع ضروب الإفادة، و جعلوه مهجورا بالكامل، على حين أنّ الاستفادات الأخلاقية و الإيمانية و العرفانية لا صلة لها بالتفسير أساسا فضلا عن أن تكون تفسيرا بالرأي» «1».

عند هذه النقطة ينعطف الإمام إلى تضييق دائرة التفسير بالرأي المنهي عنه في هامش ضئيل و هو يميل إلى حمله على آيات الأحكام و حسب، ليخلص إلى رسم ثلاث دوائر في التعامل مع القرآن تحدثنا عنها تفصيلا في الفصل الرابع، و نعيد الإشارة إليها إجمالا، كما يلي:

الدائرة الاولى: دائرة التفسير بالرأي الممنوع، و هي ضيّقة جدا لا تكاد تتعدّى آيات الأحكام و التعبديّات.

الدائرة الثانية: دائرة التفسير، و هذه و إن كانت أكبر من التي سلفت إلّا أنّها لا تستوعب غير المفسّرين. و القرآن لم ينزل إلى المفسّرين خاصة بل هو خطاب عام للإنسانية جمعاء فضلا عن المسلمين، و من ثمّ لا معنى لحصر نطاق التعامل مع القرآن من قناة المفسّرين وحدهم، و رمي ما يقع خارج ما فهموه بعدم المشروعية أو نعته بالتفسير بالرأي المنهي، لا سيّما بعد أن حدّد الإمام حيّز التفسير بالرأي المنهي.

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 199.

فهم القرآن، ص: 361

الدائرة الثالثة: و هي دائرة فسيحة جدّا تستوعب الناس جميعا، و تستقطب إليها عددا كبيرا من الاتجاهات و ضروب المعارف. فهم القرآن 361 سلطتا السلف و المأثور ..... ص : 358

ي هذه الدائرة يجوز لكلّ إنسان بل يجب عليه أن يتعامل مع القرآن مباشرة و يغترف من عطاياه.

كما يدخل فيها ما يكون من لوازم الكلام و بيان مصاديق المفاهيم، و ما يتسق مع البرهان و الدليل العقلي، و ما يكون بحكم اللطائف التي تقوم عليها شواهد سمعية «1»، و غير ذلك

ممّا فصّلنا الحديث عنه في موضعه.

أثناء حديثه عن هذا الحجاب يفتح الإمام المجال واسعا أمام الممارسة العقلية التي تقع خارج نطاق التفسير فضلا عن أن تكون تفسيرا بالرأي، و هو يسجّل نصّا: «و إلّا فإنّ إثبات الصانع و التوحيد و التقديس و إثبات المعاد و النبوّة، بل مطلق المعارف هو حقّ طلق للعقول و من مختصاته» «2»، قبل أن يعرج على نقد بعض الاتجاهات النصوصية التي تجعل من النقل أساسا لإثبات الأصل «3».

7- حجاب المعاصي

تنتمي الحجب التي تمّ استعراضها حتّى الآن إلى جهة التعامل المنهجي مع القرآن كنصّ نتعاطاه إدراكيا عبر الممارسة الذهنية و النظر العقلي، و إن كان بعضها لا يخلو من إشارة إلى مناشئ أخلاقية كما هو الحال في التعاطي مع العلم كحجاب.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 347.

(2)- نفس المصدر: 200.

(3)- نفس المصدر: 200- 201.

فهم القرآن، ص: 362

فالتركيز على حجب كالبعد الآحادي في العلم أو احتكار الحقيقة أو تضخيم النزعات اللغوية و العكوف على النقل و قول الصحابي و مرجعيات السلف عامة، جاءت كلّها في أفق عقلي بحت تقريبا و كموانع إدراكية نظرية لا صلة لها بطهارة القلب و تزكية الباطن كعلّة في وجودها أو عدمها. و لذلك اختفت لغة المدرسة الوجودية أو العرفانية، و لم تبرز أدبياتها و منظوراتها في فهم القرآن ما خلا إشارات عابرة.

لكن مع الحجاب أو المانع الجديد و ما يليه ستعود هذه اللغة ببناها و شروطها و استحقاقاتها لتسجّل حضورها بكثافة، حتّى يمكن القول جريا على تقسيمات المدرسة ذاتها و أسلوبها في عدم الاكتفاء بالجانب العقلي النظري وحده بل الانتقال منه إلى ما بعده؛ إنّ البحث في موانع الفهم راح هو الآخر ينتقل إلى طور آخر هو طور القلب بعد

أن استنفد طاقاته في الطور العقلي و الجانب الإدراكي.

مع هذا الحجاب و المانع تعود إلينا اللغة الوجودية التي عشنا معها طويلا في الفصل الخامس، و تبرز أمامنا بكامل طاقاتها و نحن نقرأ نصا: «معاني القرآن من الملكوت، و كلّ ما غاب عن الحواس و لم يدرك إلّا بنور البصيرة فهو من الملكوت» «1». فما دامت معاني القرآن من طبيعة ملكوتية فهي تدرك بالنور و البصيرة، و هذان يحجبان بالشيطان و الذنوب و الكدورات النفسية و الانكباب على الدنيا، و ما يفضي إليه ذلك كلّه من عمى في البصيرة و خلود إلى عالم الملك.

هنا يخرج القرآن عن ثوبه اللفظي و كيانه اللغوي، و يتجاوز مداه العقلي كنص مدرك بأدوات النظر العقلي، لنكون إزاء ظاهرة وجودية ينبغي مقاربتها بغير أدوات اللغة و الإدراك العقلي. للقرآن هنا أسرار «تحتها معان مدفونة لا تنكشف إلّا

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 282، مفاتيح الغيب: 62.

فهم القرآن، ص: 363

للموفّقين» «1». و الموفّقون هم أهل القلوب و سطعات النور العقلي.

و مع أنّ الحاصل عمليا أنّ قلّة قليلة هي التي تستطيع التعامل مع القرآن على هذا المستوى و من خلال هذا الأفق النفسي الرفيع، إلّا أنّ هذه المدرسة لا تخفي إيمانها بإمكان الجميع في بلوغه «لأنّ النفوس بحسب أصل فطرتها صالحة لقبول نور الإيمان و فيض الرحمن، إذا لم تطرأ لها ظلمة تفسدها أو حجاب يحجبها عن إدراك الحقّ، كما في قوله تعالى وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ «2»، و قوله:

بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ، فإذا أعرضت نفس إنسانية عن دواعي البدن و الاشتغال بما تحتها من الشهوة و الغضب و الحس و التخيّل، و توجّهت و ولّت بوجهها

تلقاء عالم الملكوت الأعلى اتصلت بالسعادة القصوى، و رأت عجايب الملكوت و آيات اللّه الكبرى، كما قال تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «3»» «4».

فالطريق إذا مفتوح لكنّه غير مطروق بكثرة لغلبة المعاصي، و بتعبير الإمام:

«من الحجب الاخرى المانعة عن فهم القرآن الشريف و الاستفادة من معارف هذا الكتاب الإلهي و مواعظه، حجاب المعاصي و الكدورات الناشئة عن الطغيان و الكبر بإزاء ساحة قدس ربّ العالمين، ممّا يؤدّي إلى حجب القلب عن إدراك الحقائق» «5».

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 282- 283.

(2)- التوبة (9): 87.

(3)- النجم (53): 18.

(4)- مفاتيح الغيب: 34.

(5)- آداب الصلاة: 201.

فهم القرآن، ص: 364

القلب أو الروح الإنساني هو بمنزلة المرآة التي ينبغي أن تحافظ على صقالتها و نقائها الذاتي، كما ينبغي أيضا أن لا يحجبها حائل عن المطلوب حتّى تؤدّي غرضها على ما يرام، و الذنوب لا سيّما الكبر و الإصرار على المعاصي و الانكباب على الدنيا هي في طليعة ما يلوّث صفاء هذه المرآة التي تومئ إلى القلب أو الروح. لهذا سجّل الغزالي في ثالث ما ذكره من الحجب: «ثالثها: أن يكون مصرّا على ذنب أو متّصفا بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع، فإنّ ذلك سبب ظلمة القلب و صدئه، و هو كالخبث على المرآة فيمنع جلية الحقّ من أن يتجلّى فيه، و هو أعظم حجاب للقلب و به حجب الأكثرون». على أنّ المسألة لا تلبث أن تأخذ صيغة المعادلة الطردية بين الشهوات و صدأ القلب، و صيغة المعادلة العكسية بين هذين الاثنين و احتجاب معاني القرآن، إذ «كلّما كانت الشهوات أشدّ تراكما كانت معاني الكلام أشدّ احتجابا، و كلّما خفّ عن القلب أثقال الدنيا قرب تجلّي

المعنى فيه. فالقلب مثل المرآة و الشهوات مثل الصدأ، و معاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، و الرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة» «1».

يكتسب هذا التمثيل وصفا أدقّ مع الشيرازي، و هو يميّز بين موانع داخلية و خارجية تصيب القلب و تمنعه من الفهم، يوضّحه بالصيغة التالية: «فلفهم معاني القرآن موانع غير ما ذكر، إذ القلب لإدراك حقائق الأشياء بمنزلة المرآة لانشباح صورها المرئية، كما أنّ حجب المرآة بعضها داخلية كالطبع و الرين و عدم الصقالة، و بعضها خارجية كوجود الحائل و عدم المحاذاة بوجهها شطر المطلوب، فكذلك

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 284.

فهم القرآن، ص: 365

حجب القلب عن الفهم، بعضها في داخله و بعضها في خارجه. أمّا الحجاب الداخلي فبعضها من باب الأعدام و القصورات كالطفولية و البلاهة و الجهل البسيط، و بعضها وجودية كالمعاصي و الرذائل» «1». ثمّ يأتي بكلام الغزالي السابق، لينتقل بعدئذ إلى الحجب الخارجية التي يقسّمها بدورها إلى قسمين بعضها عدمية كعدم الفكر، و بعضها الآخر «وجودية كوجود الاعتقادات العامّية التقليدية أو الجهليات الفلسفية. و هذا بمنزلة الغلاف للمرآة أو الحاجز كالجدار» «2». أهمّية هذا النص للشيرازي أنّه يقيم وزنا للامور الإدراكية كروادع للفهم القلبي، و لا يقصر المؤثّرات على المعاصي و الخصال الأخلاقية المذمومة وحدها، و إن كان ثقل الرؤية يبقى رهينا لتطهير المحتوى الداخلي.

يقترن التمثيل الحسي ذاته الكائن في مثال المرآة مع التفسير الموجود في نصوص الإمام الخميني عند بيانه لهذا الحجاب، حيث يقول في امتداد نص سابق:

«ينبغي أن يعلم، كما أنّه لكلّ عمل من الأعمال الصالحة أو السيّئة صورة تتناسب معه في عالم الملكوت فله أيضا صورة في ملكوت النفس، تحصل بواسطتها في

باطن ملكوت النفس إمّا نورانية يكون معها القلب مطهّرا و منوّرا، و عندئذ تكون النفس صافية كالمرآة المصقولة تليق بالتجليّات الغيبية [و مستعدّة] لظهور الحقائق و المعارف فيها، و إمّا أن يصير ملكوت النفس ظلمانيا خبيثا، و حينئذ يكون القلب كالمرآة المرينة الملوّثة التي يعلوها الصدأ و الرين، لا تتحقّق فيه المعارف الإلهية و لا تنعكس به الحقائق الغيبية.

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 61.

(2)- نفس المصدر: 61- 62.

فهم القرآن، ص: 366

في هذه الحالة ما دام القلب يقع تدريجيا تحت سلطة الشيطان، و يكون إبليس هو الذي يتصرّف بمملكة الروح، فإنّ ذلك الخبيث يستحوذ أيضا على السمع و البصر و سائر القوى الاخرى و يتصرّف بها، على النحو الذي يصمّ السمع عن المعارف و المواعظ الإلهية بالكامل، و لا تبصر العين الآيات الإلهية الباهرة و تعمى عن الحقّ و آثاره و آياته، و لا يتفقّه القلب بالدين و يكون محروما عن التفكّر في الآيات و البيّنات و تذكّر الحقّ و الأسماء و الصفات، كما يقول الحقّ تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ «1». نظرة هؤلاء إلى العالم تصير كنظر الأنعام و الحيوانات خالية عن التدبّر و الاعتبار، و تصبح قلوبهم كقلوب الحيوانات لا نصيب لها من التفكّر و التدبّر، بل تزداد غفلتهم عن النظر في الآيات و سماع المواعظ و المعارف و يزداد استكبارهم يوما بعد آخر، فهم إذن أرذل من الحيوان و أضلّ» «2».

هنا يخرج بنا النص عن الكيان اللغوي للقرآن و يدخل في صميم الاستعداد الوجودي لبنية الإنسان، فقد يكون الإنسان خبيرا بالعربية و بمدلولات النص القرآني و

مفاهيمه، بيد أنّه معزول عن حقيقة القرآن بعدم الاستعداد: «ثمّ إنّك أيها المغترّ بفطانتك البتراء لو أنصفت قليلا ... لعلمت أنّ المشار إليهم بقوله تعالى:

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ «3» كانوا عارفين بدقائق علم الألفاظ و فنون تأدية الكلام على ما يوافق المرام، لأنّهم من العرب العرباء و الفصحاء الدهناء، بل إنّما انعزالهم عنه لعدم استعدادهم للاهتداء بأنوار القرآن و الارتقاء إلى أعلام الحقيقة

______________________________

(1)- الأعراف (7): 179.

(2)- آداب الصلاة: 201.

(3)- الشعراء (26): 212.

فهم القرآن، ص: 367

و العرفان و الاطلاع على أسرار المبدأ و المعاد و الوصول إلى عالم الملكوت و التقرّب بالحق الجواد». على أنّ عدم الاستعداد هذا ليس جبلّيا فيهم. بل هو وليد الطغيان و الكبر و العتوّ بأعلى صوره ممّا اسدل عليهم حجبا كثيفة كلية: «ثمّ لا يخفى على أولي النهى أن تولّي مثل أبي لهب و أبي جهل و غيرهما عن القرآن و انعزالهم عن السمع، ليس من جهة عدم فهمهم ترجمة القرآن [أي وعي المعاني المفاهيمية للنص] أو عدم اطّلاعهم على ظاهر العربية و قواعد النحو و الصرف و علم البيان، و لا لأجل الصمم في آذانهم الجسمانية، و العمى في أعينهم البدنية، و البكم في قلوبهم الحيوانية و لكن لأنّهم كانوا من أهل الغفلة و الحجاب الكلّي، عمي القلوب عن مشاهدة الحقائق، صمّ العقول عن سماع ذكر الحبيب، بكم الأرواح عن قبول دعوة الإله و استدعاء طلب التقرّب إلى الحقّ بالإعراض عمّا سواه، كما أخبر عنهم بقوله:

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ «1»» «2».

لا تكتمل هذه الرؤية دون استعادة التميّز بين العقل و النور العقلي، فما له دور في هذا النطاق هو العقل- القدسي العبودي أو العقل المستفاد الذي يرسل

بأنواره على الروح أو النفس الإنسانية، فتتراءى في النفس «حقائق الملكوت و خبايا الجبروت، كما تتراءى بالنور الحسي الأشباح المثالية في المرائي الصيقلية»، هذا «إذا لم يفسد صقالتها بطبع، و لم يتكدّر صفائها برين، و لم يمنعها حجاب عن ذلك» «3».

على ضوء تكامل عناصر هذه الرؤية نتفهّم أيضا تصريحات هذا الخطّ حول

______________________________

(1)- البقرة (2): 171.

(2)- تفسير القرآن الكريم 6: 11.

(3)- مفاتيح الغيب: 34.

فهم القرآن، ص: 368

التفسير و قيمته، هذه التصريحات التي تبدو نافرة حادة صادمة للوعي تعود لتبدو منسجمة مع الرؤية بعد هذا التطواف. فعند ما يصنّف الغزالي مثلا علم التفسير الظاهر في خانة علوم القشر و الصدف، فهو يقصد من يقف بالتعامل مع القرآن عند تخوم هذا التفسير ظانّا أنّه الدّر و لا شي ء أنفس منه، في حين أنّ وراءه مراتب ما أعظم حرمان الناس منها، لظنّهم ذاك و قناعتهم به: «يليه علم التفسير الظاهر، و هو الطبقة الأخيرة من الصدفة القريبة من مماسّة الدّر. و لذلك يشتدّ به شبهه حتّى يظنّ الظانّون أنّه الدّر و ليس وراءه أنفس منه، و به قنع أكثر الخلق، و ما أعظم غبنهم و حرمانهم إذ ظنّوا أنّه لا رتبة وراء رتبتهم» «1». ليس المقصود إذن مصادرة التفسير، بل تجاوزه إلى ما بعده بعد استنفاد أغراضه و امتصاص طاقاته.

و ما دام الحديث يدور عن معان هي من الملكوت، و في داخل منطقة اسمها البصيرة، و أداتها القلب مدعما بالمكاشفة و العلم اللدني، و في ظلّ أجواء مفعمة بصفاء النفس و طهارة الداخل، فلا معنى لإقحام العلوم الكسبية و الأفكار النظرية، فهذه كلّها و الأدلة البرهانية معها مكانها منطقة العقل. على هذه الخلفية يتطهّر النص التالي من مدلولاته

السلبية المنفّرة التي تتراءى لنا لأوّل وهلة، ليعود نصا إيجابيا منسجما مع مبادئه و إطاره المرجعي بالكامل: «و اعلم أنّ النفس ما لم تكن صافية عن غشاوة العلوم التقليدية المكتسبة من الأقوال، و عن الأفكار النظرية الحاصلة باستعمال المنطق بآلتي الوهم و الخيال للعقل الفكري، لم يكن صاحب بصيرة في الإلهيات بل في جميع العلوم، و لم يكن قابلا للفتح الإلهي، و بعيد من أن يحصل له شي ء من العلم اللدني الحاصل لنفوس الأميّين، و هم الذين كتب نفوسهم و ألواح

______________________________

(1)- جواهر القرآن: 37.

فهم القرآن، ص: 369

قلوبهم خالية عن نقوش هذه الأقاويل المتعارفة ... لصفاء قلوبهم عن غير اللّه و سلامة صدورهم عن هذه الوساوس» «1». فالمقصود هنا منطقة القلب، و لا معنى للكسب في منطقة القلب التي تأتي طورا ما بعد طور العقل.

انطلاقا من الأفق ذاته نعيد قراءة نص الإمام التالي في تقويم حركة التفاسير و الحكم عليها، قراءة إيجابية خالية من إيحاءات التعريض بجهود المفسّرين و مصادرتها: «بعقيدة الكاتب [يعني نفسه] لم يدوّن تفسير لكتاب اللّه» «2» حتّى الآن. فالتفاسير المصنّفة كثيرة و بعضها موضع ثناء الإمام و تقديره، إنّما المقصود أنّه لم يكتب تفسير للقرآن بلحاظ مقاصده السامية التي يفهمها الإمام، يتقدّمها مقصد معرفة اللّه في أسمائه و صفاته و مظاهر هذه الأسماء و الصفات و تجلياتها، ممّا يتخطّى حدود العقل و آلته البرهان إلى القلب.

فلا الغزالي أراد خفض شأن التفسير الظاهر، و لا الشيرازي قصد إلغاء العلوم الكسبية و لا الإمام الخميني رام مصادرة جهود المفسّرين، بل الهدف الماثل أمامهم هو فتح باب المعرفة القلبية و الاقتراب من معاني القرآن و حقائقه باختراق الحجب و تجاوزها.

8- حجاب الانغمار بالدنيا

يأتي هذا الحجاب الذي

يحول بين الإنسان و معارف القرآن في امتداد الحجاب الذي سبقه، و يندمج معه في نسيج واحد. لذلك نسعى أن نتعرّف عليه من

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 46.

(2)- آداب الصلاة: 192.

فهم القرآن، ص: 370

خلال النصوص مباشرة.

يسجّل الإمام الخميني بعد انتهائه من الحديث عن حجاب الذنوب و المعاصي مباشرة، ما نصّه: «من الحجب الغليظة الاخرى التي تعدّ سترا صفيقا يحول بيننا و بين معارف القرآن و مواعظه، حجاب حبّ الدنيا، فبواسطة هذا الحجاب يصرف القلب تمام همّته إلى الدنيا و تصير وجهته دنياوية بالكامل. إنّ القلب ليغفل بواسطة هذه المحبّة عن ذكر اللّه، و يعرض عن الذكر و المذكور» «1».

تكتسب العلاقة بين حبّ الدنيا و هذا الحجاب طابعا طرديا: «فكلّما ازدادت العلاقة بالدنيا و أوضاعها صار حجاب القلب أضخم و أكثر سمكا و مناعة» «2» حتّى يبلغ هذا الحجاب في مداه أحيانا أنّه يحجب نور الفطرة بالكامل: «ربّما تتغلّب هذه العلاقة على القلب أحيانا و تبلغ هيمنة سلطان حبّ الجاه و الشرف على القلب مدى يؤدّي إلى انطفاء نور فطرة اللّه بالكامل، و يفضي إلى أن تؤصد أبواب السعادة بوجه الإنسان» «3».

صحيح أنّ للفهم مرتكزاته في العقل: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «4»، بيد أنّ الصحيح أيضا أنّ اللّه سبحانه شرط فيه أيضا الإنابة و اليقظة و التذكير: تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ «5»، كما قوله: وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ «6»، و من:

______________________________

(1)- نفس المصدر: 201- 202.

(2)- نفس المصدر: 202.

(3)- نفس المصدر.

(4)- الرعد (13): 19.

(5)- ق (50): 8.

(6)- غافر (40): 13.

فهم القرآن، ص: 371

«آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب» فضلا عن أن يكون من ذوي القلوب و البصائر «و لذلك

لا تنكشف له أسرار الكتاب» «1».

على هذا المستوى من الرؤية تكون علاقة القرآن مع القلب لا مع العقل و علومه، و بذلك يأتي صفاء القلب و العزوف عن الدنيا في أوّل شروط المعرفة:

«و القرآن غذاء للقلوب الصافية، و بلاء للنفوس المريضة بداء الجهالة لقوله تعالى:

هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ «2» ... و لا شبهة في أنّ المشتغلين بالدنيا المنهمكين في اللذات ليسوا من أهل الاهتداء بنور القرآن، و لا يمكنهم الارتقاء إلى نشأة العرفان» «3».

القلب الصافي السليم هو الأرضية التي تنزل عليه المعارف في هذا الطور، و إلّا إذا كان القلب منكفئا على الدنيا ملوّثا بعلائقها لا تينع فيه تلك المعارف بل تتحوّل إلى ضدّها، و قد مثّلوا بذلك بمقولة لسقراط: «البدن الذي ليس بالنقي كلّما غذّوته فقد زدته شرا و وبالا»، و ذكروا في بيانه: «أنّ المراد منه الإشارة إلى كيفية اقتناء العلوم الربانية، التي يتوقّف الاستكمال بها على تصفية السرّ عن محبة الشهوات، و تخلية الباطن عن الوساوس و الكدورات» «4». و لا ريب أنّ حبّ الدنيا و الارتباط الحثيث بها هو في طليعة أقفال القلوب: «و ربّما كان المراد من أقفال

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 284- 285.

(2)- فصلت (41): 44.

(3)- تفسير القرآن الكريم 6: 11- 12.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 372

القلب في الآية الشريفة: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1» هذه الأقفال و العلائق الدنيوية» «2».

لا مناص لمن يرغب أن يلج حريم القرآن على هذا المستوى و يتذوّق معارفه في هذه المنطقة، من أن يطهّر قلبه عن العلائق التي تمثّل جوهر

حبّ الدنيا «3»: «إذا ما أراد الإنسان أن يستفيد من معارف القرآن و ينتفع بمواعظه الإلهية، ينبغي له أن يطهّر القلب من هذه الأرجاس و من لوث المعاصي القلبية المتمثّلة بالاشتغال بالغير، لأنّ القلب غير المطهّر لا يكون محرما لهذه الأسرار.

قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «4»، فكما أنّ غير المطهّر بالطهارة الظاهرية ممنوع تشريعا و تكليفا من ظاهر هذا الكتاب و مسّه في عالم الظاهر [أي فيما هو موجود من ظاهر القرآن الذي بين أيدينا متمثّلا بهياكل الحروف و الصورة اللفظية] فكذلك ممنوع من معارفه

______________________________

(1)- محمّد (47): 24.

(2)- آداب الصلاة: 202.

(3)- يطرح الإمام مفهوما لحب الدنيا يرتكز إلى العلاقة، فكل ما تربطنا به علاقة و إن زهد و كان تافها فهو تعبير عن حب الدنيا، و كلّما ما لا تربطنا به مثل هذه العلاقة فهو خارج عن المفهوم. يقول: «الميزان هو العلاقة، ميزان الدنيا هي تلك العلائق التي تربط الإنسان بهذه الأشياء». على هذا يمكن لصاحب قصر فخم أن لا يكون من أهل الدنيا على حين يكون طلبة من طلاب الحوزة العلمية من أهلها لمحض علاقته بكتاب يملكه، كما يمثل الإمام نفسه على هذا. فالمدار ليس الحيازة و عدمها، بل العلاقة و عدم العلاقة، و المطلوب أن يتحرر الإنسان مع علائقه بالأشياء، لا أن يتخلى عن حيازتها. راجع: تفسير سورة حمد: 147.

(4)- الواقعة (56): 77- 79.

فهم القرآن، ص: 373

و مواعظه و من باطنه و سرّه من كان قلبه ملوّثا بالأرجاس و التعلقات الدنيوية» «1».

هذه المقاربة بين مسّ الظاهر المنوط بشروط تشريعية تكليفية و بين مسّ معارفه و مقاربة أسراره و بواطنه التي ترتكز هي الاخرى إلى شروط

وجودية و أخلاقية خاصّة؛ يعود الإمام إلى تعميقها أكثر من خلال مثال آخر، و هو لا يزال يحدّثنا عن حجاب حبّ الدنيا، فيقول: «و قال تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «2» إلى آخر الآية، فغير المتّقي بحسب مستوى تقوى العامة [جمهور الناس] و غير المؤمن بحسب مستوى إيمان العامّة، محروم من الأنوار الصورية لمواعظ [القرآن] و عقائده الحقّة. أمّا غير المتّقي و غير المؤمن بحسب بقية مراتب التقوى المتمثّلة بتقوى الخاص و خاص الخاص و أخصّ الخواص، فهو محروم من مراتبها [المعارف و المواعظ و المعارف القرآنية الإلهية الحقة] الاخرى» «3».

المهمّ أنّ الدنيا في هذا النسق من الفهم تمثّل بكثرة أشيائها و ما تفرزه هذه الأشياء من علائق، حجبا متراكمة «بعضها فوق بعض» «4» تستقطب الإنسان و تجرّه إلى غياهبها، فهل إلى الخلاص منها من سبيل؟ بقدر تشدّد هذه المدرسة على تنظيف الطريق و تعبيده من العقبات، فهي لا تغلق الباب بوجه الإنسان، بل يبدو و كأنّها تفتحه على مصراعيه أمامه، إيمانا منها: «أنّ جميع أفراد الناس ممّا يوجد فيهم الحركة المعنوية نحو الآخرة، إلّا أنّهم يتفاوتون في كيفية هذه الحركة».

فالطريق إذن مفتوح، له مرتكزاته الشرعية الواضحة المتمثّلة بالانتباه و اليقظة،

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 202.

(2)- البقرة (2): 2.

(3)- آداب الصلاة: 202.

(4)- تفسير سورة حمد: 147 و فيه بحث دقيق عن حبّ الدنيا عرضه الإمام في عام 1979.

فهم القرآن، ص: 374

و التوبة و الإنابة، و ملازمة الشريعة و فك الارتباط مع الأشياء و ليس ترك حيازتها، و مزاولة العمل الصالح و هكذا.

نقطة البدء في هذا المسار أن يتعرض الإنسان إلى نفحات اللّه، فإن «أدركته لمعة من أنوار الرحمة تيقّظ من رقدة الجهالة، و

تنبه من نوم الطبيعة، و تفطن بأنّ ما وراء هذه المحسوسات عالم آخر، و فوق هذه اللذات الحيوانية لذات اخر، فحينئذ يتوب عن اشتغاله بالمزخرفات، و ينيب إلى اللّه من هذه المنهيات التي زجرها الشارع، فيشرع في التدبّر في آيات اللّه و استماع مواعظه، و التأمّل في أحاديث نبيّه، و العمل بمقتضى شريعته، فيشرع في ترك الفضول الدنياوية من الجاه و المال و غيرهما طلبا للكمالات الأخروية، و يعزم عزما تامّا إن أدركته العناية الإلهية إلى التبتّل إليه و السلوك نحوه من موطن نفسه و مقام هواه، فيظهر له لوامع الملكوت و ينفتح له باب الغيب، و يلوح له لوائح عالم القدس مرة بعد اخرى، فيشاهد امورا غيبية في صورة مثالية، فإذا ذاق منها شيئا يرغب في الخلوة و العزلة و ذكر اللّه على الدوام، و يفرغ القلب عن المشاغل الحسية و يتوجه باطنه إلى اللّه بالكلية، فيفيض عليه العلوم اللدنية و الأسرار الإلهية» «1».

القرآن في هذه الرؤية نور، و القلب هو القناة التواصلية مع هذا النور: «ما دام الإنسان محجوبا بحجاب ذاته فلا يستطيع الإنسان أن يدرك هذا القرآن الذي هو نور. القرآن نور كما يصف نفسه، و من يعيش في الحجاب و يتوارى خلف حجب كثيرة لا يستطيع إدراك هذا النور، يخيّل إليه أنّه يستطيع لكنه لا يستطيع. فما لم يفلت الإنسان من حجابه الحالك، و ما دام يعيش شراك الأهواء النفسية و الغرور

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 54.

فهم القرآن، ص: 375

و الإعجاب بالنفس، و ما دام مبتليا بالامور التي أوجدها في باطن نفسه التي هي ظلمات بعضها فوق بعض، فلا يكون مؤهّلا في أن ينعكس هذا النور الإلهي في قلبه.

إنّ من يريد أن

يفهم القرآن و محتواه، و ليس صورته الصغيرة النازلة، بل يفهم محتواه على النحو الذي تكون حصيلة أي شي ء يقرأه منه الارتقاء نحو الأعلى، و على النحو الذي كلّما قرأ القرآن يقترب من مبدأ النور و من المبدأ الأعلى؛ إذا ما رام الإنسان أن يفهم القرآن و يقرأه على هذا النحو فلا سبيل له إلى ذلك إلّا بالتحرّر من الحجب، و «الإنسان نفسه هو حجاب نفسه»، و من ثمّ ينبغي لك أن تنفلت من هذا الحجاب و تتخلّص منه حتّى تستطيع أن تدرك هذا النور كما هو، و أن تكون إنسانا مؤهلا لإدراكه» «1».

أخيرا روي في النبوي الشريف: «إذا عظّمت أمّتي الدينار و الدرهم نزع منها هيبة الإسلام، و إذا تركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حرموا بركة الوحي»، قال الفضيل: «يعني حرموا فهم القرآن» «2».

______________________________

(1)- صحيفه امام 14: 388- 389.

(2)- إحياء علوم الدين 1: 284.

فهم القرآن، ص: 376

خاتمة فيها عدّة نتائج

اشارة

قد تكون هذه الجولة كافية لاستخلاص عدد من النتائج أو الفوائد، نعرض لها كما يلي:

أولا: الحجب مقولة في المنهج

عند تحليل الحجب و الموانع المارّة يلحظ أنّ أغلبها إن لم يكن كلها منهجي، ينصبّ على طريقة التعامل مع القرآن. لكنّها تعود و تتفرع إلى قسمين الأوّل معرفي ينصبّ على النظر العقلي و الممارسة الإدراكية ذاتها و كيف ينبغي أن تكون حتّى لا يتورّط الإنسان بالموانع، و الآخر وجودي يرتبط بسلوك الإنسان و تكوينه الأخلاقي، و ما ينبغي أن يصير إليه لكي يتحرّر من الحجب و موانع الفهم.

على هذا تعدّ موانع الفهم أو الحجب من مقولات المنهج في الفكر القرآني تهدف إلى ترسيم الطريق الآمنة التي ينبغي أن تسلك إلى معرفة كتاب اللّه، و لا تؤثّر في النتائج المتوخّاة إلّا تاليا و من باب التلازم بين الكاشف و المكشوف أو المقدّمات و النتائج. و قد مرّ علينا من نصوص هذه المدرسة ما يعزّز هذه النتيجة دون مراء، و هي تتحدّث عن موانع مثل عدم الفكر المتمثّل بافتقاد القدرة على التفكير السليم و الحركة من المبادئ إلى النتائج، و كذلك الجهل البسيط و المركّب و وجود العقائد الموروثة بسلطة التقليد، و الانكفاء على مرجعيات قاصرة و التورّط بالجدليّات أو الجهليّات الفلسفية و الاستغراق بمقدّمات العلوم و هكذا، إلى جوار ما تذكره من حجب تحوم حول القلب و النفس.

فهم القرآن، ص: 377

و بمعالجة هذه العوائق بشقّيها يكون العقل و القلب مهيئين معا للتعامل مع معاني القرآن و حقائقه على المستويين المعرفي و الوجودي.

ثانيا: الموازنة لا الإلغاء

أطلقت نظرية الحجب أو موانع الفهم سهاما عنيفة ضدّ العلوم التمهيدية التي تؤلّف مقدّمات التفسير، و هاجمت بشدّة نزعات التضخّم الآحادي في اللغة أو الكلام أو الفلسفة و ما سواها، و حذّرت من إنفاق العمر فيها و الانغمار في تفصيلاتها، كما لاحت لنا

نصوص صريحة هاجمت العلوم الكسبية عامة لمصلحة العلوم الكشفية و معارف القلب و ما أشبه ذلك، و السؤال: هل المقصود من وراء ذلك تعطيل البحث في المقدمات و العلوم التمهيدية و غلق باب المعرفة الكسبية بالكامل؟

أبدا، ليس هذا هو المطلوب، فالبحث في المقدمات و العلوم التمهيدية مطلوب بل هو ضروري في طور النظر العقلي و الممارسة الإدراكية، و لا مجال للتعاطي مع النص القرآني بمعزل عن العلوم الآلية، إنّما الدعوة هي إلى عدم الاستغراق بهذه العلوم و اللهو بها عن المقصد المتمثّل بالقرآن نفسه.

ففي اللغة و آدابها مثلا: «يكفي لها دون ما بلغ إليه الزمخشري و أترابه، و استفرغوا أوقاتهم و بذلوا غاية سعيهم و جهدهم فيه» «1». و في العلوم الأخر يكفي النزر اليسير، كما أنّ المطلوب هو التعامل مع هذا الضرب من العلوم على نحو الكفاية لا الوجوب العيني بحيث إذا ما نهض بها بعض فلا داعي لتكرار الجهود و هدر الطاقات و التطويل فيها من غير طائل، بحيث يستأنف كلّ دارس البحث فيها

______________________________

(1)- مفاتيح الغيب: 62، تفسير القرآن الكريم 6: 11.

فهم القرآن، ص: 378

من نقطة الصفر متجاهلا التراكم الضخم الحاصل فيها، و تحقّق الكفاية بما هو موجود.

على أنّ هذه المدرسة تتخطّى هذه الحدود إلى ما هو أبلغ منها حين لا تتخلّى عن النظر العقلي حتّى مع الاشتغال بالمعرفة القلبية و بأسرار المعاني و حقائقها، بل هي لا تتخلّى عنها إثباتا حتّى حال الدخول إلى صميم المعرفة القلبية الناشئة عن الكشف و المشاهدة، إذ لا سبيل لإثبات هذا الضرب من المعرفة إلى الآخرين إلّا بالبرهان العقلي و بأدوات المعرفة الكسبية و بلغتها و علومها، و سيأتينا تركيز هذه المدرسة على أنّ الطريق

إلى الباطن يمر بالظاهر لا بإلغائه، و من ثمّ فإنّ الضروري من العلوم الكسبية و علوم الظاهر يبقى ضروريا حتّى لعلوم السرّ، ذلك أنّ «لكلّ مسألة من المسائل الإلهية و الأسرار الناموسية مبادئ و مقدّمات لا يمكن التفطّن إلى تلك المسألة إلّا بعد التفطّن بها، سواء كان بحدس و حركة سريعة كما هو طريقة الأنبياء و الأولياء و ذوي الأبصار، أو بفكر و حركة بطيئة كما هو طريقة العلماء و النظّار و أولي الاعتبار» «1».

على أنّ هذه الضرورة تغدو أكثر إلحاحا قبل التحصيل العقلي، فقبل «الخوض في العقليات و استحصالها يجب الاشتغال بعلم اللغة و النحو و الصرف و علم الأخلاق و علم الحلال و الحرام، و من لم يحصل شيئا منها على وجهه مع نيّة صادقة و أخلاق في العمل لا يمكنه الدخول في فقه الأسرار و علم الأنوار، لقوله تعالى: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها «2»» «3».

______________________________

(1)- تفسير القرآن الكريم 6: 204.

(2)- البقرة (2): 189.

(3)- تفسير القرآن الكريم 6: 204 و 214.

فهم القرآن، ص: 379

فإذن نحن أمام محصّلة لا تلغي المقدّمات و لا تهمل العلوم الكسبية، بل تطالب بالتوازن في تحصيلها و التعامل معها على قدر وظيفتها كخوادم و آلات و مقدّمات للنظر العقلي. كما إنّنا صرنا إلى تراتبية مؤداها أنّ العلوم التمهيدية و إلى جوارها تحصيل العلوم الشرعية ضروري قبل الولوج في المعارف العقلية، ثمّ يبقى للمعارف العقلية دورها كمبادئ و مرتكزات تتأسّس عليها المسائل الإلهية، بحيث لا تعرف هذه الأخيرة إلّا بالتفطّن إلى تلك المبادئ و الاصول.

أخيرا، حتّى عند ما تغادر المعرفة طور العقل إلى ما وراءه و تصير في داخل منطقة القلب، فإنّ ذلك لا يدعو إلى إهمال العلوم

الكسبية خاصة العقلية التي تناط بها مرحلة إثبات تلك المعارف و تنهض بتعميمها باللغة المألوفة المتداولة عند البشر و بما ينسجم مع عقولها، إذ الكشف بذاته لا يصلح لإثبات نفسه إلى غيره إلّا بالبرهان بوصفه وسيلة للإثبات «1»، و من ثمّ يبقى لهذه العلوم دورها قبل طور القلب و فيما بعده أيضا.

ثالثا: الفكر المعاصر و الموانع

عرض الفكر المعاصر في العالم العربي و إيران إلى حد ما منظورا لفكرة الحجب و موانع الفهم، لكن انطلاقا من اختيارات حركة هذا الفكر و منهجياته الحديثة و المعاصرة.

لم يكد يتخلّف اتجاه فكري من الاتجاهات التي ازدهرت في السنوات

______________________________

(1)- راجع: تفسير سورة حمد: 112، و مواضع كثيرة اخرى مرت الإشارة إليها في النصوص السالفة.

فهم القرآن، ص: 380

الأخيرة، عن نقد فكرة الحجب التي تخفي النص و تطمسه أو تتحوّل على الأقل إلى سلطة موازية لسلطة النص ذاته «1»، حتّى تحوّلت هذه المسألة إلى اطروحة رئيسية في مشاريع ضخمة انطلقت تحت عنوان قراءة التراث، سواء في نزعة تحليل الخطاب (الخطاب هنا بمعنى نظام الفكر) عبر استخدام مكثّف و أحيانا مضطرب للتفكيك، و كذلك النزعة النصية و الهرمنيوطيقية، أو نزعة تعدّد القراءات أو نزعة الإسلاميات التطبيقية المقارنة «2»، مع ما رافق ذلك كلّه من إقحام عدد ضخم من منهجيات العلوم الإنسانية و المصطلحات الحديثة و المعاصرة، التي تبدو أحيانا متصادمة فيما بينها، و ميل كاسح للغموض المتعمد و التباري في لغة عجيبة و رموز غريبة، و رغبة جامحة في إثارة الصخب و الطنين «3».

نكتفي بنص يعود لأحد رادة ما يطلق عليه بالإسلاميات التطبيقية و طليعة من ينادي بتوظيف كامل للعلوم الإنسانية الغربية في الدراسات الإسلامية، جاء فيه:

______________________________

(1)- راجع بخصوص الدراسات القرآنية: التفاسير القرآنية المعاصرة: قراءة

في المنهج.

(2)- في هذا السياق تقع مشاريع محمد عابد الجابري، و محمد آركون و نصر حامد أبو زيد و بعض أعمال حسن حنفي و ما أثارته من إصداء نقدية واسعة يمكن متابعتها في أعمال علي حرب و غيره من الناقدين.

أمّا في إيران فيلاحظ ازدهار النزعة النصية و الهرمنيوطيقية مع أعمال عدد من الدارسين مثل محمد مجتهد شبستري في كتابه «هرمونتيك كتاب و سنت» (هرمنيوطيقيا الكتاب و السنة) و الاهتمام الزائد بهذه الدراسات في الدوريات الثقافية و الفكرية، و ما صاحب ذلك من ترجمة و إعادة طبع لنصوص غربية مثل «الهرمنيوطيقية الفلسفية» لغادمر و «الهرمنيوطيقيا المعاصرة» لبيلخر، و «نظرية التفسير» لبول ريكور و غير ذلك.

(3)- راجع في نقد هذا الجانب من القراءات الحديثة: المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك:

13- 64.

فهم القرآن، ص: 381

«يمكن أن نقارن هذا الوضع بما حصل عندنا للنص القرآني ذاته. فالنص القرآني أيضا ولّد عشرات التفاسير و الأدبيات التأويلية منذ ظهوره و حتّى اليوم، أي طوال عدة قرون من السنين. و تراكم التأويلات في كلتا الجهتين يشبه تراكم الطبقات الجيولوجية للأرض فوق بعضها بعض. فنحن لا نستطيع أن نتوصّل إلى الحدث التأسيسي الأوّل، إلى الحدث التدشيني في طراوته و طزاجته الأولية إلّا إذا اخترقنا كلّ الطبقات الجيولوجية المتراصّة، كلّ الأدبيات التفسيرية التي تحجبه عن أنظارنا.

فالنص الأوّل أو الحدث الأوّل مطمور و مغمور تحت هذه الطبقات التي تحجبه عنّا فلا نستطيع أن نراه إلّا من خلالها. يحصل ذلك إلى درجة أنّه من الصعب جدا التوصل إليه بالذات، إلى درجة أنّنا لا نعرفه و إنّما نعرف الصورة الإسقاطية المتشكّلة عنه.

فنحن عند ما ننظر إلى تراث التفاسير الإسلامية بكلّ أنواعها و بكلّ مذاهبها و اتجاهاتها،

نفهم أنّ القرآن لم يكن إلّا ذريعة من أجل تشكيل نصوص اخرى تلبّي حاجيات عصور اخرى غير عصر القرآن بالذات. و هذه التفاسير موجودة بذاتها و لذاتها، و هي أعمال فكرية و منتوجات ثقافية مرتبطة باللحظة الثقافية التي أنتجتها، و بالبيئة الاجتماعية أو المدرسة التيولوجية التي تنتمي إليها أكثر ممّا هي مرتبطة بلحظة القرآن. و هذا ما يعقّد الامور كثيرا في ما يخصّ الروابط الكائنة بين النص الأوّل الذي نرغب في فهمه (أي القرآن) و بين كلّ التفاسير التي نتجت في ما بعد طبقا للحاجيات الإيديولوجية المرافقة بالضرورة لكلّ جيل من أجيال المسلمين» «1».

______________________________

(1)- الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد: 232- 233.

فهم القرآن، ص: 382

رابعا: تجاوز الحجب و اختراقها

ما تبتغيه نظرية الحجب هو تحرير الإنسان من موانع الفهم و إحداث نقلة إدراكية معرفية و وجوديّة أخلاقية في تعاطيه مع القرآن، تسمح له بالارتقاء إلى معانيه و معاينة حقائقه و معايشتها معايشة نابضة حية، لذلك: «ينبغي للمستفيد من القرآن أن يخرق جميع هذه الحجب و يطلّ على القرآن من ورائها، و لا يقف عند واحد منها، فيتأخّر عن قافلة السالكين إلى اللّه، و يحرم من الدعوات الإلهية العذبة.

على أنّ الأمر بعدم التوقّف و الحثّ على الارتقاء و عدم القناعة بحدّ معيّن هو ممّا يستفاد من القرآن الشريف نفسه. فالإشارة إلى هذا المعنى كثيرة في القصص القرآنية. فمع ما يحظى به موسى الكليم من مقام النبوّة الرفيع لم يقنع بذلك المقام و لم يكتف بمقامه العلمي الشامخ، بل تراه بمجرّد أن التقى بانسان كامل مثل الخضر، خاطبه بكلّ تواضع و خضوع: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً «1»، و صار ملازما لخدمته حتّى أخذ منه العلوم التي ينبغي

أن يتعلّمها.

و مع إبراهيم عليه السّلام تراه لم يقنع بذلك المقام الإيماني المنيف و العلم الخاصّ بالأنبياء عليهم السّلام، فالتمس [ربّه]: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «2»، إذ رام أن يرتقي من الإيمان القلبي إلى مقام الاطمئنان الشهودي.

و الأعظم من ذلك أنّ اللّه تبارك و تعالى يأمر خاتم النبيين- أعرف خلق اللّه على الإطلاق- بالكريمة الشريفة: وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «3».

______________________________

(1)- الكهف (18): 66.

(2)- البقرة (2): 260.

(3)- طه (20): 114.

فهم القرآن، ص: 383

لقد جاءت أوامر الكتاب الإلهي هذه، و قصص الأنبياء هذه، من أجل أن ننتبه و نستيقظ من رقدة الغفلة» «1».

لقد تحدّث الإمام عن هجر القرآن في سياق كلامه عن الحجب و موانع الفهم، حيث ذكر أنّ: «لمهجورية القرآن مراتب كثيرة و منازل لا تعدّ ربما كنا متّصفين بأهمّها» «2». و المطلوب أن يخرج القرآن من ضغوطات الهجر و حجبه، و ذلك لا يكون إلّا بمناهضة الشكلانية و خرق طقوسها التي تحنّط القرآن و تختزله بالجلد الأنيق و الطباعة الفاخرة و جملة من الممارسات الشكلية كالتقبيل و ما شابه: «أ ترى إذا جلّدنا هذه الصحيفة الإلهية بجلد فاخر مثلا، ثمّ عمدنا إلى تقبيله و وضعناه على أعيينا أثناء القراءة أو الاستخارة، ما اتخذناه مهجورا؟ و ترى إذا ما أنفقنا غالب عمرنا على التجويد و الجهات اللغوية و البيانية و البديعية نكون قد أخرجنا هذا الكتاب الشريف من المهجورية؟» «3». بعد أن يعدّد النص ضروبا اخرى مشابهة لهذه الاهتمامات العابرة، يجيب الإمام على ما تثيره من تساؤل عن واقع القرآن و منزلته بكلمة واحدة، هي: «هيهات» «4»، لأنّ ليس في أي واحد منها ما يمثّل مقاصد القرآن الرئيسية فضلا عن مقصده الأساسي، و

ما هي إلّا حجب تلفّ الإنسان و تضيّعه في غياهبها.

أمام الإنسان إذن رحلة طويلة و شاقّة لكنّها ممكنة، رحلة لإنقاذ القرآن من الهجر. و نحن بإزاء دعوة إلى مناهضة الشكلانية الطقوسية الجامدة، تطالب بالحفر

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 196.

(2)- نفس المصدر: 198.

(3)- نفس المصدر.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 384

و التوغّل و اختراق الحجب و نسفها؛ الحجب الإدراكية المعرفية و الحجب الوجودية، و عند ما تستنفد الرحلة طاقاتها في تحرير الإنسان من موانع الفهم و حجب الظلمات، عليها أن تواصل المسير على خطّ آخر هو تخليص الإنسان من حجب النور؛ أجل حجب النور «1»، لكي يبلغ غاية الشفافية المعرفية و الوجودية، و يتصل النور بالنور، نور الإنسان و نور القرآن: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «2».

______________________________

(1)- يقسم الإمام الحجب إلى ظلمانية و نورية: «إنّ للّه تبارك و تعالى سبعين ألف حجاب من نور و ظلمة» (حديث نبوي: بحار الأنوار 55: 45/ 13)، و بعد أن يعدّد الإمام بعض الحجب الظلمانية و يحثّ الإنسان على التخلّص منها، يقول بأنّ النوبة تصل إلى الحجب النورية التي ينبغي للإنسان أن يتخطّاها أيضا: «بعد أن تخرج [النفس] من هذه الحجب التي تعدّ ظلمانية بالنسبة لنا، تصل إلى الحجب النورية ... فمع أنّ هذه الأخيرة ليست (من الظلمات) و إنّما هي نور، لكنها حجاب أيضا». (تفسير سورة حمد: 144)

(2)- المائدة (5): 15- 16.

فهم القرآن، ص: 385

الفصل السابع جدلية الظاهر و الباطن

اشارة

يمكن التعامل مع مقولة الظاهر و الباطن بوصفها نتيجة من النتائج المترتبة على نظرية تعدّد مراتب الفهم بوجهيها الوجودي و المعرفي، و ما أبدعه هذان الاتجاهان من تفسيرات

للظاهرة.

لكن مع ذلك نلمس لهذه الظاهرة استقلالا خاصّا ناشئا عن تصريح النصوص الواردة من الفريقين الدالّة عليها، ممّا لا يدع مجالا للشكّ بوجود هذه المقولة، و إنّما يدفع لإبداع صيغ اجتهادية في فهمها و تفسيرها، و الأهم من ذلك فهم طبيعة العلاقة التي تسري بين طرفيها و فيما إذا كانت تقوم على النفي أم التجاوز أم التكامل؟ ثمّ تخطّي ذلك كلّه لمعرفة أبرز النتائج المترتبة عليها.

على هذا الضوء يسعى البحث إلى تغطية مقولة الظاهر و الباطن، على هدي الخريطة البحثية التالية:

1- الظاهر و الباطن في النصوص.

2- نظريات التفسير و ما أبدعته علوم القرآن و التراث التفسيري و الفكر القرآني عامّة من نظريات في تعليل وجود الظاهر و الباطن، انطلاقا من الاتجاهين

فهم القرآن، ص: 386

الرئيسيين الوجودي و المعرفي.

3- العلاقة بين الظاهر و الباطن.

4- نظرية لغة المثال بوصفها أبرز نتيجة طالعة من ثنايا مقولة الظاهر و الباطن.

1- الظاهر و الباطن في النصوص

الظاهر و الباطن مصطلحان قرآنيان أصيلان توفر القرآن على ذكرهما في عدد من الآيات، منها:

1- قوله سبحانه: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ «1».

2- و قوله: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «2».

3- و قوله: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً «3».

أمّا في الحديث الشريف فاستعمال المصطلحين مستفيض و ربّما قال بعضهم بتواتره، من ذلك:

1- عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا و حدا و مطلعا» «4».

______________________________

(1)- الحديد (57): 3.

(2)- الروم (30): 7.

(3)- لقمان (31): 20.

(4)- إحياء علوم الدين 1: 99، و قد ذكر زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة 806 ه في تخريجه لأحاديث الكتاب على هامش الصفحة

ذاتها أنّ الحديث أخرجه بن حبّان في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه.

فهم القرآن، ص: 387

2- عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: «لكلّ آية ظهر و بطن، و لكلّ حرف حدّ، و لكلّ حدّ مطّلع» «1».

3- كما عن النبي صلى اللّه عليه و آله أيضا: «إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدا و مطّلعا» «2».

4- كذلك: «إنّ القرآن انزل على سبعة أحرف، لكلّ آية منها ظهر و بطن، و لكلّ حدّ مطّلع». و في رواية: «و لكلّ حرف حدّ و مطّلع» «3».

5- في النبوي الشريف أيضا: «إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطن إلى سبعة أبطن» «4».

6- أخرج الديلمي من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا: «القرآن تحت العرش، له ظهر و بطن يحاجّ العباد» «5».

7- أخرج الطبراني و أبو يعلى و البزّاز و غيرهم، عن ابن مسعود موقوفا: «إنّ هذا القرآن ليس منه حرف إلّا له حدّ و لكلّ حدّ مطّلع» «6».

8- عن ابن مسعود، عن النبي صلى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر و بطن» «7».

______________________________

(1)- البرهان في علوم القرآن 2: 30، الإتقان في علوم القرآن 4: 225.

(2)- إحياء علوم الدين 1: 289، كما ذكره عن أهل السنة أيضا الكاشاني في تفسيره. (راجع:

تفسير الصافي 1: 30)

(3)- نقله الكاشاني عن مصادر أهل السنة. (راجع: تفسير الصافي 1: 31، و 59 أيضا)

(4)- نفس المصدر.

(5)- الإتقان في علوم القرآن 4: 225.

(6)- نفس المصدر.

(7)- البرهان في علوم القرآن 2: 170.

فهم القرآن، ص: 388

9- روى أبو نعيم في «حلية الأولياء» عن ابن مسعود، قال: «إنّ القرآن أنزل على

سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا و له ظهر و بطن و إنّ علي بن أبي طالب عنده منه الظاهر و الباطن» «1».

10- عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام: «ما من آية إلّا و لها أربعة معان ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحدّ هو أحكام الحلال و الحرام و المطّلع هو مراد اللّه من العبد منها» «2».

11- عن الإمام موسى الكاظم عليه السّلام في جواب محمد بن منصور عند ما سأله عن قوله سبحانه: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ «3»، قال:

«إنّ القرآن له ظهر و بطن» «4».

12- كما روى ذريح بن محمد المحاربي، عن الإمام الصادق عليه السّلام: «إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا» «5».

13- عن الإمام الصادق عليه السّلام في حديث طويل عن جدّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحثّ فيه على التمسّك بالقرآن، جاء في وصف القرآن: «له ظهر و بطن» «6».

______________________________

(1)- نفس المصدر 4: 233.

(2)- تفسير الصافي 1: 31.

(3)- الأعراف (7): 33.

(4)- الكافي 1: 374/ 10.

(5)- نفس المصدر 4: 549/ 4.

(6)- نفس المصدر 2: 599/ 2.

فهم القرآن، ص: 389

2- نظريات التفسير

اشارة

اتصاف القرآن بالبطون له دلالة قاطعة على عمقه، بل هذه البطون عمقه كما في النبوي الشريف: «و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق» «1».

بيد أنّ السؤال هل هذا العمق هو من سنخ المعاني الذهنية و المفاهيم النظرية و الفكرية المستمدّة من اللفظ أم هي حقائق وراء اللفظ لها استقلالها السنخي

عن الألفاظ، و إن كان يمكن أن تكون ثمّ علاقة تركيبية من نوع ما بين الاثنين؟ بتعبير آخر: ما هو منشأ هذا العمق، و ما هو سرّ اختصاص القرآن بالبطون و توافره على شمولية المعنى؟ هل يعود ذلك إلى كينونة القرآن و أنّه يتألّف من حقائق ذات مراتب متعدّدة تكمن وراء اللفظ لا يكون اللفظ إلّا التعبير الأخير عن تلك الحقائق أو قشرة ذلك اللب، على ما رسمت ذلك المدرسة الوجودية؟ أم أنّ الذي ينشئ عمق القرآن و غور معانيه و ثراء مفاهيمه و تعدّدها هو اللفظ و كيفية استعماله و تركيبه، و من ثمّ فإنّ البطون و المعاني المترتبة على بعضها هي من مقولة المفاهيم و التأويلات الذهنية التي تنبثق عن دلالة اللفظ و طبيعة التركيب أو ممّا يحتمله اللفظ القرآني و يكون أحد مدلولاته، و تخضع عملية نيلها و وضع اليد عليها إلى بذل الجهد العقلي و النشاط الذهني التأويلي و الاتصاف بحدة الذكاء و عمق التفكير و ما إلى ذلك؟

الحقيقة أنّ البطون مسألة ثابتة على ضوء الاتجاهين كليهما المعرفي و الوجودي، و أنّ ما يختلف بينهما هو التفسير. فالاتجاه المعرفي و ما يتضمّنه من

______________________________

(1)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 390

مدارس تحصر تعاملها مع القرآن كنص و حسب، ترى أنّ هذا هو النصّ الذي يحوي عددا من المعاني و البطون و الأغوار. أمّا الاتجاه الوجودي فيتعامل مع البطون بوصفها حقيقة كائنة وراء النص و خارجة عنه تنطوي على مراتب. فهنا مراتب و بطون و هناك مراتب و بطون أيضا، لكنها في الاتجاه الوجودي من سنخ الحقائق أمّا في الاتجاه المعرفي فالبطون من مقولة المفاهيم و التأويلات الذهنية، و الاختلاف بينهما ناجم عن نظرتهما

لحقيقة القرآن كما مرّت علينا تفصيلا، التي تستتبع اختلاف نظرية التفسير تبعا لذلك.

سنمرّ فيما يلي على عدد من النظريات التي تجمع بين إثبات ظاهرة البطون و تفسيرها، لنخلص من وراء ذلك إلى الفارق الأساسي الذي يفصل بين الاتجاهين المعرفي و الوجودي، ثمّ ما يترتب على ذلك من نتائج.

1- الغزالي
اشارة

يهاجم الغزالي في البدء من ينكر أن ينطوي القرآن على الظاهر و الباطن، ليسجّل أنّ العلوم بأكملها و الدين بتمامه عقيدة و شريعة يحتوي ظواهر ينالها الإدراك الذهني عبر ما يبذله العقل من أنشطة نظرية، و أسرار بعضها جلي يلوح بجهد يسير و بعضها خفي لا يتضح إلّا «بالمجاهدة و الرياضة و الطلب الحثيث و الفكر الصافي و السرّ الخالي عن كلّ شي ء من أشغال الدنيا سوى المطلوب»، ليخلص من وراء ذلك كلّه إلى نتيجة جزمية يسجّل: «فاعلم أنّ انقسام هذه العلوم [العقيدة و الشريعة] إلى خفية و جلية لا ينكرها ذو بصيرة، و إنّما ينكرها القاصرون الذين تلقّفوا في

فهم القرآن، ص: 391

أوائل الصبا شيئا و جمدوا عليه» «1». ثمّ يروح يقدّم بعض أدلّة ذلك و هو يطوف في عدد من النصوص النقلية، ممّا يتعلّق منها بالقرآن الحديث النبوي: «إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا و حدا و مطلعا»، و كذلك ما عن الإمام علي عليه السّلام الذي قال، و هو يشير إلى صدره: «إنّ هاهنا علوما جمّة لو وجدت لها حملة»، و كذلك النبوي الشريف:

«نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما حدّث أحد قوما بحديث لم تبلغه عقولهم إلّا كان فتنة عليهم»، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ العلم

كهيئة المكنون لا يعلمه إلّا العالمون باللّه تعالى». ثمّ يعزّز ذلك كله بمنطق القرآن في قوله سبحانه: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2» ممّا يدل على أنّ في الإسلام قرآنا و سنّة و عقيدة و شريعة، ظواهر و بطونا «3».

بشأن القرآن و ما يندرج فيه من بطون و أغوار و أعماق، ينقل عن ابن عباس في قوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ «4»: «لو ذكرت تفسيره لرجمتموني» «5». كما يروي عن الإمام علي قوله عليه السّلام: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب»؛ ليتساءل مستدلّا على الباطن: «فما معناه و تفسير ظاهرها في غاية الاقتصار؟»، و مع

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 99.

(2)- العنكبوت (29): 43.

(3)- إحياء علوم الدين 1: 99- 100.

(4)- الطلاق (65): 12.

(5)- إحياء علوم الدين 1: 100.

فهم القرآن، ص: 392

اسقاط البطون، فما معنى النبوي الشريف: «اقرءوا القرآن و التمسوا غرائبه»؟

ثمّ ينقل عن بعض العلماء و ما ذهب إليه من أنّ: «لكلّ آية ستّون ألف فهم، و ما بقي من فهمها أكثر»، و كذلك ما عن أبي الدرداء: «لا يفقه الرجل حتّى يجعل للقرآن وجوها»، و كذلك ما عن ابن مسعود: «من أراد علم الأوّلين و الآخرين فليتدبّر القرآن»، و أيضا ما عن بعضهم: «القرآن يحوي سبعة و سبعين ألف علم و مائتي علم، إذ كلّ كلمة علم، ثمّ يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكلّ كلمة ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع»، لينتهي بعد هذه الجولة كلّها إلى نتيجة تفيد: «و ذلك لا يحصل بمجرّد تفسير الظاهر ... [و] من زعم أنّ لا معنى للقرآن إلّا ما

ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حدّ نفسه» «1»، و إلّا فإنّ هذه الرؤية للإسلام كتابا و سنّة و للعقيدة و الشريعة و للعلوم أيضا، لا تستقيم إلّا بالقول بالبطون.

لقد أطلنا بعض الشي ء في استعراض رؤية الغزالي لأنّها- كما أسلفنا في غير هذا المورد أيضا- بسطت بآثارها على من بعده، حيث رأينا بصمات هذه الرؤية للظاهر و الباطن حاضرة بحذافيرها في أبرز كتابين عن علوم القرآن هما «البرهان» للزركشي (ت: 794 ه) و «الإتقان» للسيوطي (ت: 911 ه)، كما سجلت حضورها أيضا في نتاجات عدد آخر من الباحثين و المفسّرين من جميع المدارس و الاتجاهات. و ما يعنينا منها أنّ هذه الأفكار أطلّت برأسها في «فتوحات» ابن عربي، كما أخذها صدر الدين الشيرازي بنصوصها و تفصيلاتها، و انتقلت عبر هذا الخط و من خلال الحلقة الصدرائية تحديدا إلى كتابات الإمام الخميني و أفكاره.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 289.

فهم القرآن، ص: 393

التعليل النظري

الآن ما هو التفسير الذي يقدّمه أبو حامد لاشتمال القرآن على البطون و انطوائه على هذه الأغوار و الأعماق؟ هل يعود ذلك- مثلا- إلى التركيبة اللفظية أو البنية اللغوية للنص القرآني على نحو أعمّ؟ الحقيقة لا يمكن للغزالي أن يقدم على مجازفة كهذه، و هو الذي أسّس لنظرية القشر و اللباب في كتابه «جواهر القرآن»، و هاجم هناك من ظنّ أنّ القرآن هو محض حروف و أصوات ناعتا إياهم بالجهل، مبديا أسفه بمن يكتفي بتفسير الظاهر، إذ ما أعظم غبن هذا و حرمانه و هو يظنّ أنّ لا رتبة وراء ذلك «1».

يقدّم الغزالي عددا من التكييفات النظرية لتفسير عمق القرآن و بطونه، يمكن إرجاعها إلى الصياغات أو التقريرات الثلاثة التالية:

الأوّل: للقرآن معان مباشرة ظاهرة تدرك

من خلال الفهم اللغوي و النشاط الإدراكي الذي يصطاد أوائل المفهومات، أمّا ما بعد ذلك فإنّ معاني القرآن تدخل في جملة الملكوت، غائبة عن الحواس، موجودة في اللوح المحفوظ، و هي هناك مكينة عميقة بعيدة الغور، لا أمد لها و لا حدّ تنتهي إليه، حتّى مثّل لها بعضهم بالتقريب الحسّي التالي: «إنّ كلّ حرف من كلام اللّه عزّ و جلّ في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف، و إنّ الملائكة عليهم السّلام لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلّوه ما أطاقوه» «2»، كناية على كثافة المعاني و لا تناهيها.

______________________________

(1)- راجع جواهر القرآن: 36 فما بعد.

(2)- إحياء علوم الدين 1، 280 و 284.

فهم القرآن، ص: 394

هذا الوجود الماورائي هو البطون أو على الأقل هو الرصيد الذي يمدّ القرآن بالعمق و توالي المعاني ما بعد المعنى الظاهر، و يفسّر بطونه، و إلّا فمن دون ذلك الوجود الملكوتي الغيبي العريض و ما يحويه من معان لا متناهية لا يمكن أن يكون للقرآن بطون.

تتحدّث هذه النظرية بدءا على أنّ معاني القرآن من الملكوت، ثمّ تتّجه للاستدلال على رؤيتها بوجود القرآن في اللوح المحفوظ. و ما يتضح من التمثيل الحسّي قناعة النظرية أنّ القرآن موجود هناك بصورته الحروفية و اللفظية، لكن بحروف هي على نحو من الضخامة و العظمة بحث تطوي معاني لا نهائية أو متكثّرة جدا، و من ثمّ فإنّ منشأ البطون هي هذه التركيبة اللفظية الخاصّة و الضخمة لحروف القرآن. إذا صح فهمنا، فإنّ ما ينتج البطون و يمنح القرآن عمقه و معانيه المتكثّرة هي تركيبته الحروفية الخاصّة في اللوح المحفوظ، الأمر الذي يعرّض أساس النظرية للنقد.

فالقول إنّ للقرآن الذي بين أيدينا وجودا آخر في اللوح المحفوظ،

لا يعني أنّه موجود بهذه الحروف و التركيبة الخارجية، أي على نحو المصحف المتداول و بهيئة كتاب مصفوف من حروف و مؤلّف من صفحات و مركّب من كلمات و جمل و مقطّع إلى آيات و سور. فاللوح المحفوظ عند بعضهم هو العلم الإلهي الأزلي، أو هو الوجه الثابت لهذا العالم الذي تتمثّل فيه حقائق القرآن على نحو واقعيات و امور عينية، بحيث إذا ما قورن وجود القرآن الذي بين أيدينا (الواقع في كتاب و الظاهر بصورة الحروف) بوجوده في اللوح المحفوظ، كان وجوده هناك بمنزلة الروح إلى الجسد و المتمثّل من المثال، ممّا يعني انتفاء وجوده الحروفي الكتبي اللفظي «1»،

______________________________

(1)- راجع مثلا: الميزان في تفسير القرآن 3: 53- 54.

فهم القرآن، ص: 395

و من ثمّ تخلخل الأساس الذي تستند إليه النظرية أو عدم دقّة تصوّرها على أقل تقدير.

و الأهمّ من ذلك، أنّ إثبات حقيقة ما ورائية عليا للقرآن في اللوح المحفوظ و إن كان بذاته صحيحا و مقبولا، إلّا أنّه لا يثبت مقولة البطون، لغياب الملازمة بين الاثنين.

الثاني: ينطلق التكييف الآخر من نقطة مفادها أنّ العلوم كلّها داخلة في أفعال اللّه عزّ و جلّ و صفاته: «و في القرآن شرح ذاته و أفعاله و صفاته و هذه العلوم لا نهاية لها» «1» فإذن في القرآن جميع العلوم، بل أنّ «العلم بالقرآن هو العلم كله» «2» و من ثمّ أصبح القرآن عميقا ذا بطون ينطوي على أغوار لا أمد لها و لا نهاية لمعانيه، ف «كلّ ما أشكل فيه على النظّار و اختلف فيه الخلائق في النظريات و المقولات، ففي القرآن إليه رموز و دلالات عليه» «3».

لكلّ إنسان أن يغترف من هذه البطون على قدر وعائه

و أدواته من دون أن تلوح لذلك نهاية، إذ «لا يمكن استقصاء ما يفهم منه، لأنّ ذلك لا نهاية له» «4».

و كيف تكون ثمّ نهاية لنصّ هو تعبير عن شرح الذات و الصفات و الأفعال؟ مع أنّ بحر الأفعال وحده يضمّ من العلوم ما ينأى عن الحصر، و هو بحر لا ساحل له، و إنّ البحر لو كان مدادا لكلمات اللّه لنفد قبل أن تنفد «5»!

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 289.

(2)- نفس المصدر: 33.

(3)- نفس المصدر: 289.

(4)- نفس المصدر: 283.

(5)- راجع: جواهر القرآن و ما يذكره الغزالي من دوران العلوم حول الذات و الصفات و الأفعال.

فهم القرآن، ص: 396

الثالث: في التكييف الثالث يقدّم الغزالي نظرية التجلّي في إثبات البطون و تفسيرها، هذه النظرية التي ستشهد بعد قرن من الزمان تأسيسا منظوميا مدهشا عند ابن عربي المولود سنة (560 ه)، أي بعد وفاة الغزالي بنصف قرن.

الحقيقة نحن الآن نذكر نظرية التجلّي و الذهن مزدحم بصياغات منظومية تتّسم بكثير من الإبداع و القدرة على الاقناع أو على جذب الآخرين لمركزها في أقل تقدير، كنتيجة لحركة الفكر من حولها و مشاركة عدد كبير من القدماء و المعاصرين في إثرائها و تعميق مرتكزاتها، حيث يأتي الشيخ الأكبر في طليعتهم، ثمّ تأخذ مساهمات الآخرين موقعها تبعا له بما في ذلك مساهمة صدر الدين الشيرازي، و السيد محمّد حسين الطباطبائي و الإمام الخميني و الشيخ جوادي آملي من المعاصرين.

لكن المفروض أن لا نخلط بين مستوى النظرية كما نعيها الآن و كما وصلتنا بعد التشييد الفكري الذي شهدته و المسار العظيم الذي قطعته على مرّ التأريخ الفكري، و بين صورتها عند الغزالي. فهي عند الغزالي بذور قابلة للإيناع، تفيد أنّ اللّه

جلّ و علا تجلّى في القرآن، و المفروض أنّ هناك ملازمة بين المتجلّي (اللّه) و المتجلّى به (القرآن) في العمق ممّا يؤدّي إلى أن يكون المتجلّى به مماثلا للمتجلّي في عمقه. و هذا هو سرّ البطون و انطواء القرآن على معان لا تنفد مع الزمان، لأنّه صورة لتجلّ مطلق لا نهائي.

ربما يسعفنا فكر الغزالي على التقدّم خطوة أكثر في هذه النظرية، و نحن نسجّل أنّ اللّه عزّ و جلّ يتجلّى في القرآن بأسمائه و صفاته، و أنّ القرآن هو مظهر لأسماء اللّه و صفاته و خاصّة الاسم الأعظم، و هذا ما يفسّر عمقه و بطونه. يبقى أن نسجّل بأنّ الغزالي استدل على نظرية التجلّي بحديث للإمام جعفر الصادق يقول

فهم القرآن، ص: 397

فيه عليه السّلام: «و اللّه لقد تجلّى اللّه عزّ و جلّ لخلقه في كلامه و لكنّهم لا يبصرون» «1».

أخيرا ينبغي أن لا يساورنا شكّ في أنّ بذور فكر الغزالي في هذه المسألة و غيرها أطّلت برأسها عند ابن عربي، لكن مع فارق أنّ الأخير أعاد هضمها داخل منظومته، و أنّه يتميّز على من سبقه بقوّة هضمه و ضخامة جهازه العقلي و قدراته على التأطير و المنهجة و صبّ الأفكار في منظومات. نثبّت هذه الملاحظة من دون أن نستثني الفكرة المركزية في منظومة ابن عربي المتمثّلة ب «وحدة الوجود» التي يقترب منها الغزالي بقوله: «بل ليس في الوجود إلى اللّه و أفعاله، و كلّ ما سواه فعله» «2»، التي نقرأها بعد مائة عام عند ابن عربي نصا: «و قد ثبت عند المحقّقين أنّه ما في الوجود إلّا اللّه» «3».

2- الزركشي- السيوطي

أهمّية هذا الثنائي في كتابيه المشهورين «البرهان» و «الإتقان» أنّه يقدّم خلاصة استعراضية لما بلغه

الفكر القرآني من تطوّر إزاء المسألة التي يبحثها. و هذا ما فعله بشأن مقولة البطون أسوة ببقية ما عرض إليه من مباحث و مقولات.

في أوّل إشارة للزركشي إلى الظاهر و الباطن ينقل لنا كلام القاضي أبي بكر

______________________________

(1)- إحياء علوم الدين 1: 287.

(2)- لم أكن أستسيغ هذه الفكرة عند ما كان يومئ إليها نصر حامد أبو زيد في عدد من كتاباته خاصة «مفهوم النص» (صفحة: 253 و الأهم منه هامش صفحة: 260)، بيد أنّ الأمر اختلف بعد أن تكاثفت بين يدي قرائن قطعية عليها لمستها من خلال بحث مباشر في «فتوحات» ابن عربي و كتابات الشيرازي.

(3)- الفتوحات المكّية 1: 279.

فهم القرآن، ص: 398

بن العربي (468- 543 ه) عن كتابه «قانون التأويل» من أنّ علوم القرآن هي بعدد كلم القرآن مضروبة في أربعة، لأنّ لكلّ كلمة بالمطلق ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع، ممّا يؤدّي أن تكون أعماقه و بطونه و معانيه و فهومه ما لا يحصاه أحد «و لا يعلمه إلّا اللّه» «1». ثمّ ينعطف بعدئذ لمقاربات اخر مؤدّاها أنّ القرآن يضمّ أمّهات العلوم على اختلاف بين المصنفين في ذكرها، و ما دام كذلك: «فإنّ القرآن لا يستدرك، و لا تحصى غرائبه و عجائبه؛ قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ «2»» «3».

في موضع آخر يتوفّر على نقل كلام الغزالي في الموضوع عن كتابيه «جواهر القرآن»، ثمّ الفصل المخصّص للقرآن في المجلد الأوّل من «إحياء علوم الدين» ليخلص في تفسير البطون تبعا له و وفاقا للتكييفات التي مرّت، و منها أنّ القرآن كلام اللّه، و كلامه صفته، و حيث لا نهاية لصفته و لا أمد لها لأنّها مطلقة، فلا حدّ لكلامه،

و بالنتيجة يستبطن هذا الكلام بطونا و فهوما متعدّدة: «لو أعطي العبد بكلّ حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه اللّه في آية من كتابه، لأنّه كلام اللّه، و كلامه صفته، و كما أنّه ليس للّه نهاية فكذلك لا نهاية لفهم كلامه». و على الغرار ذاته ما يفعله في تفسير البطون على أساس أفعال اللّه و صفاته، من حيث أنّ القرآن شرح للذات و الصفات و الأفعال، و العلوم كلّها داخلة في أفعال اللّه و صفاته، فهو إذن ينطوي على أعماق و أغوار و بطون لا تنتهي «4».

______________________________

(1)- البرهان في علوم القرآن 1: 38.

(2)- الأنعام (6): 59.

(3)- البرهان في علوم القرآن 1: 42.

(4)- نفس المصدر: 536- 537.

فهم القرآن، ص: 399

في المجلد الثاني، تحديدا في النوع المخصّص لتفسير القرآن و تأويله، يرجع الزركشي إلى الغزالي مجدّدا و يخصّص له فصلا يلخّص به لباب أقواله في البطون و ما ينطوي عليه القرآن من فهوم إشارات و لطائف و حقائق، ثمّ و الأهمّ من ذلك طبيعة العلاقة بين الظاهر و الباطن «1».

هكذا نخلص من هذه الإلماعة السريعة إلى هيمنة مشرب الغزالي و منحاه على معالجة الزركشي لمقولة الظهر و البطن؛ فما ذا عن السيوطي؟

في موضع من أحد موضعين أساسيين تناول فيهما المسألة تابع السيوطي الزركشي في نقل أقوال القاضي ابن عربي و ابن جرير و غيرهما «2»، و مع إضافات اخرى من قبيل ما نقله عن الراغب، في قوله: «و جعل من معجزة هذا الكتاب أنّه مع قلة الحجم متضمّن للمعنى الجمّ، بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه، و الآلات الدنيوية عن استيفائه كما نبّه عليه بقوله: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ

شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «3»» «4».

و ما عن أبي نعيم و غيره، قال: قيل لموسى عليه السّلام: «يا موسى إنّما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن، كلّما مخّضته أخرجت زبدته» «5». فهذين النصّين- و غيرهما ممّا ذكر- يثبتان أنّ للقرآن أعماقا و أغوارا و بطونا من دون تحليل الظاهرة إلّا بحملها على معجزة النص القرآني كما عند الراغب، أو بأنّ ذلك

______________________________

(1)- نفس المصدر 2: 170 فما بعد.

(2)- الإتقان في علوم القرآن 4: 37- 48.

(3)- لقمان (31): 27.

(4)- الإتقان في علوم القرآن 4: 36- 37.

(5)- نفس المصدر: 37.

فهم القرآن، ص: 400

خصلة في بنيته و تكوينه كما في التشبيه الموسوي.

بيد أنّه في الموضع الآخر عمد في البدء إلى نقل الأحاديث التي تنصّ على أنّ لكلّ آية ظهرا و بطنا، ثمّ تناول الوجوه في معناه، و أبرزها ما يلي:

1- إنّك إذا بحثت عن باطنها (الآية) و قسته على ظاهرها، وقفت على معناها.

2- ما من آية إلّا عمل بها قوم، و لها قوم سيعملون بها. و الأوّل الظاهر و الثاني الباطن.

3- إنّ ظاهرها لفظها، و باطنها تأويلها.

4- ما نقله محكيّا عن ابن النقيب من أنّ ظهر الآية ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر، و بطنها ما تضمّنته من الأسرار التي أطلع اللّه عليها أرباب الحقائق.

5- إنّ ما قصّه اللّه من قصص الأمم الماضية و ما عاقبهم به، ظاهره الإخبار بهلاك الأولين و باطنه وعظ الآخرين.

6- الظاهر هو التلاوة، و الباطن الفهم.

7- ما نقله عن تاج الدين بن عطاء اللّه (ت: 709 ه) من أنّ الظاهر هو مراد الآيات بموضوعاتها و دلّت عليه في عرف اللسان،

و ثمّ وراء ذلك أفهام باطنة تفهم من الآية.

8- يلخّص ما ذكره الغزالي في «الإحياء» من رؤى و أفكاره و نقول و نظرات عن المقولة، و طبيعة العلاقة بين الظاهر و الباطن «1».

يبقى أن نشير إلى أنّ الذي قاد السيوطي لفتح ملف الظاهر و الباطن في هذا

______________________________

(1)- نفس المصدر: 225- 227، و ما نقله عن الغزالي ملخصا جاء في الصفحة 390.

فهم القرآن، ص: 401

الموضع هو تقويمه لتفسير الصوفية و الباطنية و ما أثاره من جدل في الفكر القرآني، خاصّة مع احتجاجهم بأحاديث البطون و استنادهم إليها في تبرير أقاويلهم في معاني القرآن، ممّا سنأتي عليه في المحور اللاحق.

أغلب الأقوال التي ذكرها السيوطي تحمل البطون على مقولة المفاهيم، و ترجع تفسيرها إلى بنية النص القرآني و تركيبته الخاصّة و ما ينطوي عليه من دلالات، مع إيماءات ترجعها إلى مصدر ما ورائي و إلى حقيقة أو سر وراء التكوين الحروفي و اللفظي، كما هو الحال في قولي ابن النقيب (الرابع) و ابن عطاء (السابع) مضافا إلى الغزالي.

3- المدرسة الوجودية
اشارة

لعرض رؤية الإمام الخميني للظاهر و الباطن و موقعها في الفكر القرآني، لا مناص من استعادة التصوّر الكوني للمدرسة العرفانية الوجودية و تبيّن موقع القرآن من هذا التصوّر، بحكم انتمائها إليه، من خلال استعراض عدد من المحطّات البارزة على هذا الخطّ.

أ- ابن عربي

في الرؤية الوجودية كلّ شي ء في العالم حيّ «1»، يسبّح بحمد ربّه «2» لأنّه

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 4: 85.

(2)- نفس المصدر 2: 228 و 345.

فهم القرآن، ص: 402

تجليّات للأسماء الحسنى «1»، و هذه الأسماء هي المؤثّرة في العالم «2»، و هي سبب وجوده، و العالم مجال فسيح لظهور سلطانها «3».

تواجهنا في هذه الرؤية ثلاثة وجودات محورية هي الإنسان و القرآن و العالم، بينها علاقات وشيجة و تماثل يصل حدّ التطابق. فالإنسان عالم صغير توجد فيه حقائق العالم بأكملها هي فيه على حال الاجتماع فيما هي في الخارج متفرّقة، و العالم بدوره إنسان كبير، و من ثمّ فإنّ حكمهما واحد: «فإنّ العالم إنسان كبير كامل، فحكمه حكم الإنسان» «4».

و القرآن رديف ثالث للإنسان و العالم لا يشذّ عنهما في الحكم، فكلّ الأحكام العامة التي تنطبق عليهما تنطبق عليه. فالإنسان جامع لحقائق الكون من جهة و حقائق القرآن من جهة اخرى، و القرآن يختزل بين دفتيه مراتب الإنسان و حقيقة وجوده، كما يعدّ تعبيرا موازيا عن الوجود.

لا غرابة في هذه الرؤية و هي تذهب إلى أنّ العالم كلّه (عالم الممكنات) هو كلمات اللّه «5»، ف «الموجودات كلها كلمات اللّه» «6». و تجليّات لأسمائه و صفاته، و الإنسان (الإنسان الكامل نموذجه و ذروته) هو الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود، و القرآن هو كلمات اللّه المرقومة التي توازي الوجود و ترمز إليه «7».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 83.

(2)-

نفس المصدر: 124.

(3)- نفس المصدر: 229.

(4)- نفس المصدر 4: 141.

(5)- نفس المصدر: 65.

(6)- نفس المصدر: 409.

(7)- نفس المصدر 3: 108.

فهم القرآن، ص: 403

انطلاقا من الموازاة بين القرآن و الوجود و الإنسان يصبح القرآن هو الدال اللغوي و التعبير اللفظي و الرقمي عن الوجود بكلّ مراتبه و مستوياته «1»، فهو مواز للوجود و للإنسان في آن، و من ثمّ تشترك هذه الوجودات الثلاثة بأحكام عامّة موحّدة تنتظمها جميعا، أبرزها أنّ لكلّ واحد منها ظهرا و بطنا و حدّا و مطّلعا.

في التصوّر الكوني الوجودي لا وجود لظاهر ليس له باطن «2»، فللإنسان ظاهر و باطن هما الجسد و الروح، و للعالم ظاهر و باطن هما الشهادة و الغيب، و كذلك القرآن. ليس هذا و حسب بل لكلّ منهما حدّ و مطّلع أيضا ليستقرّ الجميع على حدود رباعية: الظاهر و الباطن و الحدّ و المطّلع، يكون فيها الظاهر هو عالم الملك و الشهادة، و الباطن هو الغيب و الملكوت، و الحدّ هو عالم البرزخ و الجبروت، و المطّلع هو عالم الأسماء الإلهية: «ما من شي ء إلّا و له ظاهر و باطن و حدّ و مطّلع، فالظاهر منه ما أعطتك صورته، و الباطن ما أعطاك ما يمسك عليه الصورة، و الحدّ ما يميّزه عن غيره، و المطّلع منه ما يعطيك الوصول إليه إذا كنت تكشف به، و كلّ ما لا تكشف به فما وصلت إلى مطّلعة ... لا فرق بين هذه الامور الأربعة لكلّ شي ء و بين الأربعة الأسماء الإلهية الجامعة، الاسم الظاهر و هو ما أعطاه الدليل، و الباطن و هو ما أعطاه الشرع من العلم باللّه، و الأوّل بالوجود و الآخر بالعلم» «3».

إذا للإنسان و القرآن

و العالم؛ لكلّ واحد منها ظهر و بطن و حدّ و مطّلع. و حيث يعنينا في بحثنا هذا أمر القرآن، فإنّ هذه الرؤية تسجّل أنّ لكلّ آية وجهين الأوّل الظاهر الذي يعلمه أهل اللسان الذي نزل القرآن بلسانهم، و الثاني الحقيقة الكائنة

______________________________

(1)- راجع: فلسفة التأويل: 260 و مواضع اخرى كثيرة.

(2)- الفتوحات المكّية 1: 151.

(3)- نفس المصدر 4: 411.

فهم القرآن، ص: 404

وراء اللفظ التي تدركها الخاصة بعين الفهم، و هي الباطن، و أهل اللّه و خاصته يجمعون بين «الوجهين، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ «1» يعني الآيات المنزلة في الآفاق و في أنفسهم. فكلّ آية منزلة لها وجهان وجه يرونه [أهل اللّه] في نفوسهم، و وجه آخر يرونه فيما خرج عنهم» «2».

الظاهر في هذه الرؤية هو الصورة الحسية؛ أي عالم الشهادة و الملك بالنسبة إلى العالم، و الجسد بالنسبة إلى الإنسان، و الألفاظ و التركيب الحروفي بالنسبة إلى القرآن، و المطلوب عدم المكوث في هذه الصورة الحسية، بل مجاوزتها إلى الروح المعنوي الذي يمسك بها. و فيما يتعلّق بالقرآن المطلوب هو تجاوز الظاهر و تخطّيه إلى الباطن، لكن لا بمعنى الإلغاء و إنّما بمعنى عدم الاكتفاء، إذ لا طريق إلى الباطن إلّا عبر الظاهر بإجماع المدرسة أو الرموز التي نتحدّث عنها على أقل تقدير «3»: «إنّ اللّه قد ربط بكلّ صورة حسية روحا معنويا بتوجّه إلهي عن حكم اسم ربّاني، لهذا اعتبرنا خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قدما بقدم، لأنّ الظاهر منه هو صورته الحسية، و الروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسمّيه الاعتبار في الباطن من عبرت الوادي إذا جزته، و هو

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ «4»، و قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «5» أي جوزوا

______________________________

(1)- فصّلت (41): 53.

(2)- الفتوحات المكّية 1: 279.

(3)- سيأتي إشباع الحديث في هذه المسألة عند الحديث عن العلاقة بين الظاهر و الباطن في النقطة الثالثة من هذا الفصل.

(4)- آل عمران (3): 13.

(5)- الحشر (59): 2.

فهم القرآن، ص: 405

ممّا رأيتموه من الصور بأبصاركم إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني و الأرواح في بواطنكم، فتدركونها ببصائركم. و أمر و حثّ على الاعتبار. و هذا باب أغفله العلماء و لا سيّما أهل الجمود على الظاهر، فليس عندهم من الاعتبار إلّا التعجّب فلا فرق بين عقولهم و عقول الصبيان الصغار، فهؤلاء ما عبروا قطّ من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم اللّه» «1».

خلاصة الرؤية، إنّ دلالات القرآن و إن خضعت في ظاهرها إلى العرف و موازين اللسان الذي نزلت به، لكنّها في باطنها تدلّ على حقائق وجوديّة، و من ثمّ فإنّ البطون في هذه المدرسة هي من سنخ الحقائق و الأعيان، و ليس من نوع الألفاظ و المقولات الذهنية، و الطريق إليها يكون بأداة تأتي ما بعد العقل، بعد أن يستنفد العقل طاقاته أو يكاد في منطقة الظاهر و عالم المقولات الذهنية.

لنر الآن كيف تطوّرت هذه الرؤية عند اللاحقين من رموز هذه المدرسة و أتباعها؟ الحقيقة لم نشهد تطوّرا معرفيا على يد اللاحقين، بقدر ما أنّهم قدّموا لها شروحا و توضيحات و حسب بما في ذلك الإمام الخميني، على ما نتبيّن ذلك من خلال المحطّات الاخرى التي سنقف عندها.

ب- الشيرازي

يتابع الشيرازي (ت: 1050 ه) ابن عربي (ت: 638 ه) في الرؤية الكونية و الوجودية العامّة. فللحقائق أمثالا في العوالم «بل بناء

كلّ عالم على وجود

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 1: 551.

فهم القرآن، ص: 406

المظاهر و الأمثلة» «1» للعالم الأعلى منه، و ما خلق اللّه شيئا في عالم الصورة إلّا و له نظير في عالم المعنى، إذ العوالم متطابقة؛ الأدنى مثال الأعلى، و الأعلى حقيقة الأدنى، و هكذا إلى حقيقة الحقائق «2»، و من ثمّ فإنّ كلّ معنى من المعاني الموجودة في عالم الشهادة يكون «ظلا دالا على ما في غيب عالم الأسماء»، و هكذا تندرج العوالم في إطار هذا النسق المتراكب.

ثمّ إنّ العوالم كلها «كتب إلهية و صحائف رحمانية» دالّة على اللّه، و تجليّات لأسمائه و صفاته و مظاهر لها، تكتسب في الإنسان هيئة و في القرآن اخرى و في العالم ثالثة و هكذا «3».

من خصائص هذه العوالم أنّها متداخلة بعضها مع بعض على نحو الإحاطة، بحيث يحيط الأعلى الأدنى و هكذا: «و اعلم أنّ العوالم و النشآت الوجودية بمنزلة طبقات بعضها محيطة ببعض» «4».

ثنائية الظاهر و الباطن شاملة عامة تتّسع للممكنات جميعا و تعمّ العالم كافّة، و هي بمنزلة القانون، إذ يعقّب الشيرازي على قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «5»، و قوله: وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «6» و قوله: عالِمُ الْغَيْبِ

______________________________

(1)- تفسير القرآن الكريم 4: 415.

(2)- نفس المصدر: 166.

(3)- نفس المصدر: 396.

(4)- نفس المصدر: 424.

(5)- البقرة (2): 3.

(6)- هود (11): 123.

فهم القرآن، ص: 407

وَ الشَّهادَةِ «1» بقوله: «فاللّه تعالى أوجد الملك و الشهادة لقضية اسمه (الظاهر)، و أوجد الملكوت و الغيب لقضية اسمه (الباطن)» «2»، كما قوله أيضا: «إنّ موجودات العالم الطبيعي و النشأة الدنيوية مثنوية» «3».

حين تتحوّل هذه الثنائية إلى قانون فلن توفّر ظاهرة و لا يشذّ عنها وجود إمكاني في عالم

الإمكان، و من ثمّ فهي تشمل الإنسان و القرآن و العالم، بوصفها مظاهر لأسماء اللّه و صفاته. فحقيقة الإنسان مثلا: «لها ظهر جلي، و باطن خفي، و لها صورة مشهورة و حقيقة مستورة، فهو منقسم إلى ظاهر متغيّر و باطن ثابت» «4».

ما دام «الإنسان حقيقة واحدة و له مراتب كثيرة ... فكذلك القرآن حقيقة واحدة و له مراتب كثيرة» «5»، و ذلك بمقتضى قانون التوازي الوجودي بين الاثنين.

ليس هذا و حسب، بل: «إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطّلعا، كما أنّ للإنسان ظاهرا و باطنا، و لباطنه باطن آخر إلى سبعة أبطن» «6».

يمعن الشيرازي في إبراز التشابه الوجودي بين ثلاثية الإنسان و القرآن و العالم و يحشد له الأدلّة في مواضع مختلفة من تفسيره، حتّى تغدو مقولة الظهر و البطن في القرآن بديهية لا تحتاج إلى كلام، ليؤسّس على ضوء ذلك: «إنّ للقرآن

______________________________

(1)- الأنعام (6): 73.

(2)- تفسير القرآن الكريم 7: 123.

(3)- نفس المصدر: 244.

(4)- نفس المصدر.

(5)- نفس المصدر 6: 22.

(6)- نفس المصدر: 23.

فهم القرآن، ص: 408

منازل و مراتب كما للإنسان درجات و معارج» «1»، كما أيضا: «للقرآن درجات- كما مرّ- و كذلك للإنسان بحسبها» «2»، و «إنّ الإنسان و مراتبه مثال مطابق للإيمان و مراتبه، و كذا حكم القرآن» «3».

لا يقتصر هذا التوازي الوجودي على القرآن و الإنسان دون العالم: «كما أنّ العالم بتمامه منقسم إلى غيب و شهادة، كذلك الإنسان الذي هو على صورة العالم، عالم صغير مشتمل على غيب و شهادة» «4».

الحصيلة الطبيعية- بل البديهية- لهذه الجولة أنّ للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطون، و البطون من سنخ الحقائق و العينيّات و ليست من مقولة المفاهيم و الذهنيات.

يكتب موضّحا:

«إنّ القرآن كالإنسان المنقسم إلى سرّ و علن، و لكلّ منها ظهر و بطن، و لبطنه بطن إلى أن يعلمه اللّه، و لعلانيته علانية اخرى إلى أن يدركه الحواس و أهلها» «5».

ثمّ يطبق ذلك كما يلي:

1- أمّا ظاهر علن القرآن، فهو المصحف المحسوس الملموس و الرقم المنقوش الممسوس.

2- و باطن علنه، هو ما يدركه الحسّ الباطن و يستثبته القرّاء و الحفّاظ في خزانة محفوظاتهم.

______________________________

(1)- نفس المصدر 7: 108.

(2)- نفس المصدر: 109.

(3)- نفس المصدر: 110.

(4)- نفس المصدر 6: 55.

(5)- نفس المصدر 7: 107.

فهم القرآن، ص: 409

هاتان المرتبتان من القرآن «أوليتان دنيويتان ممّا يدركه كلّ إنسان». و أمّا باطنه و سرّه فهما: «مرتبتان أخرويتان لكلّ منهما درجات» حيث يصير إلى تعداد بعضها، و ذكر تقسيمات لبطون القرآن هي تعبير عن حقائق وجودية «1».

للقرآن إذا معان و إطار حروفي كتبي يتمّ الانطلاق منه في الرحلة صوب تلك المعاني، و من لم يفهم المعاني و تلهّى بالأطر و القوالب و المقدّمات فلا نصيب له من القرآن إلّا هذه: «فإن لم تفهم معاني القرآن كذلك، فليس لك نصيب من القرآن إلّا قشوره» «2»، ذلك لأنّ ما يفهمه أهل الظاهر من «أوائل المفهومات هي قوالب الحقائق التي هي مراد اللّه و مراد رسوله» «3». فهناك حقائق مصبوبة في اطر و قوالب لفظية و كتبية هي ظاهر الكتاب، و الحقائق باطنه و غوره، و هذه الأخيرة يصيبها كلّ إنسان بحسب استعداده: «و أمّا التحقيق فهو ممّا يستمدّ و يستنبط من بحر عظيم من علوم المكاشفات لا يغني عنه ظاهر التفسير، بل لعلّ الإنسان لو أنفق عمره في استكشاف أسرار هذا المعنى و ما يرتبط بمقدّماته و لواحقه لكان قليلا، بل لانقطع

عمره قبل استيفاء جميع لواحقه، و ما من كلمة من القرآن إلّا و تحقيقها يحوج إلى مثل ذلك.

و إنّما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره و أغواره بقدر غزارة علومهم و صفاء قلوبهم، و توفّر دواعيهم على التدبّر و تجرّدهم للطلب، و يكون لكلّ عالم منهم حظّ نقص أو كمل، و لكلّ مجتهد ذوق كثر أو قلّ، فلهم درجات في الترقّي

______________________________

(1)- نفس المصدر: 107 فما بعد.

(2)- نفس المصدر 4: 170.

(3)- نفس المصدر: 161.

فهم القرآن، ص: 410

إلى أطواره و أغواره» «1». و قد عرفنا من مذاق هذه المدرسة و نصوصها أنّ الظاهر يقتنص بالاجتهاد العقلي و النشاط الذهني، في حين أنّ الباطن يلامس بالقلب و الذوق و التزكية و الارتقاء النفسي، و لا دور للعلوم و للنظر العقلي إلّا كمعدّ و حسب، أو كأداة للتعبير عن تلك المشاهدات في قنوات الفكر و البرهنة عليها، لكي يكون فيها للآخرين حجّة: «و أمّا روح القرآن و لبّه و سرّه فلا يدركه إلّا أولو الألباب، و لا ينالونه بالعلوم المكتسبة من التعلّم و التفكّر، بل بالعلوم اللدنية» «2».

عرفنا أيضا من الفصول السابقة كما من مقدّمات هذا الفصل أنّ المدرسة الوجودية تذهب إلى أنّ ما في عالم الإمكان تجليّات لأسماء اللّه و صفاته، و أنّ أعظم التجلّيات و أتمّها ما يندرج تحت الاسم الأعظم و يكون مظهرا له، كما هو الحال في القرآن و الإنسان الكامل. و هذا هو الأساس الذي تفسّر على ضوئه بطون القرآن، و تدرج هذه البطون في الحقائق لا في المقولات الذهنية و المفاهيم و النظريات.

لكن ثمّ في نصوص الشيرازي أساس آخر لإثبات البطون و تفسيرها ينطلق من مقولة الكلام، و أنّ القرآن كلام

اللّه، و كلام اللّه لمعة من ذاته، و كما وقع الاختلاف في الذات و توزّعت فيها الآراء إلى مذاهب، فكذلك حال كلامه الذي يمثّله القرآن:

«و هكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن و تفاوت مراتبهم في بطونه و ظهوره و لبابه و قشوره، لأنّ كلام اللّه لمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف و التفاوت في مذاهب الخلق و اعتقاداتهم للّه بين مجسم و منزّه و متفلسف و معطّل و مشرك

______________________________

(1)- نفس المصدر: 161- 162، و هو تلخيص لكلام الغزالي بعباراته. (راجع: إحياء علوم الدين 1: 293)

(2)- مفاتيح الغيب: 41.

فهم القرآن، ص: 411

و موحد، فكذا وقع الاختلاف و التفاوت في الفهوم» «1». و من الواضح أنّ هذا تفسير معرفي لمقولة البطون، و إن كان يرجع إلى أساس وجودي هو الذات.

لكن الأساس في النظرية الوجودية لمنشإ البطون هو الذي ذكرناه متمثّلا بالتوازي الوجودي بين القرآن و الإنسان و العالم، و أنّ القرآن هو تعبير لفظي عن الإنسان و العالم، و لمّا كان للوجود و الإنسان مراتب متعدّدة و درجات مختلفة فإنّ له على صعيد المعنى مراتب و مستويات متعدّدة، لأنّ الوجودات الثلاثة هي تجليات و مظاهر لاسم اللّه الأعظم و ما يندرج تحته من الأسماء و الصفات.

على هذا سيرجع ما ذكره صدر الدين الشيرازي في مقولة الكلام الإلهي إلى الأساس الوجودي ذاته، ضمن قراءة ملخّصها أنّ الكلام الإلهي هو في بدء صدوره كان طليقا من التعيّنات، خلوا في ظهوره الأوّل من كلّ القيود لتناسبه مع ذات المتكلّم البسيطة المطلقة، ممّا يعني أن ليس في الموجودات ما يطيق الكلام الإلهي بتلك الصفة الإطلاقية. لذلك راح يتنزّل عن مرحلة الإطلاق و يحجب بحجب متعدّدة حتّى صار بكسوة الحروف

و الألفاظ رحمة من اللّه بالعباد، و إلّا لمّا ثبت لسماع كلامه سبحانه عرش و لا فرش، و لتلاشى ما بينهما من سبحات نوره و عظمة برهانه «2».

فالقرآن اللفظي الكتبي الذي بين أيدينا هو المرحلة النازلة للكلام الإلهي، و التنزّل الأخير له من مرحلة الإطلاق إلى مرحلة التقيّد بالتعيّنات اللفظية و الكتبية.

و ما دامت ماهية الكلام من مرحلة الذروة و الإطلاق حتّى مرحلة التقيّد باللفظ

______________________________

(1)- تفسير القرآن الكريم 1: 30.

(2)- هذا المعنى وارد بحذافيره عند الغزالي (إحياء علوم الدين 1: 280)، و الشيرازي (مفاتيح الغيب: 58 و مواضع كثيرة اخرى) و الإمام الخميني (شرح دعاء السحر: 93 و مواضع كثيرة اخرى)

فهم القرآن، ص: 412

و التعيين بالحروف واحدة، فستكون جميع مراحل النزول أو التنزّل مطويّة فيه، و بالنتيجة يستبطن القرآن جميع مراتب نزول الكلام و مراحله، التي هي الموجودات المختلفة نفسها، لتكون المصاديق الطبيعية المحسوسة ظاهره، و مصاديقه الروحانية بطونه: «اعلم أنّ القرآن كلام الحقّ الأوّل تعالى، و قد ظهر أوّل ما ظهر مطلقا عن جميع التعيّنات الإمكانية ... و لمّا كان القرآن بإطلاقه و كلام اللّه في أوّل ظهور لا يقوم لسماعه السماوات و السماويّات و لا الأرض و الأرضيّات، أنزله تعالى عن مقام إطلاقه و حجبه بحجب التعيّنات العقلية بمراتبها، فصار العقول بفعليتها و وجوداتها مصاديق القرآن.

ثمّ أنزله و حجبه بحجب التعيّنات المقدارية النورية فصار عالم المثال بمراتبها مصاديق له. ثمّ نزّله و حجبه بحجب التعيّنات الطبيعية فصارت الأجسام الطبيعية مصاديق له. ثمّ نزّله إلى أنزل مراتب الوجود و ألبسه لباس الصوت و الحروف و الكتابة و النقوش حتّى يطيقه الآذان و الأبصار البشرية، فصارت الحروف و النقوش مصاديق له.

و لكون جميع مراتب

الوجود مصاديق للقرآن صار تبيانا لكلّ شي ء، و لا رطب و لا يابس إلّا كان فيه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مصاديقه المحسوسة الطبيعية ظهوره، و مصاديقه الروحانية بطونه» «1».

أمّا عن تفسير البطون و تعدّد المراتب على أساس التجلّي و الملازمة بين

______________________________

(1)- بيان السعادة في مقامات العبادة 1: 13، و هذا التفسير هو ممّا أشاد به الإمام الخميني و أثنى عليه في مفتتح دروسه التفسيرية لسورة الفاتحة عام 1979. (راجع: تفسير سورة حمد: 94)

فهم القرآن، ص: 413

المتجلّي و المتجلّى به، فبودّنا أن لا نختم هذه الفقرة من دون أن نعرج على ما ذكره بهذا الشأن مفسّر معاصر ربما عدّ ألمع تلاميذ الطباطبائي، على الأقل في مجال التفسير: القرآن الكريم موضع تجلّي اللّه سبحانه: «فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه» «1».

و ما دام اللّه قد تجلّى في هذا الكتاب، و ما دام في عين كونه عليا: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «2» فهو قريب: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «3»، وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ «4»؛ فكذلك سيكون موضع تجلّيه، أي القرآن الكريم. فهو قريب في عين كونه بعيدا، و في عين كونه عاليا فهو دان ... المتجلّي و التجلّي ليسا متساويان البتة، فالقرآن في قربه و ظهوره ينظر و يسمع بالحواس، لكن الذات الإلهية المقدسة لا تدرك بالحواس رغم قربها».

ثمّ يضيف موضّحا: «القرآن الكريم حبل اللّه الممدود، له مراتب كثيرة.

فكذلك للناس مراتب متنوّعة في الإفادة من القرآن تبعا للمراتب المختلفة في طهارة القلب ... فمن يرتبط بالقرآن على مستوى مراتبه النازلة (المشار لها ب «هذا القرآن») فحظّه العلوم الحصولية و المدرسية التي تكون عرضة للنسيان و الزوال. أمّا الكاملون

الذين يرتبطون بالمراحل العالية من القرآن (المشار إليها ب «ذلك الكتاب»)، فهم يتعلّمون القرآن من «عند اللّه» و «لدى اللّه»، و من ثمّ فإنّ حظّهم العلمي منه قد وسم ب «العلم اللدني»: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ

______________________________

(1)- نهج البلاغة، الخطبة 147.

(2)- الأعلى (87): 1.

(3)- الحديد (57): 4.

(4)- البقرة (2): 186.

فهم القرآن، ص: 414

عَلِيمٍ «1» ... لقد جعل اللّه سبحانه طهارة القلب شرط بلوغ مراحل القرآن العالية:

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2». فإذا كان مرجع ضمير لا يَمَسُّهُ الكتاب المكنون، فسيكون المراد بالمسّ، هو المسّ العقلي و القلبي، و المراد بالطهارة طهارة الباطن ... و الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام، لهم حضورهم في جميع مراحل القرآن، و ثمّ اتساق و انسجام بل توحّد بينهم و بين مراحل القرآن كافة» «3» كما في حديث الثقلين: «لن يفترقا»، و قول الإمام أمير المؤمنين: «و جعلنا مع القرآن و جعل القرآن معنا، لا نفارقه و لا يفارقنا» «4».

ج- الإمام الخميني

ينطلق الإمام الخميني من المرتكزات ذاتها التي تؤطّر الرؤية الكونية للمدرسة. فالوجود برمّته ينبض بالحياة و الحركة و الحيوية، و العالم المادّي كلّه في تسبيح، ليس بمعنى التسبيح التكويني و عودته إلى علّة محدّدة بل التسبيح الشعوري العلمي العبادي الذي لا نفقهه «5»: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «6»، و كلّ موجود من الموجودات هو مظهر لاسم اللّه و آية اللّه، و الجميع

______________________________

(1)- النمل (27): 6.

(2)- الواقعة (56): 77- 79.

(3)- تسنيم 2: 148- 150.

(4)- الكافي 1: 191/ 5.

(5)- شرح چهل حديث: 655، تفسير سورة حمد: 101- 102.

(6)- الإسراء

(17): 44.

فهم القرآن، ص: 415

تجليات لأسماء اللّه «1».

و عوالم الوجود برمّته هي كتب و آيات و كلمات و صحف إلهية، فالعالم كتاب أو قرآن تدويني متلوّ آفاقيا، و الإنسان قرآن متلوّ أنفسيا، و القرآن ما بين الدفتين تعبير لفظي عن الوجود و الإنسان و صورة كتبية للوجود التكويني ينطوي على القراءتين معا الآفاقية و الأنفسية، و يخضع لثنائية الظهر و البطن: «إنّ سلسلة الوجود من عنصرياتها و فلكياتها و أشباحها و أرواحها و غيبها و شهودها و نزولها و صعودها، كتب إلهية و صحف مكرّمة ربوبية و زبر نازلة من سماء الأحدية، و كلّ مرتبة من مراتبها و درجة من درجاتها من السلسلتين الطولية و العرضية آيات مقروّة على آذان قلوب الموقنين» «2».

في إطار هذه الرؤية كلّ ما في الوجود كتاب إلهي بمقدور الإنسان أن يقرأه، و يرقى عبر هذه القراءة وجوديا و يثرى معرفيا، حتّى الجماد و النبات: «فإنّ كلّ موجود حتّى الجماد و النبات كتاب إلهي يقرأ السالك إلى اللّه و المجاهد في سبيله منه، الأسماء و الصفات الإلهية بمقدار الوعاء الوجودي له» «3».

تملي هذه المنظومة توحّد الإنسان و القرآن و العالم في قوانين عامّة مشتركة تنبسط فيما بينها، فحيث يكون في العالم غيب و شهادة فكذلك في الإنسان، و حيث يكون في القرآن ظهر و بطن فكذلك الحال في الإنسان، و حيث يكون للقرآن منازل و درجات فكذلك الإنسان و هكذا، لأنّها وحدات وجودية متوازية، و هي بأجمعها كلمات اللّه و كتبه و مظاهر لأسماء اللّه برغم اختلاف صورة هذه الكلمات و هيئة هذه

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 272، تفسير سورة حمد: 100 و 103.

(2)- شرح دعاء السحر: 145، و على نحو

أوضح: 88، 132- 133.

(3)- نفس المصدر: 146.

فهم القرآن، ص: 416

التجليات و نقصانها و كمالها، حيث يعدّ الإنسان (و ذروته الإنسان الكامل) أعظم هذه التجلّيات و أكبرها و أتمّها، إذ هو تجلّ الاسم الأعظم و مظهر وجودي له: «فإنّ الإنسان مظهر اسم اللّه الأعظم الجامع لجميع المراتب و الأسماء و الصفات» «1».

و الإنسان إلى ذلك كون جامع له بحسب المراتب النزولية و الصعودية نشآت و ظهورات و عوالم «2»: «اعلم أنّ الإنسان هو الكون الجامع ... منطو فيه العوالم الغيبية و الشهادية و ما فيها ... فهو مع الملك ملك، و مع الملكوت ملكوت و مع الجبروت جبروت». هذا الإنسان كون جامع «لجميع الصور الكونية» «3».

إنّ أوّل ما تعنيه هذه المنظومة بالإنسان هو ذروته القصوى و سنامه الأعلى المتمثّل بالإنسان الكامل: «إنّ الإنسان الكامل ... أكرم آيات اللّه و أكبر حججه» «4» و «أكمل الأسماء هو الاسم الجامع لكلّ الكمالات، و مظهره الإنسان الكامل» «5».

و هو «أتمّ الكلمات الإلهية» «6» بل «هو الكتاب الإلهي الذي فيه كلّ الكتب الإلهية «7». و هو الكتاب الكلّي الإلهي» «8» إذ هو بالوجود التفريقي فرقان في إشارة إلى العالم و أنّه على صورته بل حاو على مراتبه و تنطبق عليه جميع قوانينه، و في

______________________________

(1)- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 71.

(2)- شرح دعاء السحر: 233.

(3)- نفس المصدر: 7.

(4)- نفس المصدر: 146- 147.

(5)- نفس المصدر: 66.

(6)- نفس المصدر: 53.

(7)- نفس المصدر.

(8)- نفس المصدر: 55.

فهم القرآن، ص: 417

الوجود الجمعي قرآن في إشارة إلى القرآن اللفظي الكتبي الموجود ما بين الدفتين «1»، و إنّه حاو على مراتبه و منازله تنطبق عليه جميع قوانينه بما في ذلك قانون الظهر و البطن، و

السرّ و العلن، و القشر و اللبّ، و الغيب و الشهادة، و الملك و الملكوت.

مثلما يكون الإنسان حاويا بوحدته لجميع مراتب الغيب و الشهادة، و ببساطة ذاته جامعا لكلّ الكتب الإلهية «2»، فكذلك القرآن الذي: «يختزل جميع الخليقة» «3» لأنّه هو الآخر مظهر اسم اللّه سبحانه و تجلّ له. هذا التوحّد بين الإنسان و القرآن، هو الذي دعا ابن عربي إلى أن ينظمه شعرا بالصيغة التالية التي نقلها عنه الإمام:

أنا القرآن و السبع المثاني و روح الروح لا روح الأواني «4» تأسيسا على هذه المقدّمات فإنّ الظهر و البطن هما تعبير عن قانون عام يضرب بشعابه في الكينونة الوجودية برمّتها دون أن يستثني أحدا، و البطون حقائق وجودية تومئ إلى مراتب اخرى للإنسان و القرآن و العالم، تأتي ماوراء الظهور و ما بعد القشر و الصورة. فلكلّ شي ء غيب و شهادة «غيبه ما يغيب عنّا و ما لا نستطيع إدراكه، و شهادته ما ندركه منه» «5». و ثنائية «الغيب و الشهادة سارية في كلّ

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- يستشهد الإمام الخميني بهذا البيت الشعري المأثور عن الإمام أمير المؤمنين:

أ تزعم أنّك جرم صغيرو فيك انطوى العالم الأكبر راجع: شرح دعاء السحر: 147 و مواضع كثيرة اخرى.

(3)- صحيفه امام 14: 386.

(4)- شرح دعاء السحر: 147.

(5)- تفسير سورة حمد: 166.

فهم القرآن، ص: 418

مكان» «1». و الظاهر و الباطن هما سنّة مطّردة في الجميع: «فقد يقال أحيانا (عالم الغيب)، (عالم ملائكة اللّه)، (عالم العقول) و ما شابه هذه التعبيرات، فهذه أيضا سرّ و لها ظاهر، و ظهور و بطون. و هذا هو الظاهر و الباطن. ففي ذلك الشي ء [أي شي ء كان] الذي ظهر ثمّ بطون أيضا، و في ذلك البطون

ثمّ ظهور أيضا» «2». و أيضا فكل «موجود من الموجودات له وجهة إلى عالم الغيب و النور، و وجهة إلى عالم الظلمة و القصور» «3»، و إنّ «لمراتب الموجودات من مطالع عوالم الأنوار المشرقة إلى غواسق صياصي الأقطار المظلمة، ظلا نورانيا و وجها حقانيا إلى عالم القدس و الطهارة، و ظلا ظلمانيا و وجها شيطانيا إلى معدن الخسّة و الكدورة» «4».

على ضوء ما مرّ و للتطابق بين الكتابين التدويني و التكويني فسيكون لكلّ منهما ظهر و بطن: «اعلم أنّه كما أنّ للكتاب التدويني الإلهي بطونا سبعة باعتبار و سبعين بطنا بوجه ... كذلك الكتب التكوينية الإلهية الأنفسية و الآفاقية حذوا بالحذو و نعلا بالنعل» «5».

و من ثمّ: «فإنّ للقرآن منازل و مراحل و ظواهر و بواطن أدناها ما يكون في قشور الألفاظ و قبور التعيّنات، كما ورد أنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطّلعا» «6».

أيضا: «للقرآن مراتب، له سبعة أبطن أو سبعون بطنا، و قد تنزّل من هذه البطون إلى

______________________________

(1)- نفس المصدر: 167.

(2)- نفس المصدر.

(3)- شرح دعاء السحر: 48.

(4)- التعليقة على الفوائد الرضوية: 66.

(5)- شرح دعاء السحر: 59.

(6)- نفس المصدر: 38.

فهم القرآن، ص: 419

أن بلغ الموضع الذي يريد أن يتحدّث به إلينا» «1». و ما دام الكتاب الإلهي ليس هذه الصورة الحروفية و القشرة اللفظية، لذلك لا معنى للعكوف على الظاهر و المكوث فيه و عدم تجاوزه: «و لا تتوهمنّ أنّ الكتاب السماوي و القرآن النازل الربّاني، لا يكون إلّا هذا القشر و الصورة، فإنّ الوقوف على الصورة و العكوف على عالم الظاهر و عدم التجاوز إلى اللبّ و الباطن اخترام و هلاك، و أصل اصول الجهالات و اسّ أساس إنكار النبوات

و الولايات» «2».

و بذلك صار أعظم ما يفاض على الإنسان السالك نحو اللّه، و أسمى ما يعطاه هو: «انشراح صدره لأرواح المعاني و بطونها، و سرّ الحقائق و مكنونها، و انفتاح قلبه لتجريدها عن قشور التعيّنات ... و الدخول في مدينة العلماء الراسخين، و السفر من طريق الحسّ إلى منازل الكتاب الإلهي، فإنّ للقرآن منازل و مراحل و ظواهر و بواطن أدناها ما يكون في قشور الألفاظ ... و هذا المنزل رزق المسجونين في ظلمات عالم الطبيعة، و لا يمسّ سائر مراتبه إلّا المطهّرون عن أرجاس عالم الطبيعة و حدثه ... المتوسّلون بأذيال أهل بيت العصمة و الطهارة ... المتمسّكون بالعروة الوثقى ... حتّى لا يكون تأويله أو تفسيره بالرأي و من قبل نفسه» «3».

تأسّيا ببقية رموز المدرسة ينتهي الإمام إلى أنّ للقرآن قراءتين آفاقية هي التي تنطلق من النص و تتفاعل مع مظاهر الوجود، و أنفسية و هي التي تنطلق من

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 136.

(2)- شرح دعاء السحر: 59- 60، و لنا أن نلاحظ التطابق شبه الكامل في هذه الفقرات مع نصوص صدر الدين الشيرازي، بل بعضها نقل لعباراته نفسها، ممّا يزودنا بأفق أوفر لوحدة المدرسة و وحدة الانتماء.

(3)- شرح دعاء السحر: 37- 38.

فهم القرآن، ص: 420

باطن الإنسان، و لا تتمّ إلّا بعد أن يخترق الإنسان حجب الغفلة و يكسر أواصر ارتباطه بعالم الطبيعة و يتجاوز ألفته بعالم المادة ليتعامل مع القرآن وجوديا، بحيث يتمّ التفاعل بين وجود و وجود: «انتبه يا أخ الحقيقة عن نوم الغفلة، و افتح عين قلبك و بصر فؤادك و اقرأ كتاب نفسك كفى بها شهيدا. قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ

أَنَّهُ الْحَقُ «1» ... و ما دام تكون في غشوة عالم الطبع و سكر خمر الهيولى، لا يمكنك شهود نفسك و نفسيتك، و قراءة كتاب ذاتك و زبور حقيقة وجودك، فاخرج عن هذه القرية الظالمة المظلمة و الدار الموحشة المستوحشة و النشأة الكدرة الضيّقة، و اقرأ و ارق» «2». في هذه التلاوة الأنفسية الوجودية، يتمّ التعامل بين وجود وجود، بل يصير باطن الإنسان تعبيرا عن حقيقة القرآن و وجوده، هذه الحقيقة التي تكشف عن نفسها و تفتح أسرارها بحسب استعداد الإنسان و طهارته الباطنية.

هذا الالتحام الوجودي بين الإنسان و القرآن، الذي يتمّ بعد تخطّي ظاهر النص و العبور إلى باطنه الوجودي، يسهل فهمه إذا استعدنا المقدّمات السابقة. فنحن مع القرآن بإزاء حقيقة لها مراتب و منازل، و التأثير الفعلي للحقيقة، و ما اللفظ إلّا قشر لها، أو هو في الأقصى التنزّل الأخير لها، و إلّا: «فالقرآن ليس من مقولة السمع و البصر، و لا من مقولة الألفاظ، كما ليس أيضا من مقولة الأعراض، لكن أنزلوه من أجلنا نحن الصمّ العمي، أنزلوه إلى المرتبة التي يستطيع بها هؤلاء الصمّ العمي أن يستفيدوا منه أيضا» «3». أجل، لقد تنزّل اللّه بالقرآن إلى أن بلغ مرحلة «الألفاظ

______________________________

(1)- فصلت (41): 53.

(2)- شرح دعاء السحر: 147.

(3)- تفسير سورة حمد: 139- 140.

فهم القرآن، ص: 421

المتوافقة مع فهم البشر» «1».

المتحصّل من هذه الجولة حتّى الآن، أنّ البطون مراتب وجودية، و من ثمّ فهي ليست من مقولة المفاهيم و الأفكار النظرية. و ما دامت البطون من مقولة الغيب داخلة في المستور الغائب عنّا، فلا مجال لإدراكها بالجدالات الكلامية و لا حتّى بالقياسات الفلسفية و البراهين العقلية:

ألا إنّ ثوبا خيط من نسج تسعةو

عشرين حرفا عن معاليه قاصر «2» أجل، لا يتمّ: «فهم هذه الحقائق بالبراهين المشائية و القياسات الفلسفية و المجادلات الكلامية» «3» و إنّ «الإيمان بهذه الحقائق لا يمكن بالتسويلات الكلامية و لا البراهين الفلسفية» «4».

لكن إذا كان النشاط الذهني و الفعالية العقلية قاصرين عن التعاطي مع بطون القرآن بواقعهما الوجودي الكامل، فإنّ ذلك لا يعني انسداد الطريق مطلقا، بقدر ما يملي على الإنسان الارتقاء من طور في المعرفة أداته العقل، إلى طور آخر أداته القلب، و الوسيلة إليه التزكية و فكّ أواصر الارتباط المادّي، و التوسل بأذيال أهل العصمة صلوات اللّه و سلامه عليهم.

الرحلة تبدأ من الظاهر و بالمعرفة العقلية التي توفّر إدراكا ناقصا و تتحوّل إلى معدّ و حسب، أمّا إذا رام الإنسان استكمال الشوط فذلك لا يكون إلّا: «بقدم

______________________________

(1)- صحيفه امام 17: 525.

(2)- يستشهد به الإمام في الصفحة 118 من «شرح دعاء السحر».

(3)- شرح دعاء السحر: 118.

(4)- نفس المصدر: 143.

فهم القرآن، ص: 422

الولاية، حيث يبلغ ذلك الوضع الذي يقع فيه تجلّي الحقّ في قلبه بجميع أبعاده» «1».

فاللّه سبحانه قد تجلّى لعباده في كلامه أي في القرآن، و لكن الإنسان لا يبصر «2».

إنّ القرآن لا يكشف عن أسراره إلّا بالطهارة، و لا يمسّ باطنه أحد إلّا:

«بشرط الطهارة اللازمة في مسّ الكتاب الإلهي» «3». و علم الباطن «يحتاج إلى لطف قريحة و صقالة قلب و صفاء باطن بالرياضات و الخلوات» «4»، و من ثمّ فهو:

«مختصّ بأصحاب القلوب من المشايخ المستفيدين من مشكاة النبوّة و مصباح الولاية بالرياضات و المجاهدات»، و «نحن و أمثالنا لا نعرف من العلم إلّا ظاهره، و لا من مرموزات الأنبياء و الأولياء و رواياتهم إلّا سوادها و قشرها، لتعلّقنا بظلمة

عالم الطبيعة» «5». من هنا وصية الإمام: «اخرق حجاب الطبع و الطبيعة، فإنّك من عالم القدس و الطهارة و دار النور و الكرامة ... فإذا خرقت الحجب الظلمانية رأيت ظهور الحقّ في كلّ الأشياء، و إحاطته عليها، و أنّها آياته و بيّناته الدالّة بكمالاتها على كمال منشئها و بارئها» «6».

إنّها النتيجة ذاتها التي ائتلفت عليها المدرسة، كما تبيّنا ذلك بالتفصيل عند الرمزين السابقين ابن عربي و الشيرازي. نتيجة بشقّين؛ الأوّل أنّ البطون أمر وجودي و ليست من مقولة المفاهيم و الأفكار النظرية، و الثاني أنّها لا تنال

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 166.

(2)- شرح دعاء السحر: 57، و الكلام مضمون حديث عن الإمام علي عليه السّلام.

(3)- نفس المصدر: 56.

(4)- نفس المصدر: 143.

(5)- نفس المصدر: 118- 119.

(6)- نفس المصدر: 148.

فهم القرآن، ص: 423

بالاجتهاد العقلي و الفعاليات الذهنية، بل بتصفية الباطن و الارتقاء بالطهارة الداخلية، و التمسّك بحبل الولاية. و لا يخفى أنّ الثانية مترتبة على الاولى «1».

3- العلاقة بين الظاهر و الباطن

اشارة

طال الأمد أو قصر كان لا بدّ أن يسوقنا البحث إلى التفسير الباطني و ما تثار حوله من معارك في الرأي بين من يدافع عنه و من يهاجمه، خاصة و أنّه لصيق الصلة

______________________________

(1)- لا يخفى أنّ هناك اتجاها آخر في البحث القرآني يعيد البطون إلى سنخ المعاني و المفاهيم الذهنية، و من ثمّ فهي تنال بالنشاط الذهني و الاجتهاد العقلي. و النظريات في ذلك عديدة لا يحيد أغلبها عن إعادة ذلك إلى طبيعة اللفظ القرآني و التركيبة الموجودة في كتاب اللّه، فقد قيل بأنّ تفسير كلّ آية ظهرها و تأويلها بطنها، كما قيل الظاهر هو مدلولها الأوّلي المرتبط بسبب النزول الخاص و باطنها عمومها الأبدي الثابت، و بذلك فإنّ البطون

هي من نوع الدلالة التضمّنية.

كما يذهب البعض إلى أنّ الظهر هو المدلول المطابقي للآية و البطن مدلولاتها الالتزامية المترتبة مع بعضها على خطّ طولي يلي بعضها بعضا. أو أنّ الظهر هو المدلول المطابقي و الالتزامي الواضح المباشر، الذي يفهمه الجميع، و البطن هو المدلولات الالتزامية الخفية و ما ينتج عن الظاهر بمعونة عموم العلّة. أو أنّ الظهر هو المدلول المطابقي و البطن هو الإشارة و اللطيفة و الحقيقة التي تنبثق من المعاني الظاهرية بالتدبّر و تدقيق النظر المترافق مع انشراح الصدر، بحيث يطلع بعضها من بعض.

و النتيجة في جميعها أنّ البطن من مقولة المفاهيم و الأفكار و هي حصيلة دلالة الآية و اختلاف مراتب الفهم.

راجع في بعض هذه النظريات: راز و رمز ژرفاى قرآن (سرّ العمق القرآني)، سيد موسى الصدر، فصلية بحوث قرآنية، العددان 21- 22، مشهد ربيع وصيف 2000: 20 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 424

بالمدرسة الوجودية و الاتجاه العرفاني.

و لا ريب أنّ واحدا من أهم الأسس التي تمكّن لرؤية متوازنة، هو الفهم الدقيق للعلاقة بين الظاهر و الباطن. هل تسقط هذه المدرسة قيمة الظاهر و ما يتمخّض عنه اللفظ صراحة أو بالملازمة لصالح الإبحار في تهويمات بعيدة، إذا أحسنّا الظنّ بها و بأصحابها لا تزيد على أن تكون تأويلات متكلّفة لا ضابط لها، لا تستند إلى مقدّمات علمية و لا براهين منطقية، و إنّما هي بزعم أصحابها إشارات هبطت عليهم من موضع رفيع و فيوضات انهالت عليهم كشفا من وراء سحب الغيب؟ أم أنّها تؤمن بالظاهر و ما يحفل به من علوم و أدوات سواء على مستوى التفسير أو الشريعة، لكنّها تذهب إلى أنّ هذه المنطقة لا تستنفد جميع معاني القرآن و لا

تستهلك كلّ حقائقه، بل وراءها شوط آخر يفضي إلى فتح منطقة جديدة في التعامل مع القرآن، تخضع هي الاخرى إلى ضوابط محددة و تنتظمها مبادئ و اصول خاصّة؟ ثمّ إنّها- و الأهم من ذلك- لا تصير إلى تعميم رؤاها إلى الآخرين إلّا بلغة البرهان و الاستدلال المنطقي، تماما كما يحصل لأي معرفة اخرى، إذ لا يملك أي رأي حق التعميم مهما كانت الدعوى التي تسنده إلّا إذا قامت عليه الحجّة؟

قلت إنّ أحد أبرز المفاتيح التي تهيّئ للولوج في هذا الأفق من البحث، هو معرفة العلاقة التي تراها المدرسة و رموزها بين الظاهر و الباطن. و بقدر ما يتعلّق الأمر بالإمام الخميني و الرموز التي ذكرناها، فإنّ هناك عددا من القواسم المشتركة التي تنتظم رؤيتهم، يمكن الإشارة لها كما يلي:

1- الإيمان بالظاهر و الباطن معا، بحيث لا يكون أحدهما بديلا للآخر.

2- إنّ الطريق إلى الباطن يبدأ من الظاهر و ينبني عليه و لا يلغيه.

3- يلتقي الإمام الخميني مع من ذكرناه من رموز في نقد الباطنية، بل

فهم القرآن، ص: 425

و تشديد النكير عليها.

نحن مضطرّون أن نغطّي البحث عبر الناظم المنهجي ذاته الذي ضبط المحورين السابقين في هذا الفصل، لأنّ ما يصدر عنه الإمام في التعامل مع القرآن لا يمثل تأسيسا جديدا و مستقلا مفصولا عن الآخرين، و إنّما هو حلقة في مدرسة لها اصولها و مبادئها و امتدادها في تأريخ الفكر القرآني، و الإمام يعبّر عن رؤاها بأسلوبه الخاص و باجتهاده الذي قد يتغاير بهذا القدر أو ذاك مع من سبقه، إلّا أنّه يبقى أمينا إلى الاصول و المبادئ ذاتها.

على هذا سنختبر صحّة القواسم المشتركة المشار لها آنفا، من خلال جولة سريعة في نصوص من وقفنا

عندهم من الرموز التي قدّمت إسهامات نظرية في تفسير مقولة البطون، و كما يلي:

1- الغزالي

يستحضر الغزالي «1» في نصوصه أبرز إشكاليّات الظاهر و الباطن، فهو من

______________________________

(1)- نسجّل مجددا أنّ الغزالي لا ينتمي إلى المدرسة الوجودية بالمعنى المنهجي الدقيق الذي يمثّله ابن عربي أو الشيرازي أو الإمام الخميني و سواهم من الأقطاب. إنّما يأخذ موقعه في هذه الدراسة انطلاقا من دواع متعدّدة، منها:

1- تأثير أفكاره القرآنية بمن جاء بعده.

2- مع أنّه يصنّف في دائرة التصوّف المعتدل الذي يفترق مع العرفان الفلسفي بامتلاك الأخير لقاعدة معرفية يؤسّس عليها و افتقادها عند الأوّل، إلّا أنّنا لاحظنا أنّ بعض أفكار الغزالي تحوّلت إلى بذور في خطّ العرفان الفلسفي استطالت و نمت. يدلل على ذلك إشارات المديح-

فهم القرآن، ص: 426

جهة يحمل على من يجمد على الظاهر لأنّ للحق: «مراتب و درجات، و له مبدأ ظاهر و غور باطن، و جمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن» «1» كما ذكر ذلك في الأعمال الباطنية للتلاوة. و من جهة ثانية يثير الحديث في الفصل الثاني من كتاب قواعد العقائد من موسوعة الإحياء، عن مقولة الظاهر و الباطن بما ينتهي إلى إثبات هذه الثنائية و اطّرادها كقانون يشمل فيما يشمله القرآن الكريم «2»، ثمّ يردّ على من يعترض على هذا القانون بذريعة اختلاف الظاهر و الباطن و تعارض الحقيقة و الشريعة، بكلام يقول فيه نصا: «فمن قال إنّ الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يناقض الظاهر، فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان» «3»، ليعمد بعدئذ إلى نقد النزعات المتطرّفة في البعدين معا؛ البعد الذي يسرف أصحابه في رفع الظواهر و إنكارها، و الآخر الذي يغالي أصحابه في الجمود على

الظواهر و يمنع من البطون و ضروب التأويل كما نقل ذلك عن بعض

______________________________

- التي أسداها ابن عربي و الشيرازي إليه، و هما من رموز العرفان الفلسفي. ففي صفحة واحدة من أوّل المجلد الثاني من الفتوحات يشير ابن عربي للغزالي بالمديح و الثناء ثلاث مرّات، يصفه بالاولى بأنّه أحد «أهل اللّه» و من «أصحاب الكشف» و هذا نعت عظيم في أدبيات هذه المدرسة، و يصحّح له بعض ما قد يلتبس على الآخرين من آرائه و يدافع عنه بعد أن يطلق عليه لفظ «الإمام». (راجع: الفتوحات المكّية 2: 3) و قد مرّ علينا في غير هذا الموضع ثناء الشيرازي عليه.

3- ما دامت تهمة الباطنية و مناهضة الظاهر تطال المتصوّفة على نحو مطلق، فلا بأس أن نصغي إلى أبي حامد- و هو منهم- و نسمع رأيه في المسألة.

(1)- إحياء علوم الدين 1: 284.

(2)- نفس المصدر: 99- 104.

(3)- نفس المصدر: 100.

فهم القرآن، ص: 427

أصحاب أحمد بن حنبل «1».

مع أنّ المعروف من رأي الغزالي في الظاهرة القرآنية عدم الاكتفاء بالباطن، و أنّ: «المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه» «2»، إلّا أنّه يركّز كثيرا على إتقان الظاهر و ضبطه كوسيلة لبلوغ الباطن: «و يعلم أنّه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أوّلا، و لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر» «3».

و الأهمّ من ذلك أنّ: «من ادّعى فهم أسرار القرآن و لم يحكم التفسير الظاهر، فهو كمن يدّعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب، أو يدّعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم و هو لا يفهم لغة الترك، فإنّ ظاهر التفسير يجري مجرى تعليم اللغة التي لا بدّ منها للفهم» «4».

في موضع آخر يتحدّث عن ثنائية

الظاهر و الباطن، ليؤكد التلازم بينهما، و أنّ الحركة باتجاه حقائق المعاني لا تعني إهمال اللفظ و ظاهر التفسير، بل هي:

«استكمال له و وصول إلى لبابه عن ظاهره، فهذا ما نورده لفهم المعاني الباطنة لا ما يناقض الظاهر» «5»، من دون أن ينسى التعريض بالباطنية و التحذير من استغلالها هذا المنحى، عبر إنزال معاني القرآن و صبّها وفاقا لمسبقاتها الذهنية و آرائها، و صرفها عن مقاصدها مع سبق إصرار: «و قد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة كتغرير الناس و دعوتهم إلى مذهبهم الباطل، فينزلون القرآن على وفق رأيهم

______________________________

(1)- نفس المصدر: 103- 104.

(2)- نفس المصدر: 290.

(3)- نفس المصدر: 291.

(4)- نفس المصدر.

(5)- نفس المصدر: 293.

فهم القرآن، ص: 428

و مذهبهم على امور يعلمون قطعا أنّها غير مرادة به» «1».

2- ابن عربي

ما يثير الدهشة عند ابن عربي هذا الإصرار الكبير على الإيمان بالظاهر و التمجيد به إلى جوار الباطن، فهو لا يترك مناسبة تلوح له إلّا و أكّد هذا المعنى. فهم القرآن 428 2 - ابن عربي ..... ص : 428

ما أنّ للقرآن ظاهرا و باطنا و حدّا و مطّلعا، فكذلك الرجال هم أربعة؛ رجال الظاهر و رجال الباطن و رجال الحدّ و رجال المطّلع «2»، و لا معنى لإهمال الظاهر و رجاله.

على أنّ رعاية الظاهر و الإيمان به هي سنّة قرآنية: «فإنّ القرآن نزل على قرشي بلغة قريش بالحجاز، و كانوا تجّارا دون غيرهم من الأعراب، فلمّا كان الغالب عليهم التجارة كسى اللّه ذات الشرع و الإيمان لفظ التجارة ليكون أقرب إلى أفهامهم و مناسبة أحوالهم» «3». فالكتب و الشرائع و الأديان جاءت بلسان عامّة الناس، و منطق الرسل و كتب السماء مخاطبة الناس بلسانهم و لغتهم و

على مستوى فهمهم و من خلال مصطلحاتهم، و هو قوله سبحانه: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ «4» يعني: «بلغتهم ليعلموا ما هو الأمر عليه، و لم يشرح الرسول المبعوث بهذه الألفاظ هذه الألفاظ بشرح يخالف ما وقع عليه الاصطلاح،

______________________________

(1)- نفس المصدر: 291.

(2)- الفتوحات المكّية 4: 9.

(3)- نفس المصدر 3: 259.

(4)- إبراهيم (14): 4.

فهم القرآن، ص: 429

فنسب تلك المعاني المفهومة من تلك الألفاظ الواردة إلى اللّه تعالى كما نسبها لنفسه، و لا يتحكّم في شرحها بمعان لا يفهمها أهل ذلك اللسان الذي نزلت هذه الألفاظ بلغتهم، فتكون من الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه و من الذين يحرّفونه من بعد ما عقلوه» «1».

لكن لا ننسى أنّنا بإزاء منظومة متكاملة جزء منها الإيمان بالظاهر، و الجزء الآخر يتمثّل بالإيمان بالباطن على سواء. ففي مثال الشريعة مثلا مع أنّ ابن عربي يسجّل بأنّ: «أكثر الشريعة جاءت على فهم العامّة» «2» إلّا أنّ ذلك لا يمنع من وجود حظّ فيها للخاصّة: «و تأتي فيها تلويحات للخاصّة، مثل قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ «3»، و سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «4»» «5».

فإذن الظاهر للعامّة و حظّهم من النظر إليه «على قدر ما فهموه» «6»، و كذلك هناك حصّة في هذا الدين و قرآنه للخاصّة و الأولياء، و هؤلاء: «على مراتب، فتختلف حظوظهم باختلاف مراتبهم» «7». و لا تنافي بين الاثنين، فالخاصّة و الأولياء عندهم ما عند سائر الناس من الظاهر و زيادة عليه، و الظاهر و اللغة سبيلان إلى الباطن، و بلوغ رتبة لا يعني إلغاء ما تحتها، لأنّها محكومة لنسق طولي متكامل،

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 1: 3- 4.

(2)- نفس المصدر 2: 86.

(3)- الشورى (42):

11.

(4)- الصافات (37): 180.

(5)- الفتوحات المكّية 2: 86.

(6)- نفس المصدر.

(7)- نفس المصدر: 85.

فهم القرآن، ص: 430

و هذه الرتب من الظاهر فما دونه (الباطن ثمّ الحد ثمّ المطّلع) هي مجالات متعدّدة لحقيقة واحدة يفضي بعضها إلى بعض، و هي مستويات في المعنى بعضها معرفي يخضع للنظر العقلي و آلياته، و الباقي وجودي له طريقه الخاص، و الكمّل من أهل اللّه و خاصته و أوليائه يجمعون هذه المراتب الأخيرة إلى الظاهر، فيكون ما عندهم هو ما عند بقية الناس و زيادة. على أنّ لا ننسى مجددا أنّ الظاهر هو مفتاح الباطن، و اللغة و ظهورات اللفظ و النظر العقلي هي نقطة الانطلاق على مستوى الظاهر، ثمّ تتدرّج الرحلة إلى الباطن فالحدّ فالمطّلع.

على هذا كلّه يسجّل ابن عربي: «كلّ من أظهر اعتقاد النبوّة، و صرف ما جاءت به الأحكام الظاهرة إلى معان نفسية لم تكن من قصد النبي بما ظهر عنه ما اعتقدته العامّة من ذلك، فإنّه لا يحصل على طائل من العلم. و من اعتقد فيما جاء به هذا النبي أنّه في الظاهر و العموم على ما هو عليه حق كلّه، و له زيادة مصرف آخر مع ثبوت هذه المعاني، فجمع بين الحسّ و المعنى في نظره، فذلك الوارث العالم الذي شاهد الحقّ على ما هو عليه. و هذا لا يحصل إلّا بالتعمّل، و ليس معنى التعمّل أن يقول هذا الذي ليس له هذا الاعتقاد، ثمّ يسمع به منّي أو من غيري، فيقول أنا اعتقده و أربط نفسي به، فإن كان ما قاله حقا فأنا له و إن لم يكن فلا يضرّني، فمثل هذا لا ينفعه و لا يفتح له فيه، لأنّه غير مصدّق به على

القطع بل هو صاحب تجربة، و أين الإيمان من الشكّ و التجربة! فهذا أعمى البصيرة ناقص النظر، فإنّه لو صحّ منه النظر الفكري في الأدلّة لعثر على وجه الدلالة فانقدح له المطلوب و أسفر له عن الأمر على ما هو عليه كما أسفر لغيره ممّن وفّى النظر حقه، فإنّه إذا وفّى الناظر نظره حقه لزمه الإيمان ملازمة الظلّ للشخص لأنّهما مزدوجان، فإنّه يطلع بعين الدليل على رتبة هذا المسمى بالنبي و الشارع عند اللّه ... و لقد آمنا باللّه و برسوله و ما جاء

فهم القرآن، ص: 431

به مجملا و مفصّلا، ممّا وصل إلينا من تفصيله و ما لم يصل إلينا أو لم يثبت عندنا، فنحن مؤمنون بكلّ ما جاء به في نفس الأمر» «1».

عند ما يدور الحديث عن الظاهر يتحدّث ابن عربي عن تعدّد دلالته بلغة الفكر التفسيري المألوف، مشيرا إلى أنّ المفسّر يأخذ من النص في كلّ تفسير أو معنى بعض قوّته «2»، معلّلا تعدّد الفهوم في إطار الظاهر تبعا لآلة المفسّر و قوّة عدّته النظرية و ما إلى ذلك «3»، ليخلص من وراء ذلك كله إلى أنّه لا يحقّ لأحد أن يرمي العرفاء بالباطنية و هم القائلون بالطرفين؛ أي بالظاهر و الباطن معا يتبعون الأوّل بالنظر العقلي و لغة التحقيق، و يعبّرون عن الثاني بالإشارة: «و إنّما فرّقنا في التعبير بين الإشارة و التحقيق لئلا يتخيّل من لا معرفة له بمآخذ أهل اللّه أنّهم يرمون بالظواهر فينسبونهم إلى الباطنية و حاشاهم من ذلك، بل هم القائلون بالطرفين ...

و إنّ الجامع بين الطرفين هو الكامل في السنّة و المعرفة» «4».

3- الشيرازي

في موضع من مواضع تفسيره يصنّف الشيرازي مواقف مختلف التيارات من مقولة الظاهر،

فيذكر أنّ منهم المسرف في: «رفع الظواهر كالقفّال، و كثير من المعتزلة انتهى أمرهم إلى تغيير جميع الظواهر في المخاطبات التي تجري في

______________________________

(1)- نفس المصدر 3: 323.

(2)- نفس المصدر 1: 135.

(3)- نفس المصدر 4: 25.

(4)- نفس المصدر 1: 654.

فهم القرآن، ص: 432

الشريعة الحقّة، من منكر و نكير، و ميزان و حساب و صراط، و في مناظرات أهل النار و أهل الجنة ... و زعموا أنّ ذلك لسان الحال». كما هناك الغالي في: «حسم باب العقل كالحنابلة أتباع أحمد بن حنبل»، ثمّ هناك طائفة مقتصدة فتحت باب التأويل في المبدأ و تركت «ما يتعلّق بالآخرة على ظواهرها»، و هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن الأشعري.

كما ثمّ تيار تخطّى هذه التخوم مثّله «المتفلسفون و الطبيعيون، و الأطبّاء، فأوّلوا كلّما ورد في الآخرة و ردّوها إلى آلام عقلية روحانية و لذّات عقلية روحانية، و أنكروا حشر الأجساد ... و هؤلاء هم المسرفون عن حدّ الاقتصاد» «1».

يطالب الشيرازي بموقف يقع: «بين برودة جمود الحنابلة و حرارة انحلال المؤوّلة» «2» يحفظ لكلّ من الظاهر و الباطن حيّزه و مجاله و منطقته، من دون أن يلغي طرف على حساب آخر.

كيف يبلغ الإنسان هذه الموازنة الدقيقة، و ما هي مكوّنات الموقف على هذا الصعيد؟ ثمّ ما ذا لو اختلط الأمر فهل يترك الإنسان الظاهر لمصلحة الباطن أم الباطن لأجل الظاهر أم ينفض يدية منهما معا؟

الحقيقة يلحّ الشيرازي على الإيمان بالظاهر و تركه على حاله، فعند حديثه عن العرش و الكرسي و غيرها ممّا يذكره القرآن من حقائق، استعرض أقوال المفسّرين و تأويلات الأشاعرة و المعتزلة، و انتهى إلى القول: «بل الحقّ إبقاء صور الظاهر على هيئتها و أصلها إلّا لضرورة دينية، إذ

ترك الظواهر يؤدّي إلى مفاسد

______________________________

(1)- راجع في استعراضه هذه الاتجاهات: تفسير القرآن الكريم 4: 163- 165، و قارن مع الغزالي و لاحظ تشابهه به: إحياء علوم الدين 1: 103- 104.

(2)- تفسير القرآن الكريم 4: 165.

فهم القرآن، ص: 433

عظيمة. نعم إذا كان الحمل على الظواهر مناقضا لاصول صحيحة دينية و عقائد حقّة يقينية، فينبغي للإنسان حينئذ أن يتوقّف فيها و يحيل علمه إلى اللّه و رسوله و الأئمّة المعصومين من الخطأ الراسخين في العلم عليهم السّلام» «1». أكثر من ذلك تراه يمتدح مسلك الظاهريين و يفضّله في مواضع متعدّدة على منهج المتأوّلة الذين يرفعون اليد عن الظاهر: «ثمّ لا يخفى ... أنّ مسلك الظاهريين الراكنين إلى إبقاء صور الألفاظ و أوائل المفهومات أشبه من طريقة المتأوّلين بالتحقيق، و أبعد من التصريف و التحريف»، لأنّ الظاهر و أوائل المفهومات هي قوالب الحقائق و من ثمّ فهو الأساس الذي يبتني عليه الباطن، و صاحبه أقرب إلى مراد اللّه و رسوله: «و ذلك لأنّ ما فهموه من أوائل المفهومات، هي قوالب الحقائق التي هي مراد اللّه و مراد رسوله» «2».

كما يقول في موضع آخر: «كن أحد الرجلين: أمّا المؤمن بظواهر ما ورد في الكتاب و الحديث من غير تصرّف و تأويل، أو العارف الراسخ في تحقيق الحقائق و المعاني مع مراعاة جانب الظواهر و صور المباني» «3».

قد مرّ علينا في المحور الثاني من هذا الفصل إيمان الشيرازي بثنائية الظاهر و الباطن و عدّهما بمنزلة القانون، و حينئذ لا معنى لإسقاط أحدهما لحساب الآخر، فهما متلازمان، و الطريق إلى الباطن لا يكون إلّا انطلاقا من الظاهر و بدءا به، و لا باطن أساسا إذا لم يكن هناك ظاهر. و

مع ذلك كلّه يشدّد الشيرازي على أهمّية التزام الظاهر، و أنّ ذلك من دين اللّه بالصميم: «فاعلم أنّ مقتضى الدين و الديانة أن لا يؤوّل

______________________________

(1)- نفس المصدر: 158.

(2)- نفس المصدر: 161، 163.

(3)- نفس المصدر: 168.

فهم القرآن، ص: 434

المسلم شيئا من الأعيان التي نطق به القرآن و الحديث إلّا بصورها و هيئاتها التي جاءت، بل اكتفى بظاهر الذي جاء إليه من النبي و الأئمّة سلام اللّه عليهم، و مشايخ المجتهدين رضوان اللّه عليهم أجمعين، اللهم إلّا أن يكون ممّن قد خصّصه اللّه لكشف الحقائق و المعاني و الأسرار ... فإذا كوشف بمعنى خاص أو إشارة و تحقيق قرّر ذلك المعنى من غير أن يبطل صورة الأعيان، لأنّ ذلك من شرائط المكاشفة» «1».

فإذن حتّى الاستثناء منوط برعاية الظاهر و الحفاظ عليه، و الانفتاح على عالم الحقائق و الأسرار الباطنية عبر الشهود و المكاشفة لا يعني التنصّل للظاهر و الانفصال عنه أو مناقضته، بل هو استكمال له، فلا شهود و مكاشفة مع نقض الظاهر. فتفتّح الأبواب «لأرباب المعاني و أصحاب القلوب» و ما يتضمّنه النص القرآني من «أغوار و أسرار وراء هذا المعنى» غير «مناقض لظاهر التفسير، بل هو استكمال له و وصول إلى لبابه عن قشره» «2».

و الأوضح منه: «فمن هذا الوجه تتفاوت العقول في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير الذي ذكره المفسّرون، و ليس ما حصل للراسخين في العلم من أسرار القرآن و أغواره مناقضا لظواهر التفسير، بل هو استكمال له و وصول إلى لبابه عن ظاهره» «3».

عند ما يسجّل الشيرازي مرّات و كرّات و بالنص: «فهذا ما نريده لفهم المعاني

______________________________

(1)- نفس المصدر: 166.

(2)- نفس المصدر 7: 194.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 435

لا ما يناقض الظواهر» «1» فهل نملك رميه بالباطنية و الإغضاء عن الظاهر و إهماله؟

أو السير به على غير ضابطة؟

أمّا عن الشريعة، فهو لا يفتأ عن القول: «لمّا كان للكتاب ظهر و بطن و حدّ و مطّلع ... كان للشريعة ظاهر و باطن. و مراتب العلماء أيضا فيها متكثّرة ... فلكلّ من الظاهر و الباطن علماء ... فالواجب على الطالب المسترشد إتباع علماء الظاهر في العبادات و الطاعات، و الانقياد لعلم ظاهر الشريعة ... و متابعة الأولياء في السير و السلوك لينفتح له أبواب الغيب و الملكوت ... و عند هذا الفتح يجب له العمل بمقتضى علم الظاهر و الباطن مهما أمكن» «2».

في موضع آخر يحذّر الشيرازي من إنكار الشريعة و مصادرتها بالتأويل أو بوصمها بالباطن: «و لا تكن الثالث بأن تنكر الشريعة الحقّة و ما ورد فيها رأسا و تقول: إنّها كلها خيالات سوفسطائية، و تمويهات و خدع عامّية، نعوذ باللّه و برسوله من مثل هذه الزندقة الفاحشة».

ثمّ: «و لا الرابع بأن لا تنكرها رأسا، و لكن تؤلّه بفطانتك البتراء و بصيرتك الحولاء، إلى معان عقلية فلسفية و مفهومات كلية عامّية، فإنّ هذا في الحقيقة إبطال الشريعة» «3».

على أساس هذا كلّه شدّد الشيرازي النكير على الباطنية و شبّهها مرّة بالنصارى فقال: «و الباطنية نصرانيو هذه الامّة» «4». كما ألّف رسالة مستقلّة سمّاها

______________________________

(1)- نفس المصدر 4: 162.

(2)- مفاتيح الغيب: 486.

(3)- تفسير القرآن الكريم 4: 168.

(4)- نفس المصدر 7: 197.

فهم القرآن، ص: 436

«كسر أصنام الجاهلية» في الرد على الصوفية و الباطنية شنّع فيها عليهم و عنّفهم بتعابير قاسية، و هو يصفهم بالفجّار و المنافقين و ينعتهم بالحمق و الجنون و الشقاء و ما إليه «1»،

و حمل فيها على الباطنية و أنّها تتوسّل إلى هدم الشريعة بتأويل الظواهر و إنزالها على وفق آرائها و مسبقاتها: «و بهذا الطريق توسّلت الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها و تنزيلها على رأيهم. فيجب الاحتراز عن الاغترار بتلبيساتهم، فإنّ شرّهم أعظم على الدين من شرّ الشياطين، إذ الشيطان بوساطتهم يتدرّع إلى انتزاع الدين من قلوب المسلمين» «2».

4- الإمام الخميني

توفّر تلك الجولة في نصوص من مررنا عليهم إطلالة من علّ على رؤية الإمام الخميني في طبيعة العلاقة بين الظاهر و الباطن، لما زودتنا به من فهم لأفكار المدرسة على هذا الصعيد. فالظاهر عند الإمام هو عنوان الباطن و المدخل إليه، لا انفصام؛ لا قطيعة؛ لا تعارض و لا تنافي: «الظاهر عنوان الباطن، و اللفظ و العبارة عبارة عن تجلّي المعنى و الحقيقة في ملابس الأشكال و الأصوات و اكتسائه كسوة القشور و الهيئات» «3».

أجل، الإمام يهاجم النزعة الظاهرية و يحمل على من يعكف على عالم الظاهر وحده لا يتخطّاه إلى اللب و الباطن، و يعدّ ذلك اختراما و هلاكا و أصل

______________________________

(1)- كسر أصنام الجاهلية: 3- 4.

(2)- نفس المصدر: 100.

(3)- شرح دعاء السحر: 44.

فهم القرآن، ص: 437

الجهالات كلّها و المنشأ في إنكار النبوات و ضروب الولاية، ذلك لأنّ: «أوّل من وقف على الظاهر و عمي قلبه عن حظّ الباطن هو الشيطان اللعين، حيث نظر إلى ظاهر آدم عليه السّلام فاشتبه عليه الأمر و قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «1» و أنا خير منه، فإنّ النار خير من الطين، و لم يتفطّن أنّ جهله بباطن آدم عليه السّلام و النظر إلى ظاهره فحسب، بلا نظر إلى مقام نورانيته و روحانيته خروج عن مذهب

البرهان، و يجعل قياسه مغالطيا عليلا» «2». بيد أنّ ذلك كلّه لا ينبغي أن يتحوّل إلى تعلّة في الصدود عن الظاهر و الاستخفاف به، فربّما وجدت هذه الدعوى تجاوبا من النفس يؤدّي إلى العزوف عن الظاهر، و الحال أنّها تلبيس شيطاني و تسويل نفساني، و في الأكثر هي كلمة حق يراد بها باطل: «لا يذهبنّ بنور عقلك الشيطان و لا يلتبس عليك الأمر حتّى تقع في الخذلان، فإنّ الشيطان يوسوس في صدور الناس بخلط الحقّ بالباطل و الصحيح بالسقيم، فربّما يخرجك من الطريق المستقيم بصورة بظاهر صحيح و باطن سقيم، فيقول: إنّ العلوم الظاهرية و الأخذ بظاهر الكتب السماوية ليس بشي ء و خروج عن الحقّ، و العبارات القالبية و المناسك الصورية مجعولة للعوام كالأنعام و أهل الصورة و أصحاب القشور، و أمّا أصحاب القلوب و المعارف و أهل الأسرار و العوارف فليس لهم إلّا الأذكار القلبية و الخواطر السرّية التي هي بواطن المناسك و نهايتها و روح العبادات و غايتها ... إلى غير ذلك من التلبيسات و التسويلات» «3».

يطلق الإمام صيحة نذير من هذه المقولة الإبليسية، و عند تحليل المقولة يعيد

______________________________

(1)- الأعراف (7): 12.

(2)- شرح دعاء السحر: 60.

(3)- نفس المصدر: 61.

فهم القرآن، ص: 438

الشبهة إلى الخلط الناشئ بين الظاهر المنفصل عن الباطن و الصورة المفارقة عن المعنى، و هذا غير ثنائية الظاهر و الباطن التي تسري في القرآن، لذلك يحثّ على عدم الانجرار صوب هذه الوقيعة، و يضيف: «فاستعذ باللّه منه و قل له: أيّها اللعين هذه كلمة حق تريد بها الباطل، فإنّ الظاهر المطعون هو الظاهر المنفصل عن الباطن و الصورة المنعزلة عن المعنى، فإنّه ليس بكتاب و لا قرآن، و أمّا الصورة

المربوطة بالمعنى و العلن الموصول بالسرّ فهو المتّبع على لسان اللّه و رسوله» «1».

ممّا يستدلّ به الإمام على أهمّية الظاهر هي المكانة الركينة التي تحظى بها علومه في الإسلام، و موقعها الراسخ في الشريعة: «كيف و علم ظواهر الكتاب و السنة من أجلّ العلوم قدرا و أرفعها منزلة، و هو أساس الأعمال الظاهرية و التكاليف الإلهية و النواميس الشرعية و الشرائع الإلهية و الحكمة العملية، التي هي الطريق المستقيم إلى الأسرار الربوبية و الأنوار الغيبية و التجليّات الإلهية، و لو لا الظاهر لما وصل سالك إلى كماله و لا مجاهد إلى مآله» «2». فالظاهر أساس الباطن و قاعدته و بناؤه التحتي، و هو المنطلق إلى الباطن و الطريق المفضي إليه.

لذا فالإنسان العارف مدعوّ إلى الجمع بين الرتبتين ظاهر الكتاب و باطنه، و لا يملك أساسا مفارقة هذا الطريق للتلازم بين الاثنين: «فالعارف الكامل من حفظ المراتب و أعطى كلّ ذي حق حقه، و يكون ذا العينين و صاحب المقامين و النشأتين، و قرأ ظاهر الكتاب و باطنه، و تدبّر في صورته و معناه و تفسيره و تأويله، فإنّ الظاهر بلا باطن و الصورة بلا معنى كالجسد بلا روح و الدنيا بلا آخرة، كما أنّ الباطن لا

______________________________

(1)- نفس المصدر: 61- 62.

(2)- نفس المصدر: 62.

فهم القرآن، ص: 439

يمكن تحصيله إلّا من طريق الظاهر، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة» «1».

و في إدانة صريحة للنزعتين المتطرفتين نزعة إهمال الباطن و تضخيم الظاهر، و إهمال الظاهر و تضخيم الباطن، يسجّل الإمام صراحة أنّ الاولى تعطيل و الثانية ضلالة، و الصراط المستقيم هو الأخذ بالظاهر و التمسّك به في السير صوب الباطن:

«فمن تمسّك بالظاهر و وقف على بابه قصر و عطل،

و يردّه الآيات و الروايات المتكاثرة الدالّة على تحسين التدبّر في آيات اللّه و التفكّر في كتبه و كلماته و التعريض بالمعرض عنهما و الاعتراض بالواقف عند قشرهما، و من سلك طريق الباطن بلا نظر إلى الظاهر ضلّ و أضلّ عن الطريق المستقيم، و من أخذ بالظاهر و تمسّك به للوصول إلى الحقائق و نظر إلى المرآة لرؤية جمال المحبوب فقد هدي إلى الصراط المستقيم، و تلا الكتاب حق تلاوته» «2».

هذه المعطيات الوافية التي جمعها كتاب واحد من كتب الإمام «3» تعود لتتكرّر بحذافيرها في بقية مصنفاته، مع شدّة أكثر في نقد الشطحيات و مهاجمة الاتجاهات التي تسعى لمصادرة الشريعة باسم الحقيقة و الطريقة و ما أشبه، بخاصّة من أطلق عليهم عوام الصوفية.

ففي كتاب «آداب الصلاة» «4» الذي انتهى الإمام من تأليفه بعد قرابة عقد و نصف من تأليف كتاب «شرح دعاء السحر»، استحضر المحاكمة ذاتها بين

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- نفس المصدر: 62- 63.

(3)- أعنى به كتاب «شرح دعاء السحر» الذي انتهى الإمام من تأليفه سنة 1347 ه.

(4)- انتهى الإمام من تأليفه في يوم الاثنين الثاني من ربيع الثاني عام 1361 ه، كما ذكر في آخره.

فهم القرآن، ص: 440

الاتجاهين الظاهري و الباطني، ليعزّز بذلك النتيجة نفسها التي كان قد انتهى إليها في الكتاب السابق «1».

لقد افتتح المحاكمة بإشارة إلى وجود نزعتين في المعرفة تنحو الاولى للغلوّ بالجمود على الظاهر، و تنحو الثانية للتقصير بالوقوف على الباطن. فبعض أهل الظاهر: «يرون أنّ علوم القرآن عبارة عن معان عرفية عامّية و مفاهيم سوقية وضعية، و بهذا الرأي تراهم لا يتفكّرون في القرآن و لا يتدبّرون به، و يحصرون الاستفادة منه ... بالتعاليم الصورية الظاهرية و من ثمّ

يجعلون وراء ظهورهم كلّ تلك الآيات الدالّة على لزوم التدبّر أو رجاحته، و إنّه يفتح من نور القرآن أبواب للمعرفة، حتّى لكأنّ القرآن جاء للدعوة إلى الدنيا و نزل للملاذ الحيوانية» «2».

في مقابل هؤلاء يبرز أهل الباطن الذين ينصرفون بوحي ظنّهم السقيم عن «ظاهر القرآن و دعواته الصورية التي تؤلّف قواعد التأدّب في المحضر الإلهي و تمثّل برنامج السلوك إلى اللّه، و ينحرفون عن ظاهر القرآن بتلبيسات إبليس اللعين و النفس الأمّارة بالسوء، و يتشبّثون بزعمهم بعلومه الباطنية، مع أنّ طريق الوصول إلى الباطن يتمثّل بالتأدّب بالظاهر» «3».

بعد نقد النزعتين كليهما، يصدر عليهما الحكم التالي: «فإذن هاتان الطائفتان خارجتان كلتاهما عن جادّة الاعتدال، و محرومتان كلتاهما من نور الهداية إلى الصراط القرآني المستقيم، منسوبتان إلى الإفراط و التفريط». و المنهج الصحيح هو أنّه: «ينبغي للعالم المحقّق و العارف المدقّق القيام بالظاهر و الباطن معا، و التأدّب

______________________________

(1)- راجع آداب الصلاة: 290 فما بعد.

(2)- آداب الصلاة: 290.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 441

بالآداب الصورية و المعنوية على سواء، فكما عليه تنوير الظاهر بنور القرآن، كذلك ينبغي له تنوير الباطن بأنوار معارفه و توحيده و تجريده» «1».

و مع أنّ الحكم واضح و الحيثية التي يستند إليها جلية، إلّا أنّ الإمام يعيد الكرّة مذكرا الفريقين من جديد: «ينبغي لأهل الظاهر أن يعرفوا بأنّ قصر القرآن على الآداب الصورية الظاهرية، و نبذة عن الأحكام العملية و الأخلاقية، و العقائد العامّية في باب التوحيد و الأسماء و الصفات، هو إنكار لحقّ القرآن و رمي للشريعة الخاتمة بالنقص، التي لا ينبغي أن يتصوّر ما هو أكمل منها و إلّا كانت خاتميّتها محالة في سنّة العدل. فإذن ما دامت الشريعة خاتمة الشرائع و

ما دام القرآن خاتم الكتب النازلة و آخر آصرة تربط بين الخالق و المخلوق، فينبغي أن يكون في حقائق التوحيد و التجريد و المعارف الإلهية التي تعدّ المقصد الأساسي و الغاية الذاتية للأديان و الشرائع و الكتب الإلهية النازلة، في المرتبة النهائية و الرتبة العليا و منتهى النهاية و ذروة الكمال، و إلّا يلزم النقص في الشريعة. و هذا خلاف العدل الإلهي و اللطف الربوبي» «2».

ثمّ ينعطف إلى أهل الباطن مخاطبا لهم: «ينبغي لأهل الباطن أن يعلموا أنّ الوصول إلى المقصد الأصلي و الغاية الحقيقية لا يكون إلّا بتطهير الظاهر و الباطن، و من دون التشبّث بالصورة و الظاهر لا يمكن البلوغ إلى اللب و الباطن، و بدون التلبّس بلباس ظاهر الشريعة لا يمكن العثور على طريق إلى الباطن». ثمّ يخلص إلى القول نصا: «فإذن، في ترك الظاهر إبطال لظاهر الشرائع و باطنها، و هذه من

______________________________

(1)- نفس المصدر: 291.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 442

تلبيسات شياطين الجن و الإنس. و قد ذكرنا لمحة عن هذا المطلب في كتاب شرح الأربعين حديثا» «1».

ما دام الإمام قد أحال بنفسه إلى كتابه «الأربعون حديثا» فلنمكث هنا هنيهة، لنرى أنّ سماحته تناول مقولة الظاهر و الباطن عبر إشكالياتها الرئيسة، بالمنطق نفسه الذي لحظناه قبل قليل: «اعلم أنّه لا يمكن طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهية إطلاقا، إلّا إذا ابتدأ الإنسان بظاهر الشريعة. فما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقّة لا تتمثّل فيه أي خصلة من الأخلاق الحسنة على وجه الحقيقة، كما لا يمكن أن يشعّ في قلبه نور المعرفة الإلهية و أن ينبلج فيه علم الباطن و تنكشف له أسرار الشريعة. و بعد انكشاف الحقيقة و بروز أنوار المعارف

في قلبه ينبغي أن يبقى متأدّبا بآداب الظاهر أيضا، و من هذه الزاوية تعدّ دعوى البعض في أنّه بترك الظاهر ينبلج علم الباطن دعوى باطلة» «2».

ما يطالب به الإمام هو الإيمان بالظاهر و الباطن معا بشرط أن تكون الانطلاقة من الظاهر، و أن يعي الإنسان بأنّ لكلّ واحد منها شروطه و آدابه الخاصة و منهجه المتميّز.

يضرب سماحته مثالا لهذه الحالة من الصلاة، فيقول: «اعلم أنّ للصلاة غير هذه الصورة معنى و لها غير هذا الظاهر باطنا. و كما أنّ للظاهر آدابا تجرّ عدم مراعاتها إلى بطلان الصلاة الصورية أو نقصانها، فكذلك للباطن آداب قلبية باطنية تجرّ عدم مراعاتها إلى بطلان الصلاة المعنوية أو نقصانها» «3».

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- شرح چهل حديث: 8.

(3)- آداب الصلاة: 2.

فهم القرآن، ص: 443

و هذا الكلام من زاوية صلته بالشريعة هو غير تلك الترّهات التي تسري على ألسنة بعضهم، و تنسب إلى بعض المتصوّفة من ترك التكاليف و أنّ السالك الواصل لا يحتاج إليها بعد وصوله. فما دامت الصلاة مثلا معراجا و لها روح فلا معنى لأدائها بحقيقتها الشرعية و صورتها الفقهية بعد الوصول، و بتعبير الإمام نفسه: «فإذن، يتضح من البيانات السابقة أنّ ما يشيع بين بعض أهل التصوّف من أنّ الصلاة هي وسيلة عروج السالك و وصوله، و أنّ السالك مستغن عن أداء الرسوم بعد الوصول، هو أمر باطل لا أصل له، و خيال خام لا أساس له، يتعارض مع مسلك أهل اللّه و أصحاب القلوب، و هو يصدر من موقع الجهل بمقامات أهل المعرفة و كمالات الأولياء، نعوذ باللّه منه» «1».

لهذا كله يعلن الإمام بضرس قاطع بأنّ: «الطريقة و الحقيقة لا يحصلان إلّا من طريق الشريعة ... و

من أراد أن يصل إلى الباطن من غير طريق الظاهر كبعض عوامّ الصوفية فهو على غير بينة من ربّه» «2».

فإذن لم يوفّر الإمام في نقده لا الباطنية التي تسقط الظاهر، و لا الصوفية التي تتذرّع بالطريقة و الحقيقة في تجاوز الشريعة، و لا أصحاب الشطحيات و التلوينات الذين التبست عليهم ذواتهم، فوقعوا بالخلط، إذ يقول فيهم: «يا مدّعي المعرفة و الجذبة و السلوك و المحبة و الفناء، إذا كنت من أهل اللّه حقا و من أصحاب القلوب

______________________________

(1)- راجع: سرّ الصلاة: معراج السالكين و صلاة العارفين، الإمام الخميني: 13. و هذا الكتاب هو غير «آداب الصلاة»، فقد انتهى الإمام من تأليفه في 21 ربيع الثاني 1358 ه، و لكن طمعا في التيسير و لانتشار هذه الأفكار على قاعدة أعرض، بادر إلى تأليف كتاب «آداب الصلاة» الذي جاء أوسع و أيسر كما ذكر في مقدمة الكتاب الثاني. (راجع: آداب الصلاة: 2)

(2)- تعليقات على شرح فصوص الحكم: 201.

فهم القرآن، ص: 444

و أهل السابقة الحسنة فهنيئا لك، لكن هذا القدر من الشطحيات و التلوينات و الدعاوى الجزافية التي تكشف عن حبّ النفس و وسوسة الشيطان تخالف المحبة و الجذبة. إنّ أوليائي تحت قبائي لا يعرفهم غيري» «1».

إنّ العارف أو السالك إلى اللّه ليس حرّا طليقا من قيود الدين و ضوابط الشريعة و إلزاماتها و آدابها، كما قد توحي بعض الإيماءات أو التصوّرات التي تحملها الأذهان عن هذه الفئة، ذلك أنّ السير إلى اللّه ليس امتيازا يهب صاحبه الحقّ في الانفلات و حرّية التصرّف على حساب دين اللّه و شرعه، بل هو انضباط مضاعف في نطاق الدين و الشريعة، و مسك النفس على الطاعة مع حذر شديد. و الميزان

بعد ذلك واضح لا يخطئ يتمثّل بالعرض على كتاب اللّه لنتبيّن سقم أي دعوة من صحتها، و العارف أو السالك إلى اللّه ليس بمعزل عن هذا الميزان بتاتا، بل هو أولى به من غيره: «وظيفة السالك إلى اللّه هي أن يعرض نفسه على القرآن الشريف، و كما أنّ المعيار في تشخيص صحّة الحديث من عدمه يتمثّل بعرضه على كتاب اللّه فما خالف كتاب اللّه فهو باطل و زخرف، كذلك الميزان في الاستقامة و الاعوجاج و الشقاوة و السعادة هو أن يكون [السالك] مستقيما في ميزان كتاب اللّه ... و الخلق المخالف لكتاب اللّه فهو زخرف و باطل.

و كذلك ينبغي له [للسالك] أن يطبّق جميع معارفه و أحوال القلوب و أعمال باطنه و ظاهره على كتاب اللّه و يعرضها عليه، حتّى يتحقّق بحقيقة القرآن و يكون القرآن صورته الباطنية» «2».

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 162.

(2)- آداب الصلاة: 208- 209.

فهم القرآن، ص: 445

تنتهي هذه الجولة إلى إثبات العناصر الثلاثة المشتركة التي افتتحنا بها المحور على نحو لا مراء فيه، من حيث إيمان هذه المدرسة بالظاهر لا بإلغائه، و كذلك مهاجمة المنحى الباطني الذي يخفض من قيمة الظاهر و أهميته و يغلق النص على الباطن وحده، و المنحى الصوفي الذي يخفض من الشريعة لحساب الطريقة و الحقيقة و ما إلى ذلك.

لكن مع ذلك يبقى هناك تساؤل يرتبط بطبيعة أداء العرفاء و اللغة التعبيرية التي يستعملونها، سنأتي على معالجته تفصيلا في المحور الرابع و الأخير من هذا الفصل.

4- نظرية لغة المثال

اشارة

تأتي نظرية لغة المثال في طليعة النتائج المترتبة على الظاهر و الباطن، و إذا ما شئنا الدقّة فإنّ هذه النظرية تأتي حصيلة للفهم الوجودي للقرآن برمّته كما مرّ علينا في الفصول

السابقة، خاصّة تصوّره لحقيقة القرآن و تعدّد مراتب الفهم و ما يكتنف ذلك من أفكار.

تفيد النظرية ببساطة أنّ القرآن يلجأ إلى أسلوب المثال و اللغة الرمزية في تبيان مقاصده. و هذا ما لا يكاد يختلف عليه أحد من المفسّرين أو المشتغلين بالشأن القرآني لا سيّما مع وجود القرينة عليه من النص القرآني نفسه، كما في قوله سبحانه: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «1»، و قوله: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2». كما من

______________________________

(1)- الزمر (39): 27.

(2)- العنكبوت (29): 43.

فهم القرآن، ص: 446

الحديث الشريف أيضا: «إنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم» «1».

بيد أنّ ما يختلف هو طبيعة فهم هذه الظاهرة في منهج الأداء القرآني و كيفية تفسيرها، حيث يواجهنا على هذا الصعيد فهمان، يرى الأوّل في الأمثلة أنّها لا تزيد على وسائل إيضاح مؤثّرة يلجأ إليها القرآن لبيان مقاصده و ينتهي الأمر عند هذا الحد. أمّا الفهم الثاني فيعتقد أنّ الأمثلة ما هي إلّا اطر و قوالب تومئ إلى حقائق كائنة وراءها، و من ثمّ فإنّ لغة المثال ليست وسائل إيضاح إشارية و تعبيرية الغرض منها مماشاة الأفهام المختلفة و التأثير فيها و حسب، بل هي منظومة تترابط مع ما بعدها، تجمع بين حقائقية الأشياء و واقعيتها و بين التعبير عنها بالمثال و الرمز.

بإزاء هذا الاختلاف بين الفهمين يتفق الاتجاهان كلاهما على أنّ القرآن الكريم نفسه هو الذي أسّس لهذا النهج في الأداء و أرسى معالمه في ثنايا النص، كما يتفقان على أنّ ذلك هو تعبير عن سنّة عقلائية مطّردة بين مختلف الأقوام و الأمم و منهجيات الأداء اللغوي و الفكري: «إيضاح

المقاصد المبهمة و المطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعدّدة و الأمثال و الأمثلة الكثيرة المتنوّعة، أمر دائر في جميع الألسنة و اللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم، و لغة دون لغة» «2».

في نص مبكّر لابن عربي يشير إلى وجهي المسألة، متمثلين في أنّ القرآن لجأ إلى لغة الرمز و المثال و نبّه إلى ذلك، و أنّ الرموز ترتبط بما وراءها و المراد هو هذا «الماوراء» و ليس الرموز، جاء فيه: «اعلم أيّها الولي الحميم أيدك اللّه بروح القدس و فهّمك، أنّ الرموز و الألغاز ليست مراده لأنفسها و إنّما هي مرادة لما رمزت

______________________________

(1)- وسائل الشيعة 27: 190، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 13، الحديث 38.

(2)- الميزان في تفسير القرآن 3: 63.

فهم القرآن، ص: 447

إليه و لما ألغز فيها، و مواضعها من القرآن آيات الاعتبار كلها. و التنبيه على ذلك قوله تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ «1». فالأمثال ما جاءت مطلوبة لأنفسها و إنّما جاءت ليعلم منها ما ضربت له و ما نصبت من أجله مثلا، مثل قوله تعالى:

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ «2» فجعله كالباطل، كما قال: وَ زَهَقَ الْباطِلُ «3».

ثمّ قال: وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «4» ضربه مثلا للحق:

كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ؟ «5». و قال: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «6» أي تعجّبوا و جوزوا و اعبروا إلى ما أردته بهذا التعريف، و إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي

الْأَبْصارِ «7» من عبرت الوادي إذ جزته» «8».

أمّا الشيرازي ففي نصوصه وفرة كافية لبيان هذا الأصل في الأداء القرآني و تعليله. ففي النص التالي يومئ إلى أنّ لغة المثال منهج قرآني- نبوي، يعلّله على

______________________________

(1)- العنكبوت (29): 43.

(2)- الرعد (13): 17.

(3)- الإسراء (25): 81.

(4)- الرعد (13): 17.

(5)- الرعد (13): 17.

(6)- الحشر (59): 2.

(7)- آل عمران (3): 13.

(8)- الفتوحات المكّية 1: 189.

فهم القرآن، ص: 448

ضوء اختلاف مدارك الناس و تفاوتها بالقوّة و الضعف، و يفسّره على وفق قاعدة مخاطبة الناس على قدر عقولهم، حيث يقول: «و أكثر الخلق لا يدرك الحقائق الكلية و اصول الموجودات إلّا على سبيل التمثيل و التشبيه، و الأنبياء مأمورون بدعوة الخلق و التكلّم معهم على مبلغ عقولهم، لقوله: «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم» «1»، و عقول أكثر الناس بمنزلة الخيال و الوهم، و لذلك كان تعليمهم الحقائق الإيمانية على رتبة التمثيلات التي تناسب طبائعهم الغليظة» «2».

عند هذه النقطة التي ترجع لغة المثال إلى اختلاف المستويات الإدراكية أو أنّها وسيلة إيضاح مؤثّرة، يلتقي الاتجاهان على ما يومئ إليه النص التالي للفخر الرازي (ت: 606 ه): «إنّ المقصود من ضرب المثال أنّه يؤثّر في القلوب ما لا يؤثّره وصف الشي ء في نفسه، و ذلك لأنّ الغرض تشبيه الخفي بالجلي و الغائب بالشاهد فيتأكّد الوقوف على ماهيته و يصير الحس مطابقا للعقل، و ذلك هو النهاية في الإيضاح. أ لا ترى أنّ الترغيب بالايمان و التزهيد عن الكفر مجردين عن ضرب الأمثال لا يتأكّد تأثيرهما في القلب، و إذا مثّل الإيمان بالنور و الكفر بالظلمة يتأكّد تأثير حسن الإيمان و قبح الكفر في القلب؟» «3».

بيد أنّهما يعودان للافتراق في

التعليل و نظرية التفسير. فالغرض من المثال في المدرسة الوجودية أو العرفانية ليس التأثير و مماشاة اختلاف مستويات الإدراك و حسب، و إنّما بيان حقيقة الأمر بهذا الأسلوب، و من ثمّ فإنّ وصف الإيمان بالنور

______________________________

(1)- الكافي 1: 23/ 15.

(2)- تفسير القرآن الكريم 7: 380.

(3)- التفسير الكبير 1: 293.

فهم القرآن، ص: 449

و الكفر بالظلمة ليسا وصفين تمثيليين بل هما حقيقة مشهودة تدلّ عليها الأحوال الباطنة للمؤمنين و الكافرين، و فعالهم الظاهرة و أحوالهم فيها مثال لها. يكتب الشيرازي تعقيبا على كلام الرازي: «أقول: قد علمت أنّ حقيقة التمثيل ما هو، و دريت أنّ الغرض ليس مجرّد التأثير و الوقع في النفس، بل بيان حقيقة الأمر و ملاكه و روحه. أو لا ترى أنّ الألفاظ المذكورة في هذه الآية «1»، من النار و الاستيقاد و الإضاءة و النور و الذهاب و الظلمات و غيرها كلّها محمولة على الحقيقة، مشهودة بنظر البصيرة، بل هي حقيقة أحوالهم الباطنة و التي هم عليها من الأحوال و الأفعال الظاهرة هي مثال لتلك الأحوال» «2».

ما يذهب إليه هذا الاتجاه من أنّ التمثيل لا يعني التخييل على سبيل الإيضاح و التأثير، بل هو تعبير عن حقيقة خاصّة بهذه اللغة، تسنده تصوّرات المدرسة الوجودية و رؤيتها الكونية بعامّة، كما يعضده فهمها الخاص لحقيقة القرآن و مراتبه.

فقد مرّ علينا ما ذهبت إليه في مرتكزاتها من أنّه ما من شي ء في عالم الصورة إلّا و له نظير في عالم المعنى «3»، و أنّه ما من شي ء في العالم إلّا و هو مثال لأمر روحاني و المثال المادي مرقاة إلى المعنى الروحاني «4»، و أنّ للحقائق أمثالا في كلّ عالم «5»، و ما في هذا العالم

أمثلة لما هو أعلى، و أنّ العوالم متطابقة الأدنى مثال الأعلى،

______________________________

(1)- يعني قوله سبحانه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. (البقرة (2): 17)

(2)- تفسير القرآن الكريم 2: 15.

(3)- نفس المصدر 4: 166.

(4)- نفس المصدر: 172.

(5)- نفس المصدر: 415.

فهم القرآن، ص: 450

و الأعلى حقيقة الأدنى و هكذا إلى حقيقة الحقائق «1». و بذلك تسجّل المدرسة صراحة: «و لا يتصوّر شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلّا بضرب الأمثال، و لذلك قال سبحانه: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2»» «3».

على هذا كلّه يسجّل مفسّر معاصر منتم للمدرسة ذاتها، أنّ الأمثلة تشير من جهة: «إلى نفس هذه الحوادث الخارجية و التكوّنات العينية» التي تتحدّث عنها الأمثلة و ليس إلى «القول». كما يسجّل من جهة اخرى بأنّ: «هذه الوقائع الكونية و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة، أمثال مضروبة تهدي اولي النهى و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق، كما أنّ ما في عالم الشهادة آيات دالّة على ما في عالم الغيب على ما تكرّر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالا مضروبة أو آيات دالّة» «4».

هذا المفسّر نفسه يلخّص وجهة المدرسة كاملة في بعديها، البعد الأوّل الذي يلتقي مع الاتجاه السائد في تفسير لغة المثال على أساس مماشاة المستوى الإدراكي للناس، ثمّ و الأهمّ من ذلك البعد الثاني الذي يجعل الأمثلة دالات لفظية على حقائق و ليست وسائل إيضاح مؤثّرة و حسب. يقول عن البعد الأوّل: «إنّ البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية، لأنّ البيان نزل في هذه

______________________________

(1)- نفس المصدر: 166.

(2)- العنكبوت

(29): 43.

(3)- تفسير القرآن الكريم 2: 5.

(4)- الميزان في تفسير القرآن 11: 337- 338، عند تفسير الآية العتيدة (17) من سورة الرعد، أي آية: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ.

فهم القرآن، ص: 451

الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلّا الحسيات و لا تنال المعاني الكلية إلّا في قالب الجسمانيات» «1».

فيما يقول عن البعد الثاني: «إنّ البيانات أمثال، و لها ما وراءها حقائق ممثّلة، و ليست مقاصدها و مراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس و المحسوس» «2».

حيث يكون الأمر كذلك، و أنّ لغة المثال القرآنية تعبير لفظي لمعان وجودية حقيقية، فلا معنى لحمل ألفاظ القرآن و نصوصه على غير هذه المعاني و النزوع إلى التأويل، بما يستبطن التعامل مع الألفاظ على أنّها ضرب من المجاز و الاستعارة، إلّا ما استثنته الضرورة. و هذه هي القاعدة التي لخّصها أحد رموز المدرسة بقوله: «إنّ ألفاظ القرآن يجب حملها على المعاني الحقيقية، لا على المجاز و الاستعارات البعيدة» «3».

و بذلك يتمّ الجمع بين لغة المثال القرآنية، و بين أن تكون هذه الأمثلة صور و قوالب و اطر لفظية لحقائق فعلية. هذه القاعدة تحوّلت إلى نبض يرسل بحيويته على جميع نصوص الإمام الخميني القرآنية و لمحاته التفسيرية، بحيث يصعب الاستشهاد عليها بمثال أو مثالين لكثرة حضورها و كثافته «4».

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 3: 62.

(2)- نفس المصدر: 63.

(3)- تفسير القرآن الكريم 4: 166.

(4)- يشهد هذا المبدأ حضورا مكثفا في اللمحات التفسيرية التي انطوت عليها الكتب التالية للإمام: سر الصلاة، آداب الصلاة، شرح دعاء السحر، الأربعون حديثا، و كتاب شرح حديث جنود عقل و جهل، مضافا إلى تفسير سورة حمد.

فهم القرآن، ص: 452

تبقى مسألة نوّهنا لها نهاية

المحور الثالث من هذا الفصل ترتبط بلغة العرفان، إذ هناك ظاهرة يرصدها المتابعون للأداء العرفاني تتمثّل بغموض اللغة و تعقيد الأسلوب، حيث يبدو الفكر العرفاني مليئا بالطلاسم و الشفرات بحيث يستدعي التعاطي معه إلى إنفاق جهد استثنائي كبير.

أكثر من ذلك تواجه هذه المدرسة تهما مكثّفة تنسب فكرها و أسلوبها الأدائي إلى تعمّد الغموض و التعمية و عدم الالتزام، و أنّها تلجأ إلى الهمهمات و المواجيد بل و إلى اللغة المراوغة عن قصد مسبق.

ما هي حقيقة هذه الظاهرة؟ و ما هي البواعث التي تملي اللجوء إليها؟ ثمّ ما هي التفسيرات التي يقدّمها العرفاء لتسويغ ذلك و تبريره؟

العرفاء و اللغة الإشارية
اشارة

ينبغي أن نفتتح هذه الفقرة بتأكيد مجدّد على أنّ ما يبلغه العارف أو المتصوّف من حالات و ما يصل إليه من معان، يبقى تجربة ذاتية و حسب، نحن لا ننكرها بيد أنّنا لا نلتزم بحجيتها أيضا ما لم يتمّ لها الحجة و يصار إلى إقامة البرهان عليها. و هذا التمييز بين مقام الكشف و الشهود في الدائرة الشخصية و بين تعميم معطياته إلى الآخرين بشرط البرهان و قيام الحجّة عليه، يحلّ لنا العديد من المشكلات.

فللعارف أن يعبّر عن مشاهداته و ما يفاض عليه من معان بأي لغة شاء ما دام ذلك لا يلزمنا بشي ء في دين اللّه و كتابه و شريعته، أمّا إذا ما رام تعميم تجربته فنحن و إياه على هدى أو في ضلال مبين، و المعيار هو البرهان و الدليل العقلي فيما له صلة بدائرة العقل، و الشريعة و معاييرها الواضحة في الحلال و الحرام و الواجب فيما له صلة بالشريعة و السلوك العملي و ما يرتبط بذلك من آداب.

فهم القرآن، ص: 453

الغريب أنّني بعد أن

انتهيت من كتابة هذه الضابطة وقفت على نصّ لابن عربي يستجمع عناصرها كاملة، فعند ما يبلغ في تقسيمه لمراتب العلوم (و هي عنده: علم العقل، علم الأحوال، علم الأسرار) إلى علم الأسرار، يقول في الموقف منه: «أمّا العاقل اللبيب الناصح نفسه فلا يرمي به، و لكن يقول: هذا جائز عندي أن يكون صدقا أو كذبا، و كذلك ينبغي لكلّ عاقل إذا أتاه بهذه العلوم غير المعصوم، و إن كان صادقا في نفس الأمر فيما أخبر به. و لكن كما لا يلزم هذا السامع له صدقه، لا يلزم تكذيبه، و لكن يتوقّف. و إنّ صدّقه لم يضرّه لأنّه أتى في خبره بما لا تحيله العقول، بل بما تجوّزه أو تقف عنده، و لا يهدّ ركنا من أركان الشريعة، و لا يبطل أصلا من اصولها.

فإذا أتى [صاحب علوم الأسرار] بأمر جوّزه العقل و سكت عنه الشارع، فلا ينبغي أن ترده أصلا، و نحن مخيّرون في قبوله. فإن كانت حال المخبر به تقتضي العدالة لم يضرّنا قبوله، كما نقبل شهادته و نحكم بها في الأموال و الأرواح، و إن كان غير عدل في علمنا، فننظر فإن كان الذي أخبر به حقّا بوجه ما عندنا من الوجوه المصحّحة قبلناه، و إلّا تركناه في باب الجائزات، و لم نتكلّم في قائله بشي ء، فإنّها شهادة مكتوبة نسأل عنها، قال تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ «1»» «2».

أحسب أنّ الرجل أنصفنا بهذا المعيار الذي ربط طرفي القضية و الحكم عليها صدقا أو كذبا بالدليل؛ بالعقل حين تكون عقلية و بالشرع و ضوابطه حين تكون شرعية.

______________________________

(1)- الزخرف (43): 19.

(2)- الفتوحات المكّية 1: 31.

فهم القرآن، ص: 454

نصل الآن إلى اللغة الإشارية أو الرمزية الغامضة

التي يلجأ إليها العرفاء، فإذ لا يسعنا أن ننكر ذلك، نسجّل أنّ هؤلاء القوم قد التفتوا إلى المشكلة بأنفسهم و قدموا لها عددا من التعليلات و التكييفات التفسيرية، نمر عليها كما يلي:

1- نظرية التعقيد الذاتي و ضيق اللغة

ربما كان أبرز تسويغ تلوذ به هذه المدرسة، أنّ هذه المعارف تستعصي بطبعها على قوالب الألفاظ و على المفاهيم و الأطر الفكرية المتداولة في لغة النظر العقلي، لأنّها عبارة عن معاينة و ملامسة و معايشة مباشرة و كينونة وجودية فعلية يحياها صاحبها من دون واسطة، تماما «كالعلم بحلاوة العسل و مرارة الصبر و لذة الجماع و العشق و الوجد و الشوق ... فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إلّا بأن يتصف بها و يذوقها» «1». و من هنا سمّيت ذوقية، لا لأنّها تخضع للذوق و المزاج و لا ينتظمها ناظم كما ظن بعض.

هذه الشكوى من ضيق اللغة و قصور وعائها عن استيعاب المعاني و التعبير عنها باللغة المألوفة، هي شكوى قديمة، و إلى ذلك لا تزال تسري بين المعاصرين.

و بتعبير النفري محمد بن عبد الجبار: «كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» «2»، و بحسب ابن عربي أنّ علم الأسرار لو «أخذته العبارة سمج و اعتاص على الأفهام دركه و خشن، و ربما مجّته العقول الضعيفة المتعصّبة ... و لهذا صاحب العلم كثيرا ما

______________________________

(1)- نفس المصدر: 31.

(2)- المواقف: 51، نقلا عن فلسفة التأويل: 269.

فهم القرآن، ص: 455

يوصله إلى الأفهام بضرب الأمثلة و المخاطبات الشعرية» «1». و من المعاصرين يذهب الطباطبائي إلى أنّ الإدراك الذوقي و الشهودي نادر في الحياة الإنسانية، و أنّ:

«الإنسان الذي يريد أن يبيّن معلومات هذا الإدراك الذوقي عن طريق آخر هو الفكر، سيكون حاله تماما كحال من يريد أن يعرّف

مجموعة من الألوان المختلفة لمولود أعمى بواسطة القوّة السامعة. لذا فإنّ من يريد أن يضع المعاني الشهودية في قالب الألفاظ يكون مثله تماما كمثل الذي ينقل الماء بالغربال من مكان لآخر» «2».

أمّا الإمام الخميني فيشير إلى المعضل ذاته، و يزيد عليه بأنّ من يتكلّم من العرفاء، و يسعى إلى صبّ مشاهداته و كشوفاته في إطار اللغة و في قالب الاصطلاحات و الألفاظ، فإنّما يفعل ذلك بدافع الرأفة بالناس و الرغبة في فتح قلوبهم إلى عالم الذكر و إشراكهم فيما ذاقه العرفاء، و إلّا ما من عائدة ترجع إليهم من وراء ذلك: «فالعرفاء الكمّل لما شهدوا ذلك ذوقا و وجدوا شهودا، وضعوا لما شهدوا اصطلاحات و صنعوا لما وجدوا عبارات، لجلب قلوب المتعلّمين إلى عالم الذكر الحكيم، و تنبيه الغافلين و تيقيظ الراقدين، لكمال رأفتهم بهم و رحمتهم عليهم. و إلّا فالمشاهدات العرفانية و الذوقيات الوجدانية غير ممكن الإظهار بالحقيقة، و الاصطلاحات و الألفاظ و العبارات للمتعلّمين طريق الصواب، و للكاملين حجاب في حجاب» «3».

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 1: 33.

(2)- مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي: 68- 69.

(3)- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 36.

فهم القرآن، ص: 456

2- نظرية الظنّ بالمعرفة و كتمانها

بيد أنّ المعضلة ليست معرفية صرفة، و إنّما تنتظمها عوامل اخر ربما لا تقل عن هذه أهمّية في دفع هذا الاتجاه إلى لغة الإشارة و الرمز، تتمثّل هذه المرة بالظنّ بالمعرفة و كتمانها و التوصية بسترها و عدم إفشائها لغير أهلها، و كذلك الخوف من تكفير أهل الظاهر أو إنكارهم على أقل تقدير. و هذه في الحقيقة سجية مضى عليها رموز هذا التيار قديما و حديثا بمن فيهم الإمام الخميني، ففي رسالة وجيزة تكررت الوصية بالكتمان و عدم إذاعة

الأسرار، و عدم الإذن للكاتب نفسه بالجهر ببعض المعارف قرابة عشر مرّات.

يشير الإمام في غير موضع من هذه الرسالة إلى أنّ المنهج فيها هو لغة الرمز و الإشارة، و أنّ: «بناءها على الاختصار و الإجمال، و الرمز و الإشارة في المقال» «1».

و أنّها موضوعة: «للرمز و الإشارة» «2». ليؤكّد في مواضع اخرى مسألة السرّ:

«و هاهنا أسرار اخرى لا يسعها المقام، و الأولى طي الكلام» «3»، ثمّ يوصي بقوله:

«و احتفظ بهذا و تبصّر» «4»، و على نحو أوضح: «و هذا من الأسرار فاحتفظ به ودعه يبقى تحت الأستار، و لا تذعه على أهل هذه الدار، فإنّهم من الأغيار» «5». و في

______________________________

(1)- التعليقة على الفوائد الرضوية: 133.

(2)- نفس المصدر: 136.

(3)- نفس المصدر: 92.

(4)- نفس المصدر: 117.

(5)- نفس المصدر: 108.

فهم القرآن، ص: 457

المفاد نفسه الذي يبدي فيه خوفه من إذاعة هذه الأسرار إلى الناس: «و هاهنا أسرار و رموز نتركها خوفا من أبناء الزمان و الإطالة في البيان، فإيّاك أن تفشو هذه الأسرار عند أهل هذه الديار» «1»، بل يزيد على ذلك بأنّه غير مأذون له بالبوح بها: «و هاهنا أسرار لا رخصة لإفشائها» «2»، كما قوله: «و هاهنا أسرار و رموز ... ليس هاهنا محل ذكرها و رخصة إفشاء أمرها، و لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا» «3».

لذلك يصف الإمام طريقته في إعطاء هذه المعارف بأنّها أشبه ما تكون بتسريبها سرا و بهدوء، من دون أن يكون ذلك مصحوبا بإعلان و ضجّة: «و الآن نذكر الوجهين بطريق الاختصار، و نتلو عليك سرا دون الجهار» «4». ثمّ لا ينسى الإمام الشكوى من الزمان و أهله و أنّ أوضاع أهله لا تسمح بفشوّ هذه المعارف: «لقد سلكنا في

هذه الأوراق طريق الإيجاز، و رفضنا التفصيل و التطويل بالإغماز، فإنّ المجال ضيّق، و الحال غير موافق، و أهل الزمان غير شائق لهذه الحقائق» «5».

هذه الشكوى من الزمان و التظلّم من أهله و الخشية من أهل الظاهر و تكفيرهم لأهل اللّه، و ما تمليه من لوذ بلغة الإشارة و الرمز، و تدثّر بالكتمان، تبرز بحذافيرها عند بقية أقطاب هذه المدرسة. فعند ابن عربي مثلا تحوّلت إلى موضوع أمعن الرجل في تحليله و إشباعه من مختلف الجوانب، حيث مرّ على دواعيه المعرفية

______________________________

(1)- نفس المصدر: 110.

(2)- نفس المصدر: 116.

(3)- نفس المصدر: 140.

(4)- نفس المصدر: 157.

(5)- نفس المصدر: 159.

فهم القرآن، ص: 458

و أبرزها الجمود على الظاهر و عدم معرفة غيره «1»، و النفسية و أبرزها الحسد «2»، من دون أن يهمل مطلقا بواعثه السياسية و الاجتماعية و ما تمنحه علوم الظاهر بنظره من وجاهة لأهلها تبوئهم لمواقع اجتماعية تنال رضا الجمهور و مباركة السلطة «3»، على النحو الذي يعزّ على بعضهم التخلّي عنها و عمّا تهبه لهم من شأنية و وجاهة «4».

فيرون حينئذ أنّ أهل اللّه و أصحاب المعرفة منافسون لهم في ذلك، فيدخلون في تحالف ضدّهم يرتكز في طرفيه إلى سلطة الجمهور و سلطة السياسة و الدولة مضافا لسلطة المعرفة «5».

______________________________

(1)- قوله: «و أكثر علماء الرسوم عدموا علم ذلك ذوقا و شربا». (راجع: الفتوحات المكّية 1: 272)

(2)- قوله: «فأنكروا مثل هذا من العارفين، حسدا من عند أنفسهم». (راجع: الفتوحات المكّية 1: 272)

(3)- يومئ إلى هذا التحالف بين بعض علماء الظاهر و السلطة بقوله: «و أمّا الملوك فالغالب عليهم عدم الوصول إلى مشاهدة هذه الحقائق ... فساعدوا علماء الرسوم فيما ذهبوا إليه» من التكفير لأهل اللّه. (راجع:

الفتوحات المكّية 1: 272)

(4)- كما في قوله حين يأخذ على بعض هؤلاء العلماء: «انكبابهم على حطام الدنيا و هم في غنى عنه، و حبّ الجاه و الرئاسة، و تمشية أغراض الملوك فيما لا يجوز». راجع: الفتوحات المكّية 1: 272)

(5)- مثل قوله: «و لكن علماء الرسوم لما آثروا الدنيا على الآخرة، و آثروا جانب الخلق على الحقّ ... حجبهم ذلك على أن يعلموا أنّ للّه عبادا تولى اللّه تعليمهم في سرائرهم». (راجع:

الفتوحات المكّية 1: 279)

يرى ابن عربي بشكل عام: «و ما خلق اللّه أشق و لا أشد من علماء الرسوم على أهل اللّه ...

فهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل عليهم السّلام». (راجع: الفتوحات المكّية: 279)

فهم القرآن، ص: 459

على ضوء هذه الشكوى و انطلاقا ممّا تحمله من مبرّرات في الواقع الموضوعي المعاش، جنح هذا التيار إلى لغة الإشارة: «فلمّا رأى أهل اللّه أنّ اللّه جعل الدولة في الحياة الدنيا لأهل الظاهر من علماء الرسوم ... سلّم أهل اللّه لهم أحوالهم ... و صانوا عنهم أنفسهم بتسميتهم الحقائق إشارات، فإنّ علماء الرسوم لا ينكرون الإشارات» «1».

نلحظ المسوغات ذاتها التي ترجع ظاهرة التعبير الرمزي إلى طبيعة الواقع الاجتماعي و ملابساته العلمية و السياسية و تفسيره على هذا الأساس؛ نلحظها عند قطب آخر من أقطاب المدرسة هو صدر الدين الشيرازي الذي يبدأ هو الآخر بالشكوى من الزمان، و ما عليه: «من نكائب الحدثان، و نوائب الحرمان، و ما عليه أبناؤه من ملازمة أغراض النفس و الهوى، و الانكباب على تمشية دواعي الجسم و القوى، و الإعراض عن اكتساب العلم و الهدى ... و الصمم عن مشاهدة أنوار هذا الوحي الذي يوحى، و النسيان عن ذكر اللّه و ملكوت ربنا

الأعلى» «2». بيد أنّ الأنكى من ذلك هو ما عبر عنه بقوله: «و لقد نشأ في زماننا هذا قوم يرون التعمّق في العلوم الإلهية و التدبّر في الآيات الربانية بدعة و وبالا، و مخالفة أوضاع الجماهير خدعة و ضلالا، لأنّه لم يتعدّ نظرهم عن ظهور هذه الاجسام، و لم يرتق فكرهم و قصدهم عن عمارة هذه الهياكل و الأبدان ... فانكروا العلم و أهله، و استرذلوا العرفان و فضله» «3».

لذلك تراه يلتزم الحذر العتيد فيما أراد بثّه من المعارف و الأسرار في مقدمات

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 1: 280.

(2)- مفاتيح الغيب: 3. و الجدير بالذكر أنّ المؤلف أراد لكتابه هذا أن يكون مقدمة لتفسيره.

(3)- نفس المصدر: 4.

فهم القرآن، ص: 460

تفسيره، دون أن ينسى وصيته بصونها عن الأغيار و عدم إفشائها إلّا لأهلها، حيث يعبّر عن ذلك بقوله: «و لقد أتيتك بما يمكنني من الأسرار التي ما زالت العرفاء الكبار و الحكماء أولي الأيدي و الأبصار، كتموها عن أهل الاغترار. و لما كثرت الأغيار وجب صون الأسرار عن الأشرار، إلّا أنّي لم أناج بها إلّا الصدور المنشرحة بالنور، لا القلوب القاسية بظلمات عالم الغرور ... فعليك يا خليلي بتقديسها عن القلوب القاسية الميتة، و أحذر عن استيداعها إلّا الصدور المنشرحة و الأنفس الزكية الحية» «1».

التأسيس الديني و العقلي

مهما كانت الدوافع التي أملت على أصحاب هذا الاتجاه الجنوح إلى لغة الإشارة و الرمز، و سواء أ كانت معرفية أو اجتماعية أو مركّبة من الاثنين معا، فإنّ رموزه يرون أنّ لهذا الأسلوب أصله التأسيسي في القرآن الكريم، كما أنّه يعبّر عن مبدأ ثابت في منهج الدعوات النبوية، مضافا إلى اتساقه مع القواعد العقلية في ممارسة العمل الديني مع الناس. و بتعبير

الإمام الخميني: «فإنّ لكلّ قوم لسانا، و لكلّ كلام مع كلّ متكلّم مقاما، كلّم الناس على قدر عقولهم «2»، و ما ارسل رسول إلّا بلسان قومه». «3»

______________________________

(1)- نفس المصدر: 8.

(2)- إشارة إلى النبوي الشريف: «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم».

(الكافي 1: 23/ 15)

(3)- إشارة لقوله سبحانه و تعالى في سورة إبراهيم، الآية 4: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. (التعليقة على الفوائد الرضوية: 138- 139)

فهم القرآن، ص: 461

على ضوء هذا الإطار نتعامل مع الكلمة التي سجّلها الإمام في الأسطر الأخيرة من كتابه «مصباح الهداية»، و اختار لها عنوان «خاتمة و وصية»، حيث جاء فيها قوله: «إيّاك أيّها الصديق الروحاني ثمّ إياك، و اللّه معينك في اولاك و اخراك، أن تكشف هذه الأسرار لغير أهلها أو لا تضنّن على غير فحلها.

فإنّ علم باطن الشريعة من النواميس الإلهية و الأسرار الربوبية، مطلوب ستره عن أيدي الأجانب و أنظارهم، لكونه بعيد الغور على جليّ أفكارهم و دقيقها.

و إيّاك و أن تنظر نظر الفهم في هذه الأوراق إلّا بعد الفحص الكامل عن كلمات المتألّهين من أهل الرواق، و تعلّم المعارف عند أهلها من المشايخ العظام و العرفاء الكرام، و إلّا فمجرد الرجوع إلى مثل هذه المعارف لا يزيد إلّا خسرانا و لا ينتج إلّا حرمانا» «1». و مع ذلك حتّى لو لاحت هذه المعارف و الأفكار إلى الآخرين، فلا ينبغي لهم المبادرة إلى رميها بالزخرف و البطلان لمجرد أنّها لا تتّسق مع أذواقهم و لا تنسجم مع ما ألفوه، ذلك أنّ لكلّ علم أهلا، و لكلّ مسير رجالا: «مع أنّ قرار الكاتب في هذه الرسالة أن أمتنع عن ذكر المطالب

العرفانية غير المألوفة، مكتفيا بالآداب القلبية للصلاة و حسب، إلّا إنّني أرى القلم و قد طغى، و قد تجاوزت بخصوص تفسير السورة الشريفة الحدود التي ألزمت بها نفسي. ليس باليد حيلة إلّا أنّ اوجّه عذري لأخوة الإيمان و للأصدقاء الروحانيين [الحوزويين] و بالضمن إذا لمس هؤلاء مطلبا لا يتطابق مع مذاقهم فلا يرمونه بالباطل دون تأمّل؛ لأنّ لكلّ

______________________________

(1)- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 90. و الجدير بالذكر أنّ الإمام انتهى من تأليف هذا الكتاب بتأريخ 25 شوال 1349 ه.

فهم القرآن، ص: 462

علم أهلا و لكلّ مسير رجالا. رحم اللّه امرأ عرف قدره و لم يتعدّ طوره «1»» «2».

هذا المعنى نفسه نراه واضحا في كتاب آخر من كتب الإمام، و قد عزّزه بلغة صريحة لا شوب فيها في الدفاع عن رموز هذا الخطّ، و تفسير بعض ما يعتور أفكارهم من غموض يبعث على الالتباس، على أساس اللغة الخاصة التي يستعملونها و ما تتخلّله من مصطلحات: «و اوصيك أيّها الأخ الأعز، أن لا تسوء الظنّ بهؤلاء العرفاء و الحكماء الذين كثير منهم من خلّص شيعة علي بن أبي طالب و أولاده المعصومين عليهم السّلام، و سلّاك طريقتهم و المتمسّكين بولايتهم. و إيّاك أن تقول عليهم قولا منكرا، أو تسمع إلى ما قيل في حقّهم فتقع فيما تقع.

و لا يمكن الاطّلاع على حقيقة مقاصدهم بمجرّد مطالعة كتبهم من غير الرجوع إلى أهل اصطلاحهم، فإنّ لكلّ قوم لسانا و لكلّ طريقة تبيانا» «3».

في السياق ذاته جاء حثّ الإمام المتكرّر على عدم إنكار مقامات الأولياء و العرفاء و أهل اللّه، و ربّما كانت المرة الأخيرة هي التي جاءت في ثوب وصية إلى نجله أحمد، حيث كتب إليه قبل

مدّة قليلة من وفاته «بني، ما أحرص على أن اوصيك به في الدرجة الاولى، هو أن لا تنكر مقامات أهل المعرفة، لأنّ ذلك اسلوب الجهّال، و أن تنأى عن معاشرة منكري مقامات الأولياء، إذ هؤلاء قطّاع طريق الحقّ» «4».

______________________________

(1)- غرر الحكم و درر الكلم، الفصل الثالث، حرف الراء، الحديث 1.

(2)- آداب الصلاة: 346، و قد ساق هذه الملاحظة أواخر الكتاب بعد الانتهاء من تفسيره سورة القدر.

(3)- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 36.

(4)- سرّ الصلاة، معراج السالكين و صلاة العارفين: 28 من المقدمة، و الجدير ذكره أنّ مقدمة

فهم القرآن، ص: 463

و بهذا تتّضح الحدود المتاحة لنقد أسلوب التعمية و الرمز في فهم الفكر أو الخطاب العرفاني، على أساس موضوعي، بعد أن اتضحت النظرية ذاتها و لما ذا يلجأ العرفاء إلى لغة الإشارة و الرمز و يلوذون بمصطلحات خاصة بهم و بفكرهم.

______________________________

هذه الطبعة هي الرسالة التي كتبها الإمام إلى نجله أحمد ليلة 15 ربيع الأوّل 1407 ه، حين أهدى إليه نسخة منه.

فهم القرآن، ص: 465

الفصل الثامن المعاصرة القرآنية

اشارة

صبغت قضية المعاصرة فكر المسلمين باسمها أو بمضمونها و محتواها خلال ما يزيد على مائة عام و لا تزال. و لم تستثن في تفاعلاتها النص القرآني، بل كان القرآن الكريم الحاضر دائما في القراءات العصرية و اطروحات المعاصرة.

في هذا السياق تبدو أمام ناظرنا إمكانات بناء موقف نظري خصب من المعاصرة القرآنية، يستمدّ محتواه من الفكر القرآني للإمام الخميني، أو على نحو أدقّ من مرتكزات الفهم و مبادئ الرؤية الوجودية التي ينتمي إليها و ينطلق منها.

و هذا ما مثّل لنا حافزا لدراسة الفكرة عبر هذا الفصل، من خلال المحاور التالية:

1- دواعي القول بالعصرية أو المداخل التي تملي التعامل مع القرآن

الكريم من خلال فضاءات المعاصرة.

2- بعض التحديدات المنهجية في معنى المعاصرة و غير ذلك.

3- بعض أبرز النظريات و الرؤى التي أفرزتها حركة الفكر من حول المعاصرة القرآنية.

4- الموقف الذي يلتزم به الفكر القرآني للإمام إزاء المعاصرة، موصولا بانتمائه العرفاني و خلفياته في المدرسة الوجودية.

فهم القرآن، ص: 466

1- مداخل المعاصرة

يمكن تلمّس ثلاث مجموعات من المنطلقات الرئيسية التي تؤلّف ضرورات المعاصرة القرآنية، هي:

أ- المنطلقات الكلامية: و هي التي صاغها علم الكلام و انتهى فيها إلى أنّ القرآن معجزة دائمة، و حجّة قائمة أبد الدهر، و هو كتاب آخر الأديان و معجزة خاتم النبيّين، و من ثمّ وجب أن يكون خالدا على مرّ الدهور و العصور صالحا لكلّ مكان و زمان و إنسان.

ب- المنطلقات النصوصية: بين أيدينا ثروة نصّية هائلة تفيد في مدلولها الأخير أنّ القرآن الكريم حي أبد الدهر، له رسالته التي يؤدّيها في كلّ عصر، منها ما في القرآن نفسه ممّا يدلّ على أنّ هذا الكتاب تبيان لكلّ شي ء، و ما في الحديث الشريف من قبيل: «إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شي ء حتّى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن، إلّا و قد أنزله اللّه فيه» «1»، و كذلك: «كتاب اللّه، و فيه بدء الخلق، و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض» «2»، و كذلك: «بل كلّ شي ء في كتاب اللّه و سنّة نبيه» «3»، و أيضا: «كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم و خبر ما بعدكم» «4».

______________________________

(1)- البرهان في تفسير القرآن 1: 14/ 1.

(2)- نفس المصدر: 15/ 16.

(3)- نفس المصدر:

15/ 18.

(4)- نفس المصدر: 15/ 17.

فهم القرآن، ص: 467

أيضا تلك الأحاديث التي تحثّ على قراءة القرآن و التدبّر فيه و التماس عجائبه و ما تطويه أعماقه، من قبيل: «القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تنقضي غرائبه». و كذلك المأثور الذي يفيد بأنّ من رام علم الأوّلين و الآخرين، فليثوّر القرآن. ينضم إلى هذه الحصيلة في الدلالة أحاديث الجري و أنّ آيات القرآن حية لا تموت: «و الآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام و ماتوا ماتت الآية لمات القرآن، و لكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين» «1». و كذلك: «إنّ القرآن حي لم يمت، و إنّه يجري كما يجري الليل و النهار، و كما تجري الشمس و القمر، و يجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا» «2».

ممّا يلتقي على الدلالة ذاتها أحاديث الظهر و البطن و أنّ لكلّ آية حدّا و مطّلعا، و من ثمّ فإنّ معانيها في تجدّد و انبثاق دائمين، حتّى ذكروا أنّ لكلّ آية ستّين ألف فهم. و كذلك أحاديث التأويل حيث تحدّثت صراحة أنّ منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد. و أيضا الأحاديث التي تفيد أنّ آيات اللّه خزائن، فهي إذن دائمة العطاء، لكلّ قارئ منها في كلّ عصر نصيب. و هذا هو المعنى الذي يمكن أن نستشفّه أيضا في المأثور الشريف الذي يفيد أنّ كتاب اللّه على أربعة أشياء، على العبارة و الإشارة و اللطائف و الحقائق. فكتاب آياته بهذه المثابة، و هو بهذا الوصف، حري أن يكون كتابا دائما لا ينضب عطاؤه على مرّ الدهور و كرّ العصور.

أخيرا إذا كانت روح المعاصرة و

قوامها هي المواكبة الحثيثة للزمن و القدرة على الديمومة و العطاء في كلّ عصر، فإنّ هذه هي صفة القرآن الكريم و خصّيصة

______________________________

(1)- نفس المصدر 2: 281/ 15.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 468

من أبرز خصائصه، على ما تنطق به النصوص الكريمة، و أدلّها ما يصف كتاب اللّه بأنّه: «لا يخلق على الأزمنة، و لا يغث على الألسنة» لما ذا؟ لأنّه: «لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان و حجّة على كلّ إنسان» «1». و أيضا: إنّ رجلا سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: ما بال القرآن لا يزداد عند النشر و الدرس إلّا غضاضة؟

فقال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يجعل «2» لزمان دون زمان، و لا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد و عند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة» «3».

أستبعد أن يبقى لإنسان شكّ في المعاصرة القرآنية، بعد دلالة هذه النصوص عليها مفردة و مجتمعة.

ج- منطلقات الثقافة الحديثة و تحدياتها: تلك التي مرّت علينا في المجموعتين الاولى و الثانية، تمثّل بواعث ذاتية أو داخلية للمعاصرة القرآنية. بيد أنّ اللوحة لا تكتمل من دون أن نضيف لها مكوّنا آخر يتمثّل هذه المرّة بما بات يعرف بصدمة الوعي الأوروبي، و ما راح يبلوره الفكر الآخر و ما تفرزه تياراته و من تأثّر بها من أبناء المسلمين، من تنظيرات و أفكار و نظريات حيال عصرية القرآن و معاصرته، يختلط فيها الغثّ بالسمين و الخطأ بالصحيح و السطحي بالعميق و الدخيل بالأصيل، ممّا يستدعي بأجمعه الجواب عليها بتحديد موقف نقدي من تلك النتاجات يقوم على معرفة واعية و تحليل عميق، و من ثمّ صياغة نظرية أو نظريات في مفهوم المعاصرة القرآنية تلبّي حاجة

الساحة إلى ذلك، بخاصّة مع عدم احتمالها لأي تأخير أو إهمال.

______________________________

(1)- نفس المصدر 1: 28/ 2.

(2)- هكذا في المصدر، و ربما كان الصحيح هو: يجعله.

(3)- البرهان في تفسير القرآن 1: 28/ 3.

فهم القرآن، ص: 469

2- تحديدات منهجية

لا بدّ في البدء من ثلاث إشارات يصحّ أن نسمّيها تحديدات منهجية، هي:

الاولى: تعدّ قضية المعاصرة قضية إشكالية اجتهادية تتحمّل أكثر من صيغة و العديد من الأفكار و الاجتهادات في آن واحد، من دون أن تكون ثمّ ضرورة لاسقاط بقية الاجتهادات أو النظريات في حال تبنّي إحداها. فما دامت الاجتهادات و النظريات تستند إلى اصول موضوعة ثابتة في مظانّها أو تؤسّس لنفسها اصولها الخاصّة التي يقوم عليها اجتهادها، فهي مشروعة بأجمعها.

على هذا لا مجال للكلمة الفصل و الخطاب الأخير و الرأي القطعي الذي يغلق المسألة و يستنفدها تماما، بل تبقى المعاصرة القرآنية قضية كلّ عصر، و يبقى ملفّها مفتوحا على عدد من الاجتهادات و الرؤى في كلّ وقت.

الثانية: تأسيسا على ما مرّ ليس للمعاصرة القرآنية صيغة واحدة تنتظم محتواها على الدوام، كما ليس لها شكل ثابت يعبّر عنها في كلّ وقت. فهي تطرح تارة من خلال إشكالية الثابت و المتغيّر، ليقال إنّ النص القرآني ثابت و الحياة متغيرة، فكيف له أن يجاري الحياة المتغيّرة؟

و تثار اخرى عبر إشكالية فهم النصّ، لتكتسب صيغا متعدّدة منها ما هو كلامي يتمركز من حول السؤال التالي: كيف نقرأ القرآن كنصّ مقدّس؟ و منها ما هو منهجي يعبّر عن نفسه بأشكال متعدّدة، منها: كيف نقرأ النصّ؟ بفصله عن واقعه مطلقا؟ أو بوصله مع واقعه تماما؟

لقد تعاطى السابقون مع النص القرآني من خلال مركّباتهم الذهنية و مكوّناتهم الثقافية و ميراث عصرهم، فلما ذا لا يجوز

لنا أن نفعل الأمر نفسه؟ ما يريد أن

فهم القرآن، ص: 470

يخلص إليه بعضهم عبر هذا المدخل للمعاصرة، أنّ القرآن و إن كان بذاته نصّا ثابتا إلّا أنّ فهمه سيّال متغيّر يتجدّد على الدوام، و من ثمّ فإنّ من حق كلّ عصر أن ينتج فهمه القرآني الخاص بعيدا عن إلزامات بقية العصور، بما في ذلك عصر الصحابة و التابعين و ميراث السلف، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تجاوز الدلالات الوضعية المباشرة لعصر النص ذات الصلة بقواعد اللغة و قيود النزول و القطعي الثابت من السنّة، و غيره ممّا نقّحته علوم القرآن على مرّ العصور.

على مستوى آخر قد تطرح مقولة المعاصرة و يراد منها ضرورة التوفّر على أسلوب تفسيري جديد يراعي الذهنية الموجودة و مستوى الثقافة العامّة في مجتمعاتنا، و يأخذ قضايا الواقع بنظر الاعتبار.

كما يلقي الفكر الآخر بظلاله على المسألة حين يجعل المعاصرة ضدّا للنص القرآني بوصفه نصا تأريخيا، لينتهي إلى القول: صحيح أنّ القرآن لبّي حاجات عصره و استجاب لها في نزوله، لكن لما ذا ننتظر منه الاستجابة لحاجات عصرنا؟

بمعنى أنّ القرآن نص تأريخي يرتبط ببنيات عصره الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و حالة الناس الحضارية في ذلك الوقت.

ثمّ إلى جوار ذلك صيغ كثيرة اخرى تعيد إنتاج مفهوم المعاصرة على الدوام، و هي تخرج به من أحشاء بواعث كلامية و تأريخية و منهجية، فضلا عن إسقاطات الثقافة الحديثة، ممّا يسمح بتعدّد معاني المعاصرة لا فرق بين ما ينبثق من داخل فضاءات الفكر القرآني أو الإسلامي عامة، و بين ما ينطلق من فضاءات الفكر الآخر.

الثالثة: لا تدّعي الأسطر التي ستوافينا في المحور الثالث الذي ينهض باستعراض بعض الأفكار في المعاصرة القرآنية، أنّها تمارس استقراء

تامّا لما

فهم القرآن، ص: 471

أفرزته حركة الفكر المعاصر حيال هذا المفهوم، إنّما هي إشارات عاجلة حسبها أنّها تمنحنا تصوّرا عامّا للإشكالية و بعض ما اجتهدت به العقول من نظريات و أفكار على هذا الصعيد، لكي يتمّ لنا على أساس هذا التصوّر الانتقال إلى المحور الرابع و الأخير، لنلمس عن قرب إمكانات الفكر القرآني للإمام و للمدرسة العرفانية على نحو عام في مواجهة هذه الإشكالية و تقديم نظريات في هذا المضمار، داخل نطاق يسمح بالمقارنة بينها و بين بقية النظريات.

3- بعض أبرز النظريات

لأجل أن يكتسب الطرح في هذا الفصل طابعا تطبيقيا يعين على الفهم و المقارنة، نعرض فيما يلي لعدد من النظريات و الأفكار التي أفرزتها حركة الفكر خلال العقود الأخيرة:

1- عكفت شريحة من المفسّرين و الباحثين لتحقيق القراءة العصرية للقرآن الكريم من خلال الحث على المنحى الاجتماعي الذي يركّز على استقصاء المدلولات الاجتماعية للنصّ، و ربط ذلك مع أسئلة الواقع المعاش و احتياجات المسلمين فيه.

لا يكاد يخلو من هذه النزعة تفسير خلال القرن الأخير. فهي واضحة في تفسير «المنار» للثنائي محمد عبده و رشيد رضا، و تفسير المراغي و الطاهر بن عاشور و سيد قطب و محمد جواد مغنية، و التفسير «الأمثل» لمكارم شيرازي، كما لا تخلو منها بحوث واسعة من تفسير «الميزان» للطباطبائي، و «قبس من القرآن» للطالقاني و غير ذلك كثير.

2- كما مال بعضهم لاستيفاء المدلول العصري للقرآن من خلال التركيز على

فهم القرآن، ص: 472

الأبعاد العلمية. و ربما كان أبرز هؤلاء طنطاوي جوهري و أحمد خان، و الأعمال القرآنية لعبد الرزاق نوفل و مهدي بازركان و مصطفى محمود و غير هؤلاء كثير.

لقد واجهت هذه النزعة نقدا شديدا يرجع في جوهره إلى أنّ القرآن

كتاب هداية و ليس كتابا للعلوم الطبيعية. بالإضافة إلى ما في إقحام العلوم الطبيعية و تحميلها على القرآن من مضار ناتجة عن الطابع المتغيّر الذي تتّسم به هذه العلوم.

و ما يلحظ هو أنّ نزعة التفسير العلمي تدخل ركنا مهما في تكوين ما يطلق عليه ب «التفسير العصري»، بل هناك من يرادف بين العلمي و العصري و يجمعهما في معنى واحد، مع أنّ ذلك ليس صحيحا «1»، لأنّ العصري أعمّ من العلمي و أشمل منه.

3- كتجربة خاصّة يلحظ أنّ هناك عددا من العناصر المنهجية و المضمونية التي يمكن رصدها في تفسير «الميزان» تنهض بتحقيق عصرية القرآن. منها الفصل بين التفسير و التطبيق، فعلى قدر ما يكون الأوّل محدودا فإنّ الثاني موسّع بمقدوره أن يستوعب كثيرا ممّا يدخل في تكوين المعاصرة بمختلف أبعادها.

من العناصر المنهجية الاخرى في استكناه هذا البعد قاعدة الجري، و مبدأ تفسير القرآن بالقرآن و استيلاد معان جديدة بالطريقة التي يستخدمها المؤلف، و توظيف مبدأ بطون القرآن في مدّ النص القرآني على طبقة من المعاني العمودية التي يترتب بعضها على بعض سعة و عمقا، و الركون إلى مبدأ وحدة المفهوم و تعدّد المصاديق مع توسيع دائرة المصاديق لتشمل ما هو غيبي بالإضافة إلى ما هو مادّي، و هكذا إلى بقية العناصر.

4- ممّن دخل على الخط المفكّر الإيراني عبد الكريم سروش الذي أولى

______________________________

(1)- راجع: قرآن و تفسير عصرى.

فهم القرآن، ص: 473

المسألة اهتماما نظريا واسعا، بحيث أضحى العمل على المعاصرة في الفهم الديني عامّة من العلامات الفارقة لشخصيته الفكرية و الثقافية عبر ما بات يعرف بنظرية تكامل المعرفة الدينية.

جوهر ما ذهب إليه سروش هو التمييز بين النص الديني المقدّس الثابت و الفهم الديني السيال المتغيّر

المتجدّد دائما، عبر علاقة تبادلية مفتوحة بين المعرفة الدينية و المعارف التي تنتجها البشرية في كلّ عصر. فبمقتضى هذه الرؤية انحلّت لديه مشكلة المعاصرة ليس في مضمار المعرفة القرآنية وحدها، بل في مجال الفهم الديني برمته «1».

5- من الرؤى في هذا الاتجاه ما عرض له المفسّر المعاصر الشيخ جوادي آملي من تفاعل بين عالم التكوين و عالم التدوين؛ أي بين الوجود و القرآن. فإذا ما كان الإنسان واعيا للتناسق القائم بين الاثنين فسيدرك جيّدا بأنّ كلّ كلمة (واقعة، حدث، فكرة) جديدة في عالم التكوين، ستكون حافزا لتجلي معنى جديد للنص القرآني. هكذا تمضي متغيّرات الوجود و مستجدّات العصر باتجاه تحقّق المعاصرة القرآنية، من خلال حركة مستمرّة تتجلّى بها معان جديدة لكتاب اللّه.

بيد أنّ هذه الرؤية لا تتحقّق بحسب صاحبها، إلّا بوجود فاعل حيوي يمثّله المفسر العارف بالقرآن و بزمانه معا؛ بالنص و بالوجود، أو بالوجودين التدويني

______________________________

(1)- راجع: قبض و بسط تئوريك شريعت. لقد أثارت النظرية مناقشات واسعة في الأجواء الفكرية الإيرانية و ردود فعل نقدية كثيرة لسنا بصددها، منها ما كتبه الشيخ جوادي آملي مقرّا بصحّة أصل نظرية تكامل المعرفة، و مسجّلا ما يكتنفها من مزالق كثيرة بحسب تعبيره، مقترحا ترميمها بتلافي تلك المزالق. (راجع: شريعت در آينه معرفت: 89)

فهم القرآن، ص: 474

و التكويني «1».

6- من النزعات ما يذهب إلى تحقيق المعاصرة القرآنية عبر التجديد اللغوي. هذه النزعة تكاد تنبسط على عدد من المحاولات المعاصرة في فهم القرآن و التعاطي مع نصه الكريم، بل هي ترمي بظلالها على أبرزها و إن ضمّت إليها عناصر اخر.

للغة دورها و لا ريب، لكن الاكتفاء بها وحدها أو التركيز المبالغ عليها بذريعة أنّ القرآن هو نصّ لغوي في

نهاية المطاف، يجرّ إلى مزالق خطيرة. فدور اللغة أنّها حامل للعصرية و وسيط ينهض بالمعنى العصري، لا أنّها بذاتها مستودع العصرية، كما تذهب إلى ذلك النزعات اللغوية و نظريات النظم و الدلالة و الألسنية و الاتجاهات الأدبية. و حتّى لو أخذنا بأبرز حجة لهؤلاء متمثّلة في أنّ القرآن نص لغوي، فهي غير تامّة لأنّ لهذه اللغة بنية خاصّة هي التي تسوّغ القول بالإعجاز اللغوي.

تكفي نظرة سريعة في هذا الاتجاه لبعض الاستنتاجات التي خرجت بها واحدة من القراءات المعاصرة، و هي تستند- فيما تستند إليه- إلى النزعة اللغوية «2».

7- ثمّ تيار يذهب إلى إقحام المنهجيات الحديثة على النص القرآني لتحقيق القراءة العصرية. و ربما كان خير مثال على ذلك أعمال محمّد أركون و سعيه الدائم لتوظيف العلوم الإنسانية في هذا المجال «3».

______________________________

(1)- راجع: رسالت قرآن: 16.

(2)- راجع: الكتاب و القرآن، يلاحظ أنّ بعض مناشئ هذا الاتجاه تعود إلى أمين الخولي، تابعه عليه محمّد أحمد خلف اللّه و محمّد النويهي و نصر حامد أبو زيد.

(3)- من العسير أن يفهم المرء- أو هكذا يبدو الأمر لكاتب هذه السطور- ما يريده أركون

فهم القرآن، ص: 475

يلتقي مع هذه النزعة و لو بالعنوان، تلك الاتجاهات التي تسعى لقراءة النص القرآني عبر منهجيات تفسيرية جديدة، مثل المنهج الموضوعي، و المنهج السنني، و المنهج الترابطي، و المنهج البياني، و المنهج الوجودي و غير ذلك، و إن اختلفت معها بالمضمون و الدوافع في الغالب.

8- توظيف الهرمنيوطيقا في فهم النص، مع ما يصاحب ذلك من تنويعات بل و اختلافات ناشئة من الاختلاف في تحديد الهرمنيوطيقا، و تعيين دلالات هذه النزعة و مكوّناتها.

لقد ساوى بعضهم بين الهرمنيوطيقا و التفسير أو نظرية التفسير فيما ذهبت شريحة

واسعة من الباحثين إلى مقاربة معنى المصطلح بالتأويل أو عدّه نظرية التأويل، مع الأخذ بنظر الاعتبار المسافة الفاصلة بين دلالة المصطلح على التفسير أو التأويل، و بين حمل معناه على نظرية التفسير أو نظرية التأويل.

كما ذهب بعض الدارسين إلى تحديد مسارين رئيسيّين للهرمنيوطقيا أحدهما برز مع شلير ماخر (ت: 1843 م) و ديلثي (ت: 1911 م) و يتعاطى مع هذا العلم بوصفه نظاما عامّا لمعرفة المنهج الثاوي وراء التأويل، و الثاني مع مارتن هيدجر الذي يرى فيه بحثا فلسفيا يدور حيال حالة الفهم و شروطها الضرورية «1».

ذكروا أيضا أنّ هذا المصطلح يتضمن تطبيقيا ثلاث مراحل، هي: النص،

______________________________

- تحديدا. و بشأن أعماله القرآنية يمكن مراجعة: قراءات للقرآن، بالفرنسية، باريس 1982.

و راجع كمراجعة بالعربية لمشروعه الذي يقترحه في هذا الكتاب: مجلة 15- 21، العدد 5، شعبان 1403 ه: 26- 29، الإسلام بين الأمس و اليوم، رؤية جديدة للقرآن، نافذة على الإسلام.

(1)- راجع: علم الهرمنيوطيقا: 55، إشكاليات القراءة و آليات التأويل: 13- 49.

فهم القرآن، ص: 476

التفسير، المفسّر. في حين أرجعه بعضهم إلى ثلاثية: القصد، النص، التفسير. كما أشار بعضهم الآخر إلى أنّ الهرمنيوطيقا تنفكّ عقليا إلى ثلاثة أسئلة، هي: 1 ما هي ماهية النص؟ 2 ما معنى فهم النص؟ 3 كيفية فهم النص؟

لكن برغم هذه التنويعات و الاختلافات في المصطلح و دلالته و معناه «1»، فإنّ من يقحمه في مضمار التعامل مع النص القرآني، إنّما يعني به مجموعة القواعد و المعايير التي ينبغي للمفسّر (مفسّر النص) أن يتبعها لفهم النص الديني، و هو القرآن الكريم هنا «2».

بديهي أنّ فهم النص أو قراءته و تأويله في نطاق الظاهرة الهرمنيوطيقية هو غير إدراك معناه اللغوي. و بذلك فإنّ كلّ

نص يتضمّن عددا من القراءات و إن شئت قلت من الفهوم و التأويلات، التي ستتحوّل إلى قراءات مفتوحة بلحاظ وصلها بقصد صاحب النص أو فصلها عنه، و لجهة ما يسقطه قارئ النص على النص ممّا تفيض به خلفيته الذهنية من مسبقات و مصادرات، و أخيرا بلحاظ ما يرتقبه المخاطب بالنصّ من النصّ.

هذا الحشد من العوامل يمنح النص جاهزية دائمة، بحيث يكون مفتوحا على قراءات متجدّدة باستمرار، هي التي تحقّق عصريته «3».

______________________________

(1)- راجع في هذه التنويعات: كتاب نقد (الكتاب النقدي) العدد المزدوج 5- 6، محور:

التفسير بالرأي ... النسبية و الهرمنيوطيقا، أيضا و بالعربية: مجلة الحياة الطيبة، العدد 8: 33- 68، (الهرمنيوطيقا و علم التفسير).

(2)- راجع: إشكاليات القراءة و آليات النص: 13.

(3)- خير تطبيق لهذه النزعة، هو كتاب: هرمنوتيك كتاب و سنت (هرمنيوطيقا الكتاب و السنة)، كما تظهر لها تطبيقات في بعض أعمال أبو زيد و حسن حنفي.

فهم القرآن، ص: 477

الطريف أن نعرف أنّ بعض الدارسين بلغ به الحماس لهذه النزعة حدّا دفعه إلى تطبيق قواعدها و مفاهيمها و رؤاها على الفكر القرآني للإمام الخميني «1».

9- النزعة التأويلية التي تستند إلى إعمال العقل و اجتهاد الرأي في تقديم فهم متجدّد للقرآن. لا بدّ أن نشير بدءا إلى اختلاف الرؤى حيال معنى التأويل و تعدّد الأقوال فيه. و الذين يأخذون منه مركبا لإنجاز القراءة العصرية يرون في التأويل ممارسة ذهنية و حركة نظر عقلي لإدراك ماوراء الظواهر التي يضطلع بها التفسير.

و بذلك يعدّ التأويل لدى هؤلاء مرحلة تلي التفسير. على حين ثمّ من المفسّرين من يرفض هذا المعنى بضرس قاطع و يراه متعارضا مع المعنيين اللغوي و القرآني «2».

ثمّ عدد وافر من الباحثين المعاصرين ولجوا قراءة النص

القرآني انطلاقا من ذلك المعنى للتأويل، منهم علي حرب الذي صار عنده النص، هو: «دلالة لا تحصر و معنى لا يضبط، و إذن فمن الصعب القرار على تفسير واحد أو تأويل وحيد الجانب» «3». بيد أنّ الأهم في هؤلاء جميعا هو نصر حامد أبو زيد الذي غابت الدراسة الموضوعية عن تقييم أعماله و كتبه وسط التداخل بين البعدين العلمي و السياسي، فضلا عن المزايدات الإعلامية و الدينية التي اكتنفت قضيته، حتّى آل الأمر إلى تكفير البعض له «4».

______________________________

(1)- راجع: مجلة بحوث قرآنية، المزدوج 19- 20، خريف 1999: 106- 123، إمام خميني، تفسير و هرمنوتيك (الإمام الخميني: التفسير و الهرمنيوطيقا).

(2)- الميزان في تفسير القرآن 3: 44- 49.

(3)- راجع: التأويل و الحقيقة: 45.

(4)- أشهر أعمال أبو زيد: الاتجاه العقلي في التفسير (1982)، فلسفة التأويل (1983)، مفهوم-

فهم القرآن، ص: 478

يطرح أبو زيد العديد من الأفكار منها المعنى و المغزى. و هذه اطروحة تجمع بين توفّر النص على دلالة محدّدة هي معناه التأريخي في عصر النزول، و امتلائه في الآن نفسه بدلالات مفتوحة على عصور تالية من خلال المغزى. بتعبيرات الكاتب نفسه: «المعنى يمثّل المفهوم المباشر لمنطوق النصوص ... و هو المفهوم الذي يستنبطه المعاصرون للنص من منطوقه». بهذه المثابة فإنّ «المعنى يمثّل الدلالة التاريخية للنصوص في سياق تكوّنها و تشكّلها»، بيد أنّ: «الوقوف عند دلالة المعنى وحدها يعني تجميد النص في مرحلة محدّدة و تحويله إلى أثر و شاهد تاريخي». و هذا ما يتنافى مع المكانة المعرفية الخاصّة التي تتمتّع بها النصوص الدينية من حيث أنّ «دلالتها لا تتوقّف عن الحركة» «1»، و بذلك صار من الضروري اللوذ بأسلوب خاص يحفظ للنص الديني حيويته و استمراريته و

تدفّقه بالمعاني في كلّ وقت، و هذا ما ينهض به المغزى، ف «المغزى ذو طابع متحرّك مع تغيّر آفاق القراءة» «2».

ما يلحظ في هذه الأطروحة أنّ الكاتب ينظر إلى المغزى كأمر ملامس للمعنى منطلق منه دون انفكاك، في عين كونه متحرّكا «بحكم ملابسته لآفاق الحاضر و الواقع» «3». ثمّ إنّ المغزى يصاب بتوسّط مبدأ التأويل العقلي، و التأويل هنا

______________________________

- النص (1990)، إشكاليات القراءة و آليات التأويل (1992)، النص- السلطة- الحقيقة (1995)، الخطاب و التأويل (2000 م).

(1)- راجع: الخطاب الديني، رؤية نقدية: 151.

(2)- نفس المصدر: 152.

(3)- نفس المصدر: 153.

فهم القرآن، ص: 479

أشمل من التفسير، التأويل في هذا الاتجاه هو بمنزلة الآلة المولّدة التي لا تتوقّف عن إنتاج المعاني و الدلالات: «في حالة القرآن فإنّ أي دراسة لتاريخ التفسير تكشف عن قيام (التأويل) دائما بدور الرافعة الدلالية» «1». كما ينضبط عنده التأويل و يبتعد عن أن يكون محض «تلوينات» يسقطها قارئ النصّ على النصّ القرآني، لتتحقق المعاصرة القرآنية عن هذا السبيل. يكتب: «إنّ المعنى ذو طابع تاريخي ...

و المغزى، و إن كان لا ينفكّ عن المعنى بل يلامسه و ينطلق منه ذو طابع معاصر، بمعنى أنّه محصّلة لقراءة عصر غير عصر النص» «2».

في نطاق الظاهرة التأويلية ذاتها يذهب حسن حنفي إلى معنى غريب يجافي كثيرا من مسلّمات العلوم، بل يتهافت مع رؤاه الاخرى. فهو يرى النص القرآني في مرحلة النزول واقعة محدّدة الثغور معروفة المعنى. لكن تبدأ المشكلة في العصور التالية حينما يقحم النص في لعبة الأهواء، فيستخدم استخداما غير مشروع طبقا للأهواء و المصالح. و في كلا الحالين فالنص فارغ من المضمون، طائر في الهواء بلا محل، و بتعبيره: «إنّ النص بطبيعته مجرد صورة عامة

تحتاج إلى مضمون يملؤها.

و هذا المضمون بطبيعته قالب فارغ يمكن ملؤه من حاجات العصر و مقتضياته».

كيف يتمّ ذلك في النسق المشروع؟ يتمّ من خلال التأويل: «فالتأويل ضرورة للنص» و التأويل يحقّق القراءة العصرية، لأنّه ما هو إلّا: «وضع مضمون معاصر للنص» «3».

10- من الاتجاهات البارزة هو الاتجاه الذي يسعى إلى تحقيق المعاصرة

______________________________

(1)- الخطاب و التأويل: 264.

(2)- الخطاب الديني، رؤية نقدية: 152.

(3)- من العقيدة إلى الثورة 1: 374- 375.

فهم القرآن، ص: 480

القرآنية عبر التفاعل ما بين الواقع و النص، إيمانا منه بأنّ القراءة المعاصرة لا تتحقّق من خلال النص وحده ككيان مغلق، و لا من خلال التجديد اللغوي، و لا أيضا عبر الممارسة العقلية الاجتهادية النظرية المفصولة عن الواقع، التي تكتسب أحيانا عنوان التأويل العقلي و هي تتحرّك بين مفهوم و مفهوم، أو بين منطوق و دلالات و معان متعدّدة، أو بين مفهوم و مصاديق متعدّدة، أو بين ظهور بسيط و آخر مركّب، أو بين معنى و لوازم معنى، أو بين لفظ ثابت و معنى متغيّر، أو بين معنى و مغزى، إلى آخر الصيغ المغلقة في إطار الألفاظ و الكلمات و المفاهيم و الاجتهادات النظرية.

لا ريب أنّ أحد أبرز المشكلات التي وقعت بها محاولات القراءة العصرية للقرآن، أنّها فهمت المعاصرة في اللغة و المدلولات اللغوية، و في المفاهيم و مدلولاتها أو في النظريات عامّة، فراحت تركّز على النص و ما يتصل به، مهملة من جهة الواقع المعاش أشدّ الإهمال، و الحقائق الوجودية الكامنة وراء الألفاظ من جهة اخرى «1».

و رفض المعاصرة و التجديد من خلال اللغة، و الانفتاح على الواقع المعاش و إدراجه في متن المهمة التفسيرية، هما حدّا الرؤية التي اعتمدها أصحاب هذا الاتجاه

في تحقّق المعاصرة القرآنية.

يكتب السيد محمد باقر الصدر (ت: 1980 م) الذي يعدّ عبر منهجه المقترح للتفسير الموضوعي، أحد أبرز رادة هذا الاتجاه في العقدين الأخيرين؛ يكتب عن الحدّ الأوّل: «التفسير اللغوي ينفد لأنّ اللغة لها طاقة محدودة، و ليس هناك تجدّد

______________________________

(1)- هذه الحقائق التي يذهب للإيمان بها العرفاء و المدرسة الوجودية، و يعدّون الألفاظ القرآنية بتبع ذلك الصورة الكتبية لتلك الحقائق و الوجود الأدنى لها.

فهم القرآن، ص: 481

في المدلول اللغوي، و لو وجد تجدّد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن، و لو وجدت لغة اخرى بعد القرآن لا معنى لأن يفهم القرآن من خلال لغة جديدة، أو مصطلحات جديدة أو ألفاظ جديدة تحمل مدلولات وضعية استهدفت بعد القرآن» «1».

في إطار الفهم الذي أسّس له الصدر للتفسير الموضوعي، سجّل أنّ المفسّر الموضوعي لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة، فيركّز نظره على موضوع من موضوعات الحياة و يستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حيال ذلك الموضوع من مشاكل، و ما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، و ما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة و من نقاط فراغ، ثمّ ينتقل إلى النصّ القرآني ليبدأ حوارا معه، هو يسأل و القرآن يجيب.

ما تعني هذه الرؤية تأكيده هو عصرية القرآن، و تجدّد المعرفة القرآنية و قدرتها الدائمة على المواكبة، لما يوفّر لكتاب اللّه القيمومة على الحياة. فالمفسّر فيها ينطلق من الواقع إلى القرآن، لا أنّه يبقى يدور في حركة مغلقة تبدأ من النصّ و تنتهي بالنصّ، فتنفصل قراءته عن نبض الواقع و حركة الحياة، بما تحفل به من تيارات و رؤى و مشكلات.

و ما يثيره الواقع من أسئلة و قضايا: «هنا يلتحم القرآن مع

الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة، لأنّ التفسير يبدأ من الواقع و ينتهي إلى القرآن». و مهمّة «التفسير الموضوعي دائما- في كلّ مرحلة و في كلّ عصر- أن يحمل كلّ تراث البشرية الذي عاشه، يحمل أفكار عصره، يحمل المقولات التي تعلمها في تجربته البشرية، ثمّ

______________________________

(1)- المدرسة القرآنية: 23.

فهم القرآن، ص: 482

يضعها بين يدي القرآن».

على هذا النحو تتحقّق المعاصرة القرآنية، و «تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائما، قدرته على العطاء المستجدّ دائما، قدرته على الإبداع» «1».

لا مانع عندئذ أن تستعين هذه القراءة بلغة تفسيرية تناسب روح العصر، بوصف اللغة أداة تحمل التجديد و تعبّر عنه، لا أن تكون بنفسها منبع التجديد و مصدر القراءة العصرية.

و في الوقت الذي تحرص به هذه المنهجية على الواقع فهي لا تضحّى بالنص القرآني، و لا تحمل عليه معطيات الواقع و تفرضها على القرآن فرضا، فتفرغه من معناه، و تجعله يكتسب في كلّ قراءة لونا. عند هذه النقطة تتقاطع قراءة الصدر مع قراءة اخرى للمعاصرة القرآنية عبر الواقع، بلغ بها تطرّف الانحياز إلى الواقع مستوى النظر إلى النص على أنّه «قالب دون مضمون» «2».

هذه جملة من الأفكار و الآراء في هاجس القراءة العصرية للقرآن لم نسقها كأقسام متباينة غير متداخلة.

و من ثمّ لا ندّعي أنّها جاءت جامعة مانعة تنطبق عليها قواعد القسمة بالمعنى المنطقي، بل هي إشارات سريعة دورها أن تعدّ الذهن للدخول إلى المحور التالي و الأخير من محاور هذا الفصل، لكي تسهل عملية المقارنة بينها و بين النظرية الأخيرة التي سنعرض لها على هذا الصعيد.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 7- 38.

(2)- من العقيدة إلى الثورة 1: 375.

فهم القرآن، ص: 483

4- نظرية الإمام في المعاصرة

اشارة

لا نستطيع أن نزعم بأنّ فكر الإمام الخميني و

نصوصه القرآنية قدّما معالجة للمعاصرة القرآنية تنطلق من تعامل مباشر مع الإشكالية. فمسائل من قبيل حقيقة القرآن، و مراتب الفهم و موانعه، و التفسير و المفسّر، و التفسير بالرأي، و الظاهر و الباطن، و التأويل، و المحكم و المتشابه، و حجّية الظهور، و الإعجاز، و معنى الوحي و كيفية نزول القرآن، و الحروف المقطعة و نفي التحريف و ما إلى ذلك توفّر النص الخميني على عنونتها كمسائل قائمة بذاتها في علوم القرآن، و مبادئ التفسير، و تعامل معها مباشرة بأسمائها و عناوينها فضلا عن مضامينها.

أمّا في قضية المعاصرة القرآنية فما خلا بضعة إشارات إلى مضمونها، لا ندّعي أنّ الإمام خصّص لها عنوانا مستقلا، بحيث عمد من خلال ذلك إلى تحليل المشكلة و تفكيك عناصرها من خلال الموروث الفكري و النظري المتراكم من حولها، بغية إعادة تركيبها في تشييد نظري جديد يعبّر عن موقفه منها. و إنّما بين أيدينا موروث مهم من النصوص و الأفكار و النظريات التي تعود إلى الإمام مباشرة أو تنتمي إلى مدرسته العرفانية، تسمح لنا باستنباط رؤية تعالج إشكالية المعاصرة على ضوء ما تقتضيه المنظومة العرفانية التي يتبنّاها و مذهبها الوجودي الذي ينتمي إليه.

على هذا ستكون المحاولة في هذا المحور أقرب إلى الاجتهاد في استنباط النظرية و بناء مكوّناتها، لكن على ضوء ما تسمح به نصوص الإمام خاصّة و فكر المدرسة العرفانية عامّة، و في إطار ما تقتضيه المنظومة ذاتها.

الحقيقة بمقدورنا ردم عدد من الثغرات و سدّ ما نواجهه من نقاط فراغ في

فهم القرآن، ص: 484

الرؤية القرآنية للإمام، عبر اللجوء إلى هذا الأسلوب. فليست قضية المعاصرة القرآنية وحدها هي ما يمكن تغطيته على هذا النحو، بل المجال مفتوح لممارسة الاجتهاد و

استنباط الرؤى و بنائها و تشييدها بإزاء غير واحدة من القضايا الأخر الشبيهة بهذه القضية، و الخروج بصياغة نظرية تتجاوب مع ما يقتضيه مذهب الإمام الفكري و انتمائه المدرسي.

لنأخذ مثلا قضية ديمومة القرآن و استمراره في أداء رسالته على مرّ العصور دون انقطاع، و كيف يمكن أن نخرج بهذه النتيجة من أحشاء الرؤية الوجودية التي تجعل القرآن الكريم مظهرا لاسم اللّه الأعظم أي الذات مأخوذا فيها الأسماء و الصفات. فالإمام هنا لا يلجأ إلى علم الكلام و حججه المعروفة في إثبات دوام القرآن و خلوده، انطلاقا من مقولة أنّ الإسلام هو الدين الخاتم، و من ثمّ فهو بحاجة إلى معجزة دائمة، و القرآن هو هذه المعجزة، بل يؤسّس لذلك من خلال النظرية الأسمائية نفسها لتكون هي بمنزلة الأساس أو المقدّمة، و دوام القرآن و خلوده بمنزلة النتيجة أو كلازمة من لوازم النظرية. يكتب مدللا على ذلك: «لا يعدّ هذا الكتاب قابلا للنسخ و الانقطاع، لأنّ الاسم الأعظم و مظاهره أزليان و أبديان» «1». فما دام القرآن مظهرا للأزلي؛ للاسم الأعظم و تجليا تاما له، فلا معنى لبلائه أو انقطاعه أو اقتصاره على عصر دون آخر، بل هو حضور دائم متدفّق دون انقطاع تبعا لديمومة الاسم الأعظم ذاته و أزليته.

هكذا الحال في المعاصرة القرآنية، فنحن بإزاء عملية استنباط لتكوين الرؤية و بنائها. على أنّ من النافع أن نكرّر القول بأنّ فكر الإمام و نصوصه لا يخلوان

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 321.

فهم القرآن، ص: 485

تماما من إشارات مباشرة إلى المعاصرة القرآنية في بعض وجوهها، على ما سنلحظ ذلك لاحقا.

على ضوء ذلك كله، ستبدو الآفاق أمامنا مشرعة لاستخلاص رؤية الإمام في المعاصرة القرآنية، من خلال المستويات الثلاثة التالية:

أ- الرؤية

الوجودية و ما تقتضيه حصيلتها المعرفية.

ب- نظرية المقاصد القرآنية و ما يترتب عليها من لوازم.

ج- مداخل متفرّقة اخرى، و خاصّة مدخل تجدّد المعاني بتعدّد التلاوات.

أ- المعاصرة على ضوء الرؤية الوجودية
اشارة

لن نستحضر النصوص في هذه الفقرة، بل سنسوق مبادئ الرؤية العرفانية للوجود و الإنسان و القرآن كاصول موضوعة، صحيحة و ثابتة، استنادا إلى ما مرّ علينا فيما سلف لا سيّما في الفصول الخامس و السادس و السابع.

مرّ معنا أنّ التصوّر العرفاني عن نشآت الوجود يستند إلى شبكة من الروابط الوجودية و السنن التكوينية الحقيقية. و للواقع في هذا التصوّر مراتب، إذ لكلّ شي ء مراتب: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ «1». فكلّ ما يصحّ عليه شي ء حقيقة فله مراتب، و المقصود بالشي ء هو الشي ء التكويني كالإنسان و الحيوان و الأنهار و الأشجار مثلا و ليس الصناعي كالطائرة و الدرّاجة.

فلو أخذنا القرآن الكريم- حيث يدور عنه الكلام- فإنّ له نشأة وجودية قبل هذا العالم أسوة بغيره من موجودات عالم الإمكان، كما له مراتب تنزّل عبرها إلى

______________________________

(1)- الحجر (15): 21.

فهم القرآن، ص: 486

أن بلغ صورته التي بين أيدينا، و كلّ مرتبة هي قرآن. كذلك الإنسان و أيّة حقيقة وجودية اخرى.

هكذا يخلص هذا التصوّر إلى أنّ لكلّ مفردة من مفردات الوجود الإمكاني مراتب طولية متعدّدة، و باللغة العلمية فالواقع ليس متواطئا و إنّما مشكّك له مراتب.

و السرّ من وراء هذا التصوّر أو المرتكز الذي يقوم عليه هو إدخال العرفاء للأسماء و الصفات في هذه المنظومة، فعند ما تدخل الأسماء و الصفات على الخط تقود إلى تعدّد مراتب الواقع، بعكس ما لو أغضينا عن هذه النظرية، إذ لن يكون ثمّ معنى لتعدّد المراتب. فأيّما حقيقة تدخل

عليها مقولة تعدّد مراتب الواقع، فإنما يكون ذلك بسبب فاعلية نظرية الأسماء و الصفات، و كأثر لها.

المدلول المعرفي و انتاج المعاصرة
اشارة

هذا التصوّر الوجودي الذي يفتح كلّ شي ء على تعدّد مستويات الواقع و مراتبه، يفتح بابا عميقا للعصرية حين ننطلق به من القرآن، و نأخذ بنظر الاعتبار دلالته المعرفية. فالنصّ القرآني الذي يعدّ التعبير اللفظي للوجود الواقعي التكويني للقرآن، يغدو قادرا معرفيا على استيعاب معطيات العصور في كلّ اتجاه، بدءا من الإنسان نفسه و ما يحرزه من عمق و انتهاء بالواقع المعاش و ما يفرزه من معطيات.

لكن ينبغي أن ننتبه بأنّ القرآن لا يحقّق المعاصرة هنا من زاوية كونه نصّا ذا بنية لغوية متميّزة، و إن كان هذا أمر لا ينكر له مدخليته الخاصّة في توليد المزيد من المعاني، و السماح باستيعاب المعاصرة في أحد أوجهها، و إنّما المعني به هنا، هو:

بوصف هذا النص تعبيرا عن واقع ذي مراتب.

معرفيا تعدّ كلّ رؤية بافتراض صحّة منطلقاتها و سلامة قواعدها هي تعبير

فهم القرآن، ص: 487

عن الواقع، أو على نحو أدقّ تعبير عن درجة من درجات الواقع، و من ثمّ فهي حقّ و واقع و لكن بحسب تلك الدرجة التي انكشفت للعارف أو بلغها ذلك الإنسان و أصابها بنظره. و بذلك فالخطّ مفتوح لإنتاج صيغ عصرية و معان جديدة للنص القرآني باستمرار، تأخذ بحسبانها جميع أبعاد النموّ في قابليات الإنسان العقلية و الكشفية، و ما تنتجه تحوّلات الحياة من حوله و ما تحرزه من ازدهار و تقدّم.

المرتكز الملحوظ هنا في تعدّد القراءات و توالدها هو الواقع و ليس الفهم.

فالواقع هو الذي ينطوي على مراتب لا أنّ لفهمي مراتب، فالفهم مرتبط بالواقع، و على نحو أدقّ بمرتبة من مراتب الواقع. و هذا

الفهم صحيح من هذه الزاوية، مطابق للواقع و لا إشكال. و الطريق مفتوح إلى ما هو أرقى منه و أكمل، مرتبط بقدرة الإنسان نفسه على تجاوز المرتبة التي بلغها إلى ما هو أعلى منها و هكذا. فعلى قدر ما يعمّق الإنسان مرتكزاته العقلية أو الكشفية بأي طريق كان بالرياضة العقلية أو بالتهذيب و التزكية أو بالالتحام مع الواقع الحياتي المعاش من حوله و الإفادة من معطياته، بمقدوره أن يصيب درجة أعلى من الواقع و يحقّق فهما جديدا و أرقى للنص القرآني.

مثال توضيحي

تفترض النظرية السائدة في تفسير تعدّد الأفهام و القراءات وحدة الواقع و تعدّد الفهم، و من ثمّ لا خيار للإنسان إلّا أن يصيب ذلك الواقع الأوحد و يتطابق معه ليكون قد أصاب الحقيقة نفسها، أو أن يخطئه و يزيغ عنه ليكون قد أخطأ الحقيقة.

أمّا في النظرية العرفانية فالأمر مختلف، إذ الأفهام و القراءات تصيب الواقع بأجمعها بافتراض صحّة الضوابط الاخرى، و لكن غاية ما هناك أنّ كلّ فهم أو قراءة تصيبه

فهم القرآن، ص: 488

في درجة أو في مرتبة من مراتبه.

فلو افترضنا وجود لوحة متعدّدة الألوان من عشرة أمتار ممتدّة من أسفل نحو الأعلى، و هي موزّعة على عدّة ألوان لنفترض أنّها ثلاثة، هي من تحت إلى أعلى:

الأبيض و الأحمر ثمّ الأخضر. و لنفترض أيضا أنّه وقف أمام هذه اللوحة ثلاثة أشخاص بطريقة بحيث لا يستطيع كلّ واحد منهم أن يرى إلّا لونا واحدا من ألوانها، فعند ما يسأل الشخص الأوّل عن لون اللوحة و يجيب أنّه أبيض بلحاظ ما هو موجود أمامه فإنّ جوابه صحيح، و كذلك الثاني حين يقول إنّ لونها أحمر، و أيضا الثالث الذي يقول إنّه أخضر. فكل إجابة من

هذه الإجابات الثلاث صحيحة في نفسها و هي تعبّر عن الواقع نفسه و ليست هي قراءة عنه. فمن أجاب بأنّ لون اللوحة أبيض لم يكن يرى سوى البياض، و البياض هو الواقع بالنسبة إليه، و هكذا بالنسبة إلى اللونين الباقيين.

طبيعي أنّ القول بأنّ للقرآن مراتب، لا يعني أنّ كلّ فهم هو تعبير عن مرتبة من مراتب القرآن هكذا مطلقا، بل قد تكون بعض الفهوم مخطئة غير مصيبة للواقع بأية مرتبة من مراتبه. إنّما القصد هو إثبات أنّه ليس ثمّ ضرورة في أن يكون فهما ما هو وحده المصيب للواقع، و بقية الفهوم خطأ.

المراد اثباته، هو: بعد أن ثبت أنّ الواقع متعدّد، إذن يمكن أن يكون فهمنا عن الواقع متعدّدا أيضا، و أنّ جميع الفهوم صحيحة و مصيبة للواقع بشرط رعاية بقية الجوانب، لا أنّ واحدا منها مصيب للواقع و البقية مخطئة.

عند ما نقبل على ما بين أيدينا من اتجاهات و مدارس فالعرفاء هم الذين يقولون بتعدّد الواقع. و هذا ما يدفعهم لعدم تخطئة الآخرين من ذوي النحل النقلية و الكلامية و الفلسفية، بعكس بقية الفرقاء. فالفيلسوف المشّائي مثلا بحكم انتظامه

فهم القرآن، ص: 489

داخل الإطار الأرسطي الذي يقول بوحده الواقع، تراه من المستحيل أن ينبلج أمامه خيار ثالث يضاف إلى خياري إصابة الواقع الواحد أو عدمه، فإمّا إنّك تصيب ذلك الواقع فنظرك صحيح، و إمّا إنّك تخطئة فنظرك خاطئ بالتبع له.

لذلك حين يسجّل المشّائي أنّه أصاب الواقع بحسب مقاييسه الخاصّة، ستكون الحصيلة هي إلغاء الآخرين عرفاء و فقهاء و متكلّمين.

لقد عشنا هذه النظرة الرحيبة في نصوص الإمام الخميني كما مرّت علينا في الفصول السابقة، و هي تسجّل أنّ القرآن الكريم مائدة ممتدّة للجميع و مفتوحة

على قراءات و فهوم لا تنتهي يأخذ منها كلّ إنسان على قدر سعته الوجودية و قابلياته الفكرية «1». و عند ما مرّ سماحته على بعض الآيات الكريمة ممّا له دلالة على توحيد الذات و الصفات «2»، نراه قد سجّل نصا بأنّ «علماء الظاهر و المحدّثين و الفقهاء رضوان اللّه عليهم فسروا هذه الآيات على نحو مخالف بل مباين بالكامل لما فسّرها به أهل المعرفة و علماء الباطن» «3» ليخلص من وراء ذلك إلى أنّ رأيه يقوم على تصحيح تفسير الفريقين كليهما، و بنص تعبيره: «ما يذهب إليه الكاتب أنّ المنحيين

______________________________

(1)- راجع مثلا: صحيفه امام 14: 387.

(2)- مثل قوله سبحانه: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ، (الحديد (57): 3)، و قوله:

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، (النور (24): 35)، و قوله: وَ هُوَ مَعَكُمْ، (الحديد (57): 4)، و قوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، (البقرة (2): 115) في توحيد الذات.

و قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، (الفاتحة (1): 2)، و قوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ، (الجمعة (62): 1)، و قوله: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى، (الأنفال (8): 17) في توحيد الأفعال. (راجع: آداب الصلاة: 185- 186)

(3)- آداب الصلاة: ص 185.

فهم القرآن، ص: 490

التفسيريين صحيحان كلا في محله». هذا التصحيح لنمطين من التفسير يسجّل الكاتب أنّهما متباينين بالكامل، لا يمكن توجيهه على ضوء دواع أخلاقية أو اجتماعية تحرص على الألفة و وحدة الصف برغم سلامة مثل هذه الدواعي، و إنّما يجد تعليله المنطقي في نظرية تعدّد مراتب الواقع التي يؤمن بها الإمام.

و هذا بالضبط ما ينقلنا إلى مشروع الإمام في التوحيد بين العارف و الفيلسوف و

الفقيه «1»، الذي خصّصنا له القسم الثاني من هذا الكتاب. فمثل هذا المشروع التوفيقي لا يمكن تفسيره على أساس دواع أخلاقية أو ضرورات اجتماعية للامّة أو للمجتمع المسلم، و إنّما يحتاج إلى أساس منطقي يسوّغه و يبرّره. و نظرية تعدّد مراتب الواقع هي التي تقدّم الأساس المنطقي المنشود و البناء المعرفي التحتي المطلوب لمثل هذا المشروع، على ما سيأتينا ذلك تفصيلا في القسم الثاني من الكتاب إن شاء اللّه.

هكذا نخلص إلى أنّ مشكلة المعاصرة تنحلّ على ضوء تعدّد مراتب الفهم بتبع تعدّد مراتب الواقع، إذ سيفرز كلّ عصر فهمه، و هذا الفهم معاصر لعصره و هكذا.

بكر أبدا

على رغم الآفاق الممتدّة التي تشقّها هذه الرؤية، على النحو الذي تجعل القرآن قادرا على امتصاص عناصر المعاصرة في كلّ زمن و تحقيق عصريته في كلّ

______________________________

(1)- تنظر خطوطه العريضة: تفسير سورة حمد: 175- 193. على أنّ بذور هذا المشروع في التوفيق بين المشهود و المعقول و المنقول أو بين العرفان و الفلسفة و البيان (القرآن) كانت واضحة في كتاب الإمام «شرح دعاء السحر».

فهم القرآن، ص: 491

وقت بل في كلّ لحظة، فإنّها مع ذلك تومئ إلى معنى كبير يفيد أنّ القرآن يأتي بكرا يوم القيامة لم تستنفده النظريات و الرؤى و الأفكار و المناهج و التفاسير، و لم تبله العصور و لم تخلقه الأزمنة، بل تراه يعلو فوق الأزمنة و العصور و يسمو عليها، لكن لا على نحو القطيعة و الانفصال و إنّما من خلال الاستنفاد و التجاوز. فكتاب اللّه يستوعب في كلّ عصر متغيّرات عصره و ما يبلغه مستوى الإدراك العقلي للإنسانية من نموّ و ما تحقّقه اطر الحياة من ازدهار، عبر التفاعل مع الإنسان و الالتحام مع

الحياة، ثمّ يتخطّى ذلك و يتجاوزه لما بعده ليبقى متدفّقا بالمعاني منتجا ما لا ينتهي من الفهوم و القراءات، ثمّ يأتي يوم القيامة بكرا.

و بقاؤه جديدا أبدا هو ممّا ينسجم مع الدليل و يتجاوب مع رؤية هذه المدرسة، التي ترى في كتاب اللّه تجليا للاسم الأعظم و ما تحته من أسماء و صفات، و بتعبير الإمام نفسه: «هذا الكتاب الشريف هو صورة أحدية جمع جميع الأسماء و الصفات، و معرّفا لمقام الحقّ المقدّس بتمام الشئون و التجليات. بعبارة اخرى إنّ هذه الصحيفة النورية صورة (الاسم الأعظم)» «1»، فحين يكون القرآن الكريم بهذه المثابة و هو تعبير عن علم اللّه سبحانه بل أنّ «الحقّ تعالى بجميع شئونه الأسمائية و الصفاتية هو مبدأ هذا الكتاب الشريف» «2»، فلا معنى موضوعيا لتجاوزه و تخطّيه و هو تعبير عن المطلق. فمهما أوتي الإنسان من قوّة في الكشف و العمق الإدراكي و من سعة في الفكر و دقّة في الاستدلال، و مهما بلغت بالحياة أشواط التقدّم و الرقي فلن يكون بمقدور ذلك كله استنفاد المطلق فضلا عن تخطّيه و تجاوزه.

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 321.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 492

الخلاصة

يمكن تلخيص حصيلة الرؤية، بما يلي:

1- تؤسّس المدرسة العرفانية للمعاصرة استنادا لتصوّرها الوجودي الذي يقول بتعدّد مراتب الواقع، و ما يترتب على ذلك من مدلول معرفي يتمثّل بتعدّد الأفهام و القراءات، حيث تتعامل مع القرآن بوصفه حقيقة ذات مراتب.

2- ترفض المدرسة في مقام الإثبات مبدأ القراءة استنادا إلى الوجدان الشخصي أو الكشف أو التجربة الذاتية و ما شابه، بل لا بدّ لكلّ قراءة أن تؤسّس لمشروعيتها على اصول و مبادئ و اسس و مرتكزات، و تتواصل مع الذخيرة العقلية المشتركة عند

البشر و لا تتعارض مع ثوابت الدين. أي أنّ الناظم العقلي هو المعيار في اصول المعارف و المعتقدات، و الديني و لا سيّما التشريعي هو المعيار في العمليّات.

3- تعدّ كلّ قراءة صحيحة بشرط المحمول، أي هي صحيحة لمن هو في مرتبة خاصّة من المراتب، أمّا إذا تجاوزها إلى ما هو أرقى منها، فالأدنى لن تعود صحيحة بالنسبة إليه.

4- يتعانق العصر و الواقع المعاش مع هذه الرؤية و يدخلان في تكوين بنيانها.

فمعطيات كلّ عصر تسند خلفية الإنسان و وعيه و عقله في إثراء قدراته على التعامل مع القرآن، بحيث لو لم تكن هذه الوقائع منكشفة له لما اتجه ذهنه صوب أغوار القرآن و معانيه.

العالم في هذه الرؤية يفتح الآفاق و يثير العقول، و الدعوة العرفانية تحثّ على التفاعل مع الواقع و لا تدعو إلى الانعزال و الانفصال، بل تصرّ على الجدية و بذل

فهم القرآن، ص: 493

الجهد في اكتشاف علائق الواقع و قوانينه، لأنّ مع كلّ كشف في الواقع و تعمّق فيه، يتحوّل ذلك إلى منشأ لاكتشاف حقائق من نظام التكوين، و بالتفاعل بين عالمي التكوين و التدوين (القرآن) تتفجّر معاني القرآن و تتوالد باستمرار.

على هذا لا تعدّ النظرية العرفانية في وجهها المعرفي هذا حائلا يصدّ عن الواقع، بل هي تدفع إلى اكتشاف أنظمته و استبدل القطيعة بالمعايشة الدائبة الفاعلة، ذلك أنّ العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس.

5- تتّسم نظرية العرفاء بالرحابة الخصبة ليس في التعامل المعرفي مع القرآن وحده، بل و مع الآخر أيضا. فالعارف لا يرفض الآخر بل يصحّح له، لأنّ الواقع عنده متعدّد، على عكس الفقيه و المتكلّم و الفيلسوف إذ تختفي الرحابة بحكم الارتكاز إلى نظرية وحدة الواقع، و إن كان ابتناء

الاجتهاد الفقهي على الحكم الظنّي و ليس إصابة الحكم الواقعي يسمح بالتعدّد أيضا، لكن في مضماره و حسب.

6- تعدّ هذه الرؤية التي تستند إلى حق الإنسان في كلّ عصر بإنتاج قراءاته وفق الضوابط و الاصول، أوصل بفلسفة الدين الخاتم، و أقدر على تفسير ديمومة القرآن و التجاوب مع هاجس المعاصرة، خاصّة و أنّه لا دليل على أنّ المطلوب هو اجتماع الجميع على نظرية أو قراءة واحدة في فهم القرآن و التعاطي معه.

ب- المعاصرة على ضوء النظرية المقاصدية

المقصد الأساس للقرآن في نظرية الإمام أو المدرسة العرفانية عامة، هو فتح باب معرفة اللّه، و «دعوة العباد إلى معرفة اللّه و بيان المعارف الإلهية من الشئون الذاتية و الأسمائية و الصفاتية و الأفعالية، و الأهمّ من ذلك كلّه في هذا المقصد، هو

فهم القرآن، ص: 494

الدعوة إلى توحيد الذات و الأسماء و الأفعال» «1»، حين يكون هذا هو المقصد الرئيسي للقرآن، فإنّ هذه الرؤية في التعاطي مع القرآن عبر هذا الأفق تسمح لنا بمدخل آخر لولوج قضية المعاصرة.

على أساس هذه الرؤية لمقاصد القرآن التي مرّت علينا بمضامينها و نصوصها تفصيلا في الفصل الثالث من القسم الأوّل من الكتاب، تنحسر الجوانب العملية و تضيق المتغيّرات حتّى تتحوّل إلى ما يشبه الهامش بالقياس مع هذه المقاصد الأساسية. و عندئذ يحقّ لنا السؤال عن معنى المعاصرة بمفهومها الزمني و الاجتماعي و مدى فاعليتها في المعارف الأساسية و الاصول الاعتقادية؟ لا أظنّ أنّ هناك متّسعا كبيرا يبقى للمعاصرة بمفهومها الحياتي المتغيّر، إذا انتبهنا إلى أنّ القرآن هو كتاب معرفة لاصول المعتقد في ظلّ النظرية المقاصدية التي يتبنّاها الإمام و المدرسة العرفانية، و تجعل توحيد اللّه (جل جلاله) هو المقصد الأعلى.

أجل، هذه الرؤية المقاصدية التي تركّز على

المعرفة و معرفة الحقّ سبحانه في الطليعة، لا تتصادم مع المعاصرة بمفهومها المعرفي الذي يسمح بتعدّد القراءات أو مراتب فهم اصول المعتقد، خاصّة مع التزام التمييز بين التكوينيات و الاعتباريات. توضيح ذلك، أنّ المعتقدات هي امور و حقائق مرتبطة بنظام التكوين، و من ثمّ فهي ليست من سنخ الاعتباريات بحيث تتأثّر أو تزول بزوال المبرّرات التي أملت اعتبارها. و حيث تعدّ المعتقدات من الحقائق الوجودية، فهي لا تتأثّر بالبعد التأريخي و البيئي الثقافي و اللغوي تماما كالمعادلات الرياضية.

من المعقول جدّا أن يؤثّر البعد البيئي و الثقافي و اللغوي و الاجتماعي في

______________________________

(1)- نفس المصدر: 185.

فهم القرآن، ص: 495

تكوين و صياغة الأطر الاجتهادية التي نفهم من خلالها هذه المعتقدات، لكن لا على النحو الذي ينقلها من دائرة الإثبات إلى النفي أو بالعكس. و هذه هي المساحة التي تتحرّك بها المعاصرة بمفهومها الزمني و الاجتماعي المتحرّك، حيث يمكن أن تؤثّر في الأطر دون المضمون.

لكن هل يعني ذلك أنّ مضمون المعتقدات التي عرض لها القرآن الكريم، هو مضمون واحد جامد لم يتغيّر؟ كلا، فلا واقع المسلمين و تاريخهم يؤيّد ذلك و لا منطق القرآن. ما تذهب إليه المدرسة الوجودية أو العرفانية أنّ للتوحيد و النبوة و المعاد و بقية اصول المعتقد الإسلامي و ما يرتبط بها من فروع (أقصد فروع المعتقد لا الفروع العملية) مراتب متعدّدة في الواقع و نفس الأمر، و ليس مرتبة واحدة. هذا التعدّد هو الذي يسمح بدور فاعل للمعاصرة المعرفية إذا صحّ المصطلح، بحيث يكون للناس في كلّ عصر، بل في العصر الواحد، أكثر من تصوّر للمعتقد كلّها صحيحة إذا توافر لها التأسيس السليم و صحّت قواعدها و منطلقاتها تبعا لتعدّد مراتب الواقع نفسه.

مرّة

اخرى، هذا لا يعني أنّ كلّ قراءة صحيحة لمجرّد أنّها شيّدت لنفسها مجموعة قواعد و اطر، بل لا بدّ أن تستند إلى اصول و اسس و مرتكزات يذعن لصحتها الجميع، و هذه الاسس لا يمكن إلّا أن تكون عقلية ما دام الحديث يدور في المعتقدات، و إن كان للنقل دوره في إثارة التفاصيل و إشباعها.

استنادا إلى ما مرّ يمكن أن نخلص إلى ما يلي:

1- المقصد الأساسي للقرآن في نظرية الإمام لمقاصد القرآن، هي اصول الاعتقاد و بالأخصّ التوحيد.

2- حين يكون القرآن كتاب معرفة اصول المعتقد، و حين تكون المعتقدات

فهم القرآن، ص: 496

حقائق وجودية في متن التكوين، فإنّ ذلك كلّه يضيّق من دائرة المعاصرة بمعناها الاجتماعي و الثقافي أو الزمني بتعبير أدقّ، لأنّ تغيّر العصور و توالي الأزمنة و اطّراد التقدّم، كلّ ذلك لا أثر له في التأثير على هذه الحقائق الوجودية التكوينية فضلا عن تغييرها.

3- هناك دور فاعل للمعاصرة المعرفية و إنتاج المزيد من الفهوم تترتب معرفيا على التصوّر الوجودي الذي يقول بتعدّد مراتب الواقع، بما في ذلك اصول المعتقد. و من ثمّ تفتح هذه الرؤية نافذة واسعة لقراءات أو فهوم مستجدّة لاصول المعتقد القرآني، من دون أن يكون ثمّ أمد لتصوّر نهاية لسعي الإنسان على هذا الخطّ. فمع كلّ عمق يحرزه الإنسان، يحقّق في مقابله فهما أرقى للمعتقدات يتجاوب مع مرتبة أعلى لها على خطّ الواقع المتعدّد المراتب، من دون أن يعني ذلك تصحيح جميع الفهوم و القراءات أو غياب الضوابط المؤسّسة لها.

4- يتجه دور المعاصرة الزمنية إلى اطر الفهم و قواعد الاجتهاد في التعاطي مع النص القرآني، كما سيكون لها مداها على صعيد المتغيّرات التي ترتبط بالامور العملية و بالنظم الحياتية، ممّا

يمكن أن نلمس فيه رؤى الإمام و مواقفه منها تفصيلا خلال الأقسام الآتية من الكتاب و لا سيّما القسم الثالث الذي يتحدّث عن القرآن في النهضة و واقع الحياة.

ج- مداخل متفرّقة
اشارة

تتضمّن نصوص الإمام عددا آخر من المداخل إلى قضية المعاصرة القرآنية، سواء باسمها و على نحو مباشرة، أو بشكل غير مباشر.

فهم القرآن، ص: 497

و فيما يلي إشارة إلى بعضها «1»:

1- يلجأ الإمام إلى المنهج الكلامي في إثبات عصرية القرآن، حينما يصوغ دليل الإحاطة، على النحو التالي:

«1- اللّه هو مصدر القانون الإسلامي.

2- اللّه محيط بجميع العصور.

3- و من ثمّ فإنّ القرآن هو كتاب جميع العصور» «2». و بذا فهو في كلّ عصر جديد، له كلمته إلى البشرية و رسالته التي ينهض بها في الحياة.

2- في مقاربة اخرى يستند الإمام إلى عدم تناهي القرآن، بحكم صدوره عن المطلق، ليجعل من ذلك مرتكزا لتلبيته حاجات البشر في كلّ وقت. يقول سماحته:

«القرآن غير محدود» «3»، و «القرآن يشتمل على جميع المعارف، و كلّ ما يحتاج إليه البشر» «4» و بالتالي فإنّ لديه ما يعطيه للإنسانية في كلّ عصر و زمان.

تجدّد المعاني بتعدّد التلاوات

3- ثمّ مدخل للمعاصرة غالبا ما يستند إليه العرفاء في التدليل على طراوة كتاب اللّه و تفجّره بالعطاء في كلّ وقت و عصر، و قد رأيت إعجابا به من قبل الدارسين المعاصرين من مختلف الاتجاهات.

______________________________

(1)- ستأتينا مضامين اخرى عن المعاصرة القرآنية خلال الأقسام الآتية و خاصة القسمين الثالث و الرابع من الكتاب.

(2)- صحيفه امام 8: 171.

(3)- نفس المصدر 12: 420.

(4)- نفس المصدر 20: 249.

فهم القرآن، ص: 498

يتحدّث هذا المدخل صراحة عن تجدّد المعاني و تواليها بتعدّد القراءات، فمع أنّ المتلوّ واحد إلّا أنّ المعاني تتجدّد على الدوام، بتبع اختلاف الأشخاص بل حتّى الشخص الواحد نفسه، و تبدّل الأوضاع و الأزمان و الحالات، ممّا يسمح بإدخال المعاصرة الزمنية ذات البعد الاجتماعي و الثقافي و الحياتي بجميع عناصرها. فكلّ

العناصر الذاتية التي يعيشها الإنسان، و العوامل الموضوعية التي يلامسها في واقع الحياة تؤثّر في خلق حالة للتلاوة تختلف من إنسان لإنسان، بل تختلف عند الإنسان نفسه بين حال و حال، و كذلك تختلف من زمن لآخر و من عصر لعصر، بما يفضي إلى تجدّد المعاني. و بتعبير الإمام فإنّ التلاوات و المعاني المترتبة عليها «تختلف باختلاف الأشخاص و في شخص واحد، باختلاف الحالات و الواردات و المقامات، و تختلف باختلاف المتعلّقات» «1».

و هذا يحصل مع كلّ آية، حتّى لآية تتكرّر مع كلّ سورة هي آية البسملة، فضلا عن بقية الآيات و السور، و عن القرآن برمّته.

بيد أنّ هذه الفكرة في تجدّد المعاني و تنوّعها، تبعا لمكوّنات الإنسان و حالاته و علاقته مع الواقع الذي يعيش، بحيث يترك كلّ ذلك أثره على النص و علاقة القارئ بالنص؛ هذه الفكرة تعود بذروها إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي تماما كما في بقية أفكار الإمام العرفانية و بقية العرفاء. فابن عربي هو الذي وضع بذار هذه الفكرة و تابعه عليه الإمام كما غيره، حيث يكتب في «الفتوحات المكّية» بأنّ الإنسان الفهم المراقب أحواله يتلو «القرآن فيجد في كلّ تلاوة معنى لم يجده في التلاوة الاولى، و الحروف المتلوّة هي بعينها ما زاد فيها شي ء و لا نقص، و إنّما الموطن و الحال تجدّد، و لا بدّ من تجدّده فإنّ زمان التلاوة الاولى ما هو زمان

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 91.

فهم القرآن، ص: 499

التلاوة الثانية» «1».

علاقة الانسان مع القرآن علاقة مفتوحة على قراءات متدفّقة متنوّعة تتجدّد باستمرار بتجدّد الزمن نفسه، فلكلّ آن تلاوته و من ثمّ للنص معناه الذي يختلف عن معنى التلاوة الاولى، بشرط أن نلحظ

القيود التي ذكرها ابن عربي للقارئ من كونه فهما أي متّصفا بالفهم، مراقبا لأحواله، و إلّا فإنّ تلاوة الغفلة التي يغيب عنها التوجّه و التدبّر لا تورث هذا التجدّد الخصب في المعاني.

ربما استطعنا أن نضيف الى هذا المدخل مفهوم العرفاء بما فيهم الإمام الخميني عن التنزّل، و قيمة هذا المفهوم في استيلاد معان لكتاب اللّه لا تنتهي. للقوم كما يذكر الإمام مفهوم واسع لتنزّل القرآن، إذ للقرآن تنزّلات و ليس تنزّلا واحدا، منها تنزّله على القلوب. و في تنزّل القلوب نحن في الحقيقة بمواجهة تنزّلات لا تنتهي، فمنذ التنزّل الأوّل على قلب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن «لا يزال ينزل على قلوب أمّته الى يوم القيامة» و من ثمّ «فنزوله في القلوب جديد لا يبلى» و له مع كلّ نزول مع كلّ إنسان معنى، و المعاني متوالية دائمة إلى أن ينتهي شوط الإنسان على الأرض و في الحياة، عندئذ فقط تتوقّف عملية التلاوة لتوقّف النزول، و يرفع كلام اللّه «من الصدور و يمحى من المصاحف» لأنّه لا يبقى «مترجم [أي إنسان] يقبل نزول القرآن عليه» «2».

هكذا يبقى القرآن مع الإنسان يؤدّي دوره في الهداية على الدوام، الى أن تقف الحياة بالإنسان و ينتهي شوطه على الأرض، فيرتفع القرآن. و مع ذلك يأتي كتاب اللّه يوم القيامة غضّا جديدا، و الحمد للّه ربّ العالمين.

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 4: 258.

(2)- نفس المصدر 3: 108.

فهم القرآن، ص: 501

الفصل التاسع الحروف المقطّعة

اشارة

ممّا يختصّ به القرآن الكريم على بقية الكتب السماوية أنّ تسعا و عشرين سورة من سوره، قد افتتحت بحروف مقطّعة. و هذه السور التي اختصّت بهذه الفواتح و إن كان أغلبها مكّيا إلّا أنّها لم

تختصّ بالمكّي وحده إذ فيها المدني أيضا، و هي على التوالي بحسب تسلسلها في المصحف الشريف: البقرة، آل عمران، الأعراف، يونس، هود، يوسف، الرعد، إبراهيم، الحجر، مريم، طه، الشعراء، النمل، القصص، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، يس، المؤمن (غافر)، فصّلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، ق و سورة القلم.

منذ بداية انتظام حركة التفسير في فكر المسلمين و تبلور البحث المنهجي في علوم القرآن، و هذه السور تثير أسئلة جمّة و تستحوذ على اهتمام الباحثين و تدفع العقول و لا تزال لتقديم مختلف الاجتهادات. لكن يلحظ بشكل عام وجود تيارين على هذا الصعيد، هما:

الأوّل: إنّ هذه الحروف من العلم المستور الذي استأثر به اللّه سبحانه، أو هي من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا هو أو من السرّ المكتوم الذي لا يفسّر، لينغلق

فهم القرآن، ص: 502

الباب بوجه أي محاولة تسعى إلى الاجتهاد في بيان معناها على ضوء النقل أو العقل «1».

الثاني: إنّ المراد منها معلوم، ثمّ اختلفوا في بيانه على آراء متشعبة زادت على العشرين «2».

لم يكن من السهل أن يخضع الفكر القرآني لضغط التيار الأوّل الذي سعى إلى غلق ملف البحث في الفواتح عبر إرجاعها إلى المتشابه الذي لا يعلمه إلّا اللّه، أو نعتها بالسرّ المستأثر أو المكتوم. لذلك كلّه خاض المفسّرون و المعنيّون بعلوم القرآن نقاشا كلاميا واسعا ضدّ هذا التيار حشدوا فيه جمعا كبيرا من الحجج النقلية من الآيات و الأخبار مضافا إلى الحجج العقلية لينتهوا إلى إثبات رأيهم، و من ثمّ فتح البحث في فواتح السور أو الحروف المقطّعة على مصراعيه، و تقديم عدد كبير من الرؤى و الاجتهادات و النظريات من دون أن تظهر في الأفق بارقة تفيد إغضاء المعاصرين عن

مواصلة البحث في هذا الاتجاه «3»، حيث كان الإمام الخميني من

______________________________

(1)- راجع: مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 68، التفسير الكبير 2: 3.

(2)- ذكر الطبرسي في معناها عشرة وجوه: مجمع البيان 1: 68- 71. في حين أحصى الرازي واحدا و عشرين قولا ممّا ذكروه في معناها: التفسير الكبير 2: 5- 8. و من المعاصرين توفّر السيد مصطفى الخميني في تفسيره على رصد (26) قولا من الآراء المحكية فيها: تفسير القرآن الكريم 1: 157- 161، في حين بلغت عند جوادي آملي عشرين رأيا: تسنيم 2:

69- 104.

(3)- راجع مضافا لما تمّ ذكره في الهامش السابق: علوم القرآن: 437- 448، حيث استعرض و ناقش عشر نظريات، و أيضا كمحاولة مستقلة في الموضوع: الحروف المقطّعة في القرآن الكريم: 29.

فهم القرآن، ص: 503

بين من أدلى بدلوه فيه.

على ضوء هذا التمهيد يتوزّع البحث في هذا الفصل، إلى المحاور الثلاثة التالية:

1- استعراض سريع لأبرز الأفكار و النظريات المتداولة في الفكر التفسيري.

2- استعراض الرؤية التي يتبنّاها الإمام.

3- خاتمة توضيحية عن عالم الحروف، و رؤية المدرسة العرفانية لهذا العالم.

1- أبرز النظريات و الأفكار

يمكن وضع اليد على أبرز المذاهب و النظريات و الأفكار التي أنتجها الفكر القرآني، على هذا الصعيد من خلال ما يلي:

1- إنّ الحروف المقطّعة هي أسماء السور، و هو قول أكثر المتكلّمين بحسب الرازي. فهم القرآن 503 1 - أبرز النظريات و الأفكار ..... ص : 503

إنّها من أسماء القرآن.

3- إنّها أسماء اللّه جلّ جلاله، و قد استشهد القائلون بذلك بشي ء من المأثور.

4- إنّها أبعاض أسماء اللّه.

5- إنّ كلّ واحد منها دالّ على اسم من أسماء اللّه و صفة من صفاته سبحانه.

6- إنّ بعض الحروف المقطّعة يدلّ على أسماء الذات، و بعضها على أسماء

الصفات.

7- إنّ كلّ واحد منها يدلّ على صفة من صفات الأفعال.

و ثمّ في هذه الآراء الثلاثة الأخيرة جملة من التفاصيل، يمكن مراجعتها بما

فهم القرآن، ص: 504

ذكره الرازي و غيره ممّن تحدّث عنها.

8- بعض هذه الحروف المقطّعة يدلّ على أسماء اللّه، و بعضها يدلّ على أسماء غير اللّه كالنبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و جبرائيل عليه السّلام.

9- إنّ كلّ واحد منها يدلّ على فعل من الأفعال.

10- إنّ اللّه (سبحانه) إنّما ذكرها احتجاجا على الكفّار و تحدّيا لهم.

و المغزى من وراء ذلك أنّ هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها و تستعملونها في خطبكم.

11- إنّها جاءت و التقدير فيها، كأنّ اللّه قال: اسمعوها مقطّعة، حتّى إذا وردت عليكم مؤلّفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك.

12- إنّ هذه الفواتح هي وسيلة لإسماع الكفّار كلام اللّه و أسلوب لانتفاعهم المرجوّ منه، بعد أن كانوا قد تواصوا على الإعراض عنه لمّا قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ «1».

13- هذه الحروف هي الأجزاء التي يتألّف منها الاسم الأعظم.

14- إنّها جاءت للدلالة على انقطاع كلام و استئناف آخر، و من ثمّ فهي فواصل بين السور و حسب.

15- هذه الحروف هي بمنزلة خلاصة السورة و بيان إجمالي لمحتواها.

16- إنّها مقدّمة للسور و مفتاح لها، و هي إجمالا فواتح و لا دور لها أكثر من ذلك، كما يدلّ عليها اسمها: فواتح السور.

17- إنّها ثناء أثنى اللّه به على نفسه.

______________________________

(1)- فصلت (41): 26.

فهم القرآن، ص: 505

18- هي أقسام أقسم بها اللّه لشرفها و فضلها، و لأنّها مباني كتبه المنزلة، و مباني أسماء اللّه الحسنى و صفاته العليا، و اصول

كلام الامم.

19- إنّ التكلّم بهذه الحروف و إن كان معتادا للجميع، إلّا أنّ كونها مسمّاة بهذه الأسماء لا يعرفه إلّا من اشتغل بالتعلّم و الاستفادة، فلمّا أخبر عنها النبي من غير سبق تعلّم و استفادة كان ذلك إخبارا عن الغيب، و بالتالي معجزة دالّة على صدقه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

20- علم اللّه سبحانه أنّ طائفة من هذه الامّة تقول بقدم القرآن، فذكر هذه الحروف تنبيها على أنّ كلامه مؤلّف من هذه الحروف الحادثة، فيجب إذا أن لا يكون قديما.

21- تشير الحروف المقطّعة في مطلع السور إلى غلبة تلك الحروف فيها، تحدّث عن هذه النظرية الزركشي (ت: 794 ه) مؤلّف «البرهان في علوم القرآن»، و طوّرها المعاصرون في الحديث عن جوانب الإعجاز اللفظي و العددي في القرآن الكريم.

22- إنّ كلّ حرف منها يومئ إلى مدّة أقوام و آجال آخرين، و هي إشارات إلى آلاء اللّه و بلائه.

23- إنّها إشارة إلى مدّة بقاء الامّة الإسلامية، على ما يدلّ عليه حساب الجمل.

24- إنّ هذه الحروف هي على نحو تدلّ فيه على عدد الآيات.

25- إنّ هناك علاقة خاصّة بين الحروف المقطّعة و بين المضامين المودعة في تلك السور، كما هناك تشابه في المضامين و تناسب في السياقات في السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها، مثل الميمات و الراآت و الطواسين و الحواميم. و هذا

فهم القرآن، ص: 506

ما تبنّاه السيد الطباطبائي في «الميزان» بعد أن ذكر أنّ الحروف المقطّعة هي رموز خفية بين اللّه سبحانه و بين رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لا سبيل للفهم العادي إليها بأكثر من الاستشعار المذكور «1».

26- إنّها ليست من القرآن الكريم، و إنّما زيدت عليه بمرور

الزمان، و هي ترمز إلى المصاحف الرئيسية عند الصحابة. و هذا رأي فريق من المستشرقين «2».

27- ليس لهذه الحروف معنى تقصده أصلا، بل سيقت للامتحان و لمعرفة من ينقاد للتسليم بها تعبّدا ممّن لا يفعل.

28- ذكروا أنّ الألف في «الم» إشارة إلى ما لا بدّ منه من الاستقامة في أوّل الأمر، و هو رعاية الشريعة، و اللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات، و هو رعاية الطريقة، و الميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبّة و هو مقام الحقيقة.

كما قالوا أيضا أنّ الألف من أقصى الحلق و هو أوّل مخارج الحروف، و اللام من طرف اللسان و هو وسط المخارج، و الميم من الشفة و هو آخر المخارج. و في ذلك إشارة إلى أنّه ينبغي أن يكون أوّل ذكر العبد و وسطه و آخره هو اللّه (سبحانه) و لا أحد سواه.

29- إنّ هذه الفواتح و الحروف المقطّعة هي رمز بين اللّه جلّ جلاله و حبيبه النبي العربي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ليس المطلوب إفهام الآخرين بها. و هذا القول معروف

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 18: 6 فما بعد، كذلك راجع جوابه على رسالة الدكتور عبد الرحمن الكيالي التي بعثها إليه من سوريا يسأل عن الحروف المقطّعة، في: مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي: 369- 374.

(2)- راجع: تأريخ القرآن: 106.

فهم القرآن، ص: 507

و مشهور بين القدماء و المتأخّرين على اختلاف بينهم في بيانه و تفسيره، حيث ذكره ابن عربي و عبد الرزاق الكاشاني و صدر الدين الشيرازي.

و من المحدثين و المعاصرين السيّد الآلوسي و الشيخ البلاغي و السيد مصطفى الخميني نجل الإمام الخميني و السيّد الطباطبائي و الإمام الخميني نفسه، و

عارضهم فيه الشيخ جوادي آملي.

قد يصحّ الاعتراض بأنّ الذي ذكرناه هنا لا ينبغي أن يكون رأيا في امتداد الآراء التفسيرية السابقة، بل هو تجاه في مقابل الاتجاه الثاني الذي يذهب بإمكان التفسير. بتعبير آخر، ينبغي لهذا الرأي أن يأخذ موقعه بوصفه اتجاها في مقابل الاتجاه الذي يرى إمكان تفسير الحروف المقطّعة و أنّ لها معنى بالمقدور إصابته، لا أن يأتي في امتداد هذه الآراء و طولها.

يصحّ هذا الاعتراض لو أنّ أصحاب النظرية الرمزية قالوا بالرمزية و صمتوا، و التزموا بعدم إمكان تفسير هذه الحروف، و أنّها رموز مغلقة على الفهم الإنساني تماما. أمّا و أنّهم قرنوا ما ذهبوا إليه من رمزيّتها بإمكان الفهم و لو بدرجة، بل تخطّوا ذلك إلى تقديم عدد كبير من الاجتهادات أبسطها أنّ هذه الحروف هي رموز متبادلة بين الحبيب و محبوبه، فحالهم حال من سواهم من أصحاب الأفكار و النظريات.

هذه أبرز الآراء و المذاهب التي انتهى إليها المفسّرون و الباحثون القرآنيّون حيال الحروف المقطّعة، و هي ليست جامعة و لا مانعة إذ التداخل فيما بينها واضح «1». و مع أنّ بعضهم استند فيما ذكره إلى بعض الروايات أو أقوال مأثورة عن

______________________________

(1)- يمكن العودة في هذه الآراء و أصحابها و ما ساقوه لها من شواهد و قرائن و أدلّة، و ما قيل في مناقشتها و ردّها، إلى ما يلي: مجمع البيان 1: 67 فما بعد، التفسير الكبير 2: 3 فما بعد،-

فهم القرآن، ص: 508

الصحابة و غيرهم، إلّا أنّ مجال الردّ و النقض قائم في أغلب هذه الوجوه إن لم يكن فيها جميعا، إذ هي لا تعدو أن تكون احتمالات و تخمينات و حدوسا، لا يزال يعوزها البرهان و الأدلّة القطعية

من النقل و العقل، حتّى تتحوّل إلى آراء يمكن الاطمئنان إليها و الوثوق بها.

2- رأي الإمام الخميني

اشارة

عند ما يقف الإمام على قوله (سبحانه): طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى «1»، يمرّ على عدد من الآراء حيال الحروف المقطّعة، منها ما جاء في الخبر عن سفيان الثوري، عن الإمام الصادق عليه السّلام في حديث طويل، قال فيه:

«و أمّا (طه) فاسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و معناه: يا طالب الحقّ الهادي إليه» «2».

ثمّ يبقى في السياق النقلي ذاته، ليمرّ على عدد من الوجوه، منها:

1- ما عن ابن عباس و غيره أنّ معنى «طه»: يا رجل «3».

2- ما ذهب إليه بعضهم من أنّ «الطاء» إشارة إلى طهارة قلب النبي عن غير اللّه، و «الهاء» إشارة إلى اهتداء قلبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اللّه «4».

______________________________

روح المعاني 1: 19 فما بعد، الميزان في تفسير القرآن الكريم 2: 157 فما بعد، تسنيم 2:

63- 129، علوم القرآن: 439 فما بعد، تأريخ القرآن: 104 فما بعد، الحروف المقطّعة في القرآن الكريم: 29.

(1)- طه (20): 1- 2.

(2)- معاني الأخبار: 22.

(3)- مجمع البيان 7: 7.

(4)- نسب الشيخ الطبرسي هذا القول إلى القشيري، نقلا عن النسفي. راجع: بحار الأنوار 68: 27.

فهم القرآن، ص: 509

3- كما قيل أيضا أنّ «الطاء» طرب أهل الجنة، و «الهاء» هوان أهل جهنّم، على ما ذكره القرطبي «1».

4- نقل الطبرسي، عن الحسن أنّه قرأ «طه» بفتح الطاء و سكون الهاء. فإن صحّ ذلك، فأصله «طأ»، فابدل من الهمزة هاء، ليصير المعنى: طأ الأرض بقدميك جميعا «2».

و الوجه في هذا التقدير الأخير ما كان عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

في صلاته، على ما ترسم لنا ذلك النصوص الروائية فقد روى الطبرسي في «الاحتجاج»، عن موسى بن جعفر عليه السّلام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: «و لقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه و أصفر وجهه، يقوم الليل أجمع حتّى عوتب في ذلك فقال اللّه عزّ و جل: طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى بل لتسعد به» «3».

كذلك ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره، بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، قال: «كان رسول اللّه إذا صلّى قام على أصابع رجليه حتّى تورّمت، فأنزل اللّه تبارك و تعالى: (طه) بلغة طي: يا محمّد: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» «4»، و من ثمّ جاء الخطاب إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يطأ الأرض بقدميه جميعا «5».

بعد أن انتهى الإمام من استعراض هذه الوجوه، خلص إلى القول: «بالجملة،

______________________________

(1)- الجامع لأحكام القرآن 11: 166.

(2)- مجمع البيان 7: 6.

(3)- الاحتجاج 1: 219- 220.

(4)- تفسير القمي 2: 58.

(5)- راجع في هذه الوجوه: شرح چهل حديث: 350- 351.

فهم القرآن، ص: 510

هناك اختلاف شديد بالحروف المقطّعة أوائل السور» «1». و في معرض تقويمه للآراء الكثيرة التي انشقّت عنها أذهان المفسّرين و تفتّقت بها قرائح الباحثين، خلص إلى القول: «الامور التي ذكرها بعض المفسّرين نزولا على حدسهم و تخمينهم، لا تزيد في الغالب عن كونها حدوسا باردة لا أساس لها» «2».

رمزية الحروف المقطّعة

إذا لم تحظ أغلب نظريات المفسّرين و مذاهب الباحثين برضا الإمام، فما هو التفسير الذي يتبنّاه للحروف المقطّعة؟ يميل الإمام إلى النظرية التي تذهب إلى أنّ هذه الحروف، هي

من قبيل الرموز و الإشارات الخاصّة بين المحبّ و المحبوب.

يكتب: «ما يوافق الاعتبار أكثر هو أنّ تلك الحروف، هي من قبيل الرمز بين المحبّ و المحبوب. و لا نصيب للآخرين في معرفتها» «3».

إذا كانت هذه الحروف رمزا، فهي حينئذ تخرج عن فهم الناس العاديّين، و تكون حكرا على من خوطب بالقرآن. هاتان نتيجتان طبيعيتان تترتبان على نظرية الرمز، أبدى الإمام استعداده للإذعان لهما، و هو يكتب: «لا يستبعد مطلقا أن تكون [الحروف المقطّعة] امورا تتجاوز القدرة البشرية على الفهم، و قد خصّ اللّه تعالى فهمها بالمختصّين بالخطاب» «4».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 351.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 511

هذا ما كان ذكره عنها في مؤلفه «آداب الصلاة» الذي انتهى من تأليفه سنة 1361 ه. و في عودة مجدّدة إلى الموضوع مع كتاب «كشف الأسرار» الذي صدر بعد قرابة ثلاث سنوات من الكتاب الأوّل (1364 ه)؛ أمعن سماحته في إضاءة النظرية ذاتها على نحو ميسّر، يتناسب و لغة الكتاب الجديد و ينسجم مع أهدافه، و ما كان يتوخّاه من مخاطبة الشريحة العريضة من أبناء المجتمع.

انطلق الإمام من التمييز بين أسلوبين في التعبير، أحدهما عام يتسق مع المستوى العام للمجتمع و ينسجم مع ثقافته، و آخر خاصّ يتناسب مع أهل الاختصاص. إذ من الواضح أنّ ما يكتب إلى المجتمع ينبغي أن يتمتّع بخصائص كثيرة من حيث اليسر و الوضوح و التفصيل، بعكس ما يكتب للمختصّين. فلو أراد الطبيب أن يكتب وصفة طبية ترتبط بالصحة العامّة للمجتمع، فلا ريب أنّه سيفعل ذلك بلغة سهلة واضحة تميل إلى التحديد و التفصيل، بعكس ما لو أراد أن يؤلّف كتابا علميا في الطب، إذ سيعمد إلى الدقّة و الاختصار.

بعد

أن ينتهي الإمام من هذه المقدّمة بالمثال الذي ذكرناه «1»، ينعطف للقول:

«كذلك القرآن و الحديث. فالقوانين العملية التي جاءا بها إلى الجمهور العام، قد توفّرا ببيانها على نحو يفهمها الناس. بيد أنّ علوم القرآن و الحديث لا يستطيع كلّ إنسان فهمها، كما أنّها لم تأت [بأجمعها و بمختلف مستوياتها و درجاتها] إلى الجميع، بل بعضها رمز بين صاحب الخطاب و فئة خاصّة، تماما كما تنطوي بعض برقيات الحكومة على الشفرة و الرمز، بحيث لن يكون من مصلحة البلد الكشف عنها، بل و لا تعرف شي ء عن شفرتها حتّى دائرة البريد نفسها. كذلك الحال في

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 322.

فهم القرآن، ص: 512

القرآن، فهو يتضمّن مثل هذه الشفرات و الرموز لا يعرف معناها بحسب ما تنطق به الروايات حتّى جبرائيل نفسه الذي جاء بالقرآن، و إنّما يختصّ النبي وحده و من علّمه بمعرفتها و القدرة على كشف هذه الرموز، مثلما هو الحال في الحروف المقطّعة في أوائل السور» «1».

يبدو أنّ الإمام ما كان على استعداد للتخلّي عن رأيه هذا بالحروف المقطّعة أو تعديله، حتّى بعد أن تقدّم به العمر. ففي نص يعود إلى شهر رمضان من سنة 1404 ه عاد يؤكّد التزامه بالنظرية ذاتها، و هو يكتب: «ثمّ في هذه المخاطبة [القرآن] بين الحبيب و المحبوب، و المناجاة بين العاشق و المعشوق أسرار لا سبيل للاطلاع إليها سوى له سبحانه و لحبيبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا إمكان للحصول عليها قطّ. و ربّما كانت الحروف المقطّعة في بعض السور، مثل (الم) و (ص) و (يس) هي من هذه القبيل و إشارة إلى تلكم الأسرار. و كذلك كثير من الآيات الكريمة التي يلجأ أهل

الظاهر و أهل الفلسفة و العرفان و التصوّف إلى تفسيرها أو تأويلها كل بطريقته الخاصّة» «2».

خلفية النظرية
اشارة

تتلخّص الرؤية التي يتبنّاها الإمام بشأن هذه الحروف، بالنقطتين التاليتين:

1- إنّها رموز و شفرات خاصّة.

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- ره عشق: 29. جدير بالذكر أنّ هذا النص المكتنز بمعان كبيرة هو رسالة كتبها الإمام الراحل إلى السيدة فاطمة طباطبائي زوجة نجله أحمد. (راجع: المظاهر الرحمانية: 46)

فهم القرآن، ص: 513

2- هذه الرموز و الشفرات هي من سنخ الخطاب الخاصّ أو من قبيل النجوى بين الحبيب و حبيبه، أي بين اللّه جلّ جلاله و نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لا مجال لمعرفة الآخرين بمحتواها، خلا من تلقّى ذلك من النبي و هم أهل بيته خاصّة، و ربّما لاحت إيماءات من بعيد لأهل اللّه عبر الكشف.

لهذه النظرية بشقّيها خلفية عريضة في الفكر القرآني، على صعيد التفسير و في نطاق البحث العامّ. فهناك شريحة من الماضين و المحدثين ذهبت إلى أنّ الحروف المقطّعة هي عبارة عن رموز، كما أنّ فيهم من ذهب إلى أنّها خطاب أو نجوى أو شفرات بين صاحب الخطاب جلّ جلاله، و بين نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. لكن لا ريب أنّ المنتمين للمدرسة العرفانية هم من بين أبرز من تبنّى هذا التفسير و مال إليه.

فمن هؤلاء ذهب إليه ابن عربي و عبد الرزاق الكاشاني، الذي كتب يقول:

«إنّها سرّ بين اللّه تعالى و بين الحبيب، لم يقصد به إفهام غيره». و احتجّ لهذا الرأي، بقوله: «و التخاطب بالحروف المفردة سنّة الأحباب في سنن المحاب» «1».

كذلك ما ذهب إليه الشيخ إسماعيل البروسوي، من قوله: «إنّ من المحتمل أن يكون (الم) و سائر الحروف المقطّعة، من قبيل

المواضعات المعمّيات بالحروف بين المحبّين، لا يطّلع عليها غيرهما» «2».

مع الشيرازي تكرّر المعنى ذاته، بل أسهب ببيانه في مواضع عدّة من كتابه، و ذكر بأنّ هذه الحروف إشارة إلى عطايا عليا و مواهب سامية و أغذية روحانية و أرزاق ملكوتية لطيفة جاءت «في كسوة الحروف المفردة على طريقة الرمز

______________________________

(1)- نقلا عن: الحروف المقطعة في القرآن الكريم: 29.

(2)- روح البيان 1: 28، نقلا عن: الحروف المقطعة في القرآن الكريم: 29.

فهم القرآن، ص: 514

و الإشارة، إلى مقاصد أهل البشارة، لئلا يطلع عليها الأغيار، و من لم يكن لهم أهلية الوصول إلى عالم الأسرار و معدن الأنوار» «1». كما قوله: «إنّ هذه الحروف المقطّعة القرآنية تسمّى في عالم السرّ و لسان أهل بيت النبوّة و بلدة الولاية، العارفين بمنطق الطير ب (الحروف المجملة) و (حروف أبجد). و في هذا العالم تصير الحروف المتّصلة منفصلة». ثمّ يتحدّث عن منازل أهل اللّه و العلاقة التي تربطهم بها، و كيف ترتقي على سلّم متصاعد إلى أن تبلغ الذروة بعد أن تنكشف الحجب و تفتح أبواب البصيرة الباطنية، بحيث إذا ما بلغوا إلى «مقام القرب رأوا النقاط كلّها مستهلكة في نقطة باء بسم اللّه» «2».

ممّن مال إلى المذهب ذاته و عدّ الحروف المقطّعة سرّا بين الحبيب و حبيبه، الآلوسي في «روح المعاني»، عند ما انتهى إلى القول بعد استعراض عدد من الآراء فيها: «الذي يغلب على الظنّ أنّ تحقيق ذلك علم مستور و سرّ محجوب عجزت العلماء- كما قال ابن عبّاس- عن إدراكه، و قصرت خيول الخيال عن لحاقه» «3». ثمّ استشهد بالبيت التالي:

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه قول و لا قلم للخلق يحكيه ليسجّل بعد ذلك: «فلا يعرفه بعد رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا الأولياء الورثة، فهم يعرفونه من تلك الحضرة، و قد تنطق لهم الحروف عمّا فيها كما كانت تنطق لمن سبّح بكفه الحصى و كلّمه الضبّ و الظبى (ص)، كما صحّ ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي اللّه تعالى عنهم. بل متى جنى العبد شجرة قرب النوافل علمها

______________________________

(1)- الحكمة المتعالية 7: 41.

(2)- تفسير القرآن الكريم 6: 17- 18.

(3)- روح المعاني 1: 100.

فهم القرآن، ص: 515

و غيرها بعلم اللّه تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء» «1». ثمّ راح يستعرض نظرية ابن عربي عن هذه الحروف و ما ذكره من كلام عن أسرارها، ليخلص إلى القول: «و بالجملة، عجائب هذه الفواتح لا تنفذ و لا يحصرها العدّ» «2».

ممّن ذهب من المعاصرين إلى أنّ الحروف المقطّعة سرّ بين اللّه و نبيّه، هو البلاغي في «آلاء الرحمن»، حيث كتب بداية سورة البقرة: الم علم معناها عند اللّه و رسوله و مستودعي علمه و أمنائه على وحيه، و لا غرو أن يكون في القرآن ما هو محاورة بأسرار خاصّة مع الرسول و أمناء الوحي» «3»، و لم يزد على ذلك بشي ء.

كذلك ذهب إلى الوجهة ذاتها الطباطبائي في «الميزان» عند حديثه عن سورة «طه»، حيث قال بعد مناقشة عدد من الوجوه و ردّها: «الحقّ في الحروف

______________________________

(1)- نفس المصدر. و يلاحظ التقارب بل التطابق بين هذا الذي ذكره الآلوسي هنا، و ما سبق أن أشار إليه الشيرازي، من أنّ هذه الحروف و إن كانت رمزا إلّا أنّ السبيل إلى استشراف بعض معانيها ليس مغلقا على نحو مطلق: «إنّ أوّل ما ينكشف لأولاد روح القدس في مكتب

التقديس، معنى اللوح و القلم و الكتابة و الرقم، و معنى الم و طه و يس* وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ و معنى ص* وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ و ق* وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ و ن* وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ، و معنى الحروف الجمل و هي الحروف المقطّعة القرآنية و الكلمات التامّات المفردة، و بعدها الكلمات المركّبة الفرقانية». (راجع: الحكمة المتعالية 7: 40- 41)

أقطاب هذه المدرسة تعتقد أنّ بالمقدور نيل شي ء من هذه المعاني و الأسرار بالكشف و غيره، لأنّها و إن كانت علوما خاصّة إلّا أنّها ليست من العلوم المستأثرة أو الأسرار الخاصّة التي لا سبيل إليها أساسا.

(2)- نفس المصدر 1: 104.

(3)- آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 143.

فهم القرآن، ص: 516

المقطّعة في فواتح السور، أنّها تحمل معاني رمزية ألقاها اللّه إلى رسوله» «1». لكن سبق و أن مرّ علينا إجمالا أنّ للطباطبائي رؤية أو نظرية خاصّة في تفسيرها؛ فكيف يتسق ذلك و القول برمزيتها إلى معان خاصّة؟ الحقيقة أنّ الطباطبائي بقي وفيّا لنظره هذا، عند ما عرض لتفسير الحروف المقطّعة على نحو تفصيلي مطلع سورة الشّورى، إذ بقي ملتزما برمزيتها، لكن غاية ما هناك أنّه يقول بإمكان استشعار معنى لها ناشئ عن طبيعة العلاقة بينها و بين مضمون السورة التي تفتح بها، و ذلك انسجاما مع المنطق الذي يميّز في الرموز و العلوم الخاصّة بين ما يكون مستأثرا باللّه و نبيه و أهل بيته، لم يعلّموه أحدا سواهم، و بين ما يمكن تعلّمه منهم بطريق خاصّ.

و على التقديرين، فإنّ الطباطبائي لا يجزم بمعناها و أنّ ما يسوقه هو المراد منها، بل يتبنّى رمزيتها مع إمكان استشعار معنى لها يسوقه على سبيل الحدس.

و بتعبيره: «و

يستفاد من ذلك أنّ هذه الحروف رموز بين اللّه سبحانه و بين رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، خفية عنّا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها، إلّا بمقدار أن نستشعر أنّ بينها و بين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصّا» «2».

المناقشة

الحقيقة أنّ ما يذهب إليه هذا التيار من رمزية الحروف المقطّعة و أنّها سرّ بين اللّه (سبحانه) و رسوله، هي مجرّد دعوى لا يسندها دليل، و ما ذكروه لتأييدها لا يزيد على كونه نصوصا غير تامّة سندا و لا دلالة.

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 14: 127.

(2)- نفس المصدر 18: 9.

فهم القرآن، ص: 517

أبرز ما ذكروه على هذا الصعيد، هو كلام منسوب للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، يقول فيه: «إنّ لكلّ كتاب صفوة، و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي». كذلك كلام منسوب إلى أبي بكر، يقول فيه: «للّه في كلّ كتاب سرّ، و سرّه في القرآن أوائل السور». و كذلك كلام عن الشعبي، جاء فيه: «سرّ اللّه تعالى فلا تطلبوه» «1». كما احتجّ بعضهم عليه ببعض الوجوه اللغوية التي تحتمل النقاش «2».

ممّا أضافه الإمام إلى هذه النصوص في الاستدلال على رأيه، هو حديث سفيان الثوري، عن الإمام الصادق عليه السّلام، حيث قال مستندا إليه: و ثمّ في حديث سفيان الثوري إشارة إلى رمزيّ [تها] «3»، فقد توجّه سفيان إلى الإمام يسأله عن معنى قوله اللّه عزّ و جل: «الم، و المص، و ألر، و المر، و كهيعص، و طه، و طس، و طسم، و يس، و ص، و حم، و حمعسق، و ق، و ن؟»، فأجابه عليه السّلام بحديث طويل، جاء في بعضه: «أمّا (الم) في أوّل البقرة، فمعناه: أنا اللّه الملك. و

أمّا (الم) في أوّل آل عمران، فمعناه: أنا اللّه المجيد. و (المص)، معناه: أنا اللّه المقتدر الصادق. و (الر)، فمعناه: أنا اللّه الرءوف. و (المر)، معناه: أنا اللّه المحيي المميت الرازق.

و (كهيعص)، معناه: أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد. و أمّا (طه) فاسم من أسماء النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و معناه: يا طالب الحقّ الهادي إليه ... و أمّا (ص) فعين تنبع من تحت العرش، و هي التي توضّأ منها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما عرج به» إلى آخر ما جاء في الرواية «4».

______________________________

(1)- راجع: مجمع البيان 1: 68، التفسير الكبير 2: 3، روح المعاني 1: 100.

(2)- راجع: الحروف المقطّعة في القرآن الكريم: 26 فما بعد.

(3)- شرح چهل حديث: 351.

(4)- معاني الأخبار: 22، بحار الأنوار 89: 373.

فهم القرآن، ص: 518

في كلّ الأحوال، هذا الوجه و إن كان ليس بعيدا في نفسه، إلّا أنّه يحتاج إلى الدليل. و إلّا يبقى كبقية الوجوه و الاحتمالات و الحدوس و الأفكار و النظريات، التي أفرزها الفكر القرآني في هذا المضمار.

من جهة اخرى، تواجه هذه النظرية معارضة من جهات عدّة، منها أنّ هذه الرمزية تتعارض مع بنية القرآن و خصائصه من أنّه نور و كتاب هداية و بيان، فالنورية مثلا تشمل جميع أجزاء الكتاب حتّى الحروف المقطّعة، و إن اختلفت مراتب الرؤيا، و من ثمّ لا بدّ و أن يكون للإنسان نصيب في فهم معنى هذه الحروف و لو على مستوى بعض المراتب.

و من جهات المعارضة هي تحدّي القرآن الآخرين للإتيان بمثله أو بعشر سور أو سورة منه، و التحدّي يكون بأمر مفهوم.

ثمّ هناك ما أمر به القرآن نفسه و

حثّ على التدبّر فيه: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1»، فهذا الأمر عام مطلق يشمل جميع الآيات دون استثناء بما في ذلك الحروف المقطّعة، و لو قال أنصار النظرية الرمزية بتخصيص ذلك العموم أو تقييد ذلك الإطلاق، لوجب عليهم سوق الدليل عليه «2».

يمكن أن نقدّم بعض الاجتهادات في مواجهة هذه الاعتراضات. لكن علينا أن ننتبه في البدء إلى تنوّع الرؤى داخل التيار الرمزي، إذ هناك من يقول أنّها رموز بين اللّه و نبيّه لا سبيل لارتقاء الفهم البشري إليها، في حين هناك من يقول برمزيّتها و في الوقت ذاته يفتح الطريق لمقاربة معناها عبر الاجتهاد الإدراكي و استخدام

______________________________

(1)- محمّد (47): 24.

(2)- راجع في تفاصيل هذه المعارضات: تسنيم 2: 102 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 519

العقل، أو من خلال الكشف و الشهود و عبر السير و السلوك، أو بالطريقين كليهما.

نتذكّر جيّدا ما ذهبت إليه المدرسة الوجودية من الإيمان بتفاوت مراتب الفهم بين حدّ أقصى يمثله من خوطب بالقرآن، و حدّ أدنى يتمثّل بالقاعدة العريضة. على ضوء هذه القاعدة يمكن تبرير التفسير الرمزي للحروف المقطّعة، بأنّ من خوطب بالقرآن يعرف معناها، ثمّ يعلّمها من يشاء أو يفتح طريقا و لو خاصّا لمعرفة الآخرين بها أو ببعض مراتبها، ليرتفع الإشكال. أمّا إذا قلنا بأنّ الرمزية لا تعني غلق الطريق تماما على المعرفة بوجهيها الإدراكي و الوجودي، فلا مشكلة عندئذ.

في كتاب «الأربعون حديثا» لا يستبعد الإمام أن تكون هذه الرموز بعيدة عن فهم البشر، مختصّة بمن خوطب بالقرآن «1». ثمّ يعمد إلى توضيح هذا الجواب على نحو مفصّل في كتاب «كشف الأسرار»، عند ما يكتب في جواب من ذهب إلى أنّ اختصاص التأويل و معاني أوائل

السور باللّه و بالراسخين بالعلم يؤدّي إلى تزعزع النظام الحياتي؛ ما نصّه: « [إنّ هذا الكلام] يشبه من يقول، إذا لم تكتب الرياضيات العالية أو [كتاب] القانون لأبي علي [بن سينا] بلغة الجمهور، فسيبعث ذلك على تخلخل النظام الحياتي و اضطرابه!». ثمّ يضيف موضحا: «مثل هذا العلم ليس عامّا، كما أنّه لا يرتبط بالحياة العامّة، بل لا يمكن كتابة أمثال هذه العلوم بصيغة بحيث يستفيد منها عامّة الناس. لقد جاء القرآن و الحديث لمختلف طبقات الناس، إذ فيهما علوم يفهمها المختصّون بالوحي، و لا حظّ لبقية الناس فيها. و فيهما علوم لطبقة عالية من العلماء و لا نصيب للآخرين فيها قطّ، كما هو حال البراهين الدالّة على تجرّد الواجب و إحاطته القيّومية، فلو إنّكم راجعتم القرآن بتمامه، لما كان

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 351.

فهم القرآن، ص: 520

بمقدوركم أن تستفيدوا هذه المسائل من القرآن» «1».

على ضوء هذا المنطق يخلص الإمام إلى أنّ فواتح السور هي رموز تختصّ معرفتها بمن خوطب بالقرآن و من يعلّمهم، و لا ضرر بجهل الآخرين بها.

على أنّ وعي هذه الرؤية جيّدا يستدعي الإطلالة و لو إجمالا، على التصوّر الذي تحمله المدرسة العرفانية لعالم الحروف.

3- لمحات عن عالم الحروف

اشارة

الحروف في المدرسة العرفانية عالم قائم بذاته، يتميّز بمفاهيمه الخاصّة، و له منهجه المحدّد في الفهم. و إذا كانت كلمة الدارسين محلّلين و ناقدين تكاد تجمع على أنّ للنص حضوره الفاعل في فكر المسلمين و ثقافتهم، فلا ريب أنّ الحروف تحظى بمكانة في ثقافة العرفان لا تقلّ عن مكانة النصّ في ثقافة الفكر الإسلامي.

استيفاء الرؤية الوجودية عن الحروف يحتاج إلى بحث مطوّل لا يقلّ عن حجم أطول الفصول التي مرّت علينا في هذا القسم. و لمّا كان ذلك

يخرجنا عن مدار الدراسة و هدفها الأساسي، فسنكتفي بلمحات سريعة مستفيدين من الفرصة التي أتاحها لنا البحث في الحروف المقطّعة.

يواجهنا التصوّر الوجودي بأنّ عالم الحروف هو تعبير عن امّة من الامم يشملها الخطاب و يطالها التكليف، و فيها رسل من جنسهم: «إنّ الحروف امّة من الامم مخاطبون و مكلّفون، و فيهم رسل من جنسهم، و لهم أسماء من حيث هم ...

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 323.

فهم القرآن، ص: 521

و عالم الحروف أفصح العالم لسانا و أوضحه بيانا» «1». و بذلك عند ما تواجهنا المدرسة بتقسيمات لهذا العالم الخاصّ تشبه في أسلوبها التعاطي مع الكائنات العاقلة، فلا ينبغي حمل ذلك على المجاز، بل هو عين الحقيقة: «و اعلم أنّه ما قسّمنا الحروف تقسيم من يعقل على طريق التجوّز، بل ذلك على الحقيقة. فإنّ الحروف عندنا و عند أهل الكشف و الإيمان حروف اللفظ و حروف الرقم و حروف التخيّل، امم من جملة الامم، لصورها أرواح مدبّرة، فهي حية ناطقة تسبّح اللّه بحمده طائعة ربّها» «2».

للحروف أقسام كأقسام العالم «3»، و هي «على أربع مراتب» «4»، إذ منها «ما يلحق بعالم الجبروت، و منها ما يلحق بعالم الملكوت، و منها ما يلحق بعالم الملك» «5». فالهاء و الهمزة يدخلان في عالم الجبروت في تصنيف أبي طالب المكّي، بينما تدخل حروف التاء و الثاء و الجيم إلى آخره في عالم الجبروت بحسب تصنيف ابن عربي، على حين تدخل الباء و الميم و الواو الصحيحة في عالم الملك و الشهادة و هكذا «6».

علم الحروف في هذه المدرسة هو العلم العيسوي (نسبة إلى عيسى عليه السّلام)

______________________________

(1)- الفتوحات المكّية 1: 58.

(2)- نفس المصدر 4: 90.

(3)- نفس المصدر 1: 58.

(4)- نفس المصدر: 52.

(5)-

نفس المصدر 4: 90.

(6)- تنظر تفاصيل هذه العوالم و تصنيفاتها: الفتوحات المكّية 1: 52 و 58 و مواضع اخرى.

فهم القرآن، ص: 522

بامتياز: «إنّ العلم العيسوي هو علم الحروف. و لهذا أعطي النفخ، و هو الهواء الخارج من تجويف القلب الذي هو روح الحياة، فإذا انقطع الهواء في طريق خروجه إلى فم الجسد سمّي مواضع انقطاعه حروفا، فظهرت أعيان الحروف، فلمّا تألّفت ظهرت الأعيان الحسية في المعاني» «1».

على هذا فإنّ ظاهرة اللغة هي ظاهرة إلهية، بشرط أن ندرك العمق الكائن وراء حروف لغتنا الإنسانية، فهذه الحروف التي نتداول بها لغتنا هي أجسام أو صور، لها ما وراءها أسماء أو ملائكة تحفظها في عالم الأرواح، و تلك الملائكة هي أرواح هذه الحروف التي ننطقها، و هذه الحروف أجساد تلك الأرواح، و الفعل للأرواح، و لولاها لما ظهر فعل من الحرف: «جميع الأسماء الإلهية المختصّة بهذا الإنسان الموصوف بهذه الصفة التي ينزل بها هذه المنازل، معلومة محصاة ... و لكلّ اسم من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه و تقوم به و تحفظها، لها صور في النفس الإنساني تسمّى حروفا في المخارج عند النطق و في الخطّ عند الرقم، فتختلف صورها في الكتابة و لا تختلف في الرقم، و تسمّى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح، بأسماء هذه الحروف، فلنذكرها على ترتيب المخارج حتّى تعرف رتبتها، فأوّلهم ملك الهاء ثمّ الهمزة، و ملك العين [إلى أن يأتي على تعدادها حتّى آخرها ...] و هذه الملائكة أرواح هذه الحروف [التي ننطقها] و هذه الحروف [التي ننطقها] أجساد تلك الملائكة لفظا و خطا بأي قلم كانت.

فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها، أعني صورها المحسوسة ... فلا يتخيّل أنّ الحروف تعمل

بصورها، و إنّما تعمل بأرواحها، و لكلّ حرف تسبيح

______________________________

(1)- نفس المصدر 1: 168.

فهم القرآن، ص: 523

و تمجيد ... و الحرف لو لا الروح ما ظهر منه فعل» «1».

هذه الحروف تتوازى في حقيقتها الوجودية و مراتبها مع الوجود و مراتبه، إذ مراتب الوجود بعدد الحروف، و عدد الحروف بعد مراتب الوجود: «فأمّا حصر العالم على عدد الحروف، من أجل النفس، في ثمانية و عشرين لا تزيد و لا تنقص» «2». ثمّ يعدّ تلك المراتب ثمانية و عشرين مرتبة بأسمائها على عدد الحروف.

و إذا كانت الحروف المقطّعة الأربعة عشر في أوائل السور «3»، تكتسب صفة الحروف الخاصّة، فإنّ الباء تمثّل خلاصة خاصّة الخاصّة دون غيرها من الحروف، ف «بالباء ظهر الوجود، و بالنقطة تميّز العابد من المعبود» «4». و من خصائص هذه الحروف أيضا، أنّ لها ظاهرا و باطنا. و هذا ممّا ينسجم مع الرؤية الكونية العامة للمدرسة من جهة، و مع رؤيتها الخاصّة للحروف من جهة اخرى: «إنّ هذه الحروف الأربعة عشر التي في أوائل السور، كلّ حرف منها له ظاهر و هو صورته، و له باطن و هو روحه» «5».

______________________________

(1)- نفس المصدر 2: 448.

(2)- نفس المصدر 2: 395.

(3)- عدد الحروف المقطّعة التي افتتحت بها السور التسعة و عشرين، هو (78) حرفا مع التكرار، و أربعة عشر حرفا بحذف التكرار.

(4)- الفتوحات المكّية 1: 102.

(5)- نفس المصدر 2: 449.

فهم القرآن، ص: 524

موقف الإمام

ينسجم الإمام في رؤيته للحروف مع هذا التصوّر تمام الانسجام. و هذا هو مقتضى الانتماء إلى المدرسة و من لوازم تبنّي اصولها و مرتكزاتها.

بين أيدينا نصّ فذّ يختزل الرؤية بأكملها، و يعبّر عنها بإيجاز، حيث يكتب الإمام معبّرا عن قناعته بعالم الحروف: «يعرف

من هذه الأخبار و غيرها ممّا روي في الأبواب المختلفة، أنّ عالم الحروف عالم قبال العوالم كلّها، و ترتيبها أيضا مطابق مع ترتيبها. فالألف كأنّه يدلّ على واجب الوجود، و الباء على المخلوق الأوّل، و هو العقل الأوّل و النور الأوّل، و هو بعينه نور نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «1».

ثمّ نماذج كثيرة في تراث الإمام تنسجم مع منهجية أسرار الحروف، يزاوج فيها بين الرؤية العرفانية للحروف و بعض المأثور. من ذلك، ما جاء من أنّ سورة الفاتحة فيها كلّ الكتاب، و هي باعتبار في البسملة، و الأخيرة باعتبار في باء البسملة: «لكون فاتحة الكتاب فيها كلّ الكتاب، و الفاتحة باعتبار الوجود الجمعي في (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، و هو [الوجود الجمعي] في باء بسم اللّه، و هو في

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 22، و يلاحظ أنّه بالإضافة إلى انسجام هذا الرأي مع المدرسة العرفانية، فهو يلتقي كذلك مع التفسير الذي تبنّاه ابن سينا للحروف المقطّعة، و أفرد له رسالة خاصّة نالت استحسان صدر الدين الشيرازي. ففي تفسيره ذهب الشيخ الرئيس أنّ الألف ينبغي أن يدلّ في ترتيب أبجد هوّز على الباري لأنّه أوّل الموجودات، و الباء على العقل و عالمه لأنّه يتلوه في الموجود، و الجيم على النفس و عالمها، و الدال على الطبيعة و عالمها، و هكذا إلى آخر ما ذكره من تفاصيل و أحوال. راجع: الرسالة النوروزية لابن سينا، نقلا عن:

تفسير القرآن الكريم 6: 15 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 525

نقطة تحت الباء. قال علي عليه السّلام: «أنا النقطة» «1». و ورد: «بالباء ظهر الوجود، و بالنقطة تميّز العابد عن المعبود» «2».

في الاتجاه نفسه و تعزيزا لما مرّ، نقرأ أيضا:

«و لهذا روي عن أمير المؤمنين و سيّد الموحدين صلوات اللّه عليه: أنّ كلّ ما في القرآن في الفاتحة، و كلّ ما في الفاتحة في بسم اللّه الرحمن الرحيم، و كلّ ما فيه في الباء، و كلّ ما في الباء في النقطة و أنا نقطة تحت الباء» «3».

كما كتب أيضا في تفسير البسملة بمنهجية أسرار الحروف: «قال بعض أعاظم المشايخ من أهل السير و المعرفة رضوان اللّه عليه في كتابه الموسوم ب «أسرار الصلاة» «4» في تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم بحسب أسرار الحروف بعد ذكر أخبار، منها ما روي في الكافي و التوحيد و المعاني، عن العيّاشي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه و الميم مجد اللّه».

و القمي، عن الباقر و الصادق و الرضا عليهم السّلام مثله، و لكن بدل مجد اللّه «ملك اللّه» «5». ثمّ ذكر نص عبارة صاحب «أسرار الصلاة» عن الحروف، ممّا أتينا على

______________________________

(1)- راجع في مصدر الحديث: ينابيع المودة 1: 68.

(2)- شرح دعاء السحر: 52. و قد مرّ علينا قبل ذلك مصدر نص: «بالباء ظهر الوجود» في «الفتوحات المكّية»، لكن الإمام يذكر أنّ هذا النص هو ممّا ورد في بعض الأخبار من طريق أهل البيت عليهم السّلام. (راجع: شرح دعاء السحر: 29).

(3)- شرح دعاء السحر: 88.

(4)- هو الشيخ جواد ملكي التبريزي، أمضى شطرا من حياته في النجف الأشرف، ثمّ قفل عائدا إلى إيران سنة 1320 ه، حيث توفى فيها سنة 1343 ه. من مؤلفاته: أسرار الصلاة، المراقبات، رسالة لقاء اللّه.

(5)- شرح دعاء السحر: 22.

فهم القرآن، ص: 526

نقله قبل قليل، دون أن يعترض عليها، و إن ناقشه في مسائل اخرى، ممّا يدلّ على

انسجامه مع هذا المنحى.

في موضع آخر يتناول الإمام، الاسم الأعظم في اللفظ و العبارة و الحروف بعد أن تحدّث عنه كحقيقة وجودية، فكان ممّا ذكره: «و أمّا حقيقته بحسب اللفظ و العبارة، فعلمها عند الأولياء المرضيّين و العلماء الراسخين، و مخفية عن ساير الخلق. و ما ذكر من حروف الاسم الأعظم أو كلماته في كتب القوم من العرفاء و المشايخ، إمّا من الآثار النبوية أو من أثر الكشف و الرياضة عند الخلوص عن دار الوحشة و الظلمة، كما نقل عن الشيخ مؤيّد الدين الجندي أحد شرّاح الفصوص أنّ من أسماء هذا الاسم، هو: اللّه المحيط و القدير و الحي و القيّوم، و من حروفه: أ، د، ذ، ر، ز، و».

ثمّ نقل كلام ابن عربي في دلالات هذه الحروف عليه، بقوله: «و قال الشيخ الكبير في الفتوحات: (الألف) هو النفس الرحماني الذي هو الوجود المنبسط، و (الدال) حقيقة الجسم الكلّي، و (الذال) المتغذّي، و (الراء) هو الحسّاس المتحرّك، و (الزاء) الناطق، و (الواو) حقيقة المرتبة الإنسانية، و انحصرت حقائق عالم الملك و الشهادة المسمّى بعالم الكون و الفساد في هذه الحروف. انتهى كلامه» «1».

هذه اللمحات و النصوص التي سقناها على نحو عابر، تدلّل على انسجام الإمام مع الرؤية العرفانية لعالم الحروف، التي أنتجت فيما أنتجته تفسيره الخاص للحروف المقطّعة و فواتح السور.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 85- 86.

فهم القرآن، ص: 527

الفصل العاشر سلامة القرآن من التحريف

اشارة

حفل التاريخ الفكري للمسلمين باشتباك البعدين العلمي و الإيديولوجي على مستوى قضايا مهمّة قرآنية و غير قرآنية، على النحو الذي تغلّبت فيه بواعث الصراع الإيديولوجي ذي الصبغة السياسية أو المذهبية، و استطاعت أن تجمّد روح البحث العلمي في هذه القضايا و تغيّبها أو تدفع بها إلى

الهامش على أقل التقدير.

ربّما كان الصراع الذي احتدم حول خلق القرآن و فيما إذا كان كلام اللّه محدثا أم قديما هو المثال الأبرز الذي يكشف عن تغذية أروقة السياسة لمادة الاختلاف العلمي حيال هذا الموضوع، لما يخدم متبنّياتها الإيديولوجية و اختياراتها الاجتماعية و الثقافية. بيد أنّه بالتأكيد لم يكن المثال الوحيد إذ برزت إلى جوار ذلك و قبله و بعده أمثلة كثيرة من قبيل تأسيس مرجعية علمية خاصّة باسم مرجعية الصحابة، و القضاء و القدر و الموقف من الحرّية و الفعل الإنساني، و عقيدة الإرجاء وصلتها بالتسويغ لسياسة عدم مواجهة الظلمة و تبرير منهج الطاعة و الصمت و الاستخذاء، و قضية العقل و مكانته في الدين و الحياة، و قضية القيم الجهادية و الأخلاقية مثل الصبر و التوكّل و الزهد و محاولة تفريغ معناها عبر أنماط التصوّف

فهم القرآن، ص: 528

المنحرف إلى عشرات بل مئات القضايا و المسائل الاخرى.

على الصعيد القرآني كانت مسألة التحريف هي واحدة من أبرز المسائل التي دخلت مضمار الصراع الإيديولوجي بوجهيه السياسي و المذهبي، على مرّ تاريخ المسلمين، و هي لا تزال حين تثار تثار بدوافع التحيّز السياسي و المواجهة المذهبية، أكثر من كونها مسألة تتطلّب الدراسة الهادئة و البحث العلمي المحايد النزيه.

طبيعي ذلك لا يعني خلوّها من الأساس العلمي بقدر ما يعني تغليب دوافع الصراع السياسي و المذهبي على وجهها العلمي، بحيث تكتسب أبعادا مضخّمة لا تستحقّها من دون تلك الدوافع، حتّى أنّها لو تركت و شأنها لأمكن حسمها بقليل من الجهد العلمي و من دون ضجيج، خاصّة عند ما نأخذ بنظر الاعتبار الحصيلة التالية التي انتهى إليها باحث معاصر: «و شبهة التحريف بعد هذا من الشبه التي لا تستحق

أن يطال فيها الحديث لكونها شبهة في مقابل البديهة» «1».

لقد توفّر الفكر الخميني على معالجة قضية التحريف في مواضع متعدّدة من كتب الإمام و نصوصه، مع إيماءات سجّلها من بعيد إلى الإشكاليات السياسية و المذهبية التي اكتنفتها، الأمر الذي دفعنا للوقوف عليها في هذا الفصل، لا سيّما مع انطلاق بعض الأصوات الناتئة التي حاولت النفوذ عبر هذه المسألة للتحريض ضدّ المشروع الإحيائي الخميني، عامدة إلى السلاح القديم ذاته المتمثّل بإخفاء دوافعها في الصراع السياسي المذهبي عبر خلطها مع الاسس العلمية للبحث في الموضوع.

على هذا سيتناول هذا الفصل من الدراسة، مقولة التحريف عبر المحاور

______________________________

(1)- الاصول العامّة للفقه المقارن: 114.

فهم القرآن، ص: 529

الثلاثة التالية:

1- الخلفية التأريخية التي تمرّ على تأريخ المسألة سريعا، و تركّز على موقف شيعة أهل البيت عليهم السّلام منها.

2- مناهج الاستدلال المتّبعة في دراستها لإثبات سلامة القرآن من التحريف.

3- نفي التحريف عند الإمام الخميني.

1- الخلفية التأريخية

اشارة

لا نعرف بالضبط متى اثيرت مسألة التحريف في بعدها العلمي، و متى دخلت نطاق التوظيف الذي حوّلها إلى أداة في الصراع السياسي و المذهبي. لكن مراجعة إلى كتب الحديث بما في ذلك «الصحيحين» «1» تومئ إلى أنّ بذورها ترتدّ إلى القرون الاولى، بل ثمّ مزاعم تعيدها إلى العصر الأوّل الذي تلا غياب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الامّة، إذ فيها ما ينسب قصّة التحريف إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت عليهم السّلام

______________________________

(1)- لقد وردت هذه الأحاديث في صحيحي البخاري و مسلم، و مسند احمد و الطبراني، و مستدرك الحاكم، و كنز العمّال و غيرها. كما سجّل السجستاني في كتاب «المصاحف» اختلاف مصاحف الصحابة بالزيادة و النقيصة. إلّا أنّ ذلك كلّه لا يعبأ به، و

لا نعرف أحدا من المسلمين عمل بمفاده رغم وجوده في بطون الكتب.

راجع في استعراضه و مناقشته: آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 49- 71، الاصول العامة للفقه المقارن: 107- 117، البيان في تفسير القرآن: 218- 239 و 257- 278، التحقيق في نفي التحريف: 151- 259، نقض الوشيعة أو الشيعة بين الحقائق و الأوهام: 164- 168.

فهم القرآن، ص: 530

عبر نصوص و روايات منسوبة إليهم.

بيد أنّ ذلك كلّه لا ينبغي أن يدفعنا إلى الفرح أو الرضا عن النفس باتهام كلّ طرف الطرف الآخر بأنّ مصادره تحوي نصوصا و روايات دالّة على التحريف.

فالمسألة ترتبط بكرامة القرآن، و بكتاب المسلمين كلّ المسلمين، و من ثمّ فإنّ الخسارة في مثل هذه المهاترات- حين تقع- تعود عليهم بأجمعهم. و ينبغي لمن يرتاح إلى منطق الاحتجاج بروايات منسوبة إلى الصحابة أو أئمّة أهل البيت دالّة على تحريف كتاب اللّه، أن يلتفت إلى اللوازم الخطيرة المترتبة على ذلك. فبثبوت التحريف تبطل حجّية القرآن، و ببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى و يتحوّل الدين الإسلامي إلى هباء، و حينئذ ما ذا يغني قولنا: «إنّ رجلا في تأريخ كذا ادّعى النبوّة و أتى بالقرآن معجزة، أمّا هو فقد مات و أمّا قرآنه فقد حرّف؟» «1».

إنّ القول بالتحريف لا يبطل القرآن وحده، بل يمحق الإسلام برمّته، لأنّ القرآن أساس هذا الدين، أجارنا اللّه من هذا المنحدر المريع، و القول الشنيع!

ما يهمّنا من أمر التحريف هو إجماع المسلمين على عدم وقوع الزيادة في القرآن، و إنّ الاختلاف الذي ثار يتناول التحريف بالنقيصة، حيث أثبته قوم و نفاه آخرون، و النفاة هم الأغلبية الغالبة من المسلمين التي عليها المعوّل، حتّى سجّل باحث قرآني: «المعروف بين المسلمين عدم

وقوع التحريف في القرآن، و إنّ الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «2». أمّا حاضرا فلا نعرف من أهل القبلة من يقول بالتحريف لا بالزيادة و لا بالنقيصة، هذا إذا أغضينا النظر عن لغة التخرّصات و الاتهامات الرخيصة.

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 12: 114.

(2)- البيان في تفسير القرآن: 218.

فهم القرآن، ص: 531

شهادات للقدماء

ما دام الأمر كذلك، نمرّ على نصوص سريعة تكشف أنّ الخلفية التاريخية التي يقوم عليها الخطّ العام لشيعة أهل البيت عليهم السّلام، هي نفي التحريف ببعديه. فما خلا عدّة أقوال شاذّة لا يخلو عنها فريق، هناك ما يشبه الإجماع، بل إجماع على ذلك.

أمّا النصوص، فهي:

1- يقول الشيخ محمّد بن على بن بابويه الملقّب بالصدوق (ت: 381 ه):

«اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللّه على نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو ما بين الدفتين، و هو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك ... و من نسب إلينا أنا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» «1». ثمّ يسوق عددا من الأدلّة لإثبات صحّة رأيه.

2- يقول الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي الملقّب بالمفيد (ت:

413 ه): «لا شكّ أنّ ما بين الدفتين من القرآن كلام اللّه تعالى و تنزيله، و ليس فيه شي ء من كلام البشر ... و إنّ الخبر قد صحّ عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّهم أمروا بقراءة هذا الذي بين الدفتين، و أن لا نتعدّاه إلى زيادة و لا نقصان منه، فقد تعبّدنا بذلك.

و أمّا ما ورد من أحرف تزيد على الثابت في المصحف المتداول فقد نهينا عن قراءته، لأنّه لم تأت على التواتر، و إنّما جاءت

بها الآحاد، و قد يغلط في ما ينقله.

فلذلك وقفنا في تلك الأخبار و لم نعدل عمّا في المصحف الظاهر المتداول بين المسلمين» «2».

______________________________

(1)- رسالة الاعتقادات، المطبوعة مع شرح الباب الحادي عشر: 93.

(2)- المسائل السرويّة للشيخ المفيد، نقلا عن: نظرات في تراث الشيخ المفيد: 283، 284. كما

فهم القرآن، ص: 532

3- يسجّل الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي (ت: 436 ه) تلميذ المفيد، ما نصّه: «إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان، و الحوادث الكبار، و الوقائع العظام، و الكتب المشهورة، و أشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّت و الدواعي توفّرت على نقله و حراسته، و بلغت إلى حدّ لم يبلغه في ما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة، و مأخذ العلوم الشرعية و الأحكام الدينية، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شي ء اختلف فيه إعرابه و قراءته و حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضبط الشديد؟!» «1».

4- أمّا تلميذ المفيد الآخر الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي (ت: 460 ه) الملقّب بشيخ الطائفة، فقد كتب مقدّمة تفسيره الذائع، يقول: «و أمّا الكلام في زيادته و نقصانه فمما لا يليق به أيضا، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، و النقصان منه، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه. و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضى رحمه اللّه، و هو الظاهر في الروايات» «2».

______________________________

تناول المسألة ذاتها في رسالة المسائل العكبرية. أنظر المصدر نفسه: 337- 338. و كذلك عالج الموضوع نفسه بشي ء من التفصيل في كتابه: أوائل المقالات في المذاهب المختارات:

93- 95.

(1)- هذا ما نقله الطبرسي في تفسيره عن السيد المرتضى في

رسالة جواب المسائل الطرابلسيات. راجع: مجمع البيان 1: 31. و يبدو أنّ المرتضى كان متشدّدا في موقفه هذا حتّى نسبوا إليه أنّه كان يكفّر من زعم أنّ القرآن بدّل أو زيد فيه أو نقص منه، كما نقل ذلك ابن حجر العسقلاني في «لسان الميزان» عن ابن حزم. (راجع: التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف: 18)

(2)- التبيان في تفسير القرآن 1: 3.

فهم القرآن، ص: 533

5- كتب الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي (ت: 548 ه) في تفسيره، ما نصّه: «و من ذلك الكلام في زيادة القرآن و نقصانه، فإنّه لا يليق بالتفسير. فأمّا الزيادة فمجمع على بطلانه، و أمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشويّة العامّة أنّ في القرآن تغييرا و نقصانا، و الصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، و هو الذي نصره المرتضى قدّس اللّه روحه و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات» «1». ثمّ نقل كلام المرتضى الذي جئنا على بعضه قبل قليل.

6- وصل إلى الحسن بن يوسف بن المطهّر الملقّب بالعلامة (ت: 726 ه)، سؤال جاء فيه: ما يقول سيّدنا في الكتاب العزيز، هل يصحّ عند أصحابنا أنّه نقص منه شي ء أو زيد فيه، أو غيّر ترتيبه أم لم يصحّ عندهم شي ء من ذلك؟ فأجاب عليه بما نصّه: «الحقّ أنّه لا تبديل و لا تأخير و لا تقديم فيه، و إنّه لم يزد و لم ينقص، و نعوذ باللّه تعالى من أن يعتقد مثل ذلك و أمثال ذلك، فإنّه يوجب التطرّق إلى معجزة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المنقولة بالتواتر» «2».

هكذا تمتدّ القائمة لتستوعب من رجال السلف أعظمهم منزلة و أكثرهم مكانة

«3».

______________________________

(1)- مجمع البيان 1: 30- 31.

(2)- أجوبة المسائل المهناوية: 121، نقلا عن: التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف:

21.

(3)- راجع بعض شهادات هؤلاء الأعلام و كلماتهم: التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف: 16 فما بعد، آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 63 فما بعد، نقض الوشيعة أو الشيعة بين الحقائق و الأوهام: 160 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 534

شهادات للمحدثين

أمّا من المحدثين و المعاصرين فبودّي أن أستفيد من هذه الفرصة لتسجيل شهادات عدد منهم، كما يلي:

1- الشيخ محمّد جواد البلاغي (ت: 1352 ه) في مقدّمات تفسيره «آلاء الرحمن». و أهمّية البلاغي تعود إلى منهجه التأسيسي في تناول موضوع التحريف و إشباعه بحثا من جوانبه الرئيسية، بحيث تحوّلت دراسته إلى حجر أساس لمن جاء بعده، و استحقّت تمجيد جلّ من عرض للموضوع بعده بما في ذلك الإمام الذي أثنى عليها، على ما ستأتي الإشارة إليه لاحقا.

2- الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (ت: 1373 ه) الذي كتب في كتابه الشهير «أصل الشيعة و اصولها»، ما نصّه: «و إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله اللّه إليه للإعجاز و التحدّي، و لتعليم الأحكام و تمييز الحلال من الحرام، و إنّه لا نقص فيه و لا تحريف و لا زيادة، و على هذا اجماعهم [الشيعة]. و من ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف، فهو مخطئ ... و الأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذّة، و أخبار أحاد لا تفيد علما و لا عملا، فأمّا أن تؤوّل بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار» «1».

3- السيّد محسن الأمين العاملي الذي تناول الموضوع

بشي ء من التفصيل في ردّه على موسى جار اللّه، بعد أن ادّعى الأخير إجماع كتب الشيعة على

______________________________

(1)- أصل الشيعة و اصولها: 220.

فهم القرآن، ص: 535

التحريف، فقال في جوابه: «دعوى إجماع كتب الشيعة على ذلك زور و بهتان، بل كتب المحقّقين و من يعتني بقولهم من علماء الشيعة مجمعة على عدم وقوع تحريف في القرآن لا بزيادة و لا بنقصان. و تفصيل الكلام في ذلك أنّه اتفق المسلمون كافّة على عدم الزيادة في القرآن، و اتفق المحقّقون و أهل النظر و من يعتدّ بقوله من الشيعيّين و السنيّين على عدم وقوع النقص.

و وردت روايات شاذّة من طريق أهل السنّة و من بعض طرق الشيعة تدلّ على وقوع النقص ردّها المحقّقون من الفريقين و اعترفوا ببطلان ما فيها، و سبقها الإجماع على عدم النقص و لحقها، فلم يبق لها قيمة» «1».

4- السيّد عبد الحسين شرف الدين (ت: 1377 ه)، حيث كتب في جواب المسألة الرابعة من مسائل موسى جار اللّه أيضا، التي نسب فيها إلى الشيعة القول بتحريف القرآن، ما نصّه: «نعوذ باللّه من هذا القول، و نبرأ إلى اللّه تعالى من هذا الجهل. و كلّ من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا، فإنّ القرآن العظيم و الذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته و كلماته و سائر حروفه و حركاته و سكناته تواترا قطعيّا عن أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السّلام ... و أئمّة أهل البيت كلّهم أجمعون رفعوه إلى جدّهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عن اللّه تعالى، و هذا أيضا ممّا لا ريب فيه». ثمّ يضيف بعد تفصيل: «و كان القرآن مجموعا أيّام النبي صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم على ما هو عليه الآن من الترتيب و التنسيق في آياته و سوره و سائر كلماته و حروفه، بلا زيادة و لا نقصان، و لا تقديم و لا تأخير، و لا تبديل و لا تغيير» لينتهي بعد عرض مجموعة من الأدلّة، إلى القول: «نعم، لا تخلو كتب الشيعة و كتب السنّة

______________________________

(1)- نقض الوشيعة أو الشيعة بين الحقائق و الأوهام: 160.

فهم القرآن، ص: 536

من أحاديث ظاهرة بنقص القرآن، غير أنّها ممّا لا وزن لها عند الأعلام من علمائنا أجمع لضعف سندها، و معارضتها بما هو أقوى منها سندا و أكثر عددا، و أوضح دلالة، على أنّها من أخبار الآحاد، و خبر الواحد إنّما يكون حجّة إذا اقتضى عملا، و هذه لا تقتضي ذلك، فلا يرجع بها عن المعلوم المقطوع به، فليضرب بظواهرها عرض الحائط» «1».

5- الشيخ محمّد رضا المظفّر (ت: 1383 ه)، الذي كتب في مؤلّفه الشهير «عقائد الإمامية» تحت فقرة: «عقيدتنا في القرآن الكريم» ما نصّه: «نعتقد أنّ القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من اللّه ... و هذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، و من ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، و كلّهم على غير هدى» «2».

2- مناهج الاستدلال

اشارة

يقودنا التطواف في دراسات الباحثين ممّن طرق موضوع التحريف و تقصّاه بالدراسة و البحث قديما و حديثا، إلى رصد ثلاثة مناهج اتبعوها في الاستدلال، هي:

أ- المنهج العقلي أو الكلامي:

و هو الذي يأخذ حججه من العقل، و أشهر أدلّتهم على هذا الصعيد هي معجزيّة القرآن. فما دام القرآن هو المعجزة الدائمة

______________________________

(1)- أجوبة مسائل جار اللّه: 8- 37، نقلا عن: التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف:

30- 32.

(2)- عقائد الإمامية: 300.

فهم القرآن، ص: 537

لخاتم النبيّين، فلا بدّ و أن يكون مصونا و محفوظا من الزيادة أو النقيصة، و إلّا فإنّ أي ثلب في هذه المعجزة، يعرّض النبوّة نفسها إلى الخطر و من ورائها الإسلام «1». هذا الدليل يلخّصه أحد الباحثين المعاصرين، بقوله: «إنّ القرآن نزل على سبيل الإعجاز الدائمي، فوجب حفظه تأبيدا» «2».

سعى بعضهم للاستدلال عقليا على عدم التحريف من خلال المقاصد الأساسية للقرآن. و ملخّص استدلالهم أنّ القرآن الواقعي الذي أنزله اللّه (سبحانه) على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتوفّر على جملة من الصفات ككونه قولا فصلا، و رافعا للاختلاف، و ذكرا و هاديا و نورا، و مبيّنا للمعارف الحقيقية و الشرائع الفطرية و آية معجزة. فمن جهة المعارف الحقيقية مثلا يصف القرآن اللّه (جلّ جلاله) بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنّته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخليقة في المعاد و رجوع الكلّ إليه سبحانه، و يبيّن تفاصيل ما يؤول إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء و الجنة و النار و ما إلى ذلك ممّا يدخل في مطلق الذكر. و ما دام القرآن الذي بين

الدفتين يحوي ذلك جميعا، و يتصف بهاتيك الصفات الكريمة بأكملها، فإذن هو القرآن الواقعي النازل من اللّه (جلّ جلاله) إلى نبيّه الكريم، دون نقص أو زيادة، و هو المطلوب «3».

______________________________

(1)- راجع مثلا: تاريخ القرآن: 153- 178، موجز علوم القرآن: 52 فما بعد، بحوث في تأريخ القرآن و علومه: 306- 324، كذلك المصادر التي مرّت إليها الإشارة في الهوامش السابقة.

(2)- تأريخ القرآن: 170.

(3)- الميزان في تفسير القرآن 12: 104- 133 بتلخيص. كما يلخّصه في كتاب آخر بقوله:-

فهم القرآن، ص: 538

يمكن أن نضيف إلى ذلك، ما ألفته البحوث الاصولية من التأسيس لحجّية الظهور، و ما ساقته من دراسات انتهت إلى حجّية ظهور الكتاب، إذ لا معنى لحجّية نصوص كتاب محرّف، و إنّما يستقيم القول بحجّية نصوصه بعد التسليم بتمام صحّته، و هذا ما هو حاصل من بحث حجّية الظواهر في الكتب الاصولية «1».

ب- المنهج النقلي:

و هو أكثر ذيوعا من الأوّل، و قد لجأ فيه الباحثون إلى مناقشة المرويات التي تومئ إلى وجود النقيصة على اعتبار أنّ هناك إجماعا على نفي الزيادة، فأشبعوها تفكيكا و تحليلا و بحثا على مستوى السند و الدلالة، لينتهوا إلى أنّ هذه الأحاديث ضعيفة الأسناد، فهي مراسيل أو مقطوعة الإسناد أو ضعيفتها، لا تفيد علما و لا عملا. و ما يسلم منها من هذه العلل- و هو قليل- فهو قاصر الدلالة.

______________________________

- «أوضح دليل على أنّ القرآن الذي بأيدينا اليوم هو القرآن الذي نزل على النبي الكريم، و لم يطرأ عليه أي تحريف أو تغيير، أنّ الأوصاف التي ذكرها القرآن لنفسه موجودة اليوم فيه كما كان في السابق. يقول القرآن: إنّني نور و هداية ... إنّني ابيّن ما يحتاج إليه الإنسان و يتفق مع

فطرته ... إنّني كلام اللّه تعالى، و لو لم تصدّقوا فليجتمع الإنس و الجنّ للإتيان بمثله ... إنّ هذه الأوصاف و المميزات باقية في القرآن».

راجع: القرآن في الإسلام: 175- 176، لكن هذا الاستدلال يواجه إشكالا يرتبط بمصدر الصفات التي أخذها للقرآن و جعلها معيارا للقرآن الواقعي؟ إذ لا ريب أنّه أخذها من القرآن الموجود الذي يدور من حوله البحث، و الذي يراد إثبات عدم تحريفه، ليواجه الدليل مشكلة الدور، إلّا أن يلجأ إلى ما لجأ إليه الآخرون من إثبات صحّة هذه الآيات التي أخذ عنها الأوصاف و المعايير المذكورة، عن طريق أئمّة أهل البيت، ثمّ الانطلاق منها لإثبات صحّة بقية ما بين الدفتين.

(1)- بالنسبة إلى الإمام راجع: تهذيب الاصول 2: 162 فما بعد، أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1: 239- 247.

فهم القرآن، ص: 539

ثمّ عارضوها بما هو أضبط منها سندا و أقوى دلالة و أكثر عددا، لتنتهي بهم حصيلتهم البحثية إلى وجود المجاميع الحديثية التالية:

1- مجموعة الأحاديث التي لها دلالة قطعية على نفي التحريف؛ و هي تكفي لمعارضة ما يسلم من أحاديث الطائفة الاولى، لما تفيده من أنّ القرآن الموجود بين الناس هو القرآن النازل من عند اللّه سبحانه.

2- الأحاديث النبويّة الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن، و لحل عقد المشكلات، و لا معنى لهذه الإحالة مع افتراض عدم سلامة القرآن.

3- كما استدلوا بحديث الثقلين على سلامة القرآن، إذ لا معنى للأمر بالتمسّك بكتاب محرّف.

4- كما استدلّوا أيضا بالأخبار الآمرة بعرض الأحاديث و الروايات على القرآن، و اتخذوها دليلا على سلامة النص القرآني و بقائه بعيدا عن التحريف.

5- ممّا استدلوا به كذلك مجموعة حاشدة من الروايات تؤسّس للحكم الفقهي الذي يفيد بوجوب قراءة

سورة كاملة من القرآن في الفريضة بعد سورة الحمد، حتّى ذكر بعضهم أنّ هذا وحده يكفي دليلا على صيانة القرآن من التحريف.

6- تبرز على هذا الصعيد مجموعة واسعة من الأخبار تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيت عليهم السّلام بمختلف الآيات القرآنية بما يوافق القرآن الموجود بين أيدينا، و الاستدلال أو الاحتجاج أو الاستشهاد بها، ممّا يعطي مؤشرا حاسما على سلامة النص القرآني.

من المؤشرات المهمّة الاخرى التي لجأ المنهج النقلي إلى استخدامها في بحث الروايات التي تفيد التحريف، هو احتمال الدسّ فيها، خاصّة و أنّ هذا الاحتمال قريب جدا تؤيّده الشواهد و القرائن، الأمر الذي يدفع حجّية روايات

فهم القرآن، ص: 540

التحريف و يفسد اعتبارها، فلا يبقى لها لا حجّية شرعية و لا عقلانية، حتّى ما كان منها صحيح السند، لأنّ «صحّة السند و عدالة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في اصولهم و جوامعهم ما لا يروونه» «1».

على ضوء ذلك كلّه انتهى المنهج النقلي الذي عالج الروايات التي تفيد التحريف تصريحا أو تلميحا، إلى إسقاط هذه الروايات عن مستوى الاستدلال لأنّ الضعف و الكذب و التدليس واضح الأمارات في الرواة، و الاضطراب و التناقض متوافر في الأسانيد، و ما يسلم منها عن ذلك، فهو أخبار آحاد متناثرة هنا و هناك لا تصلح دليلا في قضية و لا برهانا على دعوى «2»، و من ثمّ فهي لا تفيد علما و لا عملا «3»، و مصادمة للضرورة: «فالحديث عن سلامة القرآن و صيانته من البديهيات، و الاعتقاد بخلوّه من الزيادة و النقصان من الضروريات» «4».

ج- المنهج التأريخي:

النقطة الأساسية التي يرتكز إليها هذا المنهج تتمثّل في أنّ القرآن قد جمع على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم و كتب في حياته و ظلّ يتناقل بين المسلمين متواترا جيلا بعد جيل، بصيغته التي جمع عليها في العهد النبوي دون زيادة أو نقيصة.

______________________________

(1)- الميزان في تفسير القرآن 11: 115.

(2)- راجع: تأريخ القرآن: 159 فما بعد.

(3)- راجع بهذا الشأن: آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 53- 71، البيان في تفسير القرآن:

246- 254، الميزان في تفسير القرآن 11: 107- 108، و مواضع اخرى من بحثه التفصيلي عن صيانة القرآن من التحريف، التحقيق في نفي التحريف: 66 فما بعد، و مصادر كثيرة اخرى ممّا توفر على معالجة هذه المسألة قديما و حديثا.

(4)- تأريخ القرآن: 153.

فهم القرآن، ص: 541

لقد استدلّوا على ذلك بأدلّة متعدّدة منها طائفة من الروايات الدالّة على ذلك، و إطلاق لفظ الكتاب على القرآن كما في حديث الثقلين و ما فيه من دلالة على أنّه كان مكتوبا مجموعا لأنّ لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، و لا يطلق على المكتوب إذا كان مجزّأ غير مجتمع «1».

كما استدلّوا على جمعه في عهد النبي بحكم العقل، انطلاقا ممّا للقرآن من عظمة في نفسه، و اهتمام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحفظه و قراءته، و اهتمام المسلمين بما يهتمّ به نبيّهم، إذ كلّ ذلك يملي عقلا المبادرة إلى جمعه و تدوينه و لا يسوّغ إهمال أمره مطلقا.

ممّا استدلّوا به أيضا إجماع قاطبة المسلمين على أن لا طريق لإثبات القرآن إلّا بالتواتر.

و من ثمّ فإنّ التسليم بالروايات التي تقول بأنّ القرآن جمع فيما بعد على عهد أبي بكر أو عثمان بشهادة شاهدين و ما أشبه يخرم الاجماع المذكور و يعرّض مقولة لزوم التواتر في القرآن إلى المسألة و

الشكّ، و هذا ما لا يلتزم به أحد.

كما أضافوا إلى ذلك آيات التحدّي التي تحدّى فيها القرآن المشركين و غيرهم بالإتيان بمثله أو بعشر سور أو بسورة من مثله، ممّا يدلّ على أنّ القرآن كان بمتناول أيديهم معروف لهم بآياته و سوره، و سوره مشهورة معروفة متميّزة بعضها عن بعض في الخارج «2»، بحيث يمكن لأي واحد منهم تناولها بيسر، و إلّا كان التحدّي بغير الموجود و هو لا يصحّ «3».

______________________________

(1)- البيان في تفسير القرآن: 271.

(2)- نفس المصدر.

(3)- موجز علوم القرآن: 157.

فهم القرآن، ص: 542

على هذا يخلص الدليل التأريخي إلى أنّ القرآن الكريم كان مجموعا على عهد النبي مدوّنا في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لتسقط بذلك الروايات التي تفيد أنّ جمعه قد تمّ في عهد الخلفاء لتناقضها فيما بينها من جهة، و لمعارضتها للكتاب و السنّة و الإجماع و العقل فيما دلّت عليه من أنّ القرآن كان مجموعا في العهد النبوي من جهة اخرى «1».

أجل يسلّم أصحاب المنهج التأريخي بأنّ عثمان قد جمع القرآن في زمانه، بيد أنّ هذا الجمع لم يكن بمعنى جمع الآيات و السور في مصحف، بل بمعنى جمع المسلمين على قراءة واحدة هي التي كانت متداولة بين المسلمين. و قد يقدّمون قراءات اخر لمعنى جمع أبي بكر القرآن لا تتعارض مع مرتكز نظريتهم الدالّة على أنّ القرآن كان مجموعا على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «2».

على أساس هذه البذرة الصلبة يؤسّس المنهج التأريخي لديموميته، و هو يسجّل أنّ القرآن بقي متواترا بين المسلمين منذ العهد النبوي حتّى الآن، ينتقل فيمن بعدهم جيلا بعد جيل دون أن تطال وثاقته التاريخية شائبة

أو يتمّ الطعن بتواتره:

«أمّا القرآن الكريم فقد ظلّ ينتقل من جيل إلى جيل بطريقة متقنة فذّة فريدة، تعارف الناس عليها، حتّى انتشر من أقصى بلاد المسلمين في شمال غربي إفريقيا، إلى أقصى البلاد الإسلامية في جنوب شرقي آسيا. و لم يتفق لكتاب من التواتر و دقّة النقل ما اتفق للقرآن الكريم» «3».

______________________________

(1)- راجع أيضا: تأريخ القرآن: 42.

(2)- نفس المصدر: 42 فما بعد، و خاصة الفصل الثامن الذي ذكر فيه أسماء من جمع القرآن على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(3)- موجز علوم القرآن: 167.

فهم القرآن، ص: 543

و من النقاط الدقيقة التي سنلمسها في نصوص الإمام الخميني، استناده إلى الدليل التأريخي في تحديد وضع بعض المفردات و الألفاظ القرآنية، كما ذهب إليه مثلا في الجزم بأنّ القراءة الراجحة بل المتعيّنة في سورة الفاتحة هي «مالك» في قوله سبحانه: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «1» دون لفظ «ملك»؛ و الكلام نفسه يجري في لفظ «كفوا» من قوله سبحانه: وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «2»، إذ الثابت هو كُفُواً بالفاء المضمومة و الواو المفتوحة بدلا من كُفُواً بضمّ الفاء و الهمزة، على ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء اللّه.

على أساس التركيب بين هذه المنهجيات الثلاث في الاستدلال و الجمع بينها انتهى البحث القرآني عند المسلمين إلى أنّ: «حديث تحريف القرآن حديث خرافة و خيال، لا يقول به إلّا من ضعف عقله، أو من لم يتأمّل في أطرافه حقّ التأمّل ...

و أمّا العاقل المنصف المتدبّر فلا يشكّ في بطلانه و خرافته» «3».

و بقدر ما بقي بحث مسألة التحريف وفيّا لمنهجيات الاستدلال الكلامية و النقلية و التاريخية، فقد برز عدد من الباحثين خاصّة بين المتأخّرين يسعى

للوصول عبر المنهج الاستقرائي إلى ما يشبه الإجماع في نفي التحريف. كما لا يشترط في الباحث الواحد أن يستخدم منهجا واحدا من المنهجيات المذكورة، و إنّما مالت الغالبية إلى الأسلوب المركّب الذي يلجأ فيه الباحث إلى المزاوجة بين تلك المنهجيات لما يحقّق الغاية المنشودة.

______________________________

(1)- الفاتحة (1): 4.

(2)- الإخلاص (112): 4.

(3)- البيان في تفسير القرآن: 278.

فهم القرآن، ص: 544

3- نفي التحريف عند الإمام الخميني

اشارة

الحقيقة أنّ ما بين أيدينا من نصوص الإمام في نفي التحريف و سلامة القرآن منه، يكفي لتأليف كتيّب مستقل في الموضوع «1». و الملاحظ في نصوص الإمام هذه أنّها تناولت الموضوع من زواياه المختلفة و عبر المزاوجة بين مناهج الاستدلال التي أشرنا إليها في المحور السابق. و من أجل تغطية لنصوص الإمام و رؤاه، نعمد إلى تناولها عبر العناوين التالية:

أ- كتاب «تهذيب الاصول»

في نطاق دروسه الاصولية في البحث الخارج التي صدرت تقريراتها قبل نصف قرن، تناول الإمام مسألة التحريف عند بحثه في حجّية الظواهر حيث أثبت عدم التحريف عبر الدليلين التأريخي و النقلي.

عرض الإمام في البدء لأجواء المسألة التي انطلقت في مناخات الثقافة الأخبارية، إذ كان ادّعاء التحريف هو من بين ما احتجّ به الأخباريون على عدم حجّية ظواهر القرآن، فقال: «هم [الأخباريون] استدلّوا على عدم حجّية ظواهرها بوجوه منها ادعاء وقوع التحريف في الكتاب حسب أخبار كثيرة» «2». ثمّ انتقل

______________________________

(1)- تناول الإمام الموضوع في الكتب التالية: كشف الأسرار، تهذيب الاصول (تقريرات دروسه العليا في علم الاصول)، آداب الصلاة، تنقيح الاصول، أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، بالإضافة إلى عدد من خطبه المتفرّقة.

(2)- تهذيب الاصول 2: 165، هذا و قد قرّض الإمام لهذه التقريرات بقلمه بتاريخ 24 ربيع

فهم القرآن، ص: 545

بعدئذ لتحليل هذه المقولة و الردّ عليها تاريخيا و نقليا حيث قال: «فإنّ الواقف على عناية المسلمين على جمع الكتاب و حفظه و ضبطه قراءة و كتابة، يقف على بطلان تلك المزعمة، و أنّه لا ينبغي أن يركن إليه ذو مسكة». و هذا هو الدليل التاريخي.

أمّا من حيث البحث النقلي، فقد أرجع الروايات التي يتمّ الاستناد إليها في التحريف إلى أصناف، هي:

1- أخبار ضعيفة لا تصلح

للاستدلال.

2- أخبار مجعولة دسّت في المجاميع الروائية للمسلمين.

3- أخبار غريبة تثير الدهشة و تبعث على العجب.

4- أخبار صحيحة، لكن ليس فيها دلالة على المدّعى و إنّما تنصرف إلى شواغل اخر كتأويل القرآن و تفسيره.

يقول سماحته مدلّلا على هذه الأغراض بأجمعها: «و ما وردت فيه [التحريف] من الأخبار، بين ضعيف لا يستدلّ به، إلى مجعول يلوح منها أمارات الجعل، إلى غريب يقضى منه العجب، إلى صحيح يدلّ على أنّ مضمونه تأويل الكتاب و تفسيره، إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل. و لو لا خوف الخروج عن طور الكتاب لأرخينا عنان البيان إلى بيان تأريخ القرآن و ما جرى عليه طيلة تلك القرون، و أوضحنا عليك أنّ الكتاب هو عين ما بين الدفتين، و الاختلاف الناشئة بين القرّاء ليس إلّا أمرا حديثا لا ربط له بما نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين» «1».

______________________________

- الأوّل عام 1375 ه، في حين صدرت طبعتها الاولى عام 1378 ه ليكون عمرها نصف قرن.

(1)- تهذيب الاصول 2: 165.

فهم القرآن، ص: 546

ب- كتاب «أنوار الهداية»
اشارة

للإمام الخميني تعليقة وضعها بخطّه على المباحث العقلية لكتاب «كفاية الاصول» «1»، انتهى منها في شهر رمضان سنة 1368 ه. لقد تناول الإمام في هذه التعليقة مسألة التحريف على نحو أوسع ممّا لمسناه في المصدر السابق، عند بلوغه مبحث حجّية الظهور.

و مع أنّ الإمام وظّف المنهجين النقلي و التاريخي في مناقشته شبهة التحريف و الردّ عليها، إلّا أنّه مال إلى استعمال أوسع للمنهج التاريخي مقارنة بالنقلي معزّزا إياه بحجج تاريخية دامغة. ففي البدء أشار إلى مقالة الأخباريين و استنادهم إلى شبهة التحريف في القول بعدم حجّية الظواهر، ثمّ سجّل أنّ

عدم وقوع التحريف هو ممّا أجمع عليه الباحثون المحقّقون من المسلمين كافة شيعة و سنّة؛ و بتعبيره:

«و هذا [وقوع التحريف] ممنوع بحسب الصغرى و الكبرى. أمّا الاولى، فلمنع وقوع التحريف فيه جدّا، كما هو مذهب المحقّقين من علماء العامّة و الخاصّة و المعتبرين من الفريقين. و إن شئت شطرا من هذا المقام فارجع إلى مقدّمة تفسير «آلاء الرحمن» للعلامة البلاغي «2» المعاصر قدّس سرّه» «3».

______________________________

(1)- يعود كتاب «كفاية الاصول» إلى الشيخ محمد كاظم الهروي الخراساني المتوفى سنة 1329 ه. و هو يعدّ مدار التدريس في الحوزات العلمية، حيث كثرت عليه الشروح و الحواشي حتّى بلغت العشرات.

(2)- هو الشيخ محمّد جواد البلاغي (1282- 1352 ه) أحد البارزين الكبار من علماء النجف الأشرف، الذي أسس لتيار في العمل الديني يقوم على ضرورة إحاطة الفقيه- بمشكلات عصره الاجتماعية و الثقافية و الفكرية، و على أهمّية أن تندكّ المؤسّسة العلمائية بواقع الناس، تشهد على ذلك مؤلفاته الغزيرة في التصدّي للتيارات الفكرية المنحرفة، بالإضافة إلى سيرته الشخصية الوضّاءة الفذّة.

(3)- أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 1: 243- 244.

فهم القرآن، ص: 547

إنجاز «البلاغي»

سبق أن أشرنا إلى أنّ الشيخ البلاغي أسّس في العصر الحديث منحى لدراسة المستندات الروائية المزعومة للتحريف من قبل الفريقين، يقوم على قواعد محكمة في المناقشتين السندية و الدلالية، ممّا أسبغ على بحثه طابعا متميّزا أعطاه موقع الريادة في الفكر القرآني الحديث، و تحوّل إلى مصدر مهمّ لمن جاء بعده.

و الإمام الراحل لم يشأ بدوره أن يتجاوز هذا الجهد الكبير للشيخ البلاغي بل نوّه به و أحال إليه.

و ما دمنا في هذا السياق فمن المناسب أن نلخّص أهم النتائج التي خرج بها البلاغي عبر منهج الاستدلال النقلي.

في الواقع

فزع البلاغي ممّا «ألصق بكرامة القرآن الكريم»؛ و لما نزل ب «مجد القرآن و كرامته» «4»، فانكبّ على دراسة أحاديث التحريف المزعوم و انتهى بعد بحث معمّق و تحليل واسع إلى المحصلتين التاليتين:

الاولى: إنّها روايات مضطربة شاذّة واهية ضعيفة: «و لئن سمعت في الروايات الشاذّة شيئا في تحريف القرآن و ضياع بعضه، فلا تقم لتلك الروايات وزنا،

______________________________

(4)- بمثل هذه الكلمات يعبّر البلاغي رحمه اللّه عن محنة تحريف القرآن. (راجع: آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 53- 57)

فهم القرآن، ص: 548

و قل ما يشاء العلم في اضطرابها و وهنها و ضعف رواتها و مخالفتها للمسلمين، و فيما جاءت به في مرويّاتها الواهية من الوهن، و ما ألصقته بكرامة القرآن ممّا ليس له شبه به» «1».

الثانية: لمّا كانت الضجّة من حول مسألة التحريف قد اكتسبت الكثير من دوافعها حديثا من خلال الكتاب الذي وضعه الشيخ حسين النوري (ت:

1320 ه) «2» بعنوان «فصل الخطاب في تحريف الكتاب»، فقد انتهى البلاغي في تقويم ما ذكره من روايات، بقوله: «في جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسّر احتمال صدقها، و منها ما هو مختلف باختلاف يؤول به إلى التنافي و التعارض ...

هذا مع أنّ القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار، و قد وصف علماء الرجال كلا منهم إمّا بأنّه ضعيف الحديث، فاسد المذهب، مجفوّ الرواية. و إمّا بأنّه مضطرب الحديث و المذهب، يعرف حديثه و ينكر، و يروي عن الضعفاء. و إمّا بأنّه كذّاب متّهم، لا أستحلّ أنّ أروي من تفسيره حديثا واحدا، و أنّه معروف بالوقف و أشدّ الناس عداوة للرضا عليه السّلام. و إمّا بأنّه كان غاليا كذّابا، و إمّا بأنّه ضعيف لا

يلتفت إليه و لا يعوّل عليه و من الكذّابين، و إمّا بأنّه فاسد الرواية يرمى الغلوّ» «3».

يبدو أنّ الإمام قد استغنى ببحث البلاغي و النتائج التي انتهى إليها «4» عن إيراد

______________________________

(1)- آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 52.

(2)- هو المحدث الشيخ حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي، ولد في طبرستان سنة 1254، له عدد من المؤلفات أشهرها «مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل» توفي سنة 1320 ه.

(3)- آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 65- 66.

(4)- هذه النتائج التي أشار إليها الإمام على نحو مكثف في دروسه الاصولية للبحث الخارج، كما مر علينا سابقا. (راجع: تهذيب الاصول 2: 165)

فهم القرآن، ص: 549

بحث تفصيلي في تحليل الروايات، بيد أنّ ذلك لم يمنعه من تأكيد الردّ على مؤلّف «فصل الخطاب» خاصّة مع الضجّة التي صاحبت عمله و لا تزال ترمي بظلالها على الوضع الشيعي، و يستغلّها من لا حريجة له في الدين في التشنيع على أتباع أهل البيت عليهم السّلام و رميهم بالتحريف، محمّلا معاصريه من العلماء مهمّة التصدّي لمحاولته و الحئول دون صدورها، مستغربا عدم مبادرتهم لذلك!

يكتب سماحته في ذلك، و بعد أن يحيل على البلاغي، ما نصّه: «و أزيدك توضيحا: أنّه لو كان الأمر كما توهّم صاحب فصل الخطاب الذي كان كتبه لا يفيد علما و لا عملا، و إنّما هو إيراد روايات ضعاف أعرض عنها الأصحاب، و تنزّه عنها اولو الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمّدين الثلاثة المتقدّمين رحمهم اللّه «1». هذا حال كتب روايته غالبا كالمستدرك، و لا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص و الحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجدّ، و هو رحمه اللّه شخص صالح متتبّع، إلّا أنّ اشتياقه لجمع الضعاف

و الغرائب و العجائب و ما لا يقبلها العقل السليم و الرأي المستقيم أكثر من الكلام النافع. و العجب من معاصريه من أهل اليقظة كيف ذهلوا و غفلوا حتّى وقع ما وقع ممّا بكت عليه السماوات، و كادت تتدكدك على الأرض!» «2».

______________________________

(1)- هم محمد بن يعقوب الكليني المتوفى سنة 328 أو 329 ه مؤلف كتاب «الكافي» من الكتب الأربعة، و محمد بن علي الصدوق المتوفى سنة 381 ه مؤلف «كتاب من لا يحضره الفقيه» من الكتب الحديثية الأربعة أيضا و «التوحيد» و «الخصال» و «معاني الأخبار» و غيرها، و محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 ه مؤلّف «التهذيب» و «الاستبصار» من الكتب الأربعة، بالإضافة إلى «التبيان في تفسير القرآن» و «المبسوط» و «الفهرست» و غيرها.

(2)- أنوار الهداية 1: 244- 245.

فهم القرآن، ص: 550

ثمّ يأتي الإمام بعد ذلك بجواب «لو» التي افتتح بها الجملة عبر ذكر عدد من الحقائق التاريخية الدامغة التي تفنّد ادعاءات التحريف خاصّة فيما تردّده من مصاديق على مزاعمها. لكن بودّي قبل استعراض هذه الحقائق أن ألفت النظر إلى أنّ العبارات الأخيرة في النص الخميني خاصّة تساؤله المرير: «كيف ذهلوا و غفلوا حتّى وقع ما وقع» إلى آخر النص، إنّما تنمّ عن قناعة عميقة بعدم التحريف و تكشف عن إيمان راسخ بسلامة القرآن، أكثر ممّا هي مسعى لدرء الشبهة عن المذهب و المنافحة عن سمعة الطائفة و ما ينالها من أمثال هذه الأقاويل.

الاستدلال التاريخي
اشارة

يكاد يجمع من يذهب إلى التحريف في الصفّ الشيعي إلى أنّ الساقط من القرآن- على حدّ زعمه- هي آيات كثيرة كانت قد ذكرت الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام باسمه و كذلك أهل البيت عليهم

السّلام، و تحدّثت عن وصايتهم و إمامتهم بصراحة، على ما ذهب إليه النوري مثلا في كتابه. من هنا ترى الإمام يلجأ إلى الحجاج التاريخي، و هو يستند إلى عدد من الوقائع التاريخية الثابتة في دفع هذه المزاعم و تفنيدها.

لقد استدلّ على هذا الصعيد بالوقائع التالية:

أوّلا: «لو كان الأمر كما ذكره هذا [النوري] و أشباهه، من كون الكتاب الإلهي مشحونا بذكر أهل البيت و فضلهم، و ذكر أمير المؤمنين و إثبات وصايته و إمامته، فلم لم يحتجّ بواحد من تلك الآيات النازلة و البراهين القاطعة من الكتاب الإلهي أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و سلمان و أبو ذر و مقداد و عمّار و سائر الأصحاب الذين لا يزالون يحتجّون على خلافته عليه السّلام؟ و لم تشبّث عليه السّلام بالأحاديث

فهم القرآن، ص: 551

النبويّة، و القرآن بين أظهرهم؟!».

ثانيا: «و لو كان القرآن مشحونا باسم أمير المؤمنين و أولاده المعصومين و فضائلهم و إثبات خلافتهم، فبأي وجه خاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع آخر سنين عمره الشريف و أخيرة نزول الوحي الإلهي من تبليغ آية واحدة مربوطة بالتبليغ، حتّى ورد أنّ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1»؟!».

ثالثا: «و لم احتاج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى دواة و قلم حين موته للتصريح باسم علي عليه السّلام؟! فهل رأى أنّ لكلامه أثرا فوق أثر الوحي الإلهي؟!» «2».

إنّها احتجاجات تأريخية سديدة من الصعب نقضها، انتهى الإمام بعد استيفائها، إلى القول: «و بالجملة، ففساد هذا القول الفظيع و الرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة. إلّا أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام و حفّاظ شريعة سيّد الأنام» «3».

أرجو

أن نخزن هذا الكلام في ذاكرتنا بإيقاعه العميق و بطابعه الحادّ في استنكار التحريف، إلى حيث ما نحتاج إليه في مناقشة ما كتبه الدكتور مصطفى الشكعة عن الإمام و القرآن، كما سيأتينا تفصيلا في الفقرة الأخيرة.

توظيف فقهي للمنهج التاريخي

يستند منهج الاستدلال التاريخي في نفي التحريف إلى دعامتين، الاولى أنّ القرآن مجموع على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في حين تفيد الثانية أنّ الكتاب الكريم

______________________________

(1)- المائدة (5): 67.

(2)- أنوار الهداية 1: 245- 247.

(3)- نفس المصدر: 247.

فهم القرآن، ص: 552

حافظ على تواتره القطعي في النقل منذ ذلك العهد حتّى الوقت الحاضر.

لقد وظّف الإمام عنصر النقل التواتري المعتمد في المنهج التأريخي لحسم رأيه في بعض مشكلات القراءة، خاصّة في سورتي الفاتحة و التوحيد، و ما يترتب على ذلك من مواقف فقهية.

ففي سورة الفاتحة ظهر خلاف بين القراء و تبعا لهم الفقهاء في حكم لفظ «مالك» في قوله (سبحانه): مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «1»، إذ توزّعوا إلى فريقين، قرأ الأوّل «مالك» وفاقا لما هي عليه في المصاحف المتداولة بين المسلمين، على حين قرأ الفريق الثاني «ملك» (بفتح الميم و كسر اللام)، و قد ساق كلّ واحد منهما جملة من الدلائل الأدبية على ترجيح قراءته، بحيث بادر بعض العلماء لتدوين رسائل خاصّة في ترجيح «ملك» على «مالك» و هكذا.

يسجّل الإمام في البدء أنّ ما ذكره الفريقان لا يبعث على الاطمئنان، ثمّ يشرع بيان رأيه من المسألة على النحو التالي: «ما يبدو بنظر الكاتب أنّ لفظ «مالك» هو الراجح بل متعيّن. مردّ ذلك أنّ هذه السورة المباركة [الفاتحة] و كذلك سورة «التوحيد» المباركة ليستا كبقية السور القرآنية. فحيث دأب الناس على قراءة هاتين السورتين في فرائضهم و نوافلهم،

بحيث سمعها في كلّ عصر مئات الملايين من المسلمين عن مئات الملايين من أمثالهم، و هؤلاء عن مئات الملايين ممّن سبقهم، فقد ثبتت هاتان السورتان على هذا النحو الذي تقرءان به بالتسامع، و ثبتتا بهذه الصيغة عن أئمّة الهدى و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من دون تقدّم حرف أو تأخّره» «2».

______________________________

(1)- الفاتحة (1): 4.

(2)- آداب الصلاة: 268.

فهم القرآن، ص: 553

مع أنّ الإمام يستند إلى التواتر القطعي للقراءة المألوفة في إثبات الوجه الذي ينتخبه، إلّا أنّه يعود ليعزّز ذلك بقرينة إضافية مفادها، أنّ أكثر القراء و كثيرا من العلماء رجّح «ملك» على «مالك»، و قد أفتى الفقهاء بجواز القراءتين، إلّا أنّ ذلك كلّه لم يزعزع من ذلك الثابت الضروري و لم ينل من التواتر القطعي، و من ثمّ ظلّت القراءة الجارية في الصلاة هي «مالك» ما خلا بعض الأقوال الشاذّة التي لا يعبأ بها.

يقول: «مع أنّ أكثر القراء قرأ (ملك) و كثير من العلماء رجّح (ملك)، مع ذلك ما ضرّت هذه الامور بهذا الأمر الثابت الضروري و المتواتر القطعي، و لم يتبعهم أحد.

و مع أنّ العلماء أجازوا إتباع كلّ من القرّاء، إلّا أنّ أحدا لم يبادر في مقابل هذه الضرورة، إلى قراءة (ملك) في صلواته ما خلا الشاذ الذي لا يعتني بقوله.

و يلحظ إن قرأ أحد (ملك) فإنّما كان فعل ذلك من باب الاحتياط، و قرأ إلى جوار ذلك (مالك) أيضا، كما كان يفعل ذلك شيخنا العلامة في العلوم النقلية الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي قدّس سرّه «1»، إذ كان يقرأ (ملك) بالإضافة إلى مالك نزولا لرجاء أحد العلماء الأعلام المعاصرين. لكن هذا الاحتياط [في ضمّ «ملك» إلى «مالك»] هو

في غاية الضعف، بل مقطوع بخلافه بنظر الكاتب.

على ضوء هذا البيان يتضح ضعف ما ذهبوا إليه من وقوع الاختلاط بين (ملك) و (مالك) في الخطّ الكوفي، فمثل هذا الادعاء ربما يمكن سوقه في السور

______________________________

(1)- هو الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (1276- 1355 ه)، من الفقهاء الكبار. درس في النجف الأشرف و مدينة سامراء من مدن العراق على أساتذة من أمثال السيد محمد تقي الشيرازي و الشيخ الخراساني و السيد كاظم اليزدي، ثمّ قفل عائدا إلى بلاده ليشرع بتأسيس الحوزة العلمية بمدينة قم في شوطها المعاصر سنة 1340 ه، و كان الإمام الخميني من تلامذته.

فهم القرآن، ص: 554

التي ليست كثيرة التداول على الألسنة، على إشكال فيه أيضا. بيد أنّه يغدو ادعاء متهافتا و قولا لا قيمة له و لا اعتبار في مثل هذه السور الثابتة عن التسامع و القراءة، كما هو واضح جدّا» «1».

يطبّق الإمام المنهجية ذاتها على الخلاف المثار حول سورة «التوحيد»، فيضيف مستطردا: «الكلام المذكور يجري على لفظ (كفوا) أيضا. فمع أنّ القراءة ب (الواو) المفتوحة (و الفاء) المضمومة، هي قراءة عاصم فقط، لكن يلحظ مع ذلك أنّها ثابتة بالتسامع الضروري أيضا، و من ثمّ لم تعارض القراءات الأخر هذه الضرورة، و إن كان بعضهم يحتاط على حدّ زعمه و يقرؤها بضم (الفاء) و (الهمزة) وفاقا لقراءة الأكثر، و لكن لا مورد لهذا الاحتياط» «2».

يدخل الإمام على خطّ المسألة من زاوية اخرى تتمثّل هذه المرّة في أنّ الاحتياط يقضي بقراءة السورتين تبعا للقراءة السائدة بين المسلمين المألوفة في أوساطهم، تبعا للقاعدة التي يرسمها الحديث: «اقرأ كما يقرأ الناس» «3» أو «اقرءوا كما تعلّمتم» «4»، حيث يكتب مضيفا: «إذا ما نوقش في الروايات التي

امرت أن نقرأ كما يقرأ الناس- و النقاش فيها موجود- فالمظنون أنّ المراد من تلك الروايات، هو:

اقرءوا كما يقرأ عامّة الناس، لا أنّكم مخيّرون بين القراءات السبع مثلا، و عندئذ سيكون من الغلط قراءة (ملك) و (كفوا) بغير الصيغة المشهورة بين المسلمين و المسطورة في المصحف.

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 268.

(2)- نفس المصدر: 268- 269.

(3)- وسائل الشيعة 6: 163، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 74، الحديث 1.

(4)- نفس المصدر، الحديث 2.

فهم القرآن، ص: 555

على كلّ حال، الأحوط قراءتها على النحو المألوف بين الناس و المشهور على الألسنة و المسطور في القرآن، لأنّ القراءة على هذا النحو صحيحة على جميع المسالك، و اللّه العالم» «1».

هذا هو حكم الاحتياط في القراءة، بيد أنّ ذلك لا يعني التزام الإمام فقهيا بعدم جواز القراءة المطابقة للقراءات المشهورة، لأنّه يرى أنّ الحكم بجواز ذلك إجماعي كما يظهر «2».

على ضوء هذه الحصيلة في توظيف المنهج التأريخي، انتهى الموقف الفقهي للإمام إلى النتيجتين التاليتين:

الاولى: مقتضى الاحتياط في القراءة عدم التخلّف عمّا هو موجود في المصاحف المتداولة، و بتعبير سماحته: «إنّ الأحوط عدم التخلّف عمّا في المصاحف الكريمة الموجودة بين أيدي المسلمين»، كما أيضا عدم الخروج عن نطاق القراءات المشهورة: «الأحوط عدم التخلّف عن إحدى القراءات السبع» «3».

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 269.

(2)- كما أفاد بذلك في هامش صفحة 269 من «آداب الصلاة».

(3)- تحرير الوسيلة 1: 160، المسألة 14، يمثّل الكتاب المواقف الفقهية للإمام التي يتبنّاها من يرجع إليه في التقليد، و قد عمل عليها في منفاه في تركيا أثناء إقامته بها سنة 1384 ه كما يذكر ذلك في المقدّمة، ثمّ صدرت بمجلدين باللغة العربية، عند ما استقرّ به المقام في العراق.

و ما يعنينا فيها

أنّها تمثّل وثيقة اخرى- و بالعربية- لرأي الإمام في سلامة القرآن، و أنّ الاحتياط في القراءة يتمثّل شرعا بالتزام النسخ المتداولة بين المسلمين و عدم الخروج عنها.

و قد ظلّت هذه الرسالة في متناول اليد في العراق و بلاد الشام و غيرها من البلدان، ممّا كان يسهل للآخرين معرفة موقف الإمام من المسألة لو خلصت النوايا، خاصّة و أنّها كانت-

فهم القرآن، ص: 556

الثانية: بشأن سورة الفاتحة أجاز القراءتان «مالك» و «ملك»، بيد أنّه رجّح الاولى. و كذلك رجّح قراءة «كفوا» (بضم الفاء مع الواو) من بين الصيغ الاخرى «1».

ج- الخطابات

تؤلّف خطابات الإمام قاعدة عريضة للنص الخميني، أمدّته بالكثير من الثراء و التنوّع في الرؤى، من ذلك التزام الموقف الحاسم ذاته في نفي التحريف.

من بين عدد من نصوص الإمام سننتخب العيّنات التالية التي تأتي في السياق ذاته، الذي يركّز على سلامة القرآن الكريم.

يقول الإمام في خطاب يعود إلى أوائل شتاء عام 1979 م، في لقائه مع جمع من الإيرانيين المقيمين في الخارج، ما نص ترجمته: «كان كتاب النبي موسى عليه السّلام الذي هو من الأنبياء العظام و من أولي العزم، كتابا كاملا بالقدر الذي كان يحتاج إليه البشر، بيد أنّه ضاع و اندثر، و كذلك كتاب النبي عيسى عليه السّلام، فكلا الكتابان ضاعا و اندثرا.

ما تبقّى الآن بين أيديهم [اليهود و النصارى] يدلّ بنفسه على أنّه ليس التوراة و الإنجيل الأصليين. أمّا كتابنا فهو محفوظ- بحمد اللّه- كما هو عليه منذ البدء و عاما بعد عام حتّى الوقت الحاضر، بل يوجد بين أيدينا الآن أيضا قرآن مخطوط بخطّ حضرة الأمير [الإمام علي] أو بخطّ حضرة السجاد [الإمام علي بن الحسين]

______________________________

- متداولة قبل انتصار الثورة بقرابة عقد

و نصف. نثبت هذه الملاحظة لحاجتنا إليها عند مناقشة الدكتور مصطفى الشكعة و غيره في الفقرة الأخيرة من هذا الفصل.

(1)- تحرير الوسيلة 1: 160، مسألة 15.

فهم القرآن، ص: 557

و ليس ثمّة شي ء آخر غيره، فما موجود هو القرآن و حسب من دون أن يكون قد طرأ عليه أي تغيير» «1».

يتحدّث النص صراحة عن سلامة القرآن من أي تحريف، بعكس ما طال كتاب الديانتين اليهودية و المسيحية، بل لا تزال هناك نسخ من القرآن المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخط الإمام علي أو الإمام السجاد موجودة بين ظهرانينا.

في خطاب يعود إلى خريف عام 1984 م أكّد الإمام المعنى ذاته بنحو قطعي، و هو يتحدّث إلى أئمّة الجمعة و الجماعات، إذ نفى أن تكون يد العبث و التغيير قد طالت حتّى حرفا من القرآن بالزيادة أو النقيصة، فضلا عمّا هو أكثر من ذلك. و بنص سماحته: «هذا القرآن الكريم الموجود بيد المسلمين، و الذي لم يطرأ عليه التغيير منذ صدر الإسلام حتّى الآن، و لو بكلمة واحدة، بل لم يزد عليه و لم يقل منه حتّى حرف واحد؛ هذا القرآن حين ننظر إليه بعين التدبّر نجد أنّ المسألة ليست هي دعوة الناس إلى العزلة في البيت» «2».

بعد أن تحدّث الإمام عن شمولية الدعوة القرآنية و تعدّد أبعادها، عاد من جديد ليشير إلى الجهود التي بذلتها السلطات المنحرفة قديما و حديثا لتجميد الأبعاد الفاعلة في كتاب اللّه و حصره في بعد واحد ينسجم مع مصالحها أو لا يلحق بها الضرر، ليؤكّد في سياق ذلك سلامة القرآن من التحريف مجدّدا: «لأنّهم لا يستطيعون حذفها من القرآن. فقد بادر اولئك منذ البداية إلى ليّ

عنق تلك المواضع القرآنية التي تناهض مصالحهم، و عمدوا إلى تحريف معانيها. كما أجبروا العلماء

______________________________

(1)- صحيفه امام 4: 191.

(2)- نفس المصدر 18: 422.

فهم القرآن، ص: 558

المرتبطين بهم إلى تشويه معاني هذه النصوص القرآنية و تحريفها عن مواضعها.

لكن بقي القرآن بين المسلمين- بحمد اللّه- و لم يستطيعوا تحريفه و القضاء عليه، و لو استطاعوا لفعلوا. و حين أراد أحد اولئك تغيير حرف من القرآن، شهر عربي سيفه و قال: إذن نجيبك بهذا السيف.

لم يسمحوا للتغيير و التحريف أن يطال القرآن الشريف، فالقرآن الموجود الآن هو نفسه الذي نزل في زمان رسول اللّه، و لا شي ء غيره» «1».

يرجع النص الثالث الذي ننتخبه على هذا الصعيد إلى صيف عام 1986 م، إذ تحدّث الإمام في البدء عن مكانة القرآن و حقيقته الغيبية الماورائية، ثمّ كيف تنزّل من أفق الغيب إلى عالم الشهادة إلى أن صار بين أيدي البشر، من دون أن يطرأ عليه أي تغيير حتّى على مستوى زيادة أو نقيصة حرف واحد. يقول: «و الآن فإنّ الصورة المدوّنة- لهذا الكتاب- التي جاءت على لسان الوحي بعد طيّها مراحل و مراتب، قد صارت بين أيدينا كاملة دون زيادة حرف أو نقصان حرف، فحذارى من هجره لا سامح اللّه» «2» إلى آخر ما في البيان.

تلتقي هذا العينيّات الثلاث التي انتخبناها من خطب الإمام و بياناته، عند نقطة تفيد إيمان سماحته الراسخ بصيانة القرآن و رأيه القاطع بسلامته من أي تحريف يمكن أن يكون قد طاله حتّى على مستوى الحرف فضلا عن الكلمة و ما فوقها.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 423.

(2)- نفس المصدر 20: 92.

فهم القرآن، ص: 559

د- كتاب «كشف الأسرار»
اشارة

كان يفترض أن نعرّج على كتاب «كشف الأسرار» قبل هذا الوقت، أو

على الأقل قبل فقرة الخطابات. بيد أنّنا عزفنا عن ذلك لواقعة خاصّة ترتبط به.

لقد أثار الكتاب عند نشره مترجما من قبل دار أردنية في النصف الثاني من الثمانينيات ضجّة مفتعلة و مؤسفة، ترتدّ بجميع دوافعها إلى الصراع السياسي بين المشروع الإحيائي الخميني و مناوئيه. و لم يكن اكتشافا باهرا أن يعرف الجميع أنّ ما أثير من حول الترجمة العربية لهذا الكتاب إنّما كان صدى لشرارة الحرب العراقية الإيرانية التي كانت مستعرة يومئذ، و انعكاسا لطبيعة تحالفات القوى و اصطفافها مع المشروع الإسلامي أو ضدّه.

المؤسف أنّ طبيعة التعامل مع هذا الكتاب في مسألة التحريف التي تعنينا، أعادت إلى الأذهان مرّة اخرى قصة توظيف السياسة لقضايا علمية لها صلة مسيسة بعقيدة الامّة و سلامة دينها، منها مسألة التحريف التي تحوّلت إلى أداة في الصراع السياسي و الاحتقانات المذهبية، و ابتعدت من ثمّ عن روح البحث العلمي الذي ينشد الحقيقة بالبرهان.

لقد كان يمكن أن نعزف عن هذه الضجّة و ما نسبته من أقاويل باطلة إلى الشيعة و الإمام الخميني في قضية سلامة القرآن و نغضي عنها تماما، لو لا تورّط بعض الأقلام الجادة فيها. فهذا بالضبط ما دعانا إلى أن نمكث معها قليلا.

فهم القرآن، ص: 560

الشكعة و التحريف!

بعد انتصار الثورة الإسلامية شهدنا جهودا حثيثة لامتصاص الزخم العام للمشروع الخميني، في محاولة تسعى لمحاصرته داخل حدود إيران، و القضاء على أي فرصة لتفاعل العالم الإسلامي مع معطياته. و في هذا السياق بدأ تسخير موروث الصراع القديم واضحا في هذه المعركة، فقد استعيد بما كان يحفل به من شحناء و شبهات و أقاويل، فثارت مجددا شبهة تحريف القرآن، و تطاولت الأقلام برمي الشيعة بها، بل تبرّع بعضهم للصق الشبهة بالإمام

الخميني متّهما إياه بالقول بالتحريف!

لقد قيل الكثير على هذا الصعيد، بيد أنّ ما يبعث على الأسف هو تورّط بعض الأقلام الجادّة، كما حصل ذلك للدكتور مصطفى الشكعة في كتابه «إسلام بلا مذاهب». فقبل أكثر من أربعة عقود من الآن، بالتحديد سنة (1960 م) صدر كتاب الشكعة و هو يتميّز بروح وصل المسلمين إلى بعضهم، و جمع كلمتهم على الوحدة و الألفة و عدم تضخيم الخلافات المذهبية.

كانت هذه الرغبة واضحة في مقدّمة الكاتب للطبعة الاولى، كما في تقديم الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر للكتاب، بالإضافة إلى انبساط النهج الموضوعي و سريانه في معالجاته. ففيما يتعلّق بالشيعة الإمامية تحديدا؛ يمكن القول إنّ المؤلّف انتهج في الطبعات الاولى روحا معتدلة بعيدة عن الشحناء و الأهداف المبيّتة، دون أن يعني التسليم بكلّ ما ذكره.

ما كنّا نتمنّاه للكاتب أن لا ينزلق بقلمه إلى نار الفتنة التي أثيرت لأهداف

فهم القرآن، ص: 561

معروفة، بعيدة كلّ البعد عن مرامي العلم و الأغراض النزيهة، بخاصّة و أنّ الكتاب يرمي إلى تحقيق غاية نبيلة متمثّلة بجمع كلمة المسلمين، عبر التركيز على القواسم المشتركة و النظر بروح موضوعية أخويّة لمواضع الخلاف، بيد أنّه لم يفلح!

فقد سمح لنفسه و قلمه أن يتورّطا بما تورّط به غيره من تخرّصات و أكاذيب رخيصة، ليحمل بذلك أزره و يمضي إلى ربّه فيقف بين ساحته كي يحاسب على كلّ كلمة خطها قلمه.

ثمّ كثير ممّا كان ينبغي أن ينبّه إليه المؤلّف و يناقش فيه ما كتب، بيد أنّنا سنهتم بما أثاره حيال القرآن الكريم، بالتحديد ما نسبه إلى الإمام الخميني و هو يزعم:

أوّلا: إنّ الإمام الخميني يميل للقول بالتحريف، و بنص الدكتور الشعكة: «إنّ آية اللّه الخميني يقول بترجيح تحريف

القرآن» «1»!

ثانيا: لا يقف الدكتور الشعكة عند حدود هذه التهمة و إنّما يتجاوزها إلى فرية كبيرة، حين يتهم الإمام بأنّه يوحي بالقول أنّ القرآن مع صنع النبي، و من ثمّ فهو مفتوح للزيادة و النقيصة! يقدّم الكاتب هذه الفرية من خلال النص التالي: «و في موضع آخر من كتاب (كشف الأسرار) في أمر يتصل أيضا بالإمامة، يصوغ آية اللّه الخميني فكرته في أسلوب يوحي إيحاء مباشرا بأنّ القرآن من صنع محمّد». ثمّ يضيف مباشرة و بالنصّ: «و ما دام الأمر كذلك و محمّد بشر، فإنّه من الممكن أن يتعرّض القرآن للتحريف». ثمّ يخلص للقول: «إنّ آية اللّه الخميني يقول بترجيح تحريف القرآن بسبب النص على أنّ الإمامة وظيفة إلهية كالنبوّة، و يوحي في موقع

______________________________

(1)- إسلام بلا مذاهب: 209.

فهم القرآن، ص: 562

آخر بأنّ القرآن من النبي. و هما بادرتان لهما خطرهما، لأنّهما صادرتان من أكبر مرجع ديني شيعي في هذين العقدين من الزمان» «1».

عند ما تفقد الأقلام مسئوليتها، و حين تنأى الكلمة عن خطّ الأمانة و تتحوّل إلى «بضاعة» يتقاذفها اللاعبون في ما زاد الصراع السياسي و الطائفي، لن تأتي النتائج أفضل ممّا رأيناه عند الشكعة!

أ ليس عجيبا أن يتحوّل الخميني الذي يسجّل صراحة بأنّ الإسلام مدين في بقائه للقرآن، هذا «القرآن الذي بقي محفوظا لم تتغيّر منه حتّى كلمة واحدة» «2» بل لم «يزد عليه حرف و لم ينقص منه حرف» «3»؛ أن يتحوّل وفاقا للغة الافترائية هذه إلى مائل للقول بالتحريف؟! و ألا يبعث هذا التخرّص على الأسف و الإمام قد سجّل نصّا في كتاب صادر باللغة العربية قبل نصف قرن بطلان مزعمة التحريف و أنّه لا يركن إليها «ذو مسكة» «4»؟ ثمّ

ألا تكون المصيبة في ذلك أدهى و الفاجعة بها أعظم و الإمام يصف مزعمة التحريف ب «القول الفظيع و الرأي الشنيع» و ب «الفساد»؛ و إنّها «ممّا بكت عليه السماوات و كادت تتدكدك على الأرض» «5»، و يشدّد النكير على محدّث شيعي من المحدّثين قال بها «6»، بل يلوم معاصريه من العلماء لغفلتهم عن ردعه، و يقطع غائلته بأتمّ حجّة و أكملها، يفعل ذلك كلّه و يخطّه بيمينه باللغة العربية

______________________________

(1)- نفس المصدر: 208- 209.

(2)- صحيفه امام 4: 448.

(3)- نفس المصدر 20: 92.

(4)- راجع: تهذيب الاصول 2: 165.

(5)- راجع: أنوار الهداية 1: 247 و 245.

(6)- هو الشيخ حسين النوري.

فهم القرآن، ص: 563

قبل (55) عاما من الآن «1»، ثمّ يأتي مثل الدكتور مصطفى الشكعة يتجاهل ذلك كلّه و ينسب إليه ترجيح القول بالتحريف، ثمّ و الأنكى من ذلك فريته: إنّ الإمام يوحي بأنّ القرآن من النبي؟!

لقد مضى الإمام روح اللّه إلى ربّه، و كذلك الشكعة و سيقفان بين يدي مليك مقتدر، و لا أحسب أنّ الشكعة و أضرابه بقادر على أن ينجو بنفسه من هذه الفرية العظيمة، و أن يخرج بمفازة يوم الحساب. هذا فضلا عن أنّ مثل هذا الكذب المفضوح و الافتراء الشنيع يحوّل صاحبه إلى سبّة بل إلى لعنة تجري على لسان كلّ إنسان حر يتحلّى بالمسئولية و الضمير اليقظ، جراء ما اجترحته يداه و أثر التبعات الاجتماعية الكبيرة و الإضرار النفسية المدمّرة التي تتركها هذه الأكاذيب على وضع الامّة المسلمة و انسجامها، و ما اللّه بظلام للعبيد.

الترجمة المشئومة!

ما هو المستند الذي أقام عليه الدكتور الشكعة دعاواه في نسبة ما نسبه إلى الامام؟ لقد أهمل الكاتب كلّ تراث الإمام الموضوع باللغة العربية مباشرة أو

المترجم إليها، و استند إلى ترجمة عربية لكتاب «كشف الأسرار» صادرة عن دار نشر أردنية «2».

______________________________

(1)- انتهى الإمام من تعليقته على كتاب «كفاية الاصول» الموسومة بأنوار الهداية، بتاريخ رمضان المبارك سنة 1368 كما هو مثبت يخط يده في مصورة الصفحة الأخيرة من المخطوطة المطبوعة مقدمة النسخة المطبوعة. راجع: أنوار الهداية 1: 28.

(2)- كشف الأسرار، ترجمة الدكتور محمد البنداري، دار عمان للطباعة و النشر، الاردن-

فهم القرآن، ص: 564

و الواقع أنّ الدكتور الشكعة لم يكن الوحيد الذي جرّته هذه الترجمة إلى المنزلق الخطير- هذا إذا كانت القضية فعلا قضية منزلق- بل كان معه آخرون ممّن ساهم بردود فعل حادّة عبّرت عن نفسها بكتب أو مقالات «1».

أسجّل في البدء أنّ كتاب «كشف الأسرار» الذي أصدره الإمام بالفارسية مطلع الأربعينيات الميلادية بعد عزل الحلفاء لملك إيران الأسبق رضا خان، لم يترجم إلى العربية من قبل أية مؤسّسة تابعة لإيران في الداخل أو الخارج، برغم كثرة ما صدر مترجما إلى العربية من كتب الإمام و بياناته و خطبه. و بذلك فلا يزال الطريق الوحيد الذي يسلكه الناطقون بالعربية إلى هذا الكتاب، الترجمة الأردنية.

لا تسع صفحات هذا الكتاب لفتح ملف هذه الترجمة و ما ألحقته من تحريف مقصود بالنص الفارسي يفضح الأهداف المبيّتة التي تقف وراء المحاولة برمتها، و إنّما أكتفي بملاحظات سريعة أقتبسها من الدراسة النقدية الموسعة التي نشرتها عنها مجلة «عالم الكتاب» تحت عنوان دال، هو «تساؤلات و محاكمات!»، ذيّلته بعنوان فرعي، هو «كشف الأسرار الخمينية بين أصله الفارسي و الترجمة الأردنية»، ساهم في كتابة نص الدعوى الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا رئيس قسم اللغات

______________________________

- 1987. هذا و قد اقترن الكتاب بالإضافة إلى المترجم باسمين آخرين، هما سليم الهلالي

كمعلق على مواضع من الترجمة، و محمد أحمد الخطيب مقدما للكتاب بوصفه دكتورا و استاذا للشريعة الإسلامية.

(1)- راجع على سبيل المثال: مع الخميني في كشف أسراره، للطبيب الفلسطيني أحمد كمال شعث، الفتنة الخمينية، سعيد حوّى، و كذلك مجموعة من المقالات التي صدرت في عواصم مختلفة كبغداد و عمّان و القاهرة، من بينها مقالة الدكتور عبد المنعم النمر نشرتها صحيفة الأخبار المصرية في شباط 1979.

فهم القرآن، ص: 565

الشرقية و آدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة «1».

قدّم الدكتور شتا لدعواه ضدّ الترجمة العربية بكلام دال، جاء فيه: «لطالما لاحظت أنّ هناك أناسا لا يهمّهم أن ينهدم بناء الإسلام نفسه، بشرط أن يسقط على أمّ رأس آية اللّه الخميني. أمّا و الرجل قد لقي ربّه فالقضية هنا علمية في حاجة فعلا إلى مدّع عام لا ببليوغرافي، بل إلى مدّع عام فحسب، لأنّ هذه الترجمة صارت مصدرا لكلّ ناعق على ثورة إيران الإسلامية و قائدها».

انطلاقا من خبرته المشهودة باللغة الفارسية و استنادا إلى العدد الكبير من الترجمات و التأليفات التي قدّمها عن إيران و مشهدها الأدبي و الفكري و السياسي «2»،

______________________________

(1)- تتألّف دراسة دورية «عالم الكتاب» من ثلاثة أجزاء، هي: خلفية و تمهيد و هو من تقديم المجلة، نص الدعوى و هو بقلم الدكتور شتا و أخيرا تعليق موسع للمجلة.

جدير ذكره أنّنا اعتمدنا في الرجوع إلى الدراسة على مجلة «التوحيد» التي أعادت نشرها كاملة في عددها الخامس و الخمسين. (راجع: التوحيد، العدد 55، السنة العاشرة، ربيع الأوّل و ربيع الثاني 1412 ه/ تشرين الأوّل و تشرين الثاني 1991 م: 133- 151).

(2)- كان أوّل ما قرأته من كتب الدكتور شتا ترجمته لمجموعة قصص الأديب الإيراني المعروف صادق هدايت و المقدمة

الطويلة التي تناول بها حياته و الأدب الفارسي. ثمّ اطلعت على مؤلّفه «الثورة الإيرانية: الجذور و الإيديولوجية»، و مؤلّفه الآخر «الثورة الإيرانية: الصراع الملحمة النصر» الذي جاء في واقعه مكمّلا للإصدار الأوّل. و منه شخصيا رحمه اللّه استلمت نسخة هدية من ترجمته لأهم أعمال المفكر الإيراني الدكتور علي شريعتي «العودة إلى الذات» تلك الترجمة التي منحت بمكانة المترجم و تقديمه و إيضاحاته الغنية في الهوامش، منحت فكر شريعتي دفعة كبيرة في العالم العربي، و جاءت ثانية بعد العمل التأسيسي الذي بادر إليه المثقّف العراقي المرحوم فاضل رسول في تعريف شريعتي إلى العرب.-

فهم القرآن، ص: 566

قدّم شتا تقويمه لمستوى مترجم الكتاب ثمّ لمقدّمه و المعلّق عليه. عن المترجم أبدى شكوكه في الدكتوراة التي يحملها، و هو إن كان دكتورا فليس باللغة الفارسية بالتأكيد، ثمّ قال: «على كلّ حال، فإنّ المترجم الذي تصدّى لهذا الكتاب الذي ألّفه فقيه بارز في ظروف خاصّة، و ردّا على كتب معيّنة، و مستخدما مصطلحا معيّنا يجهله المترجم كلّ الجهل، يدلّ بترجمته هذه التي نسميها ترجمة تجاوزا، على خلوّ ذهنه تماما من كلّ هذه الجوانب».

عن المقدّم كتب الدكتور شتا نصا: «عند ما تكون الترجمة من تقديم أستاذ في الشريعة هو أحمد الخطيب، يرى أنّ قول الإمام الخميني ببقاء الأرواح بعد فناء الأجساد هو إيمان بالتناسخ و كفر بالبعث و الحساب، و أنّ مجرّد مخالفة رأي الشيعة لرأي شريحة من أهل السنة بشأن زيارة القبور يجعلهم مشركين، و أنّ الإفراط في محبّة آل البيت هو هدم للتوحيد، و أنّ آية اللّه الخميني المتوفى سنة 1989 م هو أوّل من قال بالبداء، تلك القضية التي خاضت فيها كلّ الفرق الإسلامية من شيعة و

سنّة و معتزلة و مرجئة و قدرية ... عند ما يكون الكتاب من تقديم أستاذ في الشريعة هذا أسلوبه، علينا إذن أن نطوي كشحا عنه و ألا نخوض فيه».

أمّا بالنسبة إلى المعلّق سليم الهلالي، فيكتب عنه الدكتور شتا، بالنص:

«لأوّل مرّة أجد إلى جوار أستاذ الشريعة الذي يدلّ كلامه على انعدام أية صلة بالتراث الإسلامي؛ أجد أيضا شيئا جديدا لا سابقة له في الكتب؛ أجد معلّقا يسمّى سليم الهلالي، و في أوّل تعليق له أخرج فيلسوف الإسلام العظيم أبا علي بن سينا من

______________________________

- لقد سعدت بإجراء أكثر من لقاء إذاعي و صحفي مع المرحوم شتا، حيث ذكر أنّ أعماله عن إيران تصل إلى العشرين بين ترجمة و تأليف و دراسات مستقلة.

فهم القرآن، ص: 567

حظيرة الإسلام، و جعله: ملحدا من القرامطة!». ثمّ يشير إلى محتوى تعليقات الهلالي، بقوله: «لا يخرج تعليق المعلّق في كلّ الأحيان عن شتائم مقذعة يصبّها على مؤلّف الكتاب آية اللّه الخميني ... و لأوّل مرّة- و لعلها آخر مرّة- يبصر فيها المرء اسما على كتاب تكون كلّ إسهاماته في هذا الكتاب شتائم من هذا القبيل، و قد ساعده المترجم بتقديم ترجمة خاطئة تفتح شهيته للشتائم».

ثمّ ينتقل الدكتور شتا في مقاله النقدي المهمّ، لإعطاء الأدلّة و الشواهد الرقمية المكثّفة على خطأ الترجمة و تحريفها لنصوص كتاب «كشف الأسرار» مقارنا بين النص الفارسي و الترجمة العربية ليخلص للقول بعد مطاف طويل: «لا يكاد المترجم يترك فرصة واحدة لتشويه الكتاب دون أن يأخذها». و أيضا قوله:

«لا تكاد توجد صفحة واحدة من الترجمة تخلو من حذف».

عند ما شعر الدكتور شتا أنّه ربّما أدخل الملالة على القارئ بكثرة استشهاداته و مقارناته لما اجترحه المترجم من أخطاء و

تشويهات، حسم أمره بالقول: «و لكي أعدد أخطاءه يلزمني القيام بترجمة الكتاب من جديد». ثمّ راح يتساءل: «لا أدري مهما أجهدت فكري لما ذا يعتبر هذا الكتاب (المنتج) عن عمد أو قصد أو جهل أو عن كلّ هذا معا وثيقة، و اتخاذه حجّة ضدّ آية اللّه الخميني، و هو حجّة في الحقيقة على من كتبوه؟!» «1».

على مثل هذه الترجمة التي كشف مقال مجلة «عالم الكتاب» عن أجوائها و ملابساتها و مضمونها، ثمّ مدى ما تحظى به من أمانه و صدق، اعتمد الدكتور مصطفى الشعكة و الشيخ عبد المنعم النمر و غيرهما ممّا نسبوه إلى الإمام حول

______________________________

(1)- راجع في توثيق النصوص: مجلة التوحيد، العدد 55: 133- 151.

فهم القرآن، ص: 568

القرآن الكريم و بقية المسائل.

ربّ سائل يقول: و ما يدري هؤلاء بحقيقة الترجمة و محتواها و أنّها محرّفة؟

الجواب واضح. فالترجمة الدعائية التي تقدّم نفسها في إطار أهداف سياسية مبيّتة، واضحة كلّ الوضوح، و ليس من المعقول أنّها تخفى على أمثال كاتب كالشكعة.

فالدار أردنية، و موقف الأردن الرسمي السابق معروف من إيران و الثورة الإسلامية و الإمام الخميني. ثمّ إنّ التعليقات فاضحة تكشف نوايا أهلها و أصحابها و من يقف وراءها، فضلا عن ما يرافق النص من تعابير و اصطلاحات، هي أنأى ما تكون عن أسلوب العلماء و الفقهاء، فعالم كبير كالشيخ عبد المنعم النمر و كاتب من وزن مصطفى الكشعة لا تفوت عليهما مثل هذه الأساليب، و هما المأنوسان بعبارات العلماء و أسلوبهم في الكتابة!

ما ذا جاء في «كشف الأسرار»؟

مادّة كتاب «كشف الأسرار» مادّة واسعة، فعلى مدار أكثر من ثلاثمائة صفحة، قدّم الإمام محاولة لتحليل واقع المجتمع في إيران بعد انتهاء عهد رضا خان، و بروز فسحة من الانفتاح السياسي

إبّان المرحلة الانتقالية التي دفع به الحلفاء محمد رضا شاه للحكم خلفا لأبيه الذي عزلوه. في ظلّ أجواء الانفتاح تلك، أطلّت تيارات الفكر بتلويناتها المختلفة على المجتمع الإيراني، و راحت تبثّ ثقافة هجينة تجمع بين الليبرالية، و الميول المادية و بعض النزعات المنحرفة التي تتلبّس ثوب الإسلام، و يتلفّع بعضها بدعوات تجديد الفكر الديني و ممارسة الإصلاح المذهبي.

على أساس هذه الخلفية انطلق كتاب «كشف الأسرار» يجمع في تركيبته

فهم القرآن، ص: 569

بين التحليل الاجتماعي لواقع المجتمع الإيراني آنئذ، مع إشارات مباشرة إلى الواقع السياسي، مضافا إلى معالجة الشبهات التي راحت تحوم من حول عدد من القضايا العقيدية و المفاهيم الإسلامية، مستفيدا في ذلك كلّه من المناسبة التي أتاحها كتاب «حكمي زاده» و ضرورة الردّ عليه «1»، حيث عطّل الإمام درسه لمدّة شهرين و تفرّغ للجواب على إثارته و شبهاته، بالإضافة إلى تحليل و نقد المرتكزات التي يقوم عليها هذا النمط من التفكير.

بيد أنّ ما يعنينا من ذلك كلّه، هو ما جاء عن مسألة تحريف القرآن، لنلمس هل أنّ ما جاء فيه يمكن أن يسمح بأدنى التباس يسوّغ للآخرين ادعاءاتهم؟

على طريقته في الكتاب كلّه، ذكر الإمام في البدء الشبهة التي أثارها حكمي زاده على هذا الصعيد محصورة بين قوسين، ثمّ شرع بالجواب عليها. كتب ما نص ترجمته: «و يقول [يقصد حكمي زاده] أيضا: لقد ذكرت الإمامة في القرآن كثيرا، و لكنّهم أسقطوها». ينسب مؤلّف كتاب «أسرار عمرها ألف عام» هذه الدعوى إلى الشيعة، فيردّ عليه الإمام بما نص ترجمته: «مع من تحدّثت حيال هذه المسألة و ممّن سمعت الجواب؟ ربّما تكون قد رجعت بنفسك إلى بعض الكتب أو بعض الأخبار، ممّا يوحي للوهلة الاولى و من

خلال النظرة العامية [النظرة السطحية غير المتعمّقة و لا المتأمّلة] بأنّ شيئا من القرآن قد سقط منه. إنّ ما تفعله أنت

______________________________

(1)- كان السبب المباشر الذي دفع الإمام لتأليف هذا الكتاب، هو الردّ على ما كتبه أكبر حكمي زاده في كتابه الموسوم «أسرار هزار ساله» و الجواب بخاصّة على ما نسبه إلى الشيعة و علمائهم بعد ذكر كلامه نصّا. الجدير بالذكر أنّ هذا الكتيّب صدر عام 1943 في (38) صفحة، حيث كانت الأفكار الوهابية تفوح منه برغم أنّ كاتبه ابن أحد علماء «قم» الكبار!

فهم القرآن، ص: 570

و أمثالك من خلال الرجوع إلى الأخبار و مطالعة الكتب العلمية، عبر هذا المستوى العقلي و العلمي يعدّ بذاته عيبا من العيوب. ففهم الأخبار و كتب العلماء يتطلّب جهودا عظيمة. فهذه ليست كتبا قصصية و روائية بحيث يمكن الرجوع إليها هكذا، و يصار إلى فهم شي ء منها على هذا النحو.

إنّ رجوعك مباشرة إلى تلك الكتب هو كرجوع الفلاح إلى الفلسفة العالية أو مطالعة الحمامي للرياضيات العالية. فهم الكتب العلمية يحتاج للتخصّص، و لأنّك دخلت دائرة الأخبار و الكتب بجهل و كحاطب ليل، فقد جاءت النتيجة [قولك] إنّهم [الشيعة] يقولون بأنّ الإمامة كانت موجودة في القرآن، و قد أسقطوها [أي أسقطها الآخرون ممّن لا يروق لهم تصريح القرآن بالإمامة نصّا على حد هذه المزعمة].

الأخبار التي رجعت إليها [و فهمت منها التحريف] ترتبط بالتفسير و التأويل.

ما نقوله نحن؛ أنّ أُولِي الْأَمْرِ «1» في القرآن و أَهْلَ الذِّكْرِ «2» في كثير من الآيات، و أَهْلَ الْبَيْتِ في آية التطهير «3»، و الصادقين في آية: كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ «4»، و (حبل اللّه) في آية الاعتصام بحبل اللّه «5»، و صراط اللّه و الصراط

المستقيم، و المؤمنون في آية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ «6»، و الأمانة في الآية: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ «7» و مئات غير هذه الآيات تدور بأجمعها حول الإمامة و الإمام،

______________________________

(1)- النساء (4): 59.

(2)- النحل (16): 43، الأنبياء (21): 7.

(3)- الأحزاب (33): 33.

(4)- التوبة (9): 119.

(5)- آل عمران (3): 103.

(6)- المائدة (5): 55.

(7)- الاحزاب (33): 72.

فهم القرآن، ص: 571

لا أنّ اسم الإمام قد ذكر على نحو الخصوص في القرآن.

على أنّ هذا الذي نذكره لا يقتصر على أخبار الشيعة وحدها، بل ذكره أهل السنّة أيضا، و هو موجود في كتبهم، و بمقدور أيّ إنسان أن يعود إلى الكتب المصنّفة في هذا الباب، لو شاء. إنّ كثيرا من تلك المصنّفات مذكور في كتاب «غاية المرام» «1»، كما مرّ عليها إجمالا كتاب «المراجعات» «2» للعلامة الكبير السيّد شرف الدين العاملي المعاصر، بحيث يمكنك الرجوع إلى ذينيك المصدرين.

أجل، ثمّ شي ء هنا يتمثّل في أنّ بعض الأخباريين و المحدّثين الشيعة و السنّة ممّن لم يعبأ العلماء بأقوالهم، خدع بظاهر بعض الأخبار، فأعلن مثل هذا الرأي [القول بالتحريف]. لكن العلماء ردّوا عليه، و لا وزن لكتابه «3» في المجتمع العلمي» «4».

لست أدري ما الذي يمكن أن يثير الالتباس في هذا النصّ أو يوهم بأنّ الإمام يميل إلى القول بالتحريف؟ أولا تكون المصيبة أدهى حين نضيف إليه ما سبقه من نصوص الإمام زمنيا و ما تلاه، و هي بأجمعها تلتقي على نفي التحريف نفيا قاطعا و استنكار القول به؟

يبقى تساؤل أخير يرتبط بطبيعة البواعث التي أملت على مترجم النسخة

______________________________

(1)- غاية المرام، تأليف السيد هاشم البحراني، المتوفى سنة 1138 ه.

(2)- المراجعات، للسيّد شرف الدين العاملي (1290- 1377 ه) حيث تكرّرت طباعته عشرات المرّات بمختلف اللغات،

مضافا إلى ما لكتبه الاخرى من أهمّية مثل «الفصول المهمّة في تأليف الامة»، «النص و الاجتهاد»، «أبو هريرة»، «الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء» و غيرها كثير.

(3)- يبدو أنّه يعني به الشيخ حسين النوري.

(4)- كشف الأسرار: 131- 132.

فهم القرآن، ص: 572

العربية من «كشف الأسرار» و دفعته إلى أن يحذف من الصفحة (80) من النص الفارسي بضعة أسطر تحدّث فيها الإمام عن القرآن. فبعد أنّ ردّ الإمام أقاويل حكمي زاده عن المعجزة و الدعاء و البداء و الشفاعة و غيرها، ذكر أنّ الهدف الأساسي للتيّار التشكيكي ليس العلماء و كتبهم و إنّما القرآن، و بنص تعبيره: «القرآن هو الهدف الأساسي لهؤلاء». لذلك كلّه راح يحذّر شعبه بالقول: «لقد نبّهناكم، و كشفنا لكم أحابيل هؤلاء و أكاذيبهم، و أثبتنا بالاستناد إلى القرآن بطلان أقاويلهم». ثمّ أخذ يهيب بشعبه و يستنهضه لكي يبادر إلى استئصال شأفة التشكيكيين الطامعين، و يتوسّل بالقرآن أن يكون لهم خير معين، و هو يقول نصّا: «يا امّة القرآن الغيورة اقطعي أيادي هؤلاء الطامعين، و حطّمي أقلام هؤلاء الجناة، ليبق لك القرآن تاج كرامتك و عنوان شرفك. أيّها القرآن العزيز، و يا هدية السماء، و يا أيّها الدستور الإلهي الجليل، و يا مرشد البشر إلى السعادة، و يا أيّتها الشمس الطالعة من افق الغيب، و يا رصيد كرامة امّة الإسلام و مبعث فخرها، و يا محطّم قواعد الباطل؛ أيقظ أمّتنا، و نبّه شباب وطننا، وهبهم روح الوحدة و الاخوّة، و أحي فيهم نبض الجهاد و روح التضحية و الفداء، و كن سندا و ملاذا و ملجأ لشبابنا» «1».

لا أعرف سببا دعى مترجم النسخة العربية إلى حذف هذه الكلمات التي تفيض بمدح القرآن و تمجيده،

غير ما ذكره الدكتور شتا الذي أضمّ إليه صوتي، و هو يقول: «تراه ضنّ على المؤلف بأن يبدو عاشقا للقرآن الكريم؟» «2». و لا حول و لا قوة إلّا باللّه العلي العظيم!

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 80، و كان مترجم النسخة العربية قد حذف هذا المقطع تماما. راجع: كشف الأسرار، الترجمة العربية: 96.

(2)- مجلة التوحيد، العدد 55: 139.

فهم القرآن، ص: 573

القسم الثاني مشروع المصالحة بين العارف و الفيلسوف و الفقيه

اشارة

فهم القرآن، ص: 575

إضاءة أولى

برغم المكانة المتميّزة التي حظي بها يوم 26/ صفر/ 1400 ه في مسار تأريخ الفكر القرآني للإمام، إلّا إنّنا لم نجد من تعامل مع هذا اليوم بما يستحقّه. ففي مساء ذلك اليوم أعلن الإمام الخميني من القناة الرئيسية للتلفاز الإيراني حيث كان يلقي دروسا أسبوعية في التفسير عن مشروع للمصالحة بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء.

بيد أنّ ما يبعث على الأسف أنّ هذه المبادرة لم تحظ باهتمام الدارسين و الباحثين لفكر الإمام على رغم كثرة الدراسات و البحوث التي تناولت هذا الفكر بمختلف أبعاده و شجونه، بل لم نجد لها صدى حتّى في أهمّ عملين توفّرا على تغطية الفكر القرآني للإمام «1».

______________________________

(1)- أعني بهما مجلّة «بيّنات»، و مجلة «پژوهشهاى قرآنى» حيث خصّصت كلّ واحدة من هاتين الدوريتين القرآنيتين عددا مزدوجا خاصّا للفكر القرآني للإمام، ليسجّلا بذلك أكبر تغطية لشواغل هذا الفكر. (راجع: مجلّة بيّنات، العدد المزدوج 22- 23، السنة السادسة، صيف و خريف 1999، قم، مؤسّسة الإمام الرضا للمعارف الإسلامية، 407 صفحة من القطع الكبير. أيضا: پژوهشهاي قرآني (بحوث قرآنية)، السنة الخامسة، العدد المزدوج 19- 20، خريف و شتاء 1999، مشهد، 448 صفحة من القطع الكبير).

فهم القرآن، ص: 576

إنّ مبادرة بهذا الاتجاه تنطلق من فقيه قمّي مبرّز يجمع في خلفيّته المعرفية بين الفلسفة و العرفان، كان حريّا بها أن تنال اهتماما كبيرا يتناسب مع حجمها في تأريخ الفكر الإسلامي، و من ثمّ تأخذ موقعها إلى جوار بقية المبادرات الرئيسية التي شهدها مسار هذا الفكر منذ الكندي و الفارابي و السهروردي و ابن رشد و ابن عربي و الشيرازي و غير هؤلاء من الأقطاب على ما بينهم من الاختلاف في

المنطلقات، وصولا إلى العصر الحاضر. فهم القرآن 576 إضاءة أولى ..... ص : 575

لب الظنّ أنّ السبب الرئيسي الذي حال دون الانفتاح على مشروع الإمام، يعود إلى افتقاد المتعاملين مع الفكر الخميني إلى الوعي الكافي بخلفية المسألة و ما لها من عمق في التاريخ الفكري للمسلمين. فمنذ أن نضجت العلوم عند المسلمين و دخلت مرحلة التمايز في النسق المعرفي و قضية العلاقة بين الحكمة و الشريعة أو بين الفلاسفة من جهة و المتكلّمين و الفقهاء من جهة اخرى ترمي بظلالها على هذا الفكر، و تزرع في مساره قدرا غير قليل من التوتر و الاستقطاب الذي وصل أحيانا كثيرة حدّ القطيعة معرفيا و التحريم و التكفير دينيا، زاد فيه و وسّع من دائرة التوتر و الاستقطاب دخول العرفان كنسق معرفي منفصل و كمنظومة خاصّة إلى جوار النسقين و المنظومتين السالفتين.

على هذا كلّه كنّا ننتظر أن تتحوّل هذه المبادرة التوفيقية للإمام، إلى بؤرة لاستقطاب أنظار الباحثين تنتج عددا كبيرا من البحوث و الدراسات، و تستعيد أبرز الأفكار و النظريات التي شهدها السير الفكري للمسألة، بخاصّة و إنّ الإمام عرض لمشروعه التوفيقي انطلاقا من المعرفة القرآنية التي تؤلّف نواة صلبة للمعرفة الدينية عامّة، و تعدّ عنصرا من أهمّ و أكبر العناصر المشتركة في الفكر الإسلامي بمختلف تنويعاته و مشاربه و منطلقاته.

فهم القرآن، ص: 577

أهمّية المبادرة الخمينية من جهة و ما تحظى به خلفية فكرة التوفيق بين أنساق المعرفة في فكر المسلمين من جهة اخرى، دفعانا إلى تغطية البحث من خلال المحاور التالية:

1- مقدّمة سريعة في أبرز اتجاهات المعرفة داخل منظومة الفكر الإسلامي، و ما أنتجه هذا الفكر من مدارس رئيسية على هذا الصعيد.

2- لمحات في أبرز مشاريع

التوفيق و اتجاهاته، التي تحوّلت إلى محطّات كبيرة ليس بمقدور الراصد لتأريخ الفكر الإسلامي تجاوزها و الإغضاء عنها.

3- مشروع الإمام الخميني في التوفيق و مبادرته للمصالحة بين الأنساق المعرفية الكبرى، التي يرمز إليها الفيلسوف و العارف و الفقيه.

1- الاتجاهات المعرفية الكبرى

اشارة

من المعروف في تأريخ العلم عند المسلمين، أنّ العلوم انبثقت من حول القرآن و الحديث مندمجين باللغة و آدابها، ثمّ تشقّقت إلى فروع و اختصاصات ظلّت تحوم حول تلك النواة و تتوسّع تدريجيا، قبل أن تكتسب أنساقها المعرفية المتميّزة في عصر الازدهار، لتشقّ طريقها بعدئذ كاتجاهات و نظم كبرى في المعرفة أو مدارس رئيسية بلورها فكر المسلمين.

التنظير لهذه الأنساق أو النظم أو المدارس المعرفية الرئيسية يختلف من باحث إلى آخر من القدماء و المحدثين، بيد أنّه يكاد مع ذلك أن يستقر على خطوط عريضة مشتركة بين الجميع. فلو أغضينا عن تفاصيل المعارف و فروع العلوم، فإنّ الأنساق الرئيسية في البحث عن الحقائق و الكشف عنها تكاد لا تخرج عن هذه الثلاثة:

فهم القرآن، ص: 578

1- الطريقة النصوصية التي يتمّ فيها الاستناد إلى النصوص و الظواهر الدينية، و في الطليعة الكتاب و السنّة.

2- طريقة البحث العقلي، و هي التي تغطّي منهج الفلاسفة.

3- طريقة تصفية النفس و تهذيب الباطن، و هي التي تغطّي منهج العرفاء.

هذا التصنيف الثلاثي لطرق المعرفة تبدو بذوره واضحة في نصوص تعود لذي النون المصري (ت: 245 ه) الذي يوزّع المعرفة إلى ثلاثة أصناف «1»، بيد أنّه يبدو أوضح مع أبي القاسم القشيري (376- 465 ه)، الذي كتب موضحا هذا التمييز و مؤسّسا له على مصطلحات قرآنية: «فعلم اليقين على موجب اصطلاحهم ما كان بشرط البرهان، و عين اليقين ما كان بحكم البيان، و حق اليقين

ما كان بنعت العيان. فعلم اليقين لأرباب العقول، و عين اليقين لأصحاب العلوم، و حقّ اليقين لأصحاب المعارف» «2».

على هذا المنوال و ما يحاذيه استمرّ التنظير لطرق البحث عن الحقائق و الكشف عنها، حيث مرّ الشوط مع السهروردي (ت: 587 ه) صاحب حكمة الإشراق، و ابن رشد الأندلسي (ت: 595 ه) الذي قسّم الأدلّة إلى ثلاثة خطابية و جدلية و برهانية «3»، و أثبت لها الحجّية بأجمعها وفاقا لاستعدادات الناس الفطرية و تباين قرائحهم في التصديق، و تبعا لتفاوت محصّلتهم العلمية.

ثمّ تدافعت حلقاته لتستقرّ مع هادي السبزواري على الصيغة التالية، التي اقترنت مع بيان معيار الافتراق بحسب رأيه، الذي صاغه كما يلي: «و وجه ضبط

______________________________

(1)- الصلة بين التصوّف و التشيّع: 363.

(2)- الرسالة: 180، نقلا عن: بنية العقل العربي: 252.

(3)- فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال: 96 و 109 و مواضع اخرى.

فهم القرآن، ص: 579

افتراق أهل العلم و المعرفة إلى المتكلّم و الحكيم المشائي و الإشراقي و الصوفي، أنّ المتصدّين لمعرفة حقائق الأشياء:

إما أن يبحثوا بحيث يطابق الظاهر مع الشريعة في الأغلب فيقال لهم المتكلّمون.

و إما أن لا يراعوا المطابقة و لا المخالفة؛ فإمّا أن يقتصروا على المجاهدة و التصفية فيقال لهم الصوفية.

و إمّا أن يكتفوا بمجرّد النظر و البيان و الدليل و البرهان فيقال لهم المشاءون.

و إمّا أن يجمعوا بين الأمرين [التهذيب النفسي و النظر العقلي] فيقال لهم «الإشراقيون» «1».

من المعاصرين أنهى الطباطبائي الأنساق الكبرى في البحث عن الحقائق إلى طرق ثلاثة، هي الطريق النصوصي الذي يستند إلى الظواهر الدينية، و طريق البحث العقلي، و طريق تصفية النفس. فهذه الطرق «أخذ بكلّ منها طائفة من المسلمين، على ما بين

الطوائف الثلاث من التنازع و التدافع» «2». على حين انتهت عند الإمام إلى ثلاث مرجعيات معرفية أساسية هي المرجعية الفلسفية و العرفانية و الفقهية «3»، حيث تعمّ الأخيرة لتتخطّى مجال الفقه إلى ما هو أشمل منه.

على المنوال نفسه أو قريب منه نسج عدد آخر من الدارسين المعاصرين خاصّة الجابري الذي استقرّ تحليله لنظم المعرفة على ثلاثية البيان و البرهان

______________________________

(1)- شرح الأسماء الحسنى: 234.

(2)- الميزان في تفسير القرآن 5: 282.

(3)- تفسير سورة حمد: 175 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 580

و العرفان «1»، في حصيلة لا تخرج عن روح التصنيفات السابقة عليه، و إن اختلفت في النتائج المستوحاة و طبيعة توظيف هذه النتائج.

ملاحظة منهجية

ثمّ خلط كبير وقعت به العديد من الدراسات الوصفية و التحليلية، ناشئ عن عدم التمييز الدقيق بين مرتبتين للبحث، هما:

الاولى: مرتبة البحث عن الحقائق و التفتيش عنها و بلوغها. فعلى صعيد هذا المستوى من البحث يقع الاختلاف بين الاتجاهات المعرفية تبعا لاختلاف الطرق و المناهج، حيث يركّز بعضهم على النص، و بعض على العقل كمصدر للمعرفة، و الآخر على الكشف و الشهود أو الحس و التجربة و هكذا.

الثانية: أمّا في مرتبة إثبات تلك الحقائق و على مستوى تعميم معطياتها إلى الآخرين، فإنّ الجميع يلجأ للاستدلال العقلي.

و من ثمّ يمكن القول إنّ جميع الأنساق و الاتجاهات و المرجعيات المعرفية هي عقلانية في المرتبة الثانية، لأنّها تتمسّك باسس الاستدلال العقلي و قواعده في إثبات مدّعياتها و تعميمها إلى الآخرين، و تلوذ بالبرهان بمعناه العام.

بتعبير آخر، إنّ العارف يستوي مع الفيلسوف و المتكلّم و المفسّر و الفقيه

______________________________

(1)- راجع: تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي. كما يلحظ أيضا: بحث في مناهج المعرفة:

مدخل إلى المدارس الخمس في العصر الإسلامي.

فهم

القرآن، ص: 581

و المحدّث و اللغوي في استخدام الدليل و الحجّة و حشد مختلف ضروب الاستدلال و قواعده لإثبات صحّة ما وصل إليه في المرتبة الاولى، و لإقناع الآخرين بما عنده.

و بذلك لا يصحّ الحديث في هذه المرتبة عن علم غير برهاني، فالعلوم كلّها برهانية بوجه من الوجوه «1»، و إذا كان المقصود من البيان عند بعض الدارسين المحدثين هو إخراج علوم اللغة و الكلام و التفسير و الحديث و اصول الفقه و الفقه نفسه عن دائرة الاستدلال، فإنّ هذا مقصد خاطئ لا محالة «2».

فالعارف الذي يزعم أنّه حصل على ما حصل عليه عن طريق الكشف و الشهود مباشرة و بالإملاء عليه من طريق لدني و ما شابه لا يلزمنا في دعاويه هذه بشي ء، بل يلجأ إلى ممارسة الاستدلال إذا ما رام إقناع الآخرين بما عنده، بحيث لا يختلف عمّن سواه من أنصار الاتجاهات الأخر في هذا المستوى من البحث، و إلّا بقي كشفه و ما بلغه من معارف خاصّة حجّة عليه فقط لا تلزم الآخرين بشي ء قطّ، من دون إقامة الدليل.

2- من مشاريع التوفيق

اشارة

تدفعنا طبيعة الأشياء إلى أن نستنتج بأنّ مبادرات التوفيق بين أنساق المعرفة في البنية الفكرية للمسلمين ولدت مبكرة. على أنّ هذا الاستنتاج تعزّزه كثرة ما

______________________________

(1)- هذا ما انتبه إليه الناقد علي حرب في نقده المبكر لمشروع الجابري، راجع: مداخلات:

54، 70، 72، و مواضع كثيرة اخرى. كما راجع التمييز بين المرتبتين: بحث في مناهج المعرفة: 5، 26، و مواضع اخرى.

(2)- راجع في ذلك ما ذهب إليه الجابري في مشروعه عن نقد العقل و ما كتبه علي حرب في الردّ عليه: المعطيات السابقة نفسها.

فهم القرآن، ص: 582

رصده الدارسون و الباحثون من مشاريع على

هذا الصعيد منذ القرون الاولى حتّى اليوم، برغم ما فات هؤلاء من مبادرات اخرى طمسها التاريخ أو ضاعت بين الركام، ذلك أنّ أحدا لا يدّعي أنّه قدّم استقراء تامّا لهذه المشاريع.

لا يمكن لحركة الفكر أن تولّد مشكلة أو مسألة إشكالية ملتبسة، دون أن تدفع الأذهان و تحفّز العقول لإنتاج حلول لها. و هذا بالضبط ما نعنيه بطبيعة الأشياء، فطبيعة الفكر و حركيّته لا تسمح لنا بوضع أيدينا على مشكلة و أن نتجاهل في الوقت ذاته فاعلية ذلك الفكر نفسه و العقول الكامنة وراءه في إنتاج المزيد من الحلول لتلك المشكلة، فضلا عن ضغوطات الواقع المعاش و ما تمليه احتياجات الناس فيه.

على هذا ليس صحيحا أنّ فيلسوف قرطبة ابن رشد هو الذي اختصّ بالتوفيق وحده دون الآخرين، في كتابه العتيد «فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال»، فمن دون أن نغمط أبا الوليد حقّه و مكانته و جهده الكبير على هذا المستوى خاصّة و على مستوى المنجز الفلسفي عامّة، فإنّ آخرين قد سبقوه و بذروا القواعد التي أشاد عليها بنيانه و رفعه بعد ذلك، كما تلاه كثيرون، و لا تزال الجهود متواصلة و ستبقى ما دام الحديث يدور في نطاق قضية إشكالية قادرة على إعادة إنتاج نفسها في كلّ عصر، و فرز المزيد من الاجتهادات و المشروعات في كلّ وقت. على أنّ هاهنا قضية اخرى حريّة بالانتباه، فمحاولات التوفيق بين الأنساق المعرفية الكبرى في الإسلام لا تقتصر على الحكماء أو الفلاسفة وحدهم، بل بادر إليها طيف واسع من الفلاسفة و العرفاء و المتكلّمين و الفقهاء، بحيث لا نعدم في كلّ نسق من الأنساق الرئيسية رجالا قدّموا مبادرات بارزة على هذا الصعيد.

فهم القرآن،

ص: 583

على ضوء ما فات سنمرّ بإيماءات سريعة على بعض المشاريع و المبادرات التي شهدها التاريخ الفكري للمسلمين انطلقت من مواقع معرفية متفاوتة، و كما يلي:

1- الكندي:

تكاد تجمع كلمة الباحثين على أنّ أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (تقريبا: 185- 252 ه) هو أوّل أو في طليعة من بادر من حكماء المسلمين للتوفيق بين الفلسفة و الدين، انطلاقا من قاعدة «لا يجتمع على صدق نقيضان:

فالفلسفة صدق و الدين الحقّ صدق، فلا بدّ من رفع ظواهر الخلاف بينهما» «1». لقد ذهب الكندي إلى أنّ «علم الأشياء بحقائقها» هو ممّا اجتمعت عليه الشرائع و الفلسفة كلاهما، و بذا فلا تعارض بين الاثنين، و قد وصف الفلسفة بأنّها «القنية النفيسة عند ذوي الحقّ» و طالب أن «نسعى في طلبها بغاية جهدنا» «2».

2- الفارابي:

التوفيق بين الفلسفة و الإسلام هو في طليعة شواغل الفكر الفلسفي لأبي نصر محمّد بن محمّد الفارابي (260- 339 ه)، حيث ذهب إلى أنّ ما في الدين مثالات لما في الفلسفة «3»، و إنّ المصدرين (العقل الفلسفي و الدين الإلهي الوحياني) كليهما

______________________________

(1)- فيلسوفان رائدان، الكندي و الفارابي: 88.

(2)- نفس المصدر: 28.

(3)- راجع في قراءة إنجاز الفارابي على هذا الصعيد، التوفيق بين الدين و الفلسفة. أيضا: تكوين العقل العربي: 246.

فهم القرآن، ص: 584

«تنبثق منهما حقيقة واحدة. و إذن فلا تناقض و لا تعارض بين ما تقتضيه العقيدة الدينية و ما يقتضيه العقل بمنطقه» «1».

3- السهروردي:

إلى شهاب الدين السهروردي (549- 587 ه) تعزى فضيلة تأسيس نسق جديد في الفكر الإسلامي يجمع الفلسفة إلى العرفان إلى ظاهر الشريعة، عبر كيان عضوي موحّد يطلق عليه «حكمة الإشراق» «2». ففي الوقت الذي يركّز فيه السهروردي على أهمّية التزكية و تنقية الباطن أو التألّه بحسب تعبيره، تراه لا يسقط قيمة النظر العقلي أو البحث بحسب تعبيره كما توهم جمّ غفير من الباحثين.

كيف يحطّ السهروردي من قيمة النظر العقلي، و هو الذي يجعل التمهّر فيه شرطا لوعي «حكمة الإشراق»، حيث يقول: «و من لم يتمهّر في العلوم البحثية، فلا سبيل له إلى كتابي الموسوم ب (حكمة الإشراق)» «3». كما يقول أيضا بعد تصنيفه الحكماء إلى طبقات ثلاث، هم المتألّه عديم البحث، و البحّاث عديم التألّه، و المتوغّل في التألّه و البحث معا: «و أجود الطلبة طالب التألّه و البحث، و كتابنا هذا لطالبي التألّه و البحث» «4».

لقد رام السهروردي أن يوازن سطوة النظر العقلي عند المشائين بإدخال

______________________________

(1)- فيلسوفان رائدان، الكندي و الفارابي: 87.

(2)- راجع في قراءة مكوّنات هذا النسق أو المدرسة:

بحث في مناهج المعرفة: 83 فما بعد، رسالة القرآن: 98 فما بعد.

(3)- فلسفه سهروردي: 47.

(4)- شرح حكمة الإشراق: 22.

فهم القرآن، ص: 585

التزكية و تطهير الباطن كعنصر منتج للمعرفة، و جمع ذلك في مركّب واحد إلى جوار الشريعة التي يقول فيها: «احفظ الشريعة فإنّها سوط اللّه بها يسوق عباده إلى رضوانه. كلّ دعوى لم تشهد بها شواهد الكتاب و السنّة فهي من تفاريع العبث و شعب الرفث» «1»، و من ثمّ صارت محاولته واحدة من أشمل محاولات التوفيق بين الفلسفة و العرفان و الظواهر الدينية، و إن لم تنل الاهتمام الذي تستحق.

4- ابن رشد:

ركّز أبو الوليد محمّد بن أحمد الأندلسي (520- 595 ه) عنايته في مشروعه التوفيقي على تجسير العلاقة بين الدين و الفلسفة، بإثبات مشروعية الفلسفة عبر تحليل وظيفتها و إثبات أنّ هذه الوظيفة المتمثّلة بالنظر في الموجودات و اعتبارها من جهة دلالتها على الصانع جلّ و علا، هي إمّا: «واجب بالشرع و إمّا مندوب إليه» لأنّ «الشرع نفسه قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات و اعتبارها» «2».

ثمّ عالج ما يثار عن منهج القياس العقلي (البرهان) أو ما يثار ضدّ الفلسفة عامّة و أنّها بدعة لأنّها لم تكن معروفة في الصدر الأوّل، معارضا ذلك بما استحدث في البيئة الإسلامية فيما بعد من علوم لم تكن معروفة في صدر الإسلام أيضا، ليدحض بعدئذ حجّة من تذرّع في تحريم الفلسفة و النظر في الحكمة و المنطق و علوم الأوائل بوجود الانحرافات في أوساط الفلاسفة، بقوله: «فإنّه إنّ غوى غاو

______________________________

(1)- سه رسالة از شيخ إشراق: 82.

(2)- فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من اتصال: 85- 87.

فهم القرآن، ص: 586

بالنظر فيها و زلّ زال» فلا

يلزم من ذلك مصادرة الفلسفة برمّتها لضرر يلحقها بالعرض لا بالذات، على أنّ مثل هذه الإضرار هي ممّا يلازم جميع الصنائع و العلوم «1»، لينتهي بعد ذلك كلّه إلى النتيجة الحاسمة التالية: «و إذا كانت هذه الشريعة حقّا و داعية إلى النظر المؤدّي إلى معرفة الحقّ، فإنّا معاشر المسلمين نعلم على القطع أنّه لا يؤدّي النظر البرهاني [الفلسفي] إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنّ الحقّ لا يضدّ الحقّ بل يوافقه و يشهد له» «2».

إنّها القاعدة نفسها التي أسّس لها الكندي و انطلق منها هو و الفارابي و من جاء من بعدهما؛ قاعدة لا يجتمع على صدق نقيضان، و أنّ الحقّ لا يضادّ الحقّ بل يوافقه و يشهد له، التي سمحت لابن رشد أن يعلن مقولته الشهيرة في المؤاخاة طبعا و جبلّة بين الحكمة و الشريعة: «إنّ الحكمة هي صاحبة الشريعة و الأخت الرضيعة ... و هما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر و الغريزة» «3».

5- الشيرازي:

ارتبط اسم الشيرازي محمّد بن إبراهيم المعروف بصدر الدين (ت: 1050 ه) بنمط خاص من الحكمة يشتهر ب «الحكمة المتعالية» «4»، كان و لا يزال لها صداها

______________________________

(1)- نفس المصدر: 94. على أنّ العمل الأهمّ الذي أنجزه ابن رشد دفاعا عن الفلسفة يبقى ماثلا بما كتبه للردّ على الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة»، عبر مؤلّفه «تهافت التهافت».

(2)- فصل المقال: 16.

(3)- نفس المصدر: 125.

(4)- يذكرنا هذا النزوع في التأسيس بمشاريع سابقة، مثل طموح ابن سينا في وضع معالم-

فهم القرآن، ص: 587

الكبير في إيران «1». لقد أجمع الدارسون لفكر الشيرازي أو كادوا بأنّ إنجازه الأبرز تمثّل في مشروعه التوفيقي بين الفلسفة و العرفان و القرآن أو الإسلام على نحو عام،

______________________________

فلسفة خاصّة عبر ما

أسماه بمشروع «الحكمة المشرقية»، و كذلك طموح السهروردي في وضع معالم فلسفة خاصة في «حكمة الإشراق» و هكذا.

(1)- لم يتفاعل العالم العربي مع المنجز الفلسفي للشيرازي لأسباب عديدة منها عدم معرفته به.

و إذا كان الإيرانيون قد قاموا بعدّة مبادرات للتعريف بفيلسوف شيراز منها مؤتمران عقدا في التعريف به و بأفكاره و منظومته الفلسفية، و إصدار مجلة باسمه خاصّة بفكره هي مجلة «صدرا»، فإنّ هذه المبادرات بقيت صمّاء لم تترك صدى يذكر.

في كلّ الأحوال يمكن الإطلالة على الشيرازي و مدرسته في الحكمة المتعالية من خلال مصادر كثيرة، منها:

- صدر الدين الشيرازي: مجدّد الفلسفة الإسلامية، الدكتور جعفر آل ياسين، بغداد، 1955.

- شرح حال و آراء فلسفي ملا صدرا (حياة ملا صدرا و آراؤه الفلسفية)، السيد جلال الدين آشتياني، طبعة منظمة نهضة النساء المسلمات، طهران، 1981.

- المقدّمة المطوّلة التي كتبها محسن بيدارفر لتفسيره، راجع: تفسير القرآن الكريم 1:

9- 128.

- المقدّمة التي كتبها علي عابدي شاهرودي، لكتابه «مفاتيح الغيب»، راجع: مفاتيح الغيب:

د- ف، حيث تقع الدراسة في قرابة ثمانين صفحة.

- مجموعة مقالات (مجموعة المقالات)، السيّد محمّد حسين الطباطبائي، إعداد السيّد هادي خسروشاهي، مؤسسة نشر الثقافة الإسلامية، طهران، 1992، 2: 3- 19 حيث قدّم الطباطبائي قراءة لمنظومة الشيرازي و أبرز إنجازاتها.

- رسالة القرآن، آملي: 101- 106.

- بحث في مناهج المعرفة، الحيدري: 99- 145.

فهم القرآن، ص: 588

خاصّة مع وضوح نصوصه و صراحتها، كما في قوله: «فأولى أن يرجع إلى طريقتنا في المعارف و العلوم، الحاصلة لنا بالممازجة بين طريقة المتألّهين من الحكماء و المليين من العرفاء» «1»، كما قوله أيضا: «هيهات هيهات، قد خاب على القطع و البتات، و تعلّق بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع و العقل» «2».

على

أنّ المنحى المهمّ في مشروع الشيرازي، هي الجهود الضخمة التي بذلها لإسباغ الطابع الاستدلالي البرهاني على مقولات العرفاء و كشوفاتهم، فمع أنّه يعتقد بأنّ «كلمات هؤلاء الأفاضل في قوّة إفادة العلم القطعي بحقيقة النفس، أشد و أسدّ من كثير من حجج أصحاب العقل» «3»، إلّا أنّه لم يستند إلّا إلى ما صحّحه الدليل و أثبته البرهان من كشوفاتهم و ما ذكروه من حقائق، و بتعبيره: «إنّ من عادة الصوفية الاقتصار على مجرّد الذوق و الوجدان فيما حكموا فيه، و أمّا نحن فلا نعتمد كلّ الاعتماد على ما لا برهان عليه قطعيا، و لا نذكرها في كتبنا الحكمية» «4»، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حين جعل من مهامّه التصدّي للبرهنة على معارف العرفاء، و هو يقول: «فنحن قد جعلنا مكاشفاتهم الذوقية مطابقة للقوانين البرهانية» «5». كان مبتغاه إذن أن يخرج العرفان من دائرة المعايشة الذاتية و التجربة الشهودية الشخصية، من خلال منحه قيمة معرفية عبر البرهان، تسمح له بتعميم معطياته إلى الآخرين.

لقد استقطب هذا الجانب التوفيقي كلّ من اطّلع على فكر الشيرازي و عرفه،

______________________________

(1)- بحث في مناهج المعرفة: 117.

(2)- شرح اصول الكافي: 438.

(3)- المبدأ و المعاد: 304.

(4)- الحكمة المتعالية 9: 234.

(5)- نفس المصدر 6: 263.

فهم القرآن، ص: 589

و دفعه للإشادة به، كما فعل المظفّر (ت: 1383 ه) في تقديمه لأهمّ كتب الشيرازي «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة» الذي ربّما جنح إلى شي ء من المبالغة في تقويم إنجاز الشيرازي، و هو يكتب: «فبلغ بابا لم يبلغه أحد من فلاسفة العصور الإسلامية» «1».

أمّا الطباطبائي (ت: 1403 ه) الذي يعدّ في المعاصرين من الأركان الوثيقة للحكمة الصدرائية، فيقرأ الإنجاز الرئيسي لصدر الدين و يراه ماثلا

في مشروعه للتوفيق بين العقل و الكشف و الشرع، و هو يكتب: «كنتيجة لهذا التنبّه و الانتقال الذهني، أشاد صدر المتألّهين قواعد بحوثه العلمية و الفلسفية على أساس التوفيق ما بين العقل و الكشف و الشرع، و قد وظّف المقدّمات البرهانية و المطالب الكشفية و المواد الدينية القطعية في الطريق الذي سلكه لكشف حقائق الإلهيات» «2». و مع أنّ الطباطبائي يعتقد أنّ بذور هذه المشروعات التوفيقية تمتد إلى قرون سبقت الشيرازي، إلّا أنّه يعتقد أنّ الأخير بزّ أسلافه و تفوّق عليهم بأجمعهم: «و مع أنّ جذور هذا الطرح تبدو للعيان في كلمات المعلم الثاني أبي نصر الفارابي، ولدى ابن سينا، و شيخ الإشراق، و شمس الدين تركه، و الخواجة نصير الدين الطوسي، إلّا أنّ التوفيق الكامل حالف صدر المتألهين في إنجاز هذه المهمّة» «3».

من جهته قدّم جوادي آملي (معاصر) أبرز تلامذة الطباطبائي و من ألمع من يمثّل في حاضرة قم العلمية خط الفلسفة الصدرائية؛ قدّم قراءته للإنجاز الصدرائي في الإطار نفسه الذي رأيناه عند أستاذه الطباطبائي، و هو يقول: «وجدت الحكمة

______________________________

(1)- نفس المصدر 1: 10.

(2)- مجموعة مقالات 2: 6.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 590

المتعالية كمالها في الجمع بين الأدلّة؛ بين البرهان و العرفان و القرآن، و أنّه لا يوجد أي اختلاف بينهما، و إنّما هي في توافق و انسجام تام. أجل، عند المقارنة الداخلية بين هذه الطرق الثلاث فإنّ المحورية و الأصالة هي للقرآن، و الآخران يدوران حوله و لا ينفكان عنه» «1».

مبادرات اخرى:

في نطاق بحث خصّصه الطباطبائي لتاريخ التفكير الإسلامي كما انبثقت بذوره مع علوم القرآن و الحديث و الفقه، ثمّ الكلام و الفلسفة و العرفان، بلوغا إلى مرحلة النموّ و الازدهار؛ في

نطاق هذا البحث انتهى إلى استقرار المشهد على ثلاثة أنساق كبرى في البحث عن الحقائق و الكشف عنها عرفها تاريخ المسلمين الفكري، هي البحث من خلال النصوص و الظواهر الدينية، ثمّ طريقة البحث العقلي و أخيرا طريقة تصفية النفس «2».

في إطار هذه الدراسة أشار الطباطبائي إلى حالة التنازع و الصراع التي راحت تؤطّر العلاقة بين هذه الأنساق، الأمر الذي دفع بعدد كبير من المنتمين إليها، لعرض مبادرات للتوفيق فيما بينها و إعادة الوئام إليها.

ممّن ذكرهم كأصحاب مشاريع للتوفيق بين الظواهر الدينية و العرفان،

______________________________

(1)- شرح الجزء السادس من الأسفار 1: 39، نقلا عن: بحث في مناهج المعرفة: 123.

كما يلحظ ممّن قرأ إنجاز الشيرازي في الإطار ذاته: مفاتيح الغيب، مقدمة التحقيق: م- ب، كذلك: بحث في مناهج المعرفة: 114 فما بعد.

(2)- راجع: الميزان في تفسير القرآن 5: 271- 283.

فهم القرآن، ص: 591

ابن عربي، و عبد الرزاق الكاشاني، و ابن فهد الحلي، و الشهيد الثاني زين الدين على بن أحمد العاملي (ت: 956 ه) و الفيض الكاشاني المتوفّى سنة 1091 ه.

كما ذكر أنّ من بين من نهض للتوفيق بين الفلسفة و العرفان برز اسم الفارابي و السهروردي صاحب حكمة الإشراق و صائن الدين محمّد تركه.

كما برز على طريق التوفيق بين الظواهر الدينية و الفلسفة القاضي سعيد القمّي (ت: 1103 ه) و غيره.

أخيرا ذكر ابن سينا و صدر الدين الشيرازي بوصفهما من ذوي المشاريع الشاملة في التوفيق بين الأنساق المنهجية الثلاثة «1».

بين الإمام و الشيرازي

لا نحتاج إلى سوق الأدلّة على العلاقة الوثيقة التي تربط الإمام الخميني بفكر الشيرازي و منظومته، و ها هي كتب الإمام بين أيدينا تحفل بعشرات النصوص و الاقتباسات من الشيرازي مشفوعة بالمدح و الثناء و الإشادة

به و نعته بأنّه «صدر الحكماء المتألّهين و شيخ العرفاء السالكين» «2» و ما إلى ذلك ممّا يشبهه من النعوت، التي جاء آخرها قبل وفاة الإمام ببضعة أشهر. ففي الرسالة التي كان بعث بها الإمام في اليوم الأوّل من العام الميلادي 1989 إلى زعيم الاتحاد السوفيتي سابقا ميخائيل غورباتشوف يعرض عليه الإسلام، مرّ على أسماء عدد من علماء المسلمين، من بينهم الشيرازي الذي كال له أسمى آيات الثناء و المديح، و هو يقول: «اطلبوا من

______________________________

(1)- نفس المصدر: 283.

(2)- شرح دعاء السحر: 84.

فهم القرآن، ص: 592

الأساتذة الكبار أنّ يراجعوا أسفار الحكمة المتعالية لصدر المتألّهين رضوان اللّه تعالى عليه، و حشره اللّه مع النبيّين و الصالحين» «1».

و ما أميل إليه أنّ الإمام كان يحدّث نفسه أن يقتفي خطى الشيرازي في التوفيق بين المنقول و المعقول و المشهود أو بين الشريعة و الحكمة و العرفان، هذا الطموح الذي بدا واضحا في أوّل كتاب وضعه الإمام متمثّلا ب «شرح دعاء السحر»، ثمّ راحت قسماته تتّضح أكثر فأكثر في مؤلّفاته الاخرى، كما في سلوكه العملي و العلمي أيضا، إلى أن أعلن عنه جهارا في مطلع العقد الأخير من حياته. و مع أنّني لم أجد من الدارسين لحياة الإمام و الباحثين في فكره من أبدى هذه الملاحظة، إلّا أنّ هناك ملمح من بعيد إليها يبرز في ثنايا دراسة قدّمها الشيخ جوادي آملي عن الإمام بعنوان «الإمام الخميني بطل الأسفار الأربعة» «2».

3- مشروع الإمام الخميني

اشاره

لم تطرأ فكرة التوفيق بين النقل و العقل و القلب أو بين الشريعة و الفلسفة و العرفان عند الإمام فجأة، و من ثمّ من الخطأ أن نعيد اصول مشروعه إلى لحظة الإعلان عنه أثناء دروسه القرآنية في تفسير سورة

الفاتحة عام 1400 ه بعد عودته الظافرة إلى إيران. فلهذه الفكرة جذورها التي تمتد إلى أوّل كتاب وضعه الإمام سنة

______________________________

(1)- راجع في مضامين هذه الرسالة و خطوطها الفكرية الرئيسية، و كذلك تفاصيل قراءتها على زعيم الكرملين يوم ذاك: بنيان مرصوص: 281- 314، رسالة القرآن: 65- 124، و الجدير ذكره أنّ الشيخ جوادي آملي كان يرأس الهيئة التي حملت رسالة الإمام إلى غورباتشوف.

(2)- بنيان مرصوص: 71- 96.

فهم القرآن، ص: 593

1347 ه، و صدر بالعربية تحت عنوان «شرح دعاء السحر» حيث كان لا يزال في سنّ السابعة و العشرين.

إذا أخذنا بهذا التحديد يكون للمشروع الخميني عمقه الذي يمتدّ به على مدار خمسين عاما بين لحظة البدء و وضع الخطوط العريضة، و بين الإعلان عنه باسمه و بعنوان كونه مشروعا. لقد كان من حسن التقدير أن يتفق معنا في هذا التحديد الشيخ جوادي آملي في دراسة عن الإمام بعنوان «معراج السالكين من منظور إمام العارفين» وصف فيها منهجه في أوّل كتبه الموسوم ب «شرح دعاء السحر»، بقوله: «في ذلك الكتاب أوجد الإمام الفة جذّابة بين (المشهود)، (المعقول) و (المنقول)؛ و بتعبير أدلّ و أوفى أزاح الستار عن التوافق و الانسجام الكائن بينها» «1».

لا تقتصر أهمّية هذا النص على كونه شهادة علمية على الخلفية العريقة التي يحظى بها مشروع الإمام للتوفيق و حسب، بل له مغزاه العميق أيضا على قلب المعادلة في هذا المضمار، فالأصل الموضوعي الذي يحكم العلاقة بين العرفان و الفلسفة و النقل برأيه هو الانسجام و التوافق، و حالة الاعتراك و الصراع و القطيعة هي الاستثناء الذي ينبغي أن يعالج و يزول.

و إذ لا يسعنا أن نستعرض محتويات كتاب «شرح دعاء السحر»، فيكفينا أن نشير

إلى أنّ المؤلّف حرص في منهجه على الجمع بين المعطيات التالية:

1- العلوم النقلية، من خلال الاستنباط من النصوص و الظواهر الدينية.

2- العلوم العقلية، من خلال استخدام البرهان بمعناه الخاص في المنطق

______________________________

(1)- نفس المصدر: 147.

فهم القرآن، ص: 594

و الفلسفة الذي يعني استعمال مقدّمات يقينية ضرورية أو نظرية تنتهي إلى الضروري، للوصول إلى نتائج يقينية.

3- كما استعمل أحيانا بعض المشاهدات القلبية و الكشوفات المعرفية لعرفاء بارزين في الطليعة منهم ابن عربي.

حرص الإمام على أن يقدّم هذا المزيج في مركّب منسجم يخدم الفكرة التي يعالجها، ليوفّر لها بذلك قواعد عريضة تستقطب إليها جميع الفئات و الأنساق و الأذواق. ففي بحث قصير نسبيا عن أسماء اللّه و الاسم الأعظم، وظّف المؤلّف معطيات النقل و العقل و الشهود على نحو مكثّف لكي يقدّم الفكرة التي يريدها، و جمع رموز من مختلف الأنساق المعرفية لتعزيزها، فإلى جوار نصوص حديثية جمّة من كتاب «الكافي» أدخل في السياق أفكار و نظريات لابن عربي و صدر الدين القونوي و عبد الرزّاق الكاشاني و صدر الدين الشيرازي و الفيض الكاشاني و القاضي سعيد و السيد علي خان الشيرازي و محمد رضا قمشئي و ملكي تبريزي و المحدّث الشيخ عباس القمّي «1».

الإعلان عن المشروع

ذكرنا غير مرّة أنّ الإمام شرع بدروس أسبوعية في تفسير القرآن الكريم بعد عودته من منفاه إلى إيران عام 1979 م، و في إطار هذه الدروس أعلن عن مشروعه التوفيقي. فقبل أن يواصل تفسيره المتسلسل في سورة الفاتحة، افتتح الدرس الخامس، بالقول: «قبل أن أواصل البحث ثمّ مطلب مهمّ ينبغي أن أعرض له؛ ربّما

______________________________

(1)- شرح دعاء السحر: 71- 87.

فهم القرآن، ص: 595

كان مفيدا و ضروريا أيضا. يتمثّل هذا المطلب بما يلحظ من

بروز اختلافات أحيانا بين أهل النظر؛ و أهل العلم».

لم يشأ الإمام أن يثير حفيظة مستمعيه مرّة واحدة، لذلك اختار التدرّج في إثارة الفكرة، و من ثمّ التعبير عن المشكلة بمثال عرفي. ففي البدء أعاد الاختلاف العلمي الذي ينشأ بين مختلف أنساق النظر الفكري، إلى اختلاف لغة كلّ نسق عن الآخر، و غربة كلّ فئة من أهل العلم عن لغة الطرف الآخر و عدم الفتها بمصطلحاتها، ممّا يدفع إلى النزاع و القطيعة و الإلغاء. يقول في تعليل الاختلافات الناشئة، بأنّها تبرز «نتيجة عدم معرفة كلّ طرف بلغة الآخر. فلكلّ فئة لغة خاصّة بها». ثمّ لا يلبث أن يوضّح ذلك بالمثال العرفي التالي: «لا أدري إذا كنتم قد سمعتم بهذا المثال. لقد اجتمع ثلاثة أحدهم فارسي و الثاني تركي و الثالث عربي، و عند ما حلّ وقت تناول طعامهم اختلفوا فيما يأكلونه، فقال الفارسي: نأكل (انگور)، و قال العربي: لا بل نأكل (العنب)، على حين بادر التركي للاعتراض قائلا: كلا، لا نأكل (انگور) و لا (العنب)، بل نأكل (ازوم). لقد وقع الاختلاف بين هؤلاء لأنّ كلّ واحد منهم يجهل لغة الآخر. و عند ما ذهب أحدهم و عاد بالعنب، انتبه الجميع إلى أنّهم كانوا يتحدّثون عن شي ء واحد، لكن بلغات مختلفة. أجل، فالمطلب واحد و اللغات مختلفة» «1».

يعود الإمام لتطبيق هذه الفكرة بحذافيرها على الخلاف الناشئ بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء، فكلّ هؤلاء يتحرّكون صوب مقصد واحد، لكن باصطلاحات

______________________________

(1)- تفسير سورة الفاتحة: 175- 176، و لفظ «انگور» بالفارسية و «ازوم» بالتركية يعني العنب.

فهم القرآن، ص: 596

و مفاهيم تتفاوت بين حقل معرفي و آخر، و بتعبير سماحته: «للفلاسفة مثلا لغة خاصّة بهم و اصطلاحات ترتبط باختصاصهم،

و للعرفاء أيضا لغة و اصطلاحات خاصّة بهم، كذا حال الفقهاء الذي تدور لغتهم حول اصطلاحات خاصّة بهم أيضا، و للشعراء كذلك لغتهم الشعرية الخاصّة. كما أنّ للأئمّة المعصومين عليهم السّلام أداء و لغة على نحو خاص. و المطلوب هو أن ننظر أيّ هذه الفئات الثلاث أو الأربع التي تختلف فيما بينها، هي أقرب في لغتها و أدائها إلى لغة أهل العصمة، و إلى لغة الوحي» «1».

هنا النص تحدّث عن مقياس للتفاضل، و عن معيار به نزن وسائل الأداء المعرفي، و اليه نحتكم في الرفض و القبول، هو لغة أهل العصمة و أسلوب الوحي في الأداء. فالمسألة ليست أن نتعصّب للفلسفة أو لطريقة العرفان أو لمنهج التفكير الفقهي، إنّما المطلوب أن نعرف أيّها أقرب إلى المرجعية الإسلامية المتمثّلة بالكتاب و السنّة، فنميل إليه و نأخذ به. فأنماط التفكير و أنساقه هي وسائل تقرّبنا إلى القرآن و السنّة زلفى.

مبدأ العلّية بين الفلاسفة و العرفاء

عند ما يريد الإمام أن يوضّح رؤيته التي تفيد أنّ التنافر و القطيعة الموجودين بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء يرجعان إلى اختلاف المصطلحات و الأجهزة المفاهيمية الناشئة عنها، يختار مصطلح العلية الذي يعدّ المرتكز الأساسي و الركن الوثيق في نسق التفكير الفلسفي، كما لا ينكره التفكير الفقهي أيضا، و إنّما يسعى

______________________________

(1)- نفس المصدر: ص 176.

فهم القرآن، ص: 597

العرفاء إلى إيجاد بديل عنه ليقع بذلك الخلاف بينهم و بين الآخرين.

يقول موضّحا: «هناك طبقة الفلاسفة التي تستخدم في تعبيراتها (علّة العلل)، (المعلول الأوّل)، (المعلول الثاني) و ما إلى ذلك. هذه الطبقة تعبّر بالعلية و المعلولية على الدوام، خاصّة ما كان منها من فلاسفة قبل الإسلام. فهذه تستخدم التعابير الجافّة: العلية و المعلولية، و السببية و المسبّبية، و

المبدأ و الأثر و ما أشبه ذلك.

يستعمل فقهاؤنا أيضا تعبير العلية و المعلولية و لا يجدون حرجا في ذلك. و يستعمل الجميع لفظ الخالق و المخلوق، من دون أن يكون هناك حرج في ذلك أيضا.

كما هناك مجموعة هي أهل العرفان لها تعبيراتها المختلفة، مثل الظاهر و المظهر و التجلّي و أمثال ذلك» «1».

عند هذه التخوم يبادر الإمام إلى إثارة السؤالين التاليين:

الأوّل: لما ذا مال العرفاء إلى استخدام لغتهم الخاصّة هذه، و عزفوا عن استخدام المصطلحات و المفاهيم المتداولة داخل الحيّز الفلسفي و العرفي؟

الثاني: ما هي أقرب صيغة أدائية من الصيغ المذكورة، إلى روح الكتاب و السنّة؟

يميل الإمام في البدء إلى أنّ الشبكة اللفظية التي يستخدمها العرفاء، على الأقل إزاء مبدأ العلّة و المعلول لها جذورها في لغة أئمّة أهل البيت «فهذا النحو من التعبير يجري على لسان أئمّتنا عليهم السّلام. إنّني لا أذكر مطلقا إنّه ورد في لغة الأئمّة لفظ العلية و المعلولية و السببية و المسببية. أجل، هناك ذكر للخالقية و المخلوقية، و للتجلّي، و للظاهر و المظهر و أمثال ذلك». يمضي الإمام متسائلا: «ينبغي أن ننظر

______________________________

(1)- نفس المصدر: 177.

فهم القرآن، ص: 598

طبيعة الباعث الذي دفع أهل العرفان إلى رفع يدهم عن تعبير الفلاسفة مثلا، كما عن تعبير عامّة الناس، و مالوا إلى استعمال صيغة اخرى تحوّلت إلى سبب لإثارة الالتباس بين أهل الظاهر؟ هذا ما نريد تحليله الآن».

ثمّ ينعطف الإمام موضّحا: «العلّة و المعلول تعني أنّ هناك موجودا (هو العلّة) أوجد آخر (هو المعلول). من منظور العلّية و المعلولية، يقع المعلول في طرف، و العلّة في طرف.

و السؤال: ما ذا يعني أنّ هذا في طرف و ذاك في طرف؟ هل يعني أنّهما

مختلفان مكانا، مثل نور الشمس و الشمس نفسها، فللشمس نور، و هو ينبعث منها و مظهر لها أيضا، و لكن الشمس تبقى مع ذلك موجودا واقعا في موضع محدّد، و نور الشمس موجود آخر واقع في محل آخر، و إن كان أثرا و معلولا لها؟ السؤال: هل المعلولية و العلّية بالنسبة إلى ذات الواجب سبحانه هي نظير هذه المعلولية و العلّية في عالم الطبيعة؛ أي أنّها على المثال الذي تكون فيه النار علّة للحرارة، و الشمس علّة للنور و هكذا؟ و هل هي على غرار الأثر [و المؤثّر] بحيث أنّهما مفصولان مكانا أيضا، إذ يكون للأثر مكان و للمؤثّر مكان آخر؟ لو لحظنا الأثر و المؤثّر الموجودين في الطبيعة، فهما على هذا المنوال غالبا، بحيث يقع بينهما بعد مكاني أيضا، و ينفصلان عن بعضهما مكانا.

و السؤال هو: هل بمقدورنا أن نطبّق هذا المنحى على المبدأ الأعلى أيضا، بحيث تكون الموجودات مفصولة عنه سبحانه لها مكان معيّن و زمان خاص؟ قلت إنّ تصوّر هذه الامور صعب جدّا، فأن نتصوّر كيفية حال الموجود المجرّد هو أمر صعب، بخاصّة حين يدور الكلام عن المبدأ الأعلى، الذي يرتفع على صيغ التعبير

فهم القرآن، ص: 599

و تعجز عن نيله؛ فأيّما لفظ أردت أن تستعمله في التعبير عنه فهو سبحانه غيره «1».

ثمّ ما هو حال الإحاطة القيّومية للحق تعالى بالموجودات؟ القرآن يسجّل:

وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «2»؛ فما معنى وَ هُوَ مَعَكُمْ؟ هل معناه أنّه إلى جوار الإنسان؟ أم أنّه معه على نحو المصاحبة؟

لقد مال اولئك [العرفاء] إلى هذا النحو من التعبير، لعجزهم عن التعبير عن الواقع؛ لقد اختاروا من صيغ التعبير ما هو أقرب إلى الواقع أكثر، تماما كما

في الكتاب و السنّة اللذين اختارا في التعبير ما هو أقرب إلى الواقع» «3».

يمضي الإمام على هذا المنوال مواصلا وصفه للمأزق الناشئ عن دقّة واقع هذه الحقائق كما هي، و عن ضيق خناق اللغة في التعبير عن تلك الحقائق، و هو يضيف: «إنّ فهم مكانة الخالق و المخلوق، و طبيعة العلاقة بينهما هو أمر صعب.

فهل طبيعة العلاقة بين الخالق و المخلوق و كيفيّتها هي على غرار طبيعة العلاقة بين النار و أثرها؟ أم هي على غرار طبيعة علاقة النفس بهذه العين و الاذن و قواها

______________________________

(1)- إشارة إلى النصوص المستفيضة التي تسجّل عجز العقول عن إدراكه، لا بل عجز أوهام القلوب عن ذلك مع ما للوهم من قوّة على التوسّع و الامتداد، منها: «و لا تدركه العلماء بألبابها، و لا أهل التفكير بتفكيرهم، إلّا بالتحقيق إيمانا بالغيب» (بحار الأنوار 4:

301/ 29). و كذلك: «لا تضبطه العقول، و لا تبلغه الأوهام ... عجزت دونه العبارة» (نفس المصدر 4: 263/ 11). على هذا جاء تقرير القاعدة التي أشار إليها المتن: «ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه» (نفس المصدر: 301/ 29) أو: «عجزت دونه العبارة» (نفس المصدر: 263/ 11).

(2)- الحديد (57): 4.

(3)- تفسير سورة حمد: 177- 179.

فهم القرآن، ص: 600

[الاخرى] ربّما كان المثال الأخير هو أقرب هذه الأمثلة، لكنه أيضا عاجز عن التعبير عنها كما هي. الإحاطة هذه، هي إحاطة قيّومية، حيث لا مناص من التعبير عنها بذلك بعد ضيق الخناق؛ هي إحاطة قيّومية بجميع الموجودات بحيث لا يخلو عنها موجود من الموجودات، فحيثما كان موجود فهناك إحاطة قيّومية: «لو دلّيتم بحبل إلى الأرضين السفلى لهبطتم على اللّه» «1».

عند ما يستخدم هؤلاء [العرفاء] هذه اللغة، فلا يريدون من

قولهم: (إنّ ذلك الشي ء حقّ) أنّ هذا الإنسان الذي يتوكّأ على عصا و يلبس العمامة مثلا؛ هو الحقّ تعالى! فهذا ما لا يقول به عاقل. إنّما المسألة و ما فيها أنّنا نلجأ إلى تعبير علّه يقرّب إلى الذهن العلاقة الشائكة بين الحقّ و المخلوق. و قد يحصل أحيانا أن لا يلتفت الإنسان إلى هذه المسائل، فيقول إنّ «هذا» هو الحقّ أيضا، و كلّ ما موجود هو الحقّ» «2».

المقاربة بقاعدة: بسيط الحقيقة

ثمّ قاعدة فلسفية في الإلهيات تعرف بقاعدة «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء و ليس بشي ء منها» تعود جذورها في التحليل إلى فكر ابن عربي، على حين يعود تشييدها فلسفيا إلى الشيرازي الذي بلغ من اعتزازه بها أن سجّل نصّا: «إنّ كلّ بسيط الحقيقة يجب أن يكون جميع الأشياء بالفعل، و هذا مطلب شريف لم أجد في

______________________________

(1)- علم اليقين في اصول الدين 1: 54. و في معناه أيضا: «فلا يخلو منه مكان، و لا يشتغل به مكان، و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان». (راجع: الكافي 1: 125/ 3)

(2)- تفسير سورة حمد: 179.

فهم القرآن، ص: 601

وجه الأرض من له علم بذلك» «1».

و كلام الشيرازي في الشق الثاني غير دقيق، لأنّ للقاعدة جذورها الواضحة في فكر ابن عربي- كما أسلفنا- و قد أشار الشيرازي نفسه لذلك في موضع آخر «2»، كما نوّه إليه عدد من الدارسين المعاصرين أيضا «3».

بمقتضى هذه القاعدة، ما من كمال يفرض إلّا و هو موجود للّه سبحانه، و هذا الكمال ليس موجودا للّه بنحو التناهي و حسب، بل هو موجود له فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى. لقد أثرت هذه القاعدة البحث التوحيدي في الاتجاه الذي ينطلق من العرفان، و من العرفان

الفلسفي كما ركّبه ابن عربي و اتبعه عليه الشيرازي و من والهما، و خرج بنتائج ثريّة ليس على صعيد العلم الإلهي و علمه سبحانه بالأشياء تفصيلا قبل الإيجاد و حسب، بل على صعيد العديد من القضايا الاخرى في البحث التوحيدي «4».

______________________________

(1)- الحكمة المتعالية 3: 40.

(2)- راجع مثلا: الحكمة المتعالية 6: 286- 289 حيث نقل الشيرازي كلاما لابن عربي يدل على وجود القاعدة في نصوصه و فكره. و لكن يبدو أنّ الشيرازي غفل عن ذلك و نساه لطول المدّة التي أمضاها في تأليف أجزاء كتابه «الحكمة المتعالية».

(3)- منهم الشيخ جوادي آملي. و ما عليه المدرسة الفلسفية المعاصرة في قم بخطها الصدرائي، أنّ مقولات الحكمة المتعالية تعود بجذورها بالجملة إلى الشيخ الأكبر، كما سجّل ذلك بوضوح السادة محمّد حسين الطباطبائي و مرتضى مطهري و حسن حسن زاده آملي و عبد اللّه جوادي آملي و غيرهم. راجع في رصد شهادات هؤلاء و التوثيق لنصوصهم بهذا الشأن:

التوحيد، بحوث في مراتبه و معطياته 1: 229- 233.

(4)- راجع في تطبيقات القاعدة: التوحيد، بحوث في مراتبه و معطياته، بجزأيه الأوّل و الثاني.

فهم القرآن، ص: 602

لقد انطلق الشيرازي في الاستدلال على القاعدة من بساطة الحقّ سبحانه «1».

فلو كان اللّه سبحانه واجدا لشي ء و فاقدا لشي ء آخر للزم من ذلك التركيب، و حيث ثبت أنّ الحقّ سبحانه ليس مركّبا بل هو بسيط من كلّ جهة، فالنتيجة إذن بسيط الحقيقة كلّ الأشياء و ليس بشي ء منها.

يدلف الإمام من هذه القاعدة لبيان طبيعة العلاقة بين اللّه و الموجودات، أو بين الخلق و المخلوقات، في الاتجاه الذي يعزّز المنحى العرفاني، و يخرج عن جفاف الرؤية الفلسفية المشائية التي تفسّر العلاقة على ضوء مبدأ العلية على النحو

الذي أوضحه الإمام نفسه.

يقول بعد الانتهاء من بيان رؤية العرفاء: «هناك أيضا تعبير لفلاسفة الإسلام، هو: صرف الوجود كلّ الأشياء و ليس بشي ء منها، إذ يلحظ أنّ (كلّ الأشياء) و (ليس بشي ء منها) هو بنفسه تعبير متناقض!».

ثمّ يوضّح القاعدة بما يرفع التناقض الذي يبدو عليها لأوّل وهلة، بقوله:

«يريد النص أن يقول إنّه ليس ثمّ نقص فيه [أي الحقّ سبحانه] فلا نقص مطلقا في صرف الوجود، و كلّ ما هو سنخ الكمال فهو واجد له، و الموجودات كلها ناقصة، فإذا: ليس بشي ء منها ... عند ما يكون الموجود تاما، فلا نقص فيه مطلقا، و عند ما لا يكون فيه نقص لا يمكن أن يكون فاقدا لأيّ كمال كان. و كلّ كمال موجود في أي موجود، فهو منه، هو رشحة منه، و هو مظهر له، و عند ما يكون جلوة له، فإنّ الذات على نحو البساطة هي كلّ الكمال و تمامه. (كلّ الأشياء) يعني كلّ الكمال، و (ليس بشي ء منها) بمعنى لا نقص فيه. لا تريد القاعدة من القول: صرف الوجود

______________________________

(1)- راجع: الحكمة المتعالية 6: 111- 112.

فهم القرآن، ص: 603

كلّ الأشياء، هو أنّ (صرف الوجود) هو أنتم [البشر!] لهذا لا تلبث و أن تسجّل:

و ليس بشي ء منها. ما نريد تسجيله: أنّه سبحانه تمام الكمال و ليس ثمّ موجود غيره بهذه الصفة، و ما دام كذلك، فهو واجد لكلّ كمال» «1».

ينسب الإمام نص القاعدة إلى فلاسفة الإسلام، و الأدق أن تقترن النسبة بقيد، فالفلاسفة المشاءون لا يعرفون هذه القاعدة، بل من أرسى بناءها التحتي هم العرفاء، ثمّ شيّد البناء و رفعه العرفان الفلسفي «2»، أو خط الحكمة المتعالية في الفلسفة؛ هذا الخط الذي سعى إلى التركيب بين

العرفان و الفلسفة و النقل.

الملاحظة الاخرى التي ترمي بظلالها على النص كأنّها هاجس يلاحق صاحبه، هي حذر الإمام من وقوع اللبس لدى السامع، الذي يتوهّم بأنّ القاعدة تريد بقولها: بسيط الحقيقة أو صرف الوجود كلّ الأشياء، أنّ كلّ ما موجود في الخارج هو اللّه!

لذا تراه يلحّ في سعيه لرفع هذا التوهّم و الالتباس، و هو يؤكّد على الدوام ضرورة الانتباه إلى مدلول تتمّة القاعدة، فيما تسجّله مباشرة: و ليس بشي ء منها، و ذلك إلى الحد الذي يؤثّر هذا الإصرار لرفع الالتباس، على سلامة النص و اتساقه و سلاسته.

كان هذا الذي مرّ هو جواب السؤال الأوّل الذي أثاره الإمام عن طبيعة الدوافع التي أملت على العرفاء الميل إلى استخدام هذه اللغة، و العزوف عن لغة

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 180.

(2)- لا نقصد من هذا التمييز بين «العرفان» و «العرفان الفلسفي» سلب صفة التنظير عن عرفان ابن عربي، فعرفان ابن عربي هو عرفان فلسفي منظومي بامتياز، يبهر ببراعة استخدام الاستدلال و النظر العقلي و تشييد الأبنية البرهانية لإثبات مقولاته.

فهم القرآن، ص: 604

الاصطلاح الفلسفي بمنظومته المشائية.

يبقى أمامنا الآن جواب السؤال الثاني: ما هي أقرب صيغة أدائية من هذه الصيغ، إلى الوحي و روح الكتاب و السنّة؟

لغة العرفاء و الوحي

يسجّل الإمام صراحة و دون لبس أو مواربة بأنّ لغة العرفاء هي الأقرب إلى الوحي و إلى روح الكتاب و السنّة من غيرها، و بتعبيره: «القرآن و الدعاء مشحونان من هذا الكلام» «1»، يقصد به كلام العرفاء.

كمثال تطبيقي للتوافق بين لغة العرفاء و لغة الدعاء، يمرّ الإمام على المناجاة الشعبانية التي يتعامل معها على نحو خاص، بحكم الروايات التي تفيد أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السّلام كانوا بأجمعهم يقرءون هذه المناجاة، ليقول

في البدء: «لاحظوا التعبيرات الموجودة في أدعية الأئمة عليهم السّلام، و قارنوا بالتعبيرات التي جاءت على لسان العرفاء، و انظروا هل هناك فرق بينهما؟ مع ذلك تحوّلت تعبيرات العرفاء هذه إلى ذريعة للبعض كي يذهب إلى حدّ تكفيرهم من دون أن يلتفت إلى المقصد». ثمّ ينعطف للقول: «المناجاة الشعبانية بحسب الروايات، هي مناجاة الأئمة بأجمعهم، و لم أر في الروايات أنّ دعاء من الأدعية غير هذه المناجاة مشترك بين الأئمة بأجمعهم. لقد جاء في هذه المناجاة: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، و تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك» حيث جاء بعد ذلك نصا: «إلهي

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 185.

فهم القرآن، ص: 605

و اجعلني ممّن ناديته فأجابك، و لاحظته فصعق لجلالك» «1».

يتساءل الإمام: «يطلب الإمام [الداعي] (كمال الانقطاع) من اللّه ... و هذا الباب هو باب مرتبة سير الإنسان نفسه، و هو يطلب سيره من اللّه؛ فما معنى ذلك؟

ثمّ ما هي (أبصار القلوب) التي يريد لها أن تنظر إلى الحقّ تعالى؟ ما هو هذا القلب و بصر القلب، حتّى ينظر بنور هذا البصر القلبي إلى الحقّ تعالى؟ يقول الإمام [الداعي] بعد ذلك: أعطني ذلك كلّه، و الغاية المرجوّة منه، هي: «حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور»، و عند ما تقطع حجب النور، عندئذ: «تصل إلى معدن العظمة، و تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك»؛ ترى ما معنى هذا؟ هل معناه أن أتعلّق به سبحانه.

ثمّ هذا (الصعق للجلال) الذي يذكره القرآن لموسى أيضا «2»، هل هو شي ء غير الفناء الذي يتحدّث عنه العرفاء؟ [أنّها حركة السير التي ترتقي بالإنسان] مرتبة فوق

مرتبة، حتّى يصل مرتبة تخرق بها «أبصار القلوب» الحجب كلّها، و تصل بعدئذ إلى معدن العظمة. و السؤال: ما هو «معدن العظمة»؟ و ما هو هذا الوصول؟

هل هو إلّا ذلك الوصول الذي يتحدّث عنه العرفاء؟ إنّ ذلك الوصول [العرفاني] هو الذي يقول عنه الدعاء: «فتصل إلى معدن العظمة». ثمّ هل يمكن أن يكون (معدن العظمة) هو شي ء آخر غير الحقّ تعالى؟ هو سبحانه معدن العظمة، حيث ينبغي أن

______________________________

(1)- الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة 3: 299، و قد قدّم الراوي لها، بقوله:

«إنّها مناجاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، و الأئمة من ولده عليهم السّلام، كانوا يدعون بها في شهر شعبان». (المصدر: 295)

(2)- إشارة لقوله سبحانه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً. (الأعراف (7): 143)

فهم القرآن، ص: 606

تستمدّ منه كلّ ضروب العظمة؛ معدن العظمة هناك [أي عنده سبحانه] و عندئذ:

«فتصل إلى معدن العظمة، و تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك»، و حيث تصل إلى هناك، فستغدو الأرواح معلّقة بعزّ قدسك.

هذا هو المعنى نفسه الذي يذكره العرفاء» «1».

الحصيلة التي ينتهي إليها النصّ الخميني حتّى الآن، أنّ العرفاء لجأوا إلى هذه اللغة التي يستخدمونها لأنّها أقرب إلى لغة الوحي و إلى أسلوب الأداء في القرآن و السنة بالأخص الدعاء، و أنّ اللبس الذي يشوب لغتهم أو مساحة منها على أقل تقدير، ناشئ عن ضيق التعبير، و عن عجز اللغة أو فقرها في أداء ما يجيش في صدورهم من معان، و التعبير عمّا يشاهدونه عيانا من حقائق.

نلحظ على سبيل المثال، أنّ الإمام خرج بالحصيلة التالية في تأمّل المقطع المذكور أعلاه من المناجاة الشعبانية: إنّ «كمال الانقطاع» الذي ينشده الداعي من

اللّه هو بنفسه تعبير عن السير الذي يقطعه العارف نحو الحقّ. و الوصول إلى معدن العظمة و تعلّق الأرواح بالحق سبحانه، هو الوصول العرفاني نفسه، و التعلّق هو تعبير عن العلاقة التي تربط الخلق بالحق. و الصعق بلغة القرآن و الدعاء، هو الفناء نفسه بلغة العرفاء و هكذا.

عن العلاقة بين الحقّ و الخلق، و كيف يعيشها العارف و يمتنع عن التعبير عنها بلغة الفلسفة، بل يختار لها تعابير مثل التجلّي و الظهور و ما إلى ذلك، ممّا هو أوصل بلغة الوحي و أقرب إلى الكتاب و السنّة؛ عن ذلك كلّه يعود الإمام للقول مجدّدا:

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 182- 183، راجع أيضا في تحليل هذا المقطع من الدعاء، بإثارة الأسئلة ذاتها و الخروج بالاستنتاجات نفسها عبر المطابقة بين مضمون الدعاء و لغة العرفاء:

سرّ الصلاة: 38- 39، الذي انتهى الإمام من تأليفه سنة 1358 ه.

فهم القرآن، ص: 607

«هذا الربط ما بين الحقّ و الخلق هو من المسائل التي يعدّ تصوّرها أصعب من تصديقها؛ فتصديقها ممكن إذا ما تصورها الإنسان. كيف لنا أن نتصوّر: موجود لا يخلو منه مكان قط، و لا يحدّ في مكان بعينه؛ موجود هو باطن الأشياء و هو ظاهرها، و الكلّ معلول له، و لكنّنا عاجزون عن التعبير عنه؟ كيف يمكن التعبير عن مؤثّر موجود في باطن الأشياء و ظاهرها، حيث لا يخلو منه شي ء، بصيغة بحيث تعبّر عنه؟ لقد عجزت الصيغ التعبيرية كافّة عن إفادة المعنى، ما خلا ما صدر من الدعاء من قبل أهله، كما هو الحال في المناجاة الشعبانية» «1».

يقول أيضا: «عند ما يتأمّل الإنسان أطراف القضية لا يسعه أن يعبّر عنها بالعلّة و المعلول، و بالأثر و المؤثّر، هناك

ضيق في التعبير. التعبير بالخالق و المخلوق هو بيان يتسق و مذاق العامّة، و هو أفضل من الصيغ التعبيرية أعلاه، بيد أنّ الأفضل منه هو التجلّي، و هو إلى ذلك أقرب لذلك المعنى الذي لا يمكن التعبير عنه بشي ء» «2».

تموج المعاني في صدر العارف و تتدافع في نفسه، فتضيق عندئذ اللغة عن الاستيعاب و تقصر وسائل الأداء، و المطلوب قبل المبادرة إلى التكفير و الرمي بالجهل، تفهّم الحالة و استيعابها. يتساءل الإمام: «لو أردت أنت أيضا أن تعبّر عن هذا المعنى، فكيف تعبّر؟ أفهموا ما ذا يقول اولئك [العرفاء] و ما هي معاناتهم و ما الذي يضطرم في قلوبهم، بحيث يعجزهم ذلك عن التعبير إلّا بهذه الصيغ التي يستعملونها فعلا، و قد يحصل في حالات أن يتوهّج قلبه [العارف] بالنور، فيقول:

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 183- 184.

(2)- نفس المصدر: 183.

فهم القرآن، ص: 608

كلّ شي ء هو [اللّه]. [و عليكم أن لا تستوحشوا من هذا التعبير] و أنتم تقولون في أدعيتكم: علي عين اللّه، أذن اللّه، يد اللّه «1»، و هي صيغة معروفة أيضا، فما هو معناها يا ترى؟ إنّه التعبير نفسه الذي يستخدمه اولئك [العرفاء].

في روايتكم أيضا أنّ الصدقة التي تعطيها الفقير، تقع بيد الربّ «2». و في القرآن أيضا: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى «3»؛ فما معنى ذلك؟ هل معنى ذلك أنّ اللّه جاء و مدّ يده هكذا [و هنا رفع الإمام يده بحالة الاستعطاء] إنّه المعنى الواحد ذاته الذي تقولونه بأجمعكم» «4». هنا يعود الإمام إلى ما كان أكّده مطلع حديثه من أنّ جميع الاتجاهات تتحدّث عن حقيقة واحدة، و لكن بصيغ تعبيرية مختلفة.

آخر ما يومئ إليه الإمام في هذا

الصدد، أنّ العرفاء يعرفون مغبّة استخدام هذه اللغة، و العواقب الوخيمة التي تترتب عليها، و هي تجرّ إلى تجهيلهم و تفسيقهم بل و تكفيرهم من قبل بعض أهل العلم، بيد أنّهم لم يرفعوا اليد عن ذلك إخلاصا للحقيقة التي بذلوا أنفسهم فداء لها: «حسنا، إنّ هذا الإنسان [العارف] مطّلع على ما تصير إليه العواقب.

لكنّه مع ذلك لم يتنصّل عن مقالته، لأنّه لا يريد التضحية بالحقيقة لحساب

______________________________

(1)- عن هاشم بن أبي عمارة الجنبي، قال: «سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام، يقول: أنا عين اللّه، و أنا يد اللّه، و أنا جنب اللّه، و أنا باب اللّه». (الكافي 1: 145/ 8)

(2)- إشارة إلى الحديث الشريف الذي ينصّ أنّ الصدقة «تقع في يد الربّ تبارك و تعالى قبل أن تقع في يد العبد». (الكافي 4: 3/ 5)

(3)- الأنفال (8): 17.

(4)- تفسير سورة حمد: 184- 185.

فهم القرآن، ص: 609

نفسه، بل جعل نفسه فداء الحقيقة». ثمّ ينعطف للتأكيد مجدّدا أنّ لغة العارف هي لغة الأئمة، بحيث لو أنّنا فهمنا مغزى لغته لاستعملناها أيضا: «لو فهمنا كلامه [العارف] لعبّرنا نحن أيضا بمثلها، تماما كما عبّر القرآن بذلك، و كما استخدم الأئمة هذه الصيغة التعبيرية أيضا» «1». كما يقول أيضا في تأكيد النتيجة ذاتها: «من هذه الجهة يعدّ هذا النمط من التعبير أقرب إلى الكتاب و السنّة في إفادة المعنى، من الأنماط التي يستخدمها الآخرون» «2».

اللاءات الثلاثة

اشارة

يرى الإمام أنّ جزءا عظيما من البلاء العميم الذي نزل و ينزل في أوساط المؤمنين و بين أهل العلم، إنّما ينشأ من الإنكار، و عدم فهم كلام الطرف الآخر، ممّا يجرّ إلى ضروب التهم من استخفاف و تجهيل و رمي بالفسوق و التكفير.

لهذا كله يتصدّى سماحته

بحزم لهذه الحالة، و يدعو إلى ميثاق شرف يعيد تأسيس الموقف على أفق آخر، يقوم هذا الميثاق على ثلاثة لاءات، هي: لا للإنكار، لا للتجهيل، و لا للتكفير.

لم يكن بمقدوري أن أعرف على وجه الدقّة عدد المرّات التي كرّر بها الإمام هذه اللاءات الثلاثة في كتبه و دروسه و خطبه، لكنها بالتأكيد تتجاوز المائة مرّة نسعى أن نستعرض نماذج منها، فيما يلي:

______________________________

(1)- نفس المصدر: 185.

(2)- نفس المصدر: 185- 186.

فهم القرآن، ص: 610

1- كتاب «آداب الصلاة»:

في نصّ هو من غرر نصوصه على هذا الصعيد، يذهب إلى أنّ إنكار مقامات أهل اللّه هو «سرّ منشأ جميع ضروب المصائب و الشقاوات» «1».

و في نص آخر من الكتاب ذاته يشبّه من ينكر المقامات المعنويّة لأهل اللّه بالكامل، و يرميهم بالخطإ و العبث و البطلان، و يتهمهم بالهراء و الشطح؛ بأنّه من الأموات «2»، و هو يستشهد بقوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «3»، و إنّه غارق بالظلمات: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «4».

2- الرسائل:

في رسالة كان قد بعث بها إلى نجله السيّد أحمد في شهر رجب من عام 1402 ه، جاءت وصيته له بعدم الإنكار عدّة مرّات، منها: «اسع أن لا تنكر المقامات المعنوية و العرفانية ما دمت لست من أهل المقامات المعنوية، فإنّ من أخطر مكايد الشيطان و النفس الأمّارة بالسوء التي تصدّ الإنسان عن بلوغ جميع المدارج الإنسانية و المقامات المعنوية، هي دفع الإنسان إلى إنكار السلوك إلى اللّه و الاستخفاف أحيانا، ممّا يجرّ إلى الخصومة و مناهضة هذا الأمر» «5».

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 168، و النص يعود إلى 1361 ه.

(2)- نفس المصدر: 166- 167.

(3)- فاطر (35): 22.

(4)- النور (24): 40.

(5)- وعده ديدار: 81- 82، المظاهر الرحمانية: 14.

فهم القرآن، ص: 611

كما يقول له اخرى: «ولدي العزيز، هدفت ممّا ذكرته لك- رغم أنّني لا شي ء بل أقلّ حتّى من اللاشي ء- أن ألفت نظرك إلى أنّك إن لم تبلغ مقاما ما، فعليك أن لا تنكر المقامات المعنوية و المعارف الإلهية» «1». ينبع حرص الإمام في حثّ ولده و من يتعاطى نصوصه إلى عدم الإنكار، من حقيقة أنّ الإنكار من واقع الجهل بالشي ء الذي ينكره

و عدم معرفته به، هو عيب بنفسه ينبغي للعاقل و من هو من أهل العلم أن ينأى عنه. ثمّ إنّ هذا الإنكار يتحوّل إلى ستار كثيف و حاجب نفسي يمنع الإنسان من التحرّك إلى الأمام و التطلّع لما هو أعلى ممّا عنده، و الأهمّ من ذلك كلّه أنّ إنكار ما عند أهل المعرفة قد يجرّ إلى إنكار ما جاء به القرآن و الإسلام نفسه، أو إنكار بعض الحقائق و مراتب المعاني على أقل تقدير، لأنّ: «عرفاء الإسلام العظام إنّما أخذوا ما قالوه منه، فكل شي ء إنّما أخذوه من الإسلام و من القرآن الكريم، و المسائل العرفانية الموجودة في القرآن الكريم لا وجود لها في أيّ كتاب آخر» «2».

في السياق ذاته، و عند ما ألحّت عليه السيّدة فاطمة طباطبائي زوجة نجله السيّد أحمد، أن يكتب لها بعض المعاني و الأفكار و اللفتات، استجاب الإمام لإصرارها، و كتب لها رسالة تضمّنت الوصية ذاتها: «حذار أن تنكري مقامات العارفين و الصالحين، إذا لم تكوني أهلا للحكم أو لم تبلغي ذلك، و إياك أن تعتبري مخالفتهم من الواجبات الدينية» «3». في موضع آخر من هذه الرسالة أعاد الإمام تكرار القاعدة التي تحدّث عنها غير مرّة، و التي تفيد أنّ الإنكار يغلق باب المعرفة، و يتحوّل إلى حجاب يصدّ الإنسان عن الارتقاء، و يدفعه للمراوحة في مكانه،

______________________________

(1)- وعده ديدار: 83، المظاهر الرحمانية: 16.

(2)- المظاهر الرحمانية: 15.

(3)- نفس المصدر: 52- 53.

فهم القرآن، ص: 612

و القناعة بما عنده، إذ «لا يمكن سلوك طريق المعرفة بروح الإنكار» «1».

بيد أنّ الأهمّ من ذلك كله، أنّ الإمام جدّد قناعته في هذا النص الذي كتبه في شهر رمضان من عام 1404 ه، إلى أنّ العرفان

أقرب من غيره إلى الوحي، بل هو مستمد منه: «فإنّ كثيرا ممّا يقولونه [العرفاء] مشار إليه في القرآن الكريم على نحو خفي أو إجمالي، و هو موجود بشكل أكثر وضوحا في أدعية أهل العصمة و مناجاتهم، و نحن الجاهلون إنّما ننبري لمخالفة ما يقولون لأنّنا محرومون من فهم هذه الأسرار» «2».

في عام 1407 ه أهدى الإمام طبعة جديدة من كتابه «سرّ الصلاة» إلى ولده أحمد، و قد تحول الإهداء إلى مقدّمة لهذه الطبعة، و هنا أيضا جدّد سماحته وصيته التليدة إلى نجله، لكي لا ينكر مقامات أهل المعرفة، و شدّد تحذيره له، بقوله: «بني، إنّ أوّل ما اوصيك به، أن تحذر إنكار مقامات أهل المعرفة، لأنّ الإنكار سنّة الجهّال، و احذرك من معاشرة منكري مقامات الأولياء، لأنّ اولئك قطّاع طريق الحقّ» «3».

3- مصباح الهداية:

تحظى دعوة الإمام في رفض منطق الإنكار و التجهيل و الاستخفاف بالآخر و الجنوح نحو تفسيقه و تكفيره؛ تحظى بجذور ضاربة في جميع مؤلّفاته التي صنّفها في وقت مبكر من حياته العلمية قبل التصدّي للمرجعية الفقهية، و بعد ذلك للعمل

______________________________

(1)- نفس المصدر: 53.

(2)- نفس المصدر.

(3)- سرّ الصلاة: 28 من المقدّمة، و راجع بالعربية أيضا: موعد اللقاء: 127.

فهم القرآن، ص: 613

السياسي و النهضوي.

ففي واحد من مؤلّفاته المبكرة الذي يعود إلى عام 1349 ه، تحدّث الإمام عن قاعدة بسيط الحقيقة كلّ الأشياء و ليس بشي ء منها، و انتهى إلى أنّ الأنساق المعرفية الثلاثة من عقل و نقل و كشف أو فلسفة و بيان و عرفان قد تضافرت في التدليل على صحّة القاعدة، و بتعبيره: «و هذه قاعدة ثابتة في مسفورات أصحاب الحكمة المتعالية، مبرهنة في الفلسفة الإلهية، مكشوفة ذوقا عند أصحاب القلوب و أرباب

المعرفة، مسدّدة بالآيات القرآنية، مؤيّدة بالأحاديث المرويّة» «1»، ثمّ انعطف إلى القول بأنّ العرفاء بعد أنّ عاشوا هذه الحقيقة ذوقا و عيانا و لامسوها شهودا و وجدانا، بادروا إلى التعبير عنها بلغة الاصطلاح حبّا للناس و شفقة بهم، و رغبة في أن يشاركهم الآخرون ما ذاقوه، لكن الصيغ الأدائية جاءت معتاصة على الفهم و غريبة على المذاق العام، لضيق اللغة عن استيعاب المشاهدات العرفانية و الذوقيات الوجدانية، و عدم قدرتها على التعبير عن تلك الحقائق و ما يجيش في نفس العارف و صدره، الأمر الذي وضع العرفاء و قطّاعا من الحكماء في دائرة سوء الظنّ، و جعلهم عرضة لمختلف الاتهامات.

هنا يتصدّى الإمام لمواجهة هذه الحملة، و يحذّر قارئه من الانزلاق إليها، و هو يوصيه: «و اوصيك أيّها الأخ الأعزّ، أن لا تسوء الظنّ بهؤلاء العرفاء و الحكماء الذين كثير منهم من خلّص شيعة علي بن أبي طالب و أولاده المعصومين عليهم السّلام، و سلّاك طريقتهم و المتمسّكين بولايتهم. و إيّاك أن تقول عليهم قولا منكرا، أو تسمع إلى ما قيل في حقّهم، فتقع فيما تقع» «2». على هذا المنوال تتكرّر وصايا الإمام بهذا

______________________________

(1)- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 36.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 614

المضمون، في مواضع متعدّدة من الكتاب «1».

4- الأربعون حديثا:

بعد قرابة عقد من السنوات تناول الإمام الفكرة ذاتها في كتاب آخر، فعند حديثه عن العلوم و أنّها ثلاثة هي العلوم العقلية التي ترتبط بالمعارف (الفلسفة)، و علم الأخلاق و التزكية و تطهير القلوب (العرفان)، ثمّ العلم الظاهر الذي يرتبط بالتعبديّات و الآداب الشرعية (الفقه)، حذّر سماحته من لجوء ممثلي هذه العلوم للطعن ببعضهم أو الرفض و الاستخفاف، خاصّة حين يكون ذلك من

منطلق الجهل بما عند الآخر: «لا يحقّ لأحد من العلماء في هذه العلوم أن يطعن في الآخر، و لا ينبغي للإنسان إذا جهل علما أن يكذّبه و يتطاول على صاحبه. فكما يعدّ العقل السليم التصديق من دون تصوّر، من الأغلاط و القبائح الأخلاقية، فكذلك حال التكذيب من دون تصوّر، بل هو أسوأ و قبحه أعظم» «2».

5- سرّ الصلاة:

أثناء تأليفه كتاب «سرّ الصلاة» لم يشأ الإمام أن يهمل الفرصة المتاحة أمامه في معالجة الإشكالية ذاتها التي ترمي بالتوتر بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء، فكان أن سجّل محذّرا من محاصرة العرفان و عزله: «من الامور المهمّة التي ينبغي التنبّه لها، و يأخذها الإخوان المؤمنين بنظر الاعتبار خاصّة أهل العلم- كثّر اللّه أمثالهم-

______________________________

(1)- راجع مثلا: مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 35 و 86 و 90 و مواضع اخرى.

(2)- شرح چهل حديث: 389.

فهم القرآن، ص: 615

هي: إذا ما وقفوا على كلام من بعض علماء النفس و أهل المعرفة فلا يرموه بالفساد و البطلان و لا يستخفّوا بأهله و يسيئوا لهم بدون حجّة شرعية، لمجرّد أن لا تألفه أسماعهم، أو لأنّه يرتكز إلى اصطلاحات يجهلونها. كما عليهم أن لا يتوهّموا بأنّ أي إنسان ذكر في حديثه مراتب النفس و مقامات الأولياء و العرفاء و تجليات الحقّ و الحبّ و المحبّة و ما إلى ذلك من المصطلحات المتداولة عند أهل المعرفة، هو إنسان صوفي أو مروّج للصوفية أو ينسج الدعاوى من عند نفسه، من دون أن يكون لكلامه أساس من برهان عقلي أو حجّة شرعية. كلا، فلعمر الحبيب، إنّ كلماتهم هي شرح بيانات القرآن و الحديث» «1».

6- تفسير سورة الحمد:

عند ما نعود إلى الدروس التفسيرية التي ألقاها الإمام عام 1979 م، نجد من سماحته إلحاحا عجيبا في التحذير من الإنكار و الرمي بالتجهيل و الاتهام بالتكفير، فقد كانت تحذيراته تأتي الواحد تلو الآخر، بصيغ و أساليب متعدّدة، بنبرة قاطعة و لغة حاسمة. يقول مثلا: «لما ذا هذا الإنكار لما عند الأولياء؟ إنّ القلب الذي ينكر، سيغدو قلبا محروما بالكامل من ورود الحقائق و ولوج [عالم] الأنوار». يضيف

بأنّ من لا يعرف هذه الحقائق، لا يقول: لا أعرف، و إنّما يقول: لا وجود لها أساسا، و يتهم أهل المعرفة «بأنّهم ينسجون خيالا من عندهم» فيصير محروما، مع أنّ:

«هذه الحقائق التي ينعتها المنكر بالخيال و الوهم موجودة في القرآن و السنّة، فلما ذا ينبغي للإنسان أن ينكرها؟» «2».

______________________________

(1)- سرّ الصلاة: 38.

(2)- تفسير سورة حمد: 171.

فهم القرآن، ص: 616

يبلغ النص الخميني ذروته حينما يصف هذا الإنكار و الجحود بأنّه مرتبة من مراتب الكفر، لكن ليس بمفهومه الشرعي: «إنّها مرتبة من مراتب الكفر، لكن ليس الكفر الشرعي. فمن مراتب الكفر أن ينكر الإنسان ما هو مجهول بالنسبة له. إنّ جميع مصائب البشرية ناشئة من جحودها لما لا تستطيع إدراكه من الواقعيات، فحيث تعجز عن إدراك ما بلغه أولياء اللّه تبادر إلى الجحود، و الكفر الجحودي هو أسوأ أقسام الكفر. الخطوة الاولى التي ينبغي للإنسان أن يلتزم بها، هو أن لا يجحد الأمر الواقع فعلا، الذي له وجوده في الكتاب و السنّة، كما نطق به الأولياء، و عبّر عنه العرفاء و الفلاسفة كلّ بحسب إدراكه، فإذا ما عجز الإنسان عن إدراك هذا الواقع، فلا ينبغي له أن ينكر ... إذا ما أنكرنا ما جاء به الأنبياء و الأولياء و الآخرون، فلا نستطيع أن نتحرّك صوب الخطوة الثانية ... فهذا الإنكار يحرم الإنسان من مسائل كثيرة» «1».

يستمر الإمام على هذا المنوال، و هو يكرّر بين الفينة و الاخرى رفضه لمنطق الإنكار و التجهيل و التكفير، و يسجّل بأنّه لا معنى لهذه اللغة التي تزرع التوتر و الاختلاف و تورث الحرمان: «ليس هناك اختلاف يدعو إلى أن تكفّر كلّ مجموعة المجموعة الاخرى، و ترميها بالجهل» «2». كما يقول

اخرى: «لا تظنّوا بأنّ الإنسان إذا ما ذكر مسألة عرفانية، أو نطق بكلام عرفاني فهو كافر، بل انظروا إلى ما قال.

على الإنسان أن يفهم المطلب الذي يقوله العارف، فإذا ما فهمه و أحاط بأطرافه فلا أظنّ أنّه سينكر عليه كلامه» «3».

______________________________

(1)- نفس المصدر: 171- 172.

(2)- نفس المصدر: 184.

(3)- نفس المصدر: 186.

فهم القرآن، ص: 617

ما يركّز عليه الإمام أنّ لغة الإنكار تحرم صاحبها من الحصول على المزيد و تجعله قانعا بما عنده، و من ثمّ تؤدّي إلى نشوب الاختلاف و القطيعة، و تفضي إلى الحرمان من خير عميم. كما يؤكّد أيضا، أنّ الإنكار و إن كان يتجه إلى العرفاء مباشرة، إلى أنّه إنكار لما في الكتاب و السنّة و من ثمّ فهو ردّ عليهما «1».

لا ازكّي الجميع!

قد يتداعى من موقف الإمام الداعي للمصالحة بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء و التوفيق بين أنساق المعرفة الرئيسية، معنى يفيد إسباغ الصحّة على جميع المعطيات التي تفرزها الفلسفة و العرفان و الفقه، أو الدفاع المطلق عن كلّ الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء، مع أنّنا نعرف بأنّه ليست معطيات تلك العلوم و المعارف وحيا منزلا و لا أصحابها معصومون.

الحقيقة أنّ الإمام ينتبه بنفسه إلى هذه النقطة، و قد صرّح مرّات عديدة بما يدفع هذا الإشكال، و أنّه ليس بصدد إشاعة جميع ما تفرزه عقول الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء و تصحيح نتاجاتهم كلّها، أو الدفاع المطلق عن جميع المشتغلين في هذه الحقول المعرفية. من ذلك مثلا قول سماحته: «الآن و أنا أريد المصالحة بين هذه الطوائف [الثلاث] و إلقاء حالة الوئام بينهم، فيما أذهب إليه من أنّهم يفعلون شيئا واحدا، فلا أقصد من ذلك أن أنزّه جميع الفلاسفة مثلا، أو

كلّ العرفاء، أو الفقهاء كافّة. كلا، ليس هذا هو المقصود ... و إنّما مقصودي أنّ بين المنتمين لهذه الطوائف بأجمعها أشخاص كثيرون منزّهون، و أنّ هذا الاختلاف المدرسي [العلمي] الحاصل

______________________________

(1)- نفس المصدر: 172 و 187.

فهم القرآن، ص: 618

هو على حدّ الاختلاف المدرسي الكائن بين الأخباري و الاصولي، إذ يبلغ الأمر أحيانا إلى الحدّ الذي ربّما يكفّر فيه الأخباري الاصولي، و يرمي الاصولي الأخباري بالجهل» «1».

في موضع آخر يثير الإمام النقطة ذاتها على نحو آخر، يدفع فيه أي و هم يمكن أن يساور الإنسان، في أنّ ما يقصده هو إسباغ الصحّة على جميع ما ذهب إليه الفلاسفة أو العرفاء، حيث يستدرك و هو في ذروة دفاعه عن العرفان و العرفاء، بقوله: «ذكرت [سابقا] بأنّني لا أريد أن أقول إنّ الجميع أصابوا، إنّما أريد أنّهم ليسوا مخطئين جميعا». ثمّ يضرب مثالا لذلك من واقع دفاعه عن العلماء و طلاب العلوم الدينية، و يضيف: «عند ما اؤيد العلماء و طلاب العلوم الدينية، فلا أقصد من ذلك أنّ كلّهم سواء» و هكذا الحال بالنسبة للعرفاء و الفلاسفة، و من ثمّ فإنّ ما يقصده الإمام هو عدم اللجوء إلى مصادرة الجميع بهذه الذريعة أو تلك، و بنص تعبيره:

«اعتراضي، هو أن لا تبادروا إلى رفض الجميع، و لا أقصد أنّه ينبغي لكم قبول الجميع» «2».

ما يرمي إليه الإمام من مشروع التسوية هذا، هو إزالة العقبات من الطريق، و فتح سبيل المعرفة أمام الجميع: «ما أركّز عليه أساسا هو إزالة الالتباس، و رفع هذا الاختلاف المدرسي الموجود بين أهل العلم، على النحو الذي لا يتحوّل هذا الالتباس و الاختلاف إلى عقبة تحول دون المعارف. فالإسلام ليس عبارة عن الأحكام الفرعية و

حسب، فهذه فرع و الأساس شي ء آخر، و لا ينبغي لنا أن نضحّي

______________________________

(1)- نفس المصدر: 176- 177.

(2)- نفس المصدر: 186.

فهم القرآن، ص: 619

بالأصل في سبيل الفرع» «1». ثمّ يواصل حديثه بروح الحرص ذاتها، ليقول بعد مقاطع: «إنّ أشدّ ما أركز عليه هو أسفي على طائفة من أهل العلم، هي من أهل الصلاح أن تبقى [نتيجة القطيعة و الالتباس و سوء الظنّ بالفلسفة و العرفان] محرومة من مسائل معيّنة» «2».

حدود العرفان و وظيفته

على أنّ المسألة تكتسب توازنا أكبر حين نعيدها إلى خلفيات أوسع ترتبط بموقف الإمام من الفلسفة و العرفان. فالإمام لا يتبنّى الفلسفة كموقف مطلق و على طول الخطّ، بحيث تكون هي الصحيحة وحدها و في جميع الدوائر، و على مدار حركة الإنسان، بل يؤمن بدورها في إطار منطقتها الخاصّة التي ترتبط غالبا باصول المعتقدات، و دورها البرهاني الذي تنهض به لا يتخطّى دائرة الإثبات و حسب. أمّا ما وراء دائرة الإثبات التي يختصّ بها العقل، فهناك دائرة الإيمان التي يكون رائدها القلب.

ثمّ إنّ للإمام لمحات في نقد الفلسفة خاصّة في إطارها اليوناني، و حتّى في إطارها المشائي داخل العصر الإسلامي نفسه.

و عند ما ننتقل إلى العرفان، فإنّ ذاكرتنا ممّا مرّ علينا في فصول متعدّدة من الكتاب، لا بدّ و أنّها تسعفنا بنقدات لاذعة وجّهها الإمام إلى هذا الخط محذّرا من الشطحات و جهالات الصوفية و التلبيسات. على أنّ العرفان ليس هدفا بحدّ ذاته

______________________________

(1)- نفس المصدر: 187.

(2)- نفس المصدر: 189.

فهم القرآن، ص: 620

خاصّة الجانب النظري منه، و كم حذّر الإمام منذ كتاباته الاولى مطلع شبابه حتّى رسائله العظيمة التي كتبها آخر حياته، من الانزلاق إلى الاطر النظرية و لغة الاصطلاح و جعل ذلك بديلا عن

الغاية المنشودة، المتمثّلة في يقظة الإنسان، و لسيره على خطّ متكامل، و أن يكون كلّ شي ء للّه و في سبيله سبحانه.

لقد قدّم الإمام في أحد كتبه تفسيرا للآيات الاولى من سورة الحديد، فبلغ في هذا التفسير خلاصة تفيد بأنّه لا يسع الإنسان أن يركن إلى رأيه الخاص أو إلى الظهور العرفي في التعاطي مع المعارف التوحيدية المركوزة في القرآن و الروايات و أدعية الأئمّة و مناجاتهم، و إنّ مثل هذا التصوّر لو حصل فهو محض و هم فارغ و وسوسة شيطانية، نصبها الشيطان كمينا للإنسان كي يصدّه عن المعارف و يؤصد أمامه أبواب الحكمة و المعرفة، و يدفعه إلى وادي الضلال و الحيرة «1». عند ما بلغ الإمام هذه النقطة في منهج التعامل مع القرآن، شعر و كأنّ في كلامه تسويقا للفلسفة و العرفان و دعاية لهما، لذلك بادر إلى تصحيح هذا التصوّر و أنّه لا يهدف بتاتا الدعوة إلى الفلسفة و العرفان قدر ما يرى فيهما وسيلة و حسب، حيث أضاف قائلا:

«اللّه شهيد على ما أقول و كفى به شهيدا، إنّني لا أرمي من هذا الكلام التشجيع على الفلسفة التقليدية أو العرفان التقليدي و إذكاء جوّهما، بل المقصود دفع إخواني المؤمنين بخاصّة أهل العلم نحو معارف أهل البيت عليهم السّلام، و حثّهم على الالتفاف حول القرآن و أن لا يغفلوا عنه و ينسوه. فالهدف الأساسي لبعث الرسل و إنزال الكتب، إنّما يتمثّل بالمقصد الأسمى المتجسّد بمعرفة اللّه؛ هذه المعرفة التي تتوفّر في ظلّها تمام سعادة الدنيا و الآخرة» «2».

______________________________

(1)- راجع: شرح چهل حديث: 660.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 621

هذه النظرة التي تتعامل مع الفلسفة و العرفان في نطاق وظيفي بحت و بوصفهما وسيلة

و حسب، تؤكّدها نصوص كثيرة اخرى يتجه فيها الإمام إلى نقد الشطحات و نزعات التراكم العلمي و الاصطلاحي التي تنصب العرفان أو الفلسفة بوصفهما هدفين مطلوبين لنفسهما، و كذلك تعريض سماحته العنيف بذوي الادّعاءات الفارغة. العارف أولى الناس بمراقبة نفسه مراقبة شديدة، و التوغّل في تلافيفها الباطنية، حتّى لا تفلت أزمّتها من قبضته، و يتحوّل مساره إلى الضدّ تماما.

فمع غفلة هذا الإنسان و غياب الرقابة الدائمة «ربّما انزلق إلى مسلك الشياطين أو البهائم و السباع، و تحوّل ما ينبغي أن يكون رصيدا لكمال الإنسانية و بلوغ المراقي العالية إلى الضدّ و أعطى نتائج عكسية، و جرّ الإنسان إلى الشقاوة و دفعه نحو هاوية مظلمة، كما هو الحال في بعض أهل العرفان الاصطلاحي، حيث رأينا اناسا انتهت بهم هذه الاصطلاحات و الغور فيها إلى الضلالة، و جعلت قلوبهم منكوسة و بواطنهم مظلمة، كما صارت ممارستهم للمعارف سببا لقوة أنانيّتهم و إنّيتهم، و صدرت منهم الدعاوى المشينة و الشطحيات غير اللائقة» «1».

من الأمراض التي يتعرّض لها المنخرطون في هذا المسلك أكثر من غيرهم هو تضخّم الذات و التعالي على العباد، لذلك فهؤلاء على خطر عظيم، بحيث يكون الواحد منهم معرّضا لسقطات مريعة و الرجوع القهقري سنوات. في تحليلات نفسية نافذة يحذّر الإمام من هذه الحالات، و هو يذكر أنّ إنسانا مثل هذا يقوده حبّ النفس إلى «الغفلة عن عيوبه ... و ربما يعجب بنفسه و يتكبّر على عباد اللّه و يعدّ سائر الخلق بعيدين عن ساحة قدس الحقّ، و يرى نفسه من المقرّبين و من خلّص

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 21.

فهم القرآن، ص: 622

عباد اللّه، و ربما يبتلى بالرياء و سائر المفاسد العظيمة» «1».

كما قد يهوي الإنسان و

هو يرد هذا الوادي بشباك المصطلح و التفنّن بضروب الألفاظ، بعد أن يحسب أنّ ذلك علم ينفعه فيما هو شراك يفرض بقيوده عليه فيخلد به إلى الأرض. و هذا ما حذّر منه الإمام، بقوله: «ثمّ طائفة اخرى اشتغلت بالكسب العلمي و بتحصيل المعارف علما، لكنّها اكتفت عن حقائق المعارف و مقامات أهل اللّه بالاصطلاحات و الألفاظ و العبارات المنمّقة، و قيّدت نفسها و جمعا من المساكين [المتأثّرين بمسلكها أو المخدوعين بها] بسلسلة من الألفاظ و الاصطلاحات، و اقتنعت بالكلام بديلا عن جميع المقامات. ثمّ بين هؤلاء زمرة تعرف حقيقة نفسها، لكنّها اتخذت من هذه المصطلحات التي لا روح فيها وسيلة للارتزاق و كسب المعيشة و الترؤّس على عدّة مساكين، حيث راحت تصيد القلوب الصافية لعباد اللّه بالألفاظ الخدّاعة و الأقوال الجذّابة». ثمّ ينعطف الإمام لإصدار حكم عنيف ضدّ هؤلاء، و هو ينعتهم بقوله: «هؤلاء شياطين إنسية ضررهم على عباد اللّه ليس بأقلّ من إبليس اللعين ... هؤلاء غاصبوا منزل الحقّ [قلوب العباد] و مخرّبو الكعبة الحقيقة، ينحتون أوثانا و ينصبونها في قلوب عباد اللّه، هذه القلوب التي هي الكعبة بل هي البيت المعمور، هؤلاء مرضى يتلبّسون بزي الطبيب و يبلون عباد اللّه بضروب الأمراض المهلكة» «2».

في رسائله التي كتبها آخر حياته ظلّ الإمام يطرق على الأوتار ذاتها، بلغة صريحة و واضحة، ففي إحداها و بعد أن حذّر من مغبّة الإنكار، عاد ليقول: «و لست

______________________________

(1)- نفس المصدر: 89.

(2)- نفس المصدر: 168- 169.

فهم القرآن، ص: 623

أريد من قولي هذا الدفاع عن بعض ذوي الادّعاءات الجوفاء» «1». و عند ما طلبت منه السيّدة فاطمة طباطبائي «2» تعريفا بأسماء الكتب العرفانية، أجابها بالقول:

«ليكن سعيك في رفع الحجب لا

بجمع الكتب. ثمّ أسألك، إذا اقتنيت الكتب العرفانية و الفلسفية و رحت تحملينها من مكان إلى آخر، أو صرت أرشيفا للألفاظ و الاصطلاحات و خدعت جلساءك في المحافل بعرض ما في جعبتك من المعلومات، و أثقلت ظهرك و أنت مخدوعة بخداع الشيطان و النفس الأمّارة التي تعد أشدّ خبثا من الشيطان، و أصبحت نتيجة مكر إبليس زينة المجالس، و تسرّب إليك لا سامح اللّه- غرور العلم و العرفان- و لا ريب أنّ ذلك سيحصل؛ أسألك هل إنّك ستقلّلين بهذه الأوزار الكثيرة من الحجب التي تعترضك أم إنّك ستزيدين فيها؟ لقد أنزل اللّه تعالى الآية الشريفة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ «3» لتحذير العلماء إلى أنّ محض اختزان العلوم حتّى إذا كان من علوم الشرائع و التوحيد، لا يخفّف الحجب بل يزيدها» «4».

ما يحرص عليه الإمام هو التوازن في النظرة إلى العلوم و مناهج المعرفة في إطارها الوظيفي المحض، بحيث لا تتعدّى هذا الإطار فتنقلب إلى ضدّها، و تتحوّل إلى أوثان و غايات مطلوبة لذاتها، فيكون ضررها أكثر من نفعها. و من ثمّ لا تعني تحذيرات الإمام المتتالية هذه الصدّ عن انتهال المعرفة، و دراسة العلوم بما في ذلك

______________________________

(1)- المظاهر الرحمانية: 53.

(2)- زوجة السيّد أحمد الخميني، و قد صدرت لها دراسة تحليلية مقارنة عن «الحب» بين ابن عربي و الإمام الخميني. راجع: حديث الحب، مصدر سابق.

(3)- الجمعة (62): 5.

(4)- المظاهر الرحمانية: 49- 50.

فهم القرآن، ص: 624

الفلسفة و العرفان، لذلك لا يلبث و أن يستدرك مذكّرا: «لا أقول ابتعدي عن العلم و العرفان و الفلسفة و اقضي عمرك بالجهل، فإنّ هذا انحراف، لكن أقول اجهدي أن يكون دافعك إلهيا، و إذا عرفت شيئا من العلم فليكن للّه

و لتربية عباده، لا للرياء و التظاهر، فتصبحي- لا سامح اللّه- من علماء السوء الذين يؤذون أهل النار بريحهم النتنة» «1».

حدود البرهان و وظيفته

من الأخطار الكبرى التي تلابس طريقة التفكير الإسلامي هي تحويل الامور و الأشياء و الأشخاص و المناهج إلى مطلقات، ثمّ إلى أوثان تعبد من دون المطلق جلّ جلاله.

فمع أنّ لكلّ شي ء حدّه و وظيفته، إلّا أنّ هذا النزوع يغيّب هذه الحدود و يطمس الوظائف، فيتحوّل ما هو وسيلة إلى غاية، و ما هو جزئي إلى كلي، و ما هو خاص إلى عام، و ما هو غير مقدّس إلى مقدّس، و ما هو غير معصوم إلى معصوم، و ما هو فرع إلى أصل، و هكذا إلى آخر التشويهات و الانقلابات في المعايير التي تنشأ عن ذلك النزوع الخاطئ.

لقد مرّت علينا نصوص مكثّفة للإمام يشيد فيها بدور العقل و ما يضطلع به البرهان خاصّة في حقل المعارف الكبرى التي ترتبط بالمبدإ و المعاد، لكن رأيناه في الوقت ذاته يحذّر من أن يتحوّل البرهان من وسيلة إلى غاية، أو أن يتعدّى دوره و منطقته الخاصّة فيصادر بقية الأدوار و يحذف المناطق الاخرى في الوجود

______________________________

(1)- نفس المصدر: 50.

فهم القرآن، ص: 625

الإنساني العجيب.

لن يطول مكوثنا مع هذه النقطة، إنّما نسعى لإضاءتها عبر نصوص جديدة للإمام صريحة و نافذة. نبدأ بنص هو من غرر نصوص الإمام، فبعد أن يميّز بين الاعتقاد العلمي الناشئ عن الإدراك العقلي و أداته البرهان، و بين الإيمان و التصديق و اليقين و أداته القلب و النفس «1»، و يذكر أنّ الفاصلة بين الاثنين كبيرة، يعود للقول بأنّ «البرهان لا يعدو أن يكون وسيلة و حسب ... هكذا الفلسفة هي وسيلة، و ليست مطلوبة بنفسها»

«2». البرهان وسيلة ضرورية لإثبات الفكرة و إدراكها عقليا، و هو ضروري في هذه المنطقة، بيد أنّه لا يكفي وحده، إذ لا بدّ للإنسان أن ينتقل من دائرة البرهان و الإدراك العقلي إلى دائرة الإيمان و التصديق و اليقين النفسي أو القلبي، و إلّا إذا بقي الإنسان لابثا في دائرة البرهان و الإدراك العقلي لم يشفع ذلك بالإيمان و التصديق و اليقين، فلا قيمة للبرهان، بل سيغدو حجابا يمنع الإنسان من الحركة نحو الإمام و الرقي على سلّم الكمال «3»، فالمطلوب من البرهان أن يتحوّل إلى محطّة على الطريق تدفع بزخمها الإنسان إلى منطقة الإيمان و دائرة القلب.

قد يفترض بعضهم تلازما بين الإدراك العقلي بالشي ء و القطع به برهانيا و بين الإيمان به، بل قد يقطع بهذا التلازم. و هنا لا يدخل الإمام بنقاش تفصيلي و إنّما يحيل إلى الوجدان الذي يحكم بوجود فاصلة كبيرة بين الاثنين، كما يستأنس بإشارات قرآنية على وجود هذه المسافة بين العلم النظري و اليقين الفعلي و العملي، منها قوله سبحانه: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 108- 109.

(2)- نفس المصدر: 112.

(3)- نفس المصدر: 109 و 145 و 164.

فهم القرآن، ص: 626

الْيَقِينِ «1»، فعلم اليقين ما كان بشرط البرهان، و عين اليقين ما كان بالمشاهدة و المعايشة المباشرة، و شتان بين الاثنين، حيث جاء في النبوي الشريف: «ليس الخبر كالمعاينة» «2».

أمّا عن حكم الوجدان في ذلك، فيضرب الإمام مثلا من واقع الأموات، فمع أن ليس للموتى حتّى نشاط ذبابة حية واحدة من الأثر و الفعالية، و مع أنّنا ندرك عقلا أنّ الميت لا يملك القدرة على العودة إلى الحياة مجدّدا قبل يوم

النشور، إلّا أنّنا نمتنع عمليا عن المبيت مع الميت في مكان واحد و لا تستقر نفوسنا و لا ترتاح للمبيت في المقابر و مع الأموات، و ليس ذلك إلّا لأنّ القلب «لم يصدّق بما عندك من علم، و أنّ الإيمان بهذا الأمر لم يحصل لديك» «3».

على ضوء هذا التمييز بين الإدراك النظري و العقلي و البرهاني و بين الإيمان النفسي و اليقين القلبي، يتعامل الإمام مع الفلسفة و البرهان بل العلوم برمّتها تعاملا وظيفيا بحتا بوصفها أدوات و مقدمات و وسائل و خوادم: «إنّ العلوم معبر نحو الهدف و ليست هي الهدف بحدّ ذاته» «4». و حيث تكون كذلك فمن المعقول جدا أن تتحوّل إلى حجب ترين على نفس الإنسان و قلبه، عند ما يحصل الانقلاب الوظيفي و تتحوّل من وسيلة إلى هدف، و يتشبّث بها الإنسان كغاية و لا يتعامل معها كمحطّة ينبغي أن تنقله من دائرة الإدراك العقلي إلى دائرة الإيمان القلبي و ما يترتب على

______________________________

(1)- التكاثر (102): 5- 7.

(2)- ميراث حديث شيعه، الدفتر الثامن: 64، رسالة المكنون في حقائق الكلم النبوية، الحديث 263.

(3)- وعده ديدار: 92، المظاهر الرحمانية: 27.

(4)- وعده ديدار: 93، المظاهر الرحمانية: 28.

فهم القرآن، ص: 627

ذلك من سلوك عملي. و هذا هو مغزى إصرار الإمام على ذلك، بقوله: «فالعلوم الرسمية المتداولة حتّى لو كانت الفلسفة و علم التوحيد، فهي تعدّ حجابا في حدّ ذاتها، تزيد الحجاب غلظا و سمكا كلّما زادت ... و إن شئت فقل: إنّ الفلاسفة و أهل البراهين يزيدون الحجب» «1».

من هنا إصرار الإمام الكبير على أن يقترن تحصيل العلوم بالتهذيب، و أن يبقى الدافع إلهيا، و لا تخرج العلوم عن دائرتها الوظيفية البحتة كخوادم أو

تتحوّل إلى غايات و مطلقات. هذه المعاني المكثّفة عبّر عنها النص التالي للإمام، الذي كتبه في شهر رمضان 1404 ه استجابة لطلب الدكتورة فاطمة طباطبائي: «إنّ الانشغال بالعلوم حتّى العرفانية و التوحيدية منها، إذا كان لمجرّد جمع الاصطلاحات- و هو الحاصل فعلا- و لغاية الحصول على هذه العلوم بذاتها، فذلك لا يقرّب السالك من مقصده بل يبعده عنه (العلم هو الحجاب الأكبر). أمّا إذا كان الدافع للانشغال بتلك العلوم هو عشق الحقّ و البحث عنه سبحانه، و هو أمر نادر للغاية فسيكون العلم حينها مصباح الطريق و نور الهداية ... و لبلوغ النزر القليل من ذلك لا بدّ من التهذيب و التطهير و التزكية» «2».

انطلاقا من هذا كلّه يسجّل الإمام إشارة نافذة إلى المنهج النبوي، من حيث أنّ هذا المنهج لم يلجأ في لغته إلى الأسلوب البرهاني في أقيسته و صيغته الاصطلاحية المألوفة في المنطق و الفلسفة، حين يقول: «إنّنا نعلم جميعا و نرى بأنّ لغة دعوة الأنبياء عليهم السّلام و خلّص الأولياء- سلام اللّه عليهم- لم تكن هي لغة الفلسفة

______________________________

(1)- وعده ديدار: 92، المظاهر الرحمانية: 27- 28.

(2)- المظاهر الرحمانية: 42.

فهم القرآن، ص: 628

و البرهان بنمطهما المألوف السائد، بل همّهم أرواح الناس و قلوبها، و يسعون لإيصال نتائج البراهين و معطياتها إلى قلوب عباد اللّه، و بذل الجهد لهدايتهم من داخل الروح و القلب ... لذا ترى المتربّين على أيدي الأنبياء مؤمنين و عاشقين، في حين أنّ المتربّين على يد الفلاسفة و أهل البرهان و تلاميذهم، هم أصحاب برهان و قيل و قال [نقاش و جدال] لا شأن لهم بالقلب و الروح» «1».

طبيعي لا يعني ذلك غياب المادّة البرهانية و روح الاستدلال العقلي عن

منهج السماء و رسالاتها، خاصّة القرآن الكريم و منهج النبي و أهل بيته، إنّما أن لا ينصبّ التمييز على اللغة و الاطر و المصطلحات، بل يتجه إلى الغاية التي هي بناء الإنسان بجميع مكوّناته، و ليس عقله و حسب، و من ثمّ ليست هذه دعوة لمنابذة العقل و البرهان، كيف و هو يسجّل: «و إلّا فإنّ باب إثبات الصانع و التوحيد و التنزيه و إثبات المعاد و النبوة، بل مطلق المعارف، هو حقّ طلق للعقول و من مختصّاتها» «2». كما يقول في الرسالة ذاتها التي اقتبسنا منها الشواهد السابقة، و منعا لأيّ خطأ أو التباس: «و ليس معنى ما أوردته أن تتجنّب [الخطاب لولده أحمد] الفلسفة و تحترز عن العلوم البرهانية و العقلية و تشيح بوجهك عن العلوم الاستدلالية، فهذا خيانة للعقل و الاستدلال و الفلسفة، بل المقصود أنّ الفلسفة و الاستدلال وسيلة لبلوغ المقصد الأصلي، و من ثمّ ينبغي أن لا تحجبك عن المقصد و المقصود و المحبوب» «3».

الكلام يدور حول مجالين أو منطقتين، فحيث يكون الموضوع هو اصول

______________________________

(1)- وعده ديدار: 92، المظاهر الرحمانية: 27- 28.

(2)- آداب الصلاة: 200.

(3)- وعده ديدار: 92- 93، المظاهر الرحمانية: 28.

فهم القرآن، ص: 629

المعارف، و حيث تكون حاجة لتعميم المعرفة إلى الآخرين، ففارس هذا المجال هو العقل، و الوسيلة الكبرى هي الاستدلال و البرهان.

أمّا في منطقة الإيمان، فالمطلوب توظيف معطيات البرهان لكي تستقرّ في النفس و تتحوّل إلى تصديق و يقين و الأداة الكبرى في ذلك هي التهذيب و التزكية و العمل الصالح. و بذلك نحن لسنا بإزاء مصادرة دور العقل، بل ضبطه في نطاق وظيفته و داخل منطقته.

الأساس المنطقي للتوفيق

اشارة

لا بدّ و أن يستند مشروع التوفيق الخميني إلى

أساس منطقي يسمح لصاحبه تصحيح معطيات الفلسفة و العرفان و الفقه في الجملة، تماما كما هو حال جميع مشاريع التوفيق و المصالحة التي عرفها الفكر الإسلامي على مساره الطويل.

في هذا السياق ننتهي إلى تفسيرين كلّ واحد منهما يستند إلى أساسه الخاص به، و التفسيران هما:

1- التفسير الذي ينطلق من إيمان الإمام بتعدّد مراتب الواقع و النشآت أو العوالم الوجودية، و لنسمّيه التفسير الوجودي.

2- التفسير الذي ينطلق من وحدة الواقع الخارجي، و اختلاف الصيغ الأدائية للتعبير عنه داخل كلّ حقل من الحقول المعرفية، و لنسمّيه التفسير المشائي.

في التفسير الأوّل ليس لدينا مرتبة واحدة للواقع ينبغي للجميع بلوغها، بل هي مراتب متعدّدة، بحيث يعبّر الفقهاء عن مرتبه و الفلاسفة عن اخرى و العرفاء عن ثالثه و هكذا، و جميع هذه الفهوم صحيحة في مرتبتها و بشرط صحّة بقية الضوابط.

أمّا في التفسير الثاني، فأمامنا مرتبة واحدة للواقع هي الصحيحة،

فهم القرآن، ص: 630

و الاختلاف الواقع هو في أسلوب التعبير عنها، إذ يعبّر عنها الفهم الفقهي بلغته الخاصّة، و الفهم الفلسفي بلغته الخاصّة، و هكذا الحال بالنسبة للفهم العرفاني.

1- التفسير الوجودي
اشارة

انطلاقا من هذا التفسير يصحّح الإمام للفيلسوف فهمه في الجملة لإصابته مرتبة من مراتب الواقع، و للعارف لإصابته مرتبة اخرى، و للفقيه أو للفهم الفقهي لإصابته مرتبة غير مرتبة العارف و الفيلسوف و هكذا.

فحين ينطلق الإمام من الرؤية الوجودية التي مرّت علينا تفاصيلها في القسم الأوّل من الكتاب، لن يكون هناك ما يمنعه من تصحيح فهوم الفئات الثلاث، ما دام للواقع عنده مراتب متعدّدة و ليس هو في مرتبة واحدة، إذ ستكون كلّ فئة قد أصابت مرتبة من مراتب ذلك الواقع، و من ثمّ فهي صحيحة في مرتبتها، هذا على

افتراض صحة الضوابط الاخرى، و الحركة في نطاق موازينها المعروفة و اصولها الموضوعة الثابتة.

هكذا يوفّر التصوّر الوجودي أو الرؤية المعرفية العرفانية، أفقا مفتوحا لتصحيح الفهم الفلسفي و الفهم العرفاني و الفهم الفقهي كلّ في مرتبته، انطلاقا من إيمانه بتعدّد مراتب الواقع، و بعد افتراض صحّة ضوابط الممارسة، بحيث ينضبط الفيلسوف في نطاق مبادئ الرؤية الفلسفية و يلتزم باصولها، و ينضبط العارف في إطار الرؤية العرفانية و يلتزم باصولها، و هكذا بالنسبة للفقيه و الفهم الفقهي.

فعند ما يذهب الإمام إلى تصحيح فهمين قرآنيين يسجّل بنفسه أنّهما متباينين، فليس بمقدوره أن يوجّه ذلك منطقيا إلّا على أساس إيمانه بتعدّد مراتب الواقع، ليكون كلّ فهم صحيح في مرتبته. لكي تكون المسألة واضحة نستعيد نص

فهم القرآن، ص: 631

الإمام، الذي يقول فيه: «ينبغي أن يعلم بأنّ هذه المعارف، بدأ من معرفة الذات حتّى معرفة الأفعال، قد ذكرت في هذا الكتاب الإلهي الجامع بصيغة تدركها كلّ طبقة على قدر استعدادها.

فآيات التوحيد الشريفة خاصّة توحيد الأفعال، قد فسّرها علماء الظاهر و المحدّثون و الفقهاء- رضوان اللّه عليهم- و بيّنوها على نحو يختلف كليا و يتباين مع تفسير أهل المعرفة و علماء الباطن لها. و الكاتب [يعني نفسه] يعدّ كلا التفسيرين صحيحا في محلّه» «1».

فمع أنّ هذا النص يتحدث عن اختلاف التفسير تبعا لاختلاف الفهم، إلّا أنّه يستند في نهاية المطاف إلى اختلاف مراتب الواقع و تعدّدها حيث تصيب كلّ فئة من الفئتين المذكورتين مرتبة فيه، فيكون كلاهما صحيحا في مرتبته، برغم تباينهما المعرفي. و من الواضح أنّ الاختلاف في الفهم يرجع في المآل الأخير، إلى أنّ كلّ فئة تنظر لمرتبة من الواقع غير تلك التي تنظرها الفئة الاخرى، و كلتاهما صحيحتان

في مرتبتهما.

نظرية النشآت الثلاث و العلوم الثلاثة

على أنّ المسألة ستكتسب وضوحا أكبر من خلال نصوص تفصيلية للإمام يلجأ فيها إلى مكوّنات الرؤية الوجودية التي ترى الإنسان موازيا للعالم من جهة و للقرآن من جهة اخرى، و أنّ لكلّ واحد من هذه الموجودات الثلاثة نشآت و عوالم و مراتب و درجات، و ظاهرا و باطنا، و غيبا و شهادة إلى آخر ما مرّ معنا تفصيلا، في

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 185.

فهم القرآن، ص: 632

مواضع متعدّدة سابقة. فعند ما يصل إلى الحديث النبوي الشريف: «إنّما العلم ثلاثة:

آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، و ما خلاهنّ فهو فضل» «1» ينفذ إليه من الرؤية الوجودية أو العرفانية للإنسان التي ترى أنّ له نشآت أو عوالم أو مراتب أو درجات ثلاث، و أنّ لكلّ درجة كمالها الخاص بها و عملها الذي يتناسب مع مقام الإنسان في تلك النشأة أو الدرجة أو المرتبة، و بهذا صارت العلوم بمقياس الشريعة ثلاثة بحسب نشآت الإنسان و عوالمه و حاجاته في كلّ نشأة من تلك النشآت و العوالم.

محور هذا التفسير لتنوّع العلوم و المعارف أنّنا بإزاء واقع وجودي متعدّد المراتب، يترتب عليه تنوّع في العلم و المعرفة بحيث يتسق كلّ ضرب من العلم و المعرفة مع مرتبة من مراتب الإنسان و عوالمه الوجودية، و يشبع حاجته للعلم و المعرفة في تلك النشأة أو العالم.

بإزاء هذا التصوّر الوجودي سيغدو تعدد العلوم و المعارف طبيعيا، بحيث تكون كلّها صحيحة- مع افتراض صحة بقية الضوابط- كلّ في مرتبته، و هذا هو الأساس المنطقي للتفسير الأوّل الذي يستند إليه مشروع الإمام في التوفيق و المصالحة، بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء و منهجياتهم في الفهم.

لكي تتّضح الرؤية أكثر خاصّة في طبيعة

العلاقة بين تعدّد نشآت الإنسان و مراتبه أو عوالمه الوجودية و تنوّع العلوم، و ما يترتب على ذلك من تصحيح العلوم الثلاثة؛ البرهان و العرفان و الفقه أو الظواهر النقلية على نحو أعم، نسعى إلى عرض بعض نصوص الإمام الدالّة على هذا المعنى، انطلاقا من شرحه للحديث

______________________________

(1)- الكافي 1: 32/ 1.

فهم القرآن، ص: 633

النبوي الشريف.

يقول: «اعلم أنّ للإنسان- كما تقدّم ذلك سابقا «1»- إجمالا و على نحو عام ثلاث نشآت و له ثلاثة مقامات و ثلاثة عوالم، هي:

الاولى: نشأة الآخرة و عالم الغيب، و مقام الروحانية و العقل.

الثانية: نشأة البرزخ و العالم المتوسّط بين العالمين، و مقام الخيال.

الثالثة: نشأة الدنيا، و مقام الملك و عالم الشهادة.

إنّ لكلّ واحد منها كمالا خاصا و تربية خاصّة و عملا يتناسب مع نشأته و مقامه».

ثمّ يضيف موضّحا: «فإذن جميع العلوم النافعة تنقسم إلى هذه العلوم الثلاثة:

علم راجع للكمالات العقلية و الوظائف الروحية، و علم راجع إلى الأعمال القلبية و وظائفها، و علم راجع إلى الأعمال القالبية [الخارجية و السلوكية] و النشأة الظاهرة للنفس» «2».

ينتقل بعد ذلك لشرح الحقل الذي يتحرّك به كلّ علم من هذه العلوم و ما يتصل به من معارف، و من ينهض ببيان حقائقه، ليفيد ما يلي:

1- بالنسبة للعلم الأوّل الذي يشمل معرفة الذات المقدّسة و صفات الجلال و الجمال، و العوالم الغيبية التجرّدية كالملائكة و أصنافها، و معرفة الأنبياء و الأولياء و مقاماتهم، و العلم بالكتب المنزلة و كيفية نزول الوحي و تنزّل الملائكة و الروح، و العلم بالنشأة الآخرة و رجوع الموجودات إلى عالم الغيب، و حقيقة البرزخ

______________________________

(1)- راجع مثلا: شرح چهل حديث: 5 و 12، شرح دعاء السحر: 25- 26 و 129.

(2)-

شرح چهل حديث: 386.

فهم القرآن، ص: 634

و القيامة، أو ما يعرف بالجملة بعلم المبدأ و المعاد؛ بالنسبة إلى هذا العلم فإنّ الذي يتكفّل به أصالة هم الأنبياء و الأولياء، ثمّ ينهض به بعدهم «الفلاسفة و الأعاظم من الحكماء و أصحاب المعرفة و العرفان» «1».

2- أمّا العلم الثاني الذي يتحرّك في مدار تربية القلب و إعداده و ترويضه و يتكفّل بالأعمال القلبية، و يشمل العلم بالمنجيات و المهلكات الخلقية، و السبيل إلى تحصيل الاولى و الحذر من الوقوع في الثانية؛ فينهض به بعد الأنبياء و الأوصياء عليهم السّلام «علماء الأخلاق و أصحاب الرياضة و المعرفة» «2».

3- ثمّ تأتي العلوم ذات الصلة بإصلاح الظاهر و تقويمه، و تشمل علم الفقه، و علم آداب المعاشرة و تدبير المنزل و سياسة المدن، و هي التي يضطلع بها بعد الأنبياء و الأوصياء «علماء الظاهر من فقهاء و محدثين» «3».

من الواضح أنّ هذه الخريطة في توزيع العلم تبعا لعوالم الإنسان و نشآته الوجودية و حاجاته في مراتب تلك النشآت و العوالم، تنتهي تلخيصا للإقرار بثلاثة حقول معرفية، هي:

1- العلوم البرهانية و الفلسفية، و رادتها الفلاسفة و الحكماء.

2- العلوم الأخلاقية و المعنوية، و رادتها العرفاء و أهل المعرفة و السلوك.

3- العلوم التي ترتبط بالسلوك الإنساني الخارجي و تدبير الحياة، و رادتها الفقهاء و المحدّثون.

و كلّ فئة من هذه العلوم و أهلها ترتبط بعالم أو نشأة أو مرتبة من مراتب

______________________________

(1)- نفس المصدر: 387.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 635

الإنسان، و من ثمّ لا معنى أن يكون أحدها بديلا عن الآخر، أو أن نتصوّر أنّ الإنسان يستغني ببعضها عن بعض، بل هو بحاجة إليها كلّها، بخاصّة حين نأخذ بنظر الاعتبار الترابط

العضوي القائم بين تلك المجالات الوجودية. فالحديث حين يدور عن مراتب وجودية، فهو لا يقصد الإشارة إلى مجالات منفصلة أو عوالم مغلقة و دوائر متقاطعة مع بعضها، بل يعني أنّ العوالم على تعدّدها فهي مترابطة مندمجة و متداخلة، يؤثّر بعضها ببعض، و بتعبير الإمام نفسه: «لا بدّ من معرفة أنّ كلّ واحدة من هذه المراتب الإنسانية الثلاث المذكورة، مترابطة على نحو بحيث تسري آثار كلّ واحدة منها على البقية، من دون فرق في ذلك بين تجاه الكمال أو تجاه النقص» «1».

يسهب الإمام بعد ذلك في بيان ترابط هذه المجالات الوجودية و كيف يؤثّر بعضها في بعض سلبا و إيجابا، فمن يؤدّي عباداته و تكاليفه الظاهرية، فإنّ هذا الالتزام يؤثّر من جهة في روحه و قلبه إيجابيا، و يؤدّي من جهة اخرى إلى تكامل عقيدته. و كذلك إذا أهمل العبادات و التكاليف العبودية الظاهرية، فسيقود ذلك إلى خلل في الوضع المعنوي و الروحي، و إلى اضطراب في البنية العقيدية، و هكذا بالنسبة للمراتب الاخرى.

انطلاقا من هذا الترابط الوجودي، و حاجة الإنسان إلى العلوم بأجمعها و عدم استغنائه بمعارف مرتبة عن معارف بقية المراتب، اتجه الإمام إلى نقد الفئات التي بذرت التوتر بين المجالات المعرفية الثلاثة (البرهان، العرفان، النقل) بالتعصب لأحدها و مناوأة البقية أو التقليل من شأنها، بحيث يشنّع الفيلسوف على الفقيه

______________________________

(1)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 636

و المحدّث، و يشهّر الفقيه بالفيلسوف و العارف، و يحمل العارف على الفقيه و هكذا، مع أنّ الإنسان يحتاج في رحلته إلى اللّه و سيره على صراط الإنسانية المستقيم إلى الالتزام الكامل بهذه «المراتب الثلاث» و العناية بها بدقّة، بحيث «لا يغضّ النظر عن أيّ الكمالات العلمية و العملية.

كما عليه أن لا يتوهّم بأنّه يكفيه تهذيب الخلق وحده، أو تحكيم العقائد وحده، أو موافقة ظاهر الشريعة فقط» «1» و إنّما هو يحتاج إلى المراتب الثلاث بأجمعها.

على سبيل المثال يلوح من بعض نصوص شيخ الإشراق السهروردي في كتابه «حكمة الإشراق» بحسب فهم الإمام و استنتاجه، تفضيل مرتبة بعينها على البقية، كما يذهب إلى ذلك أيضا بعض علماء الأخلاق و أهل المعرفة، و فئة من الفقهاء، الأمر الذي يخلّ بالتوازن القائم بين نشآت الإنسان الوجودية و تنوّع المعارف، على النحو الذي يتسق فيه كلّ لون من المعرفة مع المرتبة الوجودية الموائمة له. و بتعبير الإمام نفسه: «على سبيل المثال لشيخ الإشراق في أوّل (حكمة الإشراق) تقسيمات تعود إلى الكامل في العلم و العمل، و الكامل في العمل، و الكامل في العلم، على النحو الذي يستفاد من ذلك أنّ الكمال العلمي مع النقص بالعمل و بالعكس [أي الكمال في العمل مع النقص في العلم] هو ممّا يمكن أن يتحقّق، إذ عدّ أهل الكمال العلمي من ذوي السعادة و المرتبطين بعالم الغيب و التجرّد، و ظنّ أنّ مآلهم الاندراج في سلك العليين و الروحانيين. كما ذهب بعض علماء الأخلاق و تهذيب الباطن إلى أنّ تعديل الخلق و تهذيب القلب و الأعمال القلبية هي منشأ الكمالات كلّها، و أنّه لا قيمة إطلاقا للحقائق العقلية و الأحكام

______________________________

(1)- نفس المصدر: 388.

فهم القرآن، ص: 637

الظاهرية، بل هي معوّقات في طريق السلوك. كما زعم بعض علماء الظاهر أنّ العلوم العقلية و الباطنية و المعارف الإلهية، هي كفر و زندقة، حتّى ناءوا علماء هذه العلوم و طلابها» «1».

يتضمّن هذا النص نقدا صريحا و واضحا للاتجاهات الآحادية التي تكتفي بنسق دون آخر، فتعلي

مثلا من قيمة البرهان و العلوم العقلية على حساب العرفان و الفقه، أو تعلي من قيمة الجانب المعنوي و العرفاني على حساب البرهان و الفقه؛ أو تعلي من قيمة الفقه لجهة إسقاط قيمة العلوم العقلية و الخفض من الجانب العرفاني.

فكل هذه تعدّ اتجاهات متطرفة و نزعات آحادية شاذّة تضرب بالتكوين الوجودي للإنسان الذي تملي عوالمه و حاجات تلك العوالم، تعدّد الأنساق و تنوّع العلوم و المعارف، بشرط أن يشتغل كلّ علم داخل حقله و يبقى فاعلا حيويا في داخل حدوده و منطقته.

يسجّل الإمام في نص نقدي عنيف لهذا المنحى الإلغائي: «هذه الطوائف الثلاث التي تحمل هذه العقائد الباطلة، محجوبة بأجمعها عن المقامات الروحية و النشآت الإنسانية، و لم تتدبّر في علوم الأنبياء و الأولياء على نحو صحيح» «2».

على أساس هذه الخلفية نشأت أجواء التوتر و التنافر و القطيعة، و برزت دعوات التجهيل و الرمي بالتفسيق و التكفير، فيما بين هذه الفئات الثلاث: «لهذا السبب برزت بين هذه الطوائف الثلاث أجواء العداء دائما، و كان أحدهم يطعن بالآخر و يرميه بالباطل». يعتقد الإمام أنّ هذه الاتجاهات الآحادية خاطئة

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 638

بأجمعها، من زاوية أنّ «تحديداتهم للمراتب الإنسانية بهذا المستوى، و جعلهم العلوم و الكمالات مقتصرة على المجال أو التخصّص الذي هم فيه، هو أمر خلاف الواقع» «1».

إذ الصحيح عند الإمام، هو أنّ هذه الحقول صحيحة بأجمعها كلّ في مجاله، و أنّ التكوين الوجودي للإنسان لا يستغني بأحدها دون البقية. و هنا بالذات يكمن الأساس الذي يسوّغ للإمام الانطلاق في مشروعه للتوفيق بين الفلسفة و العرفان و الفقه (الشريعة و الظواهر النقلية) و المصالحة بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء.

لما ذا؟ لأنّ

«علوم الشريعة- كما اتضح- منحصرة بهذه الأقسام الثلاثة المتوائمة مع احتياجات البشر و المتّسقة مع المقامات الإنسانية الثلاثة» «2».

إذا كان التكوين الوجودي للإنسان هو بذاته الذي يملي تنوّع حقول المعرفة و الحاجة إليها بأجمعها دون التفريط بأي واحد منها، و من ثمّ يسوّغ على نحو عام تصحيح معطيات الفلسفة و العرفان و الفقه لحاجة الإنسان إليها في سيره الكمالي؛ إذا كان ذلك كذلك، و أصبح الأساس المنطقي للتوفيق بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء واضحا أمامنا، فهل يصح أن تبقى العلاقة بين هذه الفئات محكومة للمنابذة و القطيعة و الشحناء؟

يمكث الإمام طويلا أمام حالة التوتر، بل العداء و القطيعة التي لا تزال قائمة بين هذه الفئات، و يجمع في تحليلها بين أدوات العقل التي تمنع الإنكار عن جهل، و معايير الشريعة التي تضع الإنسان الذي يتهم الآخر جزافا في موقف عسير، و هو

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- نفس المصدر: 389.

فهم القرآن، ص: 639

يسجّل بنبرة حادّة و لغة حاسمة: «لا يحقّ لأحد من علماء هذه العلوم الاعتراض على الآخر، و لا ينبغي للإنسان إذا جهل علما أن يكذّبه و يتطاول على صاحبه.

و كما يعدّ العقل السليم التصديق من دون تصوّر من الأغلاط و القبائح الأخلاقية، فكذلك حال التكذيب من دون تصوّر، بل حال الأخير أسوأ و قبحه أكثر.

إذا سألنا اللّه تبارك و تعالى يوم القيامة، و قال مثلا إنّكم لم تكونوا تعرفون معنى (وحدة الوجود) بحسب مسلك الحكماء، و لم تتعلّموه من متخصّص في ذلك العلم و صاحب ذلك الفن، و لم تدرسوا ذلك العلم و مقدّماته، فلما ذا أقدمتم على إهانة المؤمنين بها و تكفيرهم عن جهل؟ هل نملك جوابا في محضر الحقّ المقدّس غير أن

نطأطئ الرأس حياء و خجلا؟ و ليس مقبولا الاعتذار بالقول: هكذا كنت أظنّ الأمر في نفسي! فلكلّ علم مبادئ و مقدّمات لا يتيسّر فهم ذلك العلم من دون استيعاب تلك المقدّمات، خاصّة في مثل هذه المسألة الدقيقة [وحدة الوجود] التي استنفدت جهود أجيال، و لم يتضح بعد فهم حقيقتها و مغزاها على نحو دقيق» «1».

ثمّ أضاف سماحته بعد استطراد يدور حول إنكار الفلسفة و العلوم العقلية:

«و ما ذا إذا سأل- اللّه سبحانه- حكيما متفلسفا أو عارفا متصنّعا، لما ذا وصفت العالم الفقيه بأنّه قشري و ظاهري، و لما ذا طعنت به؟ بل ما هو المبرّر الشرعي في قدحك بمجموعة من العلوم الشرعية التي جاء بها الأنبياء عليهم السّلام من قبل ربّ الأرباب لتكميل النفوس البشرية، و ما هو المسوّغ الديني الذي استندت إليه في تكذيبها و الاستخفاف بها؟ و ما هو الدليل الشرعي أو العقلي الذي استندت إليه في جواز التطاول على مجموعة من العلماء و الفقهاء؟ فما ذا سيكون جوابه في محضر الحقّ

______________________________

(1)- نفس المصدر: 389- 390.

فهم القرآن، ص: 640

تبارك و تعالى غير أن يطأطئ رأسه حياء؟» «1».

خلاصة التفسير الأوّل الذي يوفّر للإمام الأساس المنطقي لمشروع التوفيق و المصالحة، يتمثّل بالتصوّر الوجودي الذي يقول بتعدّد مراتب الواقع و نشآته و عوالمه، بما في ذلك الإنسان الذي ينطوي على ثلاث نشآت تملي وجود ثلاثة حقول من المعرفة تلبي حاجاتها. و قد جاءت الشريعة بهذه العلوم الثلاثة، على حسب الحديث النبوي الشريف: «إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، و ما خلاهنّ فهو فضل»، إذ قارب الإمام الخميني «الآية المحكمة» بالعلوم العقلية، و «الفريضة العادلة» بعلم الأخلاق و تصفية القلوب، و

«السنّة القائمة» بعلم الظاهر أو الفقه و ما يتصل بالسلوك و العمران و تدبير الاجتماع الإنساني «2».

و إذا كانت هذه العلوم متوائمة مع المراتب الوجودية للإنسان و ملبّية لحاجاته فيها، فهي بأجمعها ضرورة وجودية حقيقية لا مناص منها، و لا مجال للاستغناء عن بعضها أو الاكتفاء ببعضها قط، و من ثمّ لا معنى لرفض بعضها و نعت أصحابها بالكذب و رميه بالجهالة و السفه فضلا عن تكفيره، بل هي صحيحة بأجمعها- مع فرض تمامية اللوازم و الشروط الاخرى- كلا بحسب مرتبته و مجاله و منطقته و وظيفته. و هذا الضبط ما سوّغ للإمام الإعلان عن مشروعه للمصالحة بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء.

______________________________

(1)- نفس المصدر: 390.

(2)- نفس المصدر: 391.

فهم القرآن، ص: 641

2- التفسير المشائي
اشارة

في التفسير الثاني لمشروع المصالحة يتحدّث الإمام عن وجود حقيقة واحدة يختلف الآخرون في التعبير عنها، إذ يعبّر عنها الفلاسفة بلغة و العرفاء بلغة ثانية و الفقهاء بلغة ثالثة و هكذا. هذا ما جاء في دروسه التفسيرية لسورة الفاتحة.

يصف الإمام في البدء العلاقة المتوترة بين رموز هذه الفئات، فيقول: «ترى بعضهم يضطرب من المسائل الفلسفية و يشعر بالوجل منها- مع أنّ الفلسفة علم رسمي مألوف- حتّى ليخيّل إليه أنّها ثعبان! كذلك يضطرب الفيلسوف من العرفان، و هكذا العارف من ... إلى آخره» «1».

يرجع الإمام هذا الاضطراب و الوجل و التردّد، الذي يؤسّس لحالات التنافر و القطيعة بين هذه الفئات، إلى عدم إدراك بعضها للغة بعض، و إلّا فهي جميعا تتحدّث عن حقيقة واحدة. و كلّنا نذكر في ذلك مثال «العنب» و اختلاف العربي و التركي و الفارسي حوله تبعا لاختلاف لغاتهم، و تنوّع الألفاظ الأدائية التي يستعملونها. فمع أنّهم كلهم يبتغون «العنب»

إلّا أنّ جهلهم بلغة بعضهم أوقع بينهم الخلاف. يقول الإمام بعد الإشارة إلى لغة التجهيل و الإنكار: «هذه القضية تشبه قصة (الانگور) و (العنب) و (الأزوم) «2»! فالمسألة واحدة، لكن أحدهم يعبّر عنها بالعلية و المعلولية، و الثاني بالسببية و المسببية، و الآخر يعبّر عنها بلفظ الظهور و المظهر» «3».

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 142- 143.

(2)- يعني لفظ «انگور» بالفارسية و «ازوم» بالتركية، العنب بالعربية.

(3)- تفسير سورة حمد: 186.

فهم القرآن، ص: 642

فإذن تكمن المشكلة في جهل كلّ فئة بلغة الفئة الاخرى و مصطلحاتها أو عدم سعيها لمعرفة مقصدها و ما ترمي إليه: «القضية الأساسية، أنّهم لم يعوا مطلب بعضهم بعضا و لم يفهموه، و لما لم يفهموه فقد أطلّت هذه الأقاويل [سوء الظنّ و الإنكار و التهم] برأسها، و إلّا إذا ما فهم بعضهم كلام بعض و وعوه، فلا عداء و لا نزاع» «1».

الحقيقة هنا واحدة، و الاختلاف ينبع من أسلوب كلّ فئة في التعبير عنها، إذ يتحصّن الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء كلّ في إطار لغته الخاصة التي يجهلها الآخر، فتنشأ المعركة بينهم على خلفية هذا الجهل.

يستند هذا التفسير إلى أساس فلسفي مشائي، يعيد إلى الأذهان مبادرات الكندي و الفارابي و ابن رشد و ابن سينا (في وجهه المشائي) و أضرابهم في التوفيق بين الحكمة و الشريعة. و السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح، هو: ما ذا يعني ذلك؟

هل تخلّى الإمام عن الأساس الأوّل الماثل في التفسير الوجودي و تعدّد مراتب الواقع؟

الحقيقة ليس بأيدينا ما يسمح لنا بترجيح التحوّل و لو على مستوى الإيماءة من بعيد. فآراء الإمام في هذه الدروس التفسيرية و قبلها و بعدها، بقيت أمينة للمنهج العرفاني و لمدرسة الحكمة المتعالية التي

تحاذي ذلك المنهج. لذلك نميل إلى أنّ الإمام مال إلى هذا التفسير، لدواع ترتبط بالمكان و الزمان، من حيث طبيعة الخطاب و المخاطب و التحديد الزمني، و الوضع العام في البلد.

فالإمام أعلن عن هذا التفسير من خلال دروس تفسيرية عامة كانت تبثّ من

______________________________

(1)- نفس المصدر: 191.

فهم القرآن، ص: 643

القناة الرئيسية في التلفاز الإيراني، و من ثمّ فالمخاطب بها هم جمهور الناس، حيث اكتفى بهذا التفسير في دعوته إلى التوفيق بين الفلاسفة و العرفاء و الفقهاء القائم على أساس مشائي، لأنّه بسيط و سهل المأخذ، قادر على إقناع القاعدة العريضة من دون الاستغراق في المقدّمات.

كما ذهبت بعض التحليلات، إلى أنّ الإمام كان يرغب بتقريب القلوب و عدم استفزاز تلك الفئات من أهل العلم التي تنفر من العرفان و منظومته حيث كان يلقي بدروسه من الحاضرة القمية، لذلك اختار هذا التفسير المشائي الذي من الصعب أن يستثير حفيظة الآخرين «1».

نموذج في التوفيق

في اليوم الأوّل من العام الميلادي 1989 م استيقظ العالم على خبر مدهش تمتزج فيه الغرابة بالغموض، يفيد بأنّ الإمام الخميني بعث بوفد ثلاثي إلى الكرملين يتألّف من رجل دين و أكاديمي سياسي و امرأة «2»، يحمل رسالة خاصة إلى زعيم الاتحاد السوفيتي سابقا و سيّد الكتلة الشرقية يومذاك. بقي العالم يترقّب شرقا و غربا و هو مذهول، يريد أن يعرف محتوى الرسالة، إلى أن أعلن عن تفاصيلها بعد ساعات.

علاقة هذه الرسالة ببحثنا أنّها تمثل نموذجا تبرز فيه بوضوح خطوط التلاقي

______________________________

(1)- مع ذلك كلّه توالت الضغوطات خاصّة من بعض علماء خراسان و قم، إلى أن استطاعت أخيرا تعطيل هذه الدروس.

(2)- حمل رسالة الإمام إلى غورباتشوف وفد ثلاثي يتألف من الشيخ جوادي آملي و الدكتور محمد جواد

لاريجاني و السيدة مرضية دباغ.

فهم القرآن، ص: 644

بين الفلسفة و العرفان (حيث لا مكان للفقيه في رسالة تنهض بعب ء الدعوة إلى الإسلام)، فقد وظّف الإمام ما استطاع توظيفه من عناصر معرفية ما دام ذلك مفيدا في تحقيق هدف الدعوة إلى الإسلام.

لقد أراد الإمام لمشروعه في التوفيق و المصالحة كما أعلنه في دروسه التفسيرية عام 1979 م، أن يتحوّل إلى عنصر منهجي يشقّ من خلاله طريقه في التفسير، حيث قال بعد استعراض المشروع و بيان عناصره: «لقد جاءت هذه المقدمة كتمهيد للمسائل كافة التي ستأتي فيما بعد. فإذا امتدّ بنا العمر، و ذكرنا احتمالا ما [في هذه الدروس] فلا تعترضوا بالقول: إنّك أعدت إلى الساحة مجدّدا من خلال ما ذكرته من تعبيرات؛ أعدت لغة العرفاء. كلا، لا بدّ لهذه اللغة و أن تنزل» «1»، و ذلك انطلاقا من روح المشروع التوفيقي، الذي يتعامل مع العرفان بوصفه وجها من وجوه التعبير عن الحقيقة، بل هو أقرب إلى لغة الكتاب و السنّة.

بيد أنّ ما حصل مع الأسف هو انقطاع هذه السلسلة من الدروس، بعد هذا الدرس مباشرة (الدرس الخامس) نتيجة لضغوطات مارستها بعض الدوائر العلمية ضدّ هذا المنحى. و بذلك حرمنا تطبيقات هذا المشروع كما كان ينبغي أن تظهر بدءا من الدرس التالي (الدرس السادس)، لكي نقف مباشرة على الكيفية التي يوفّق فيها الإمام بين الفهم الفلسفي و العرفاني و الفقهي في استكناه معاني القرآن، و الغوص في أعماقه.

لكن ذلك لم يحرمنا من لمحات أطلّت في الرسالة التي بعثها الإمام إلى آخر زعيم للاتحاد السوفيتي قبل انهياره، و تحوّل نموذج الدولة الماركسية إلى متاحف

______________________________

(1)- تفسير سورة حمد: 193.

فهم القرآن، ص: 645

التاريخ، إذ برزت في ثنايا هذه

الرسالة الروح التوفيقية بوضوح، حيث لم يهمل جهدا من أيّ حقل معرفي انبثق، إلّا و وظّفه في مضامين الرسالة الدعوية «1».

لا نهدف إلى تقديم بحث تفصيلي في النموذج الذي تعكسه الرسالة «2»، و إنّما نكتفي بومضات سريعة.

انطلقت الرسالة من همّ دعوى يحمل نداء التوحيد إلى مركز الإلحاد العالمي يوم ذاك. لذلك اتجه محتواها إلى معالجة العقد الأساسية في نمط التفكير المادي الإلحادي، من خلال سوق البراهين العميقة و الميسّرة في آن لإثبات الصانع، و عالم ماوراء الطبيعة، بما ينسجم مع حجمها و الفرصة المتاحة في لقاء زعيم الكتلة الشرقية.

هذا الهمّ دفع الإمام لكي يتحدّث صراحة إلى الزعيم السوفيتي السابق، بأنّ مشكلة هذا البلد لا تكمن في الاقتصاد و الإدارة و ما شابه و من ثمّ فهي لا تحل بالإصلاح الاقتصادي و الإداري و تجديد طاقة الفكر الماركسي عبر ما اشتهر باطروحة «البيريسترويكا» التي رفع لواءها غورباتشوف، و أراد لها أن تكون نمطا من التفكير الجديد ليس للاتحاد السوفيتي و الكتلة الشرقية السابقين و حسب، بل للعالم بأسره «3». إنّما تكمن المشكلة في التصوّر الوجودي و الرؤية الكونية المادية

______________________________

(1)- راجع في نص الرسالة: صحيفه امام 21: 220- 226، بالعربية: رسالة زعيم الامة الإسلامية الإمام الخميني إلى الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف، المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق.

(2)- كدراسة تحليلية تفصيلية للرسالة، راجع: رسالة القرآن: 65- 124، البنيان المرصوص:

281- 314.

(3)- راجع في هذه الأطروحة و مكوناتها و آفاقها: البيريسترويكا و التفكير الجديد لأجل بلادنا

فهم القرآن، ص: 646

التي آمنت بها الماركسية و فرضتها على الشعوب، و دخلت من خلالها في قطيعة مع اللّه و الإيمان و الغيب و الرسل و الأنبياء و الأديان.

إعادة النظر بالرؤية الكونية المادية هي

بنظر الإمام، نقطة البداية في أي تحوّل حقيقي يمكن ممارسته في نطاق الاتحاد السوفيتي سابقا و الكتلة الشرقية تبعا له. فالتمركز الهائل حول الحسّ و إنكار ما عداه في المنظومة المعرفية الماركسية، هو الأساس الذي أنتج الإلحاد و إنكار الغيب و محاربة الإيمان و مواجهة الأديان و نعتها بمختلف النعوت المشينة. هذه الحقيقة وضعها النص الخميني أمام غورباتشوف بجلاء و صراحة فائقة، و هو يسجّل: «لهذا السبب رأيت أن أذكركم بضرورة أن تعيدوا النظر مجدّدا بالرؤيتين الكونيتين المادية و الإلهية. لقد عدّ المادّيون (الحس) معيار المعرفة في رؤيتهم الكونية، فأخرجوا كلّ ما هو غير محسوس عن نطاق العلم؛ و جعلوا الوجود قرين المادة و مساوقا لها، بحيث أنكروا وجود ما لا مادة له. لقد انتهت بهم هذه النظرة بالضرورة إلى اعتبار عالم الغيب، مثل وجود اللّه تعالى، و الوحي و النبوة و القيامة، محض أساطير و أوهام» «1».

لقد أشار الإمام في رسالته لغورباتشوف إلى أنّ القرآن نقد هذه الرؤية، و ضرب أساسها المادي بالصميم، و هاجم منطقها الذي يقول في رفض المبدأ و المعاد: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ «2»، كما يسجل في إنكار النبوة: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «3»،

______________________________

و للعالم بأسره.

(1)- صحيفه امام 21: 222.

(2)- الجاثية (45): 24.

(3)- الأنفال (8): 31.

فهم القرآن، ص: 647

و أيضا ما ذهب إليه من ترسيخ أصالة الحس و المادة و إنكار ما وراءهما: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1».

في مقابل ذلك أوضح الإمام لآخر زعيم سوفيتي، القاعدة الأساسية التي تستند إليها الرؤية الكونية الإلهية، بقوله: «في حين أنّ معيار المعرفة في الرؤية

الكونية الإلهية هو أشمل من (الحس و العقل)، و إنّ ما هو معقول يدخل في نطاق العلم و لو لم يكن محسوسا. و بذا فإنّ الوجود- في هذه الرؤية- يشمل الغيب و الشهادة، و إنّ ما ليس له مادة يكون موجودا كذلك. و كما أنّ الموجود المادي يستند إلى المجرد، فكذلك ترتكز المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية أيضا» «2».

لقد استند النص الخميني في نقد التصوّر الوجودي للمادية و الرؤية الكونية الماركسية و المنهج المعرفي المنبثق عنها، إلى العناصر الأساسية التالية:

1- يتخطّى معيار المعرفة المحسوس إلى المعقول، فالمعقول غير المحسوس له قيمة معرفية أيضا.

2- و بإثبات وجود المعقول غير المحسوس يثبت أنّ الوجود أعم من المادة، و هو يشمل الغيب و الشهادة، أي غير المحسوس و المحسوس معا.

3- يستند الموجود المادّي إلى «المجرّد»؛ تماما كما تستند المعرفة الحسّية إلى المعرفة العقلية غير الحسّية، كما هو الحال في عودة جميع ألوان الاستدلال إلى مبدأ العلّة و المعلول.

لم يستند الإمام لإثبات هذه العناصر إلى القرآن الكريم و ما ساقه من أدلّة

______________________________

(1)- البقرة (2): 55.

(2)- صحيفه امام 21: 222.

فهم القرآن، ص: 648

على هذا الصعيد، رغم طابعها البرهاني، لأنّه يمكن للسيد غورباتشوف أن يعترض، بأنّ هذا النص الكريم لم يثبت لديه حتّى تلزمه حجّيته. لذلك أرجع أدلّة الإثبات إلى البحث العقلي الفلسفي، و بعض الإشارات الوجدانية التي يقطع كلّ إنسان بصحّتها.

ما يعنينا هنا، هي طبيعة إحالات الإمام، إذ هو لم يتعصّب إلى نسق معرفي دون آخر، بل وظّف من كلّ نسق ما هو مقوّم لحجّته و نافع في الاستدلال على الخصم، و لم يستغن حتّى عن الفضاء الإنساني العام فيما أفرزه من حجج على هذا الصعيد، حين احتجّ عليه

بالفلسفة الغربية التي تعد معطى إنسانيا عاما لا صلة له بدين معين و مذهب خاص.

لقد أحال الإمام في أدلّة الإثبات إلى ما يلي:

1- الفلاسفة الغربيّين: حيث طلب الإمام أن يرجع المختصّون السوفيت إلى كتب الفلاسفة الغربيين و معطيات البحث الفلسفي الغربي على هذا الصعيد، ممّا يعضد النقاط النقدية التي أثارها ضدّ الرؤية الكونية الماركسية و تصوّرها المادي «1».

2- الفلسفة المشائية عند الفارابي و ابن سينا: كما طالب أيضا العودة إلى معطيات البحث الفلسفي عند الفارابي (ت: 339 ه) و ابن سينا (ت: 428 ه)، في خطّه المشائي الأرسطي الذي يكفل نقض مرتكزات التصوّر المعرفي المادي النازع إلى نصب الحس معيارا وحيدا، و رفض ما سواه، خاصّة فيما ذكره الإمام في رسالته من أنّ قانون العلّية الذي يرتكز إليه صرح المعرفة الإنسانية، هو معقول غير محسوس، تماما كما هو الحال في إدراك المعاني الكلية و إدراك القوانين العامة التي

______________________________

(1)- ينظر نفس المصدر: 223. فهم القرآن 649 نموذج في التوفيق ..... ص : 643

فهم القرآن، ص: 649

ترتكز إليها عملية ممارسة الاستدلال مهما كان لونها، إذ هما من المعقولات أيضا و ليسا من المحسوسات «1».

3- حكمة الإشراق عند السهروردي: كما أحال أيضا إلى معطيات البحث الفلسفي عند شيخ الإشراق يحيى السهروردي (ت: 587 ه) الذي مرّ علينا في ما سبق، نسقه المعرفي التوفيقي الجامع فيما أطلق عليه بأطروحة «حكمة الإشراق»، في مقابل الحكمة أو الفلسفة المشائية، ساعيا توظيف منزعه في «فقه الأنوار» للاستدلال على ما يريد.

فالمعروف أنّ للسهروردي منهجه الخاص في البحث و الاستدلال على وجود اللّه، إذ هو يذهب إلى أنّ العلم بوجود اللّه فطري يكفي فيه صرف التنبيه دون حاجة للاستغراق بالبراهين الدقيقة. كما يعتقد

أنّ النور الملابس للمحسوسات هو نور عارض، و أنّ ذات الشي ء الذي ينطوي على نور حسّي كالشمس- مثلا- مظلمة، و من ثمّ فإنّ كلّ المحسوسات بحاجة إلى نور صرف منزّه عن الحس، بسبب فقدانها النور الذاتي.

كما يستدلّ في فلسفته إلى أنّ العلم الشهودي للنفس بذاتها هو دليل تجرّدها، و أنّ الموجود المجرّد هو نور معقول و غير محسوس، لأنّ الموجود المحسوس إنّما يتحقّق في إطار جهة و زمان خاصّين مضافا لبقية اللوازم المادية الخاصة، و من ثمّ ليس له حضور بذاته.

استنادا إلى معطيات هذه الفلسفة أحال الإمام إلى السهروردي، و هو يسجّل في رسالته: «كما بإمكانهم «2» الرجوع إلى كتب السهروردي رحمة اللّه عليه، في

______________________________

(1)- نفس المصدر: 223- 224.

(2)- لقد اقترح الإمام في رسالته أن يعهد السيد غورباتشوف بتأسيس لجنة من المختصين،

فهم القرآن، ص: 650

حكمة الإشراق، ليوضّحوا لكم بأنّ الجسم و كلّ موجود مادي آخر، بحاجة إلى النور الصرف المنزّه عن الحسّ، و أنّ الإدراك الشهودي من ذات الإنسان لحقيقته، منزّه أيضا عن الظاهرة الحسية» «1».

4- الحكمة المتعالية عند الشيرازي: من خصائص الشيرازي منحاه المركّب في التوفيق بين معطيات الفلسفة و العرفان و القرآن، و ممّا امتاز به بحثه الفلسفي الإمعان في بيان تجرّد العلم، فقد أوصل الفروق بين الصورة العلمية و الصورة المادية إلى ثمانية فروق، و أسهب في التفاصيل و تشييد البراهين، بحيث تخطّت صورة البحث عنده محض إثبات مجرّد الصورة العقلية كما هو الحال عند السابقين عليه، إلى إثبات تجرّد كلّ ضرب من ضروب الفكر مهما كان لونه.

استنادا إلى هذا التميّز، أحال الإمام إليه، و هو يكتب إلى غورباتشوف موصيا: «اطلبوا من الأساتذة الكبار العودة إلى الحكمة المتعالية لصدر المتألّهين رضوان

اللّه تعالى عليه و حشره مع النبيين و الصالحين، لكي يتضح أنّ حقيقة العلم هي ذلك الوجود المجرّد عن المادة، و أنّ أيّ ضرب من ضروب الفكر منزّه عن المادّة، و من ثمّ فهو لا يخضع لضوابط المادة و أحكامها» «2».

5- عرفان ابن عربي: آخر من احتجّ الإمام بأفكارهم و بحوثهم و نتاجاتهم، و حثّ غورباتشوف على ضرورة أن تمضي لجنة من المختصين للانفتاح على

______________________________

- تنهض بمراجعة معطيات البحث في الاتجاه الذي أثاره الإمام، و متابعته من خلال أفكار الذين عرض الإمام لكتبهم و نتاجاتهم، و منهم السهروردي، و من ثمّ فالضمير في المتن يعود إلى ذوي الاختصاص هؤلاء.

(1)- صحيفه امام 21: 224.

(2)- نفس المصدر: 224- 225.

فهم القرآن، ص: 651

منظوماتهم الفكرية و تطلعه على نتائج البحث، هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي المعروف بابن عربي و المشهور بالشيخ الأكبر (ت: 638 ه). لكن مع فارق يكشف عن الأهمّية الفائقة التي يوليها الإمام لهذا الأخير بالمقارنة إلى من سبقه، فمع أنّ الإمام أشاد بالفارابي و ابن سينا و السهروردي، و أثنى على الشيرازي، إلّا أنّه لم يضع شروطا خاصّة لدراسة أفكارهم من قبل المختصّين السوفيت باستثناء اشتراطه أن يكون هؤلاء من الأساتذة الكبار بالنسبة إلى فكر الشيرازي.

مع ابن عربي كثّف من شروطه، حين اقترح على السيد غورباتشوف أن تتألف اللجنة من عدد من الخبراء المتمرّسين المشهود لهم بالذكاء و النبوغ، و أن يقدموا إلى الحاضرة العلمية بمدينة قم كي يتاح لهم ممارسة مهمتهم، و مع ذلك فإنّ مهمتهم هذه لا تتكلّل بالنجاح قبل أن يمكثوا في قم عدّة سنوات يمضوها في دراسة فكر هذا الرجل العظيم، و إلّا فهي غير ممكنة.

و بتعبير الإمام

نفسه: «لا أثقل عليكم، و من ثمّ لا أذكر كتب العرفاء و بخاصّة محيي الدين ابن عربي، لكن إذا شئتم الاطلاع على أفكار هذا الرجل العظيم و بحوثه، فيمكنكم أن تختاروا عددا من الخبراء النوابغ المتضلّعين في مثل هذه البحوث، و ترسلونهم إلى قم، حتّى يستطيعوا الاطلاع بالتوكّل على اللّه بعد عدّة أعوام، على العمق اللطيف لمنازل المعرفة، و الدقيق غاية الدقة، و إلّا فمن دون هذا السفر من غير الممكن بلوغ هذه المعرفة» «1».

الحصيلة التي نطّلع بها بعد هذا الاستعراض، هو أنّ الإمام حشّد كلّ ما رآه مفيدا من معطيات المعرفة في تعضيد رسالته الدعوية، بغض النظر عن النسق

______________________________

(1)- نفس المصدر: 225.

فهم القرآن، ص: 652

المعرفي. فقد وظّف الفلسفة باتجاهاتها المختلفة، و أفاد من معطيات البحث العقلي بمختلف ضروبه عند المشائين و في حكمة الإشراق و الحكمة المتعالية، كما لم يهمل العرفان على هذا الصعيد.

و لو كان هناك مجال لاستثمار معطيات الفهم الفقهي، لما تأخّر الإمام في الإفادة منها لما يخدم تشييد حججه و تصليبها.

كلمة أخيرة

أودّ أن أختم البحث في هذا القسم بإلفات النظر إلى واقع شخصية الإمام العلمية و ممارسته الفكرية. فحين نتأمّل بهذا الواقع و نطل على مكوّنات شخصيته من منظور هذا البحث، نجدها تستحضر الأنساق المعرفية الرئيسية الثلاثة على نحو متجاور و متآلف، يجمع بين الفلسفة و العرفان و الفقه.

فالإمام يمارس البحث الفقهي على مستوى الدرس و إصدار الفتوى على وفق المنهج الفقهي السائد، شأنه في ذلك شأن بقية الفقهاء.

و مع الدرس الفلسفي، فهو يمارس البحث الفلسفي بمختلف أنساقه عند المشائين و أتباع الحكمة الإشراقية و الحكمة المتعالية، بغض النظر عن متبنياته الخاصّة في هذا المجال.

أخيرا و على مستوى العرفان تراه

يمارس البحث العرفاني، بالطريقة المألوفة عند أقطاب هذه المدرسة.

على هذا النحو تتجاور في شخصية الإمام أبعاد الفيلسوف و العارف و الفقيه، و تأتلف أنساقها في تكوينه الفكري من دون تزاحم أو تدافع، فضلا عن التنافر و القطيعة و العداء، حيث تمارس الفلسفة و العرفان و الفقه دورها كلّ في منطقته

فهم القرآن، ص: 653

الخاصّة، و في نطاق مجاله الوظيفي.

بتعبير آخر، إنّ شخصية الإمام العلمية و الفكرية تعدّ بذاتها مصداقا حيا لمشروعه في التوفيق بين العارف و الفيلسوف و الفقيه. و إذا كانت الأمثلة على تعايش هذه الأنساق كثيرة في مؤلفات الإمام، فمن المفيد أن نعزز هذه الملاحظة بالمثالين التاليين:

الأوّل: عند ما يبحث الإمام مسألة التفويض ينتهي بعد تقرير البحث، إلى أنّ جميع النتائج التي انتهى إليها لها أدلّتها من البحث العقلي البرهاني و الذوق العرفاني و الشواهد السمعية و النقلية، و من ثمّ فهي «تتطابق مع الميزان البرهاني الصحيح، و الذوق و المشرب العرفاني و الشواهد السمعية» «1». و معنى ذلك اجتماع الفلسفة و العرفان و النقل على إثبات الفكرة، و توظيفها بأجمعها لإثبات المطلوب. و هذا أمر لا يتمّ من دون إيمان الباحث بالأنساق الثلاثة و تعايشها في شخصيته.

الثاني: عند ما يصل الإمام في كتاب آخر من كتبه إلى بحث العلم الإلهي و أنّ للّه علما ذاتيا بالموجودات قبل الإيجاد، و علما بمخلوقاته عند الإيجاد يعبّر عنه بالعلم الفعلي، ينتهي إلى أنّ هذا العلم هو علم بسيط إحاطي أزلي حضوري، و يستدلّ على ذلك بضروب الاستدلال من البحث العقلي و العرفاني و النقلي.

ثمّ يمعن في ترسيخ النتيجة عبر الاحتجاج على كلّ فئة بمنهجها المعرفي، فيقول:

أ- «إذا كنت من أصحاب البرهان و الفلسفة، سيتّضح لك

من خلال برهان (كلّ مجرّد عاقل) و (بسيط الحقيقة كلّ الكمال) أنّ كلّ ما وراء العوالم الغيبية إلى

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 551. و البحث مذكور هناك تفصيلا من وجوهه الثلاثة.

فهم القرآن، ص: 654

منتهى نهاية عالم الحس مكشوف عند الحضرة العلمية [اللّه] بالعلم البسيط الإحاطي الأزلي، من دون شائبة كثرة و تحديد و بلا وصمة حجاب و تقييد».

ب- «أمّا إذا كنت من أصحاب المعرفة و تسلك طريقة العرفاء الشامخين، فسيكون بمقدورك أن تثبت العلم الذاتي و الفعلي للحق بكلّ ذرات الموجودات، من خلال مظهر الأحدية و الواحدية و الذاتية و الفعلية».

ج- «و إذا كنت متعبّدا بالكتب السماوية و بأحاديث أصحاب الوحي و التنزيل، فسيكون العلم المحيط الأزلي ثابتا عندك بضرورة كلّ الأديان، و ستعدّ الحقّ جلّ و علا عالما بجميع الكائنات و الذرّات الغائبة و الحاضرة، و لفهمت سعة علمه سبحانه و إحاطته من القرآن الشريف» «1».

على الغرار ذاته يتناول نفوذ قدرة ذاته المقدّسة و إحاطة سلطنته و كمال مالكيته و تمام قاهريته و قيّوميته، إذ يبرهن على كلّ واحد منها بالبرهان و العرفان و النص، أو هي تثبت بحسب تعبيره: «علما و برهانا أو شهودا و عرفانا أو تحقّقا و إيقانا أو تعبّدا و إيمانا» «2».

هكذا تتحول شخصية الإمام إلى مصداق عملي يجمع في الممارسة الفكرية بين الفلسفة و العرفان و النقل.

______________________________

(1)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 206- 207.

(2)- نفس المصدر: 207.

فهم القرآن، ص: 655

القسم الثالث نماذج تفسيرية و لمحات قرآنية

اشارة

فهم القرآن، ص: 657

تمهيد

حين تقترن الأبعاد النظرية في التفسير بتطبيقاتها، فإنّ ذلك يسبغ على الدراسة حيويّة مضاعفة تنشأ من التفاعل بين التحديدات المنهجية، و الأمثلة العملية.

و هذا القسم من الدراسة هو الذي ينهض بهذه المهمّة، التي يؤدّيها على مستويين:

الأوّل: حقل التطبيقات التفسيرية، حيث يتابع عددا من الأمثلة القرآنية التي تركها الإمام و تدخل في نطاق التفسير بمعناه الوظيفي.

الثاني: حقل اللمحات و اللفتات القرآنية، ممّا قد لا يدخل في عنوان التفسير بمعناه الوظيفي العلمي، لكنّها على أي حال إشارات قرآنية لها قيمتها الخاصّة.

هذان الحقلان يتواءمان مع التنميط الذي مرّ علينا في الفصل الرابع من القسم الأوّل «1»، إذ نذكر أنّ الإمام وزّع عملية التعاطي المشروع مع القرآن إلى حقلين، الأوّل هو الحقل التفسيري بمعناه العلمي الذي تنهض به بحوث التفسير و يتكفّل به المفسّرون. ثمّ هناك دائرة أوسع تشمل إفادة المسلم من القرآن عبر التعامل المباشر

______________________________

(1)- مبحث التفسير بالرأي.

فهم القرآن، ص: 658

معه، و ما يخرج به على هذا الصعيد من معطيات و فوائد و كنوز، على النحو الذي مرّ فيه الحديث تفصيلا.

الحقيقة أنّ إنجاز مثل هذه المهمّة ببعديها أصبح أمرا يسيرا، بعد أن ولدت مشاريع متعدّدة توفّرت على جمع المادّة القرآنية التي خلّفها الإمام الخميني في مختلف آثاره. و ربّما جاء في الطليعة مشروعان، هما:

الأوّل: ما قامت به فصلية «بيّنات» «1» القرآنية المتخصّصة، التي دأبت على نشر جزء مهم من التراث التفسيري للإمام، بدءا من عددها الأوّل و لا تزال، في منهجية اعتمدت توثيق ذلك التراث من مؤلفات الإمام و دروسه و خطبه، و عرضه بأسلوب متسلسل وفق ترتيب السور في المصحف الكريم.

الثاني: و هو مشروع أضخم من الأوّل و أشمل، لما يتسم

به من سعة في الرصد و دقّة في التوثيق. يطمح هذا المشروع الذي تنهض بتحقيقه مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام، إلى إصدار عدّة أجزاء تحت عنوان «تفسير الإمام» تغطّي جميع ما خلّفه سماحته من تراث على هذا الصعيد.

يبدو من بعض المعطيات المتوافرة أنّ هذا المشروع قد يخرج بثلاثة مجلّدات و حتّى أربعة، خاصّة إذا ما أضيف إليه تفسير آيات الأحكام في التراث الخميني، كما تقضي بذلك خطّة المشروع «2».

______________________________

(1)- مجلة متخصّصة بالدراسات القرآنية، تصدر باللغة الفارسية عن مؤسّسة الإمام الرضا للمعارف الإسلامية، بمدينة قم.

(2)- يشمل الكتاب الأوّل في المشروع تفسير سورة الفاتحة، بينما يغطّي الثاني و الثالث بقية تراث الإمام التفسيري، أمّا الكتاب الرابع و الأخير فيشمل آيات الأحكام في تراثه. (راجع:

مجلّة بيّنات، العدد المزدوج 22- 23: 312 فما بعد).

فهم القرآن، ص: 659

بإزاء هذا التوافر الممتاز في المادّة التفسيرية، كان من خطّة هذا القسم من الدراسة، استعراض نماذج تطبيقية واسعة في الحقلين معا؛ الحقل التفسيري بالمعنى الوظيفي العلمي للتفسير، و حقل الإشارات و اللمحات و اللفتات القرآنية ممّا ساقه الإمام تحت عنوان فوائد قرآنية، تمتد على موضوعات عقائدية و معرفية، و تغطّي المجالات الاجتماعية و التربوية و الثقافية و السياسية، و تتحرّك في مضمار النهضة و حركة الإحياء الإسلامي، و العلاقات الدولية و ما إلى ذلك. بيد أنّ الذي جعلنا نعزف عن ذلك هو ازدياد مادّة الكتاب و الخشية من أن تتضخّم أكثر ممّا هي عليه.

لذلك كلّه رأينا اختزال حجم هذا القسم و الاقتصار على عدد من النماذج، من خلال الإطارين التاليين:

1- النماذج التفسيرية.

2- اللمحات و الإشارات و اللفتات القرآنية.

1- النماذج التفسيرية

اشارة

بالإضافة إلى تفسير سور الفاتحة و التوحيد و القدر التي تناولها الإمام مباشرة،

هناك أمثلة كثيرة لآية أو مجموعة آيات متناثرة في تراث الإمام، سنعمد إلى انتخاب بعضها كما يلي:

أ- سورة الحشر

اشارة

للإمام كمن سواه من أهل المعرفة، عناية خاصّة بسورة الحشر و لا سيّما الآيات المباركة آخر السورة، إذ الآيات السبع الأخيرة هي من غرر الآيات بحسب

فهم القرآن، ص: 660

تعبيرهم المشهور «1».

لذلك لا تكاد تغيب هذه السورة عن مؤلّفات الإمام الخميني، بل لها حضورها في جلّ هذه المؤلفات فضلا عن الدروس و الخطب و الرسائل.

يحثّ الإمام على الالتزام بتلاوة الآيات الأخيرة من السورة، و يشير إلى ما في ذلك من آثار نافعة، في مواقع متعدّدة من كتبه، منها قوله: «إذا ما ثابر الإنسان على تلاوة الآيات الشريفة آخر سورة الحشر، من قول اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ و هي الآية الثامنة عشرة إلى آخر السورة، ممّا يشتمل على التذكّر و محاسبة النفس، و ينطوي على مراتب التوحيد و الأسماء و الصفات؛ إذا ما ثابر الإنسان على ذلك في وقت فراغ النفس و عدم اشتغالها بالامور الدنيوية، كآخر الليل أو بين الطلوعين، و اقترنت التلاوة بحضور القلب و التفكّر بهذه الآيات، فالمرجوّ أن يخرج بنتائج حسنة إن شاء اللّه» «2».

كما يحثّ أيضا على التدبّر بهذه الآيات التي لا غنية للإنسان عنها، إذا ما أراد أن يتقرّب إلى اللّه و يسلك السبيل إلى لقائه، حيث يكتب باللغة العربية مباشرة:

«فانظر أيها السالك سبيل الحقّ، إلى الآيات الشريفة أواخر الحشر، و تدبّر فيها بعين البصيرة» «3»، ثمّ يأتي بها و يعقّب عليها بكلام.

في موضع آخر ينقل الوصية بهذه الآيات عن أحد كبار مشايخه في التهذيب و المعرفة و التربية الأخلاقية و المعنوية الشيخ محمد علي شاه آبادي (1292-

______________________________

(1)- راجع في

هذا الوصف مثلا: الميزان في تفسير القرآن 19: 201، حيث قوله: «و من غرر الآيات فيها الآيات السبع في آخرها».

(2)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 106.

(3)- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 20.

فهم القرآن، ص: 661

1369 ه)، و هو يكتب: «كان جناب العارف الكبير و شيخنا الجليل، يقول: إنّ المثابرة على تلاوة الآيات الشريفة آخر سورة الحشر، من الآية الشريفة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ «1» إلى آخر السورة المباركة مع تدبّر معانيها، في تعقيبات الصلوات، و خاصّة أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ البال، مؤثّر جدّا في إصلاح النفس» «2».

يبدو أنّ هذه العلاقة الوثيقة للإمام مع هذه السورة و ولعه بآياتها الأخيرة، دفعه لتفسير هذه الآيات تدريسا، لمجموعة من طلابه و محبّيه على ما يذكر بعضهم «3»، لكن للأسف لا أثر لتلك الدروس التفسيرية، لا نصا و لا تقريرا. بيد أنّ

______________________________

(1)- الحشر (59): 18.

(2)- الأربعون حديثا: 208.

(3)- هذا ما ذكره الشيخ محمد تقي جعفري (ت: 1998 م)، و هو يقول: «وجدت الإمام الخميني منذ أوّل يوم حضرت فيه درسه في الأخلاق، شخصية ذات بعد روحي عميق و نظرة ثاقبة، يحدّث مستمعيه بكلام يتناغم مع ما يجري في أعماقهم.

كان في تلك الأيام يدرّس الآيات الأخيرة من سورة الحشر. و اذكر على وجه الدقّة أنّه حينما جاء على تفسير الآية الشريفة: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، (الحشر (59): 24) أصبح البحث على درجة عالية من الجذّابية بحيث أخذ الطلاب يصغون إلى ما في كلامه من فيض عرفاني و هم يعيشون تحوّلا روحيا جارفا.

و قد اتضح من خلال التفاعل الروحي و عمق الموضوعات المطروحة أنّ هذا الكلام يفوق المعلومات التي تستلزمها مهنة عالم الدين، و هي معلومات غالبا ما ينهمك البعض فيها- و للأسف- دون سواها من الأمور». (راجع:

ملف خاص بمناسبة مئوية ولادة الإمام الخميني، دار الولاية للثقافة و الإعلام، قم، 1420 ه، العدد 37: 59- 60).

فهم القرآن، ص: 662

ذلك لم يحرمنا تماما من فرصة الإطلالة على بعض رؤى الإمام إزاء هذه الآيات، من خلال الرسالة التي كتبها إلى ولده أحمد في شوال 1404 ه، و تضمّنت إشارة مستأنفة للآيات الكريمة.

على هذا ستكون هذه الرسالة هي مصدرنا الأساس في هذه الفقرة، بالإضافة إلى نصوص اخرى نحيل إليها جاءت في بقية المصادر.

تفسير الآية الثامنة عشرة
اشارة

يبدأ الإمام كدأبه في المناسبات السابقة التي يمرّ بها على السورة، بحثّ ولده على التدبّر بها خاصّة أواخر آياتها، و هو يقول: «بني، اقرأ سورة الحشر المباركة، فإنّ فيها كنوزا من المعارف و ضروب التربية، ممّا يستحق أن يمضي فيه الإنسان عمرا بأكمله، يتفكّر بها و يتزوّد منها بألوان الزاد مستعينا بالعون الإلهي، بخاصّة آياتها الأواخر، بدءا من قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ «1» إلى آخر السورة.

ففي هذه الآية الصغيرة في لفظها، البالغة العمق في معناها، ثمّ احتمالات بنّاءة، نشير إلى بعضها» «2».

خمسة احتمالات في الخطاب

بعد المقدمة تلك في الحضّ على تلاوة السورة و التدبّر بآياتها خاصّة الأخيرة، يركّز الإمام على آية واحدة هي الثامنة عشرة، ليثير عددا من الاحتمالات

______________________________

(1)- الحشر (59): 18.

(2)- وعده ديدار: 107، المظاهر الرحمانية: 65.

فهم القرآن، ص: 663

في المخاطب بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ و ما يحوم حيال ذلك من معان، يعرض لها كما يلي:

[المعنى الأوّل]: يمكن أن تكون الآية خطابا لمن أحرز أوّل مراتب الإيمان، مثل إيمان العامة. على ضوء هذا الاحتمال يكون الأمر بالتقوى هو أمر بأوّل مراتبها، و هي التقوى العامّة المتمثّلة باجتناب مخالفة الأحكام الظاهرية الإلهية، و هي بذلك ناظرة إلى الأعمال الظاهرية.

وفاقا لهذا الاحتمال تكون عبارة: وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ تحذيرا من تبعات أعمالنا. و الشاهد على ذلك أنّ ما نقوم به من أعمال ستردّ علينا بنفسها بصورة تناسبها في النشأة الاخرى، و قد وردت في هذا المعنى آيات و أخبار كثيرة «1».

إنّ التفكّر في هذا الأمر يكفي القلوب اليقظة، بل يوقظ القلوب المؤهّلة، كما يمكن

أن يكون فاتحة الطريق لمراتب اخرى و مقامات أسمى. و الظاهر أنّ تكرار الأمر بالتقوى للتأكيد، و إن كان هناك احتمال آخر أيضا.

أمّا قوله: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، فهو تحذير جديد إلى أنّ أعمالكم لن تخفى عن محضر الحقّ تعالى، لأنّ العالم برمته هو في حضور الحقّ.

______________________________

(1)- من الآيات الدالّة، قوله سبحانه: وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، (الكهف (18): 49)، و قوله: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، (آل عمران (3): 30)، و قوله:

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى* وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى، (النجم (53): 39- 40)، و قوله: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، (الزلزلة (99): 6- 8).

أمّا الأحاديث المؤيدة، فتشمل أحاديث تجسّم الأعمال، و هي كثيرة يمكن مراجعتها في المجاميع الروائية.

فهم القرآن، ص: 664

[المعنى الثاني]: يمكن أن تكون الآية خطابا لاولئك الذين أوصلوا الإيمان إلى قلوبهم. فما أكثر ما يكون الإنسان مؤمنا بحسب الظاهر معتقدا بالشهادتين، لكن قلبه غافل عنهما؛ له علم بالاصول الخمسة و معتقدا بها، بيد أنّ هذا العلم و الإيمان لم يصلا قلبه. و ربما كان هذا هو حال الجميع، ما خلا خواصّ المؤمنين.

و هنا يكمن منشأ المعاصي التي تصدر عن بعض المؤمنين، فلو آمن القلب بيوم الجزاء و العقاب و تيقّن به كما ينبغي، لأصبح صدور المعصية و الذنب بعيدا جدّا. و لو آمن قلب الإنسان بعدم وجود إله غير اللّه لما مال لغير الحقّ تعالى، و لما أثنى على سواه و حمده، و لما خاف و خشي إلّا إياه.

تحليل نزعات الذات الإنسانية

بني، أراك تبدي أحيانا القلق و عدم الارتياح لما

تتلقّاه من افتراءات و إشاعات كاذبة، فأقول أولا: ستبقى لا محال تلقى الانتقادات و التهم و الإشاعات ما دمت حيا تتحرّك، و يرون فيك مصدر تأثير، فالعقد كثيرة و التوقّعات متزايدة و ضروب الحسد جمّة. الإنسان الفاعل حتّى لو كانت نواياه خالصة للّه تماما، فلن يكون بعيدا عن تجريح أهل السوء.

أعرف شخصيا عالما جليلا تقيا، لم يكن يذكر- قبل اعتلائه مقاما بسيطا- إلّا بالخير، و كان موضع إجماع أهل العلم و الآخرين تقريبا. لكن بمحض أن توجّهت إليه النفوس و حصل على شأن دنيوي و إن كان تافها، أصبح موضعا للتهمة و الأذى، و تفجّرت أشكال العقد و الحسد، و ظلّت تتحرّك ضدّه ما كان حيا.

كما ينبغي أن تعلم ثانيا، أنّ الإيمان بوحدة الإله و وحدة المعبود و وحدة المؤثّر لم يلج قلبك كما ينبغي. فلتسع لإيصال كلمة التوحيد التي تعدّ أسمى كلمة

فهم القرآن، ص: 665

و أعظمها، من عقلك إلى قلبك، إذ لا يعدو حظّ العقل ذلك الاعتقاد البرهاني الجازم، الذي إن لم تصل معطياته إلى القلب بالمجاهدة و التلقين، فلا يكاد يكون له أثر و فائدة تذكر. و ربّما كان بعض أصحاب البرهان العقلي و الاستدلال الفلسفي، أكثر عرضة من غيرهم للوقوع في شراك إبليس و النفس الخبيثة ... و هذه القدم البرهانية العقلية لا تصبح روحانية و إيمانية إلّا عند ما تنتقل من أفق العقل إلى مقام القلب، فيصدّق القلب ما أثبته الاستدلال عقليا.

بني، جاهد أن تودع قلبك و تسلمه للّه، بحيث لا ترى مؤثّرا سواه. و إلّا أ فلا يصلّي عامة المسلمين المتعبّدين عدّة مرّات في اليوم و الليلة؛ هذه الصلاة المفعمة بالتوحيد و المعارف، و هم يردّدون في اليوم و

الليلة عدّة مرات إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1»، و يحصرون العبادة و الإعانة- بألسنتهم- باللّه، و لكن تراهم يتذلّلون لكلّ عالم و قوي و ثري بحيث يكون هذا التذلّل و الخضوع أحيانا أكثر ممّا يفعلونه مع المعبود؟ كما يستعينون بأيّ كان و يستمدّونه و يتشبّثون بكلّ تافه في سبيل بلوغ الآمال الشيطانية غافلين عن قدرة الحقّ، لا يستثنى من ذلك سوى ثلّة من المؤمنين حقا و خواص اللّه!

و بناء على احتمال أنّ الخطاب موجّه إلى الذين بلغ الإيمان قلوبهم، فإنّ الأمر بالتقوى يختلف كثيرا عنه في الاحتمال الأوّل. فهذه ليست تقوى اتقاء الأعمال غير اللائقة، بل هي تقوى عن التوجّه إلى الغير، و تقوى عن استمداد غير الحقّ و عن العبودية لغيره، هي تقوى عن فسح المجال لغيره جلّ و علا لكي يأخذ موقعه في القلب، هي تقوى عن الاتكال و الاعتماد على غير اللّه.

______________________________

(1)- الفاتحة (1): 5.

فهم القرآن، ص: 666

و ما تراه أنت ممّا نحن و أمثالنا مبتلون به، و كذلك ما يبعث الخوف في نفسي و نفسك من الشائعات و الأكاذيب، و الخشية من الموت و التحرّر من رقّ الطبيعة و نزع الخرقة «1»، إنّما هو من قبيل تلك الامور التي ينبغي الاتقاء منها. و عندئذ يكون المراد من قوله: وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ الأفعال القلبية التي لها في الملكوت صورة، و فوقها صورة أيضا، و اللّه خبير بخطرات قلوب الجميع «2».

بيد أنّ هذا لا يعني أن تتخلّى عن الحركة و الفعّالية و تصير إلى الإهمال، و تختار العزلة عن كلّ شخص و كلّ شي ء، فهذا خلاف السنّة الإلهية و السيرة العملية للأنبياء العظام و الأولياء الكرام، فقد بذلوا-

صلوات اللّه و سلامه عليهم- كلّ ما في وسعهم في سبيل تحقيق المقاصد الإلهية و الإنسانية، لكن ليس كمثلنا نحن عمي القلوب الذين نتعامل مع الأسباب باستقلال، بل كانوا يعتبرون كلّ شي ء في هذا المجال منه جل و علا، و يرون الاستعانة بأيّ شي ء استعانة بمبدإ الخلق، و هذا من مقاماتهم العادية. و هنا يكمن أحد الفوارق بينهم و بين الآخرين.

أنا و أنت و أمثالنا حين ننظر إلى الخلق و نستعين به نغفل عن الحقّ تعالى، و الحال أنّهم يرون هذه الاستعانة بالآخرين أنّما هي استعانة به [تعالى] بحسب الحقيقة و الواقع، و إن بدت في الظاهر استعانة بالأسباب و الأدوات. كما يرون ما يقع [من حوادث و وقائع] منه سبحانه و إن بدا ظاهره بنظرنا غير ذلك، و بذلك يرونه حلوا رائقا في أرواحهم، مهما بدا مرّا و منغّصا بالنسبة لنا.

بني، ثمّ نقطة ظريفة بالنسبة لنا نحن المتخلّفين عن قافلة «الأبرار»، ربّما

______________________________

(1)- من المصطلحات العرفانية التي تعني تحرر روح الإنسان من أسر البدن.

(2)- أي سيكون المراد من تتمة الآية: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، هو أنّ اللّه خبير بخطرات قلوب الجميع.

فهم القرآن، ص: 667

كانت ذات أثر- بنظري- في بناء الإنسان، لمن له مسعى في ذلك. ينبغي أن ننتبه أنّ منشأ ارتياحنا للمدح و الثناء و استيائنا من الانتقادات و بثّ الشائعات، هو حبّ النفس الذي يعدّ أضخم شراك إبليس اللعين.

فنحن نرغب أن يكيل لنا الآخرون المدح، حتّى لو كان ذلك بافتعال الحسنات لنا و اختلاق الخصال الوهمية و مضاعفتها مئات المرّات! كما نرغب أن تبقى أبواب النقد مؤصدة دوننا، و إن كان هذا النقد بحق، أو أن يتحوّل النقد إلى إطراء و ثناء!

نتألّم

لتقصّي عيوبنا لكن ليس لكون ذلك خلاف الحقّ، و نفرح للمديح و الثناء و لكن ليس لأنّ ذلك حق، بل لأنّ هذا العيب عيبي «أنا»، و المدح ليس «لي».

و هذا أمر سائد في أوساطنا هنا و هناك و في كلّ مكان، و إذا أردت أن تتأكّد من صحّة هذا الأمر، فلاحظ لو أنّك أنجزت عملا ما، و أنجز مثله أو أحسن منه آخر خاصّة إذا كان من أقرانك و زملائك، ثمّ بادر الآخرون لمدحه، فسيزعجك ذلك و لا يروق لك، لا سيّما إذا صيّر المدّاحون عيوب ذلك الشخص مناقب. في هذه الحالة كن على يقين بأنّ يد الشيطان، و النفس الأسوأ من الشيطان، لهي دخيلة في هذا الأمر.

بني، ما أحسن أن تلقّن نفسك و تقنعها بحقيقة أنّ مدح المدّاحين و إطراء المطرين يجرّان الإنسان في الأغلب إلى الهلاك، و يبعدانه أكثر و أكثر عن التزكية. إنّ التأثير السيّئ الذي يتركه الثناء الجميل في نفوسنا الملوّثة، سيكون بالنسبة لنا نحن ضعاف النفوس منشأ لضروب الشقاء و ألوان البعد عن محضر الحقّ جلّ و علا.

و ربما كان رصد معايبنا و بثّ الشائعات ضدّنا نافعا لعلاج عيوبنا النفسية، تماما كالعملية الجراحية المؤلمة التي تؤدّي إلى شفاء المريض.

فهم القرآن، ص: 668

على هذا، إنّ اولئك الذين يبعدوننا عن جوار الحقّ بمدائحهم، هم أصدقاء يعادوننا بحبّهم. و إنّ اولئك الذين يظنّون أنّهم يناصبوننا العداء بتقصّي عيوبنا و تخرّصاتهم و بثّهم الشائعات ضدّنا، هم أعداء يصلحون حالنا- إذا كنّا أهلا للصلاح- و يحسنون إلينا من حيث يعادوننا.

إذا أيقنا أنا و أنت بهذه الحقيقة، و تركتنا المكائد الشيطانية و الأحابيل النفسية رؤية الواقعيات كما هي، سنضطرب حينها من مدح المدّاحين و نتأذّى

من ثناء الثّناءين، تماما كاضطرابنا اليوم من ذمّ الأعداء و كأذيّتنا من مفتعلي الشائعات المغرضين، و عندئذ سنرحّب بتقصّي عيوبنا كفرحتنا اليوم بمدائح المادحين و إطرائهم.

لو نفذ إلى قلبك ما تقدّم ذكره، فلن تزعجك بعد ذلك المنغّصات و لن يؤلمك اختلاق المختلقين، و ستعيش استقرار القلب و طمأنينته، فأكثر ضروب الآلام و القلق ناشئة من الأنانية و حبّ النفس، أنجانا اللّه جميعا منها.

[المعنى الثالث]: الاحتمال الآخر هو كون الخطاب موجّها إلى أصحاب الإيمان من خواصّ أهل المعرفة، الولهين بمقام الربوبية و عاشقي جمال الجميل سبحانه الذين يرون بنور القلب و المعرفة الباطنية، أنّ الموجودات كلّها هي مظهر الحقّ و جلوة له، و يعاينون نور اللّه في جميع المرئيات، و قد أدركوا الآية اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1» بالمشاهدة المعنوية و السير القلبي، رزقنا اللّه و إياكم.

وفاقا لهذا الاحتمال يختلف الأمر بالتقوى لهذه الطائفة من العشّاق و الخواص، عن الآخرين بفروق. فلعلّ التقوى المقصودة هنا، هي تقوى عن رؤية

______________________________

(1)- النور (24): 35.

فهم القرآن، ص: 669

الكثرات و شهود المرئيات و الرائي، هي تقوى عن التوجّه إلى الغير، و لو كان على نحو التوجّه إلى الحقّ من الخلق، هي تقوى حتّى عن «ما رأيت شيئا إلّا و رأيت اللّه قبله و معه و بعده» «1»، الذي لا يعدو كونه مقاما عاديا لخلّص الأولياء حيث ل «الشيئية» دخل في الأمر، تقوى عن مشاهدة اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، تقوى عن مشاهدة هُوَ مَعَكُمْ «2» و وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «3»، هي تقوى عن مظهر جمال الحقّ في الشجرة، إلى سائر ما يقع برؤية الحقّ في الخلق.

على هذا المنوال يكون المراد من الأمر بالنظر فيما

قدّمناه لغد [قوله تعالى:

وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ] هو هذه الحالات من مشاهدة الحقّ في الخلق، و الوحدة في الكثرة التي تجي ء على الصورة التي تناسبها في العوالم الاخرى.

[المعنى الرابع]: احتمال أن يكون الخطاب موجّها لاولئك النخبة من خلّص الأولياء الذين طووا مرحلة رؤية الحقّ في الخلق، و رؤية جمال حضرة الوحدة في الكثرة الفعلية فلا أثر لغبار الخلق على مرآة مشاهداتهم، و تخلّصوا من الشرك الخفي في هذه المرحلة، إلّا أنّهم أسلموا قلوبهم لتجليات أسماء الحقّ، فصاروا عشّاق ولهين بحضرة الأسماء، أفنتهم التجليات الأسمائية عن الغير، لا يشاهدون سوى مظاهر الأسماء.

مع هذا الاحتمال يكون الأمر بالتقوى أمرا بالتقوى عن رؤية التكثّرات الأسمائية و المظاهر الرحمانية و الرحيمية و سائر أسماء اللّه، حتّى لكأنّ صوتا يرنّ

______________________________

(1)- علم اليقين في اصول الدين 1: 49 باختلاف يسير مع المتن.

(2)- الحديد (57): 4.

(3)- الأنعام (6): 79.

فهم القرآن، ص: 670

في أسماعهم من الأزل إلى الأبد، أن ليس هناك إلّا مظهر واحد لا غير.

ثمّ تفسّر بقية الفقرات بما يناسب هذا المعنى. و إذا طووا هذه المرحلة و اجتازوها، فعندئذ لا شاهد و لا مشاهدة و لا شهود، بل هو الفناء في «هو» المطلق و «لا هو إلّا هو».

[المعنى الخامس]: أمّا أشمل الاحتمالات و أجمعها، فهو أن يحمل كلّ لفظ في الآية مثل «آمنوا» و «اتّقوا» و «لتنظر» و «ما قدّمت» و هكذا، على معانيها المطلقة، إذ هي جميعا مراتب لتلك الحقائق، حيث تكون الألفاظ عناوين موضوعة لمعان لا قيد لها، مطلقة من الحدّ و الحدود.

و إذا كان ثمّ احتمالات اخر فهي تندرج أيضا في هذا الاحتمال، و تعدّ مرتبة من مراتبه. و من ثمّ فهو يشمل أيّ فئة

أو طائفة من المؤمنين بالمعنى الحقيقي، بوصفها مصاديق للعنوان المطلق.

عندئذ تتحوّل هذه المسألة «1» إلى مفتاح لفهم كثير من الأخبار التي طبّقت

______________________________

(1)- يقصد بهذه المسألة أنّ اللفظ موضوع للشي ء في غايته و حقيقته و روحه لا في شكله و صورته، و من ثمّ فإنّ المدار في صدق اللفظ على مصداقه هو اشتمال المصداق على الغاية و الغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة. فمثلا يطلق لفظ «السراج» على كلّ ما يحقّق الاستضاءة سواء أ كان مصداقه الأشكال البدائية أو وسائل الإنارة المتطوّرة في عصرنا، فلفظ «السراج» يصدق على الفتيلة البدائية و الفانوس النفطي و المصباح الذي يشتغل بالطاقة الكهربائية، كما يصدق على أي مصداق تفرزه التجربة الإنسانية على خط تطوّرها القادم، حيث من المنتظر أن يشيع بيننا مصباح يشتغل بالطاقة الذرية. فهذه كلها- و غيرها- مصاديق للفظ ما دامت تحقّق الاستضاءة، بل لا مانع من تمديد دائرة المصاديق لتشمل ما هو عقلي و غيبي علاوة على ما هو حسي و مادي.

فهم القرآن، ص: 671

الآيات على فئة بعينها أو شخص بذاته ممّا يوهم اختصاصها بهذا المورد، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل هو من باب ذكر مصداق أو مصاديق متعدّدة و حسب» «1».

معنى «النسيان» و احتمالاته

بعد أن انتهى الإمام من ذكر الاحتمالات الخمسة في الآية المذكورة، تحوّل إلى الآية التي تليها، في مسار يستحضر الخصائص ذاتها التي تجمع بين التفسير و تحليل النزعات الباطنية للذات الإنسانية، و ربط ذلك كله بحركة الحياة و دور الإنسان فيها.

يضيف: «بناء على الاحتمالات المارّة، ينفتح الطريق لفهم الآية المباركة:

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ «2» التي تلي الآية الكريمة المتقدّمة.

فبحسب الاحتمالات المتقدّمة تنطوي الآية الكريمة هذه

على احتمالات أيضا، تناسب تلك الاحتمالات المختلفة المراتب و المتّحدة الحقيقة، ممّا لا مجال

______________________________

- لقد تحوّلت هذه المسألة إلى قاعدة منهجية أتاحت لحركة التفسير ولوج عوالم رحيبة خاصّة مع توسعة المصاديق من الدائرة المادّية إلى الدائرة العقلية و الغيبية، و بحدود تتبّعى رأيت أنّ أوّل من أشار إليها هو الغزالي في «جواهر القرآن: 51»، ثمّ تابعه عليه الشيرازي في «مفاتيح الغيب» و غير موضع من تفسيره، ثمّ اقتفى خطاه الكاشاني في مقدّمات تفسيره (المقدمة الرابعة من تفسير الصافي)، كما نقّحها من المعاصرين الطباطبائي في تفسيره (الميزان في تفسير القرآن 1: 9- 10).

(1)- وعده ديدار: 107- 113، المظاهر الرحمانية: 65- 72.

(2)- الحشر (59): 19.

فهم القرآن، ص: 672

للتفصيل فيه. بيد أنّني أكتفي بذكر نقطة واحدة، هي أنّ نسيان الحقّ يوجب نسيان النفس، سواء أ كان «النسيان» بمعناه المألوف [عدم التذكّر] أو كان بمعنى الترك، فعلى كلا المعنيين ثمّ في الآية تحذير قاصم.

إنّ نسيان الحقّ تعالى يستلزم نسيان الإنسان نفسه، أو قل إنّ الحقّ تعالى يجرّه إلى نسيان نفسه، و هو أمر يصدق على كلّ المراحل السابقة.

فمن ينسى اللّه و حضوره جلّ و علا في مرحلة العمل، يبتلى بنسيان نفسه، أو إنّه يجرّ إلى ذلك؛ ينسى عبوديته فيجرّ إلى النسيان من مقام العبودية. فمن لا يعرف ما هو و من هو و ما هو تكليفه و ما هي عاقبته، فقد حلّ الشيطان فيه و تسلّط عليه و حلّ محله، و الشيطان هو عامل العصيان و الطغيان. و ما لم ينتبه هذا الإنسان إلى نفسه و يئوب إلى ذكر الحقّ، ثمّ ينتقل عن هذا العالم و هو على هذه الحال من الطغيان و التمرّد، فقد يأتي في ذلك

العالم بصورة شيطان مطرود من قبل الحقّ تعالى.

أمّا إذا كان النسيان بمعناه الآخر؛ أي بمعنى «الترك»، فسيكون الأمر أوجع و أشدّ إيلاما؛ لأنّه إذا كان ترك طاعة الحقّ و ترك الحقّ من قبل الإنسان موجبا لأن يتركه الحقّ و يكله إلى نفسه و يقطع ألطافه عنه، فلا شك أنّ ذلك سينتهي به إلى خذلان الدنيا و الآخرة. لذا نرى كثرة ما جاء في الأدعية الشريفة المأثورة عن المعصومين عليهم السّلام من التأكيد في الدعاء على عدم إيكالنا إلى أنفسنا «1»؛ لأنّهم عليهم السّلام

______________________________

(1)- من ذلك: «و لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا» (الكافي 2: 524/ 10)، و كذلك: «و لا تكلني إلى نفسي» (نفس المصدر 2: 562/ 20)، أيضا: عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام، يقول و هو رافع يده إلى السماء: «ربّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا،-

فهم القرآن، ص: 673

يدركون تبعات هذه المصيبة، فيما نحن عنها غافلون!

بني، استعظم الذنوب و لا تستخفّ بها مهما بدت صغيرة في عينيك: «انظر إلى من عصيت» «1»، و بهذا المقياس ستغدوا كلّ الذنوب كبائر.

لا تغترّ بأيّ شي ء، فجميع الأشياء من اللّه تبارك و تعالى، و لو انقطعت ألطافه الرحمانية عن موجودات عالم الوجود بتمامها لحظة، لما بقي لشي ء أثر، حتّى للأنبياء المرسلين و الملائكة المقرّبين؛ لأنّ كلّ ما في الوجود مظهر لرحمانيته جلّ و علا، و أنّ رحمته الرحمانية جلّ و علا هي المبقية بدوامها دوام نظام الوجود؛ و هي المبقية لنظام الوجود: و لا تكرار في تجلّيه جلّ و علا. و قد يعبّر عن الحالة أحيانا ببسط الفيض و قبضه على سبيل الاستمرار.

لا تنسى حضوره سبحانه في كلّ

حال، و لا تغترّ برحمته، و في الوقت نفسه لا تيأس منها. كما لا تغترّ بشفاعة الشافعين عليهم السّلام؛ لأنّ لكلّ ذلك موازين إلهية نجهلها نحن.

اجعل نصب عينيك أدعية المعصومين عليهم السّلام، و تحرّقهم و تضرّعاتهم و رهبتهم من خشية الحقّ و عذابه، و اتخذها نبراسا ينير أفكارك و يوجّه سلوكياتك.

______________________________

- لا أقل من ذلك و لا أكثر»، قال: فما كان بأسرع من أن تحدّر الدموع من جوانب لحيته، ثمّ أقبل عليّ فقال: «يا ابن أبي يعفور إنّ يونس بن متى وكّله اللّه عزّ و جلّ إلى نفسه أقلّ من طرفة عين، فأحدث ذلك الذنب»، قلت: فبلغ به كفرا أصلحك اللّه؟ قال: «لا، و لكن الموت على تلك الحال هلاك» (نفس المصدر 2: 581/ 15).

(1)- جامع السعادات 3: 76، و فيه: «و لا تنظر إلى صغر الخطيئة، و انظر إلى كبرياء من واجهته بها».

فهم القرآن، ص: 674

إنّ الأهواء النفسانية و شيطان النفس الأمّارة بالسوء، تدفعنا نحو الغرور، و تجرّنا بذلك إلى التهلكة» «1».

نعيد التأكيد مجدّدا إلى أنّ هذه المقاطع جاءت تجمع بين التفسير بمعناه الوظيفي و بين الإفادات التي تنطلق على ضفاف الآيات، و تستمد منها المعاني، كما فعل سماحته حين دمج في مركّب واحد، بين التفسير و تحليل بعض مكوّنات النفس الإنسانية و نزعاتها، و بين حركة الواقع و وجود الإنسان و دوره في الحياة.

و لم نشأ أن نفصل بين الاثنين تبعا لما يقضي به منهج العرض، حفاظا على وحدة سياق النص، و لكي لا يؤثّر الفصل على انسجامه و انسيابه «2».

ب- تفسير آية الفطرة

اشارة

يحظى بحث الفطرة بمكانة متميّزة في منظومة الفكر القرآني، بحيث أولاه المفسّرون اهتماما خاصّا قديما و حديثا. لم يشذّ الإمام الخميني

عن ذلك، إذ تناول هذا المبحث في مواضع متعدّدة من كتبه انطلاقا من الآية العتيدة في سورة الروم «3»، فمرّ على معنى الفطرة و مجالها و مكوناتها و ما يترتب عليها، ممّا نسعى إلى استعراضه تفصيلا في هذا النموذج.

______________________________

(1)- وعده ديدار: 113- 115، المظاهر الرحمانية: 73- 74.

(2)- هناك نصوص تفسيرية اخرى لهذه الآيات في مصنفات الإمام، منها: شرح حديث جنود عقل و جهل: 52، 131، آداب الصلاة: 259، تفسير سورة حمد: 104، 158، مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية: 21.

(3)- الروم (30): 30.

فهم القرآن، ص: 675

الفطرة لغويا

ينطلق الإمام في تحديد المعنى اللغوي، من الحديث التالي: عن زرارة، قال:

سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام، عن قول اللّه عز و جل: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال: «فطرهم جميعا على التوحيد» «1»، حيث يكتب: «يقول أهل اللغة و التفسير أنّ «الفطرة» تعني الخلق. و في «الصحاح»: الفطرة بالكسر، الخلقة. و يمكن أن تكون الكلمة مشتقّة من «فطر» بمعنى شقّ و مزّق، كأنّ «الخلق» هو شقّ ستار العدم و تمزيق حجاب الغيب. و بهذا المعنى أيضا يأتي «إفطار» الصائم، فكأنّه يمزّق استمرارية الإمساك.

على كلّ حال، البحث اللغوي خارج عن نطاق موضوعنا. الحديث الشريف بالجملة هو إشارة إلى الآية الكريمة في سورة الروم: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ «2». سنمرّ إن شاء اللّه بإشارة إجمالية على هذه الفطرة، و كيفيتها، و كيف يكون الناس على فطرة التوحيد، في نطاق عدد من الفصول و المقامات.

فصل: في معنى الفطرة

اعلم أنّ المقصود من فطرة اللّه التي فطر اللّه تعالى الناس عليها، هو الحال و الكيفية التي جعل الخلق عليها، ممّا يعدّ من لوازم وجودهم التي خمّرت بها

______________________________

(1)- الكافي 2: 12/ 3.

(2)- الروم (30): 30.

فهم القرآن، ص: 676

خميرتهم في أصل الخلقة. الفطر الإلهية- كما سيتبيّن ذلك فيما بعد- هي من الألطاف التي خصّ بها اللّه تعالى بني الإنسان دون جميع المخلوقات. فالموجودات الاخرى إمّا أنّها فاقدة لهذه الفطر، و إما أنّها موجودة فيها على نحو ناقص بحيث ليس لها منها إلّا حظ ضئيل.

هنا لا بدّ من معرفة أنّ الفطرة و إن فسّرت في هذا الحديث و غيره من الأحاديث بالتوحيد «1»،

إلّا أنّ هذا هو من قبيل بيان المصداق، أو التفسير بأشرف أجزاء الشي ء، كما هو حال التفاسير الواردة عن أهل [بيت] العصمة- سلام اللّه عليهم- التي تعدّ من هذا القبيل، فحيث يتمّ ذكر مصداق بحسب مقتضى المناسبة، يحسب الجاهل أنّ هناك تعارضا.

و الدليل على أنّ الأمر كذلك في هذا المورد، أنّ الآية الشريفة عدّت «الدين» فِطْرَتَ اللَّهِ، مع أنّ الدين شامل للتوحيد و المعارف الاخرى. ففي «صحيحة» عبد اللّه بن سنان فسّرت الفطرة ب «الإسلام» «2». كما فسّرت في «حسنة» زرارة ب «المعرفة» «3».

______________________________

(1)- راجع: الكافي 2: 12/ 1 و 3 و 5، و راجع على نحو أوسع: البرهان في تفسير القرآن 3:

261- 263.

(2)- عن عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السّلام، قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ:

فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ما تلك الفطرة؟ قال: «هي الإسلام». راجع الكافي 2: 12/ 2.

(3)- عن زرارة، عن الإمام الباقر عليه السّلام، قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ، (الحج (22): 31)، قال: «الحنيفية من الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها، لا تبديل لخلق اللّه، فطرهم على المعرفة به». (نفس المصدر 2: 12/ 4)

فهم القرآن، ص: 677

و في الحديث المعروف: «كلّ مولود يولد على الفطرة» «1» جاءت في مقابل «التهوّد» و «التنصّر» و «التمجّس». كما فسّرها الإمام أبو جعفر [الباقر] عليه السّلام في «حسنة» زرارة المذكورة ب «المعرفة».

فإذن اتضح ممّا مرّ أنّ «الفطرة» لا اختصاص لها بالتوحيد، بل أنّ كلّ المعارف الحقة هي من الامور التي فطر الحقّ تعالى شأنه عليها العباد.

فصل: في تحديد أحكام الفطرة

لا بدّ من معرفة أنّ ما هو من أحكام الفطرة لا يختلف فيه

أحد، لأنّه من لوازم الوجود و الكيفية المخمّرة في أصل الطينة و الخلقة، إذ يجمع عليه العالم و الجاهل، و الوحشي و المتمدّن، و الحضري و البدوي. كما لا تنفذ إليها أيّ من العادات و المذاهب و السنن المختلفة، و لا تقوى على الإخلال بها مطلقا. كما يلحظ أيضا بأنّ اختلاف البلاد و الأهواء و المألوفات و الآراء و السنن و التقاليد التي تؤثّر في كلّ شي ء و تكون منشأ للخلاف و الاختلاف فيه حتّى الأحكام العقلية، لا تؤثّر في الفطريات قط.

كما لا يؤثّر في أحكام الفطرة اختلاف الأفهام و تفاوت الإدراك ضعفا و قوة و لا يلحق بها أيّ ضرر، و إلّا إذا لم يكن الشي ء بهذه المثابة، فهو ليس من أحكام الفطرة، بل يجب عدّه خارج دائرة الفطريات. لذا جاء في الآية الشريفة: فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ممّا يعني أن لا اختصاص لها بفئة دون اخرى. كما قوله أيضا:

لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، أي لا يغيّرها شي ء كما هو الحال في الامور الأخر التي

______________________________

(1)- عوالي اللآلي 1: 35/ 18.

فهم القرآن، ص: 678

تختلف بتأثير العادات و غيرها.

بيد أنّ ما يثير الدهشة و يبعث على العجب، أنّه على الرغم من عدم وجود أيّ خلاف بشأن الامور الفطرية منذ أوّل الخليقة حتّى آخرها، إلّا أنّ بني الإنسان يكادون أن يكونوا غافلين عن أنّهم متفقون، و يظنّون أنّهم مختلفون، إلّا أن ينبّهوا إلى ذلك فعندئذ يدركون أنّهم كانوا متّفقين رغم اختلافهم الظاهري، كما سيتّضح الأمر بعد ذلك إن شاء اللّه. إلى هذا المعنى تشير خاتمة الآية الشريفة، في قوله:

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.

يتضح ممّا مرّ أنّ أحكام الفطرة أكثر بداهة من كلّ أمر بديهي، إذ لا يوجد

عندنا في الأحكام العقلية كافّة حكم بهذه المنزلة لم و لن يختلف عليه أحد. من هنا يتضح أنّ مثل هذا الأمر- الفطرة- هو من أوضح الضروريات و أبده البديهيات، و ما يكون كذلك فإنّ لوازمه ينبغي أن تكون من أوضح الضروريات أيضا. فإذا كان التوحيد أو بقية المعارف من أحكام الفطرة أو من لوازمها، فينبغي إذا أن تكون من أجلى البديهيات و أظهر الضروريات وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.

فصل: فيه إشارة إجمالية إلى أحكام الفطرة

اعلم أنّ المفسّرين من العامّة و الخاصّة قد بيّنوا كيفية كون الدين أو التوحيد فطريا، كلّ بطريقته و بحسب منهجه الخاص. بيد أنّنا لا نجري مجراهم في هذه الأوراق، بل استفيد في بيان ذلك من آراء الشيخ العارف الكامل الشاه آبادي دام ظلّه الذي يعدّ متفرّدا في هذا المضمار، و إن كان بعضها موجودا بطريق الرمز و الإشارة في كتب بعض المحقّقين من أهل المعرفة، و بعضها الآخر هو ممّا خطر في فكري القاصر.

فهم القرآن، ص: 679

فإذن، ينبغي أن يعرف أنّ من ضروب الفطرة الإلهية، ما يكون فطرة على أصل وجود المبدأ تعالى و تقدّس، و منها الفطرة على التوحيد، و منها الفطرة على استجماع تلك الذات المقدّسة لكلّ الكمالات، و فطرة على المعاد و يوم القيامة، و فطرة على النبوة، و فطرة على وجود الملائكة و الروحانيين و إنزال الكتب و إعلام سبل الهداية، حيث تعدّ بعض الامور المذكورة من أحكام الفطرة، و بعضها الآخر من لوازمها.

إنّ الإيمان باللّه تعالى و بالملائكة و الكتب و الرسل و يوم القيامة، هو الدين القيّم المحكم الحقّ المستقيم على امتداد حياة العائلة البشرية. و لسوف نشير إلى بعضه ممّا يتناسب مع الحديث الشريف، طالبين التوفيق من الحقّ

تعالى.

المقام الأوّل: في أنّ أصل وجود المبدأ من الفطرة

يتضح هذا الأمر بعد الانتباه إلى مقدّمة واحدة تفيد أنّ من الامور الفطرية التي جبل عليها بنو الإنسان جميعا، حتّى أنّك لن تجد إنسانا واحدا يخالفها من جميع العائلة البشرية، كما لا يمكن أن يغيّرها أو يلحق بها الخلل أيّ من العادات و التقاليد و الأعراف و الأخلاق و السنن و غير ذلك، هي فطرة حبّ الكمال. فلو أنّك طفت في جميع الأدوار الحياتية التي مرّت بها البشرية، و استنطقت كلّ فرد من الأفراد، و كلّ طائفة من الطوائف، و كلّ امّة من الامم لرأيت هذا العشق و هذه المحبة معجونين في خميرته، و أنّ قلبه متّجه صوب الكمال أبدا.

بل إنّ حبّ الكمال هو الدافع الذي يكمن وراء كلّ الحركات و السكنات و الفعّاليات التي تصدر عن كلّ واحد من أفراد النوع الإنساني، و هو الباعث للجهود المضنية الشاقّة التي يبذلها كلّ إنسان في مجال عمله، و ذلك على الرغم من

فهم القرآن، ص: 680

الاختلافات القصوى بين الناس في تحديد الكمال و بما ذا يكمن، و بم يتمثّل الحبيب و أين يكمن المعشوق و هكذا. فكلّ إنسان وجد معشوقه في شي ء، ظانا أنّ ما توهّمه هو منتهى كماله و كعبة آماله، و يسعى نحوه ببذل الغالي و النفيس. أهل الدنيا و زخارفها يحسبون الكمال في الثروة، و يجدون فيها معشوقهم، فيبذلون الغالي و النفيس في سبيل تحصيلها. و هكذا يتّجه كلّ إنسان في أيّ اختصاص كان، و مهما كان نوع عمله و الشي ء الذي يحبّه، يتجه إلى ذلك الشي ء لحسبانه أنّه هو الكمال.

هكذا الحال بالنسبة لأهل العلوم و الصنائع إذ يبذل كلّ واحد جهده و يتفانى في سبيل ما ظنّ أنّه كماله و معشوقه،

مع اختلاف هذه الكمالات المتوهّمة بحسب اختلاف سعتهم الفكرية. و أهل الآخرة و الذكر و الفكر يرون الكمال و المعشوق في غير ذلك.

بشكل عام، كلّ هؤلاء متّجهون صوب الكمال، حتّى إذا ما تصوّروه في موجود أو أمر وهمي تعلقوا به و عشقوه. لكن ينبغي أن يتضح أنّه على رغم ما مرّ، فإنّ حبّ هؤلاء و عشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي أحبّوه و ظنّوا بأنّه معشوقهم، و إنّ ما توهّموه محبوبهم و كمالهم لا يمثّل في الحقيقة معشوقهم و كعبة آمالهم. آية ذلك و دليله، أنّ كلّ واحد من هؤلاء لو عاد إلى فطرته، لوجد أنّ قلبه في الوقت الذي يبدي الحبّ لشي ء ما و يظهر العلقة به، فهو لا يلبث و أن يتحوّل إلى غيره و ينصرف عنه سريعا إذا وجد أنّ الثاني أكمل منه و أسمى مرتبة. و عند ما يبلغ هذا الكامل و يحوز عليه، ثمّ يعثر على ما هو أكمل منه يترك الثاني و يتجه إلى الأكمل منه، بل تشتعل نيران عشقه و يضطرم أوار اشتياقه و يزداد حتّى لا يستقر قلبه على مرتبة من المراتب و لا يلقي برحاله في أيّ حدّ من الحدود و لا يقنع به.

فلو كنت مثلا محبّا لجمال القدود و نضارة الوجوه، و عثرت على ضالّتك عند

فهم القرآن، ص: 681

من تراه كذلك و توجّه قلبك نحوه، ثمّ لاح لك وجه أجمل، فستتّجه بالضرورة إلى الأجمل، أو تطلب الاثنين معا على الأقلّ. ثمّ لا تستقر نيران الاشتياق و لا ينطفئ أوارها، و لسان حالك و فطرتك: أريدها جميعا، بل أنت تريد الاستحواذ على الجمال كلّه. و إنّ هذا الذوق و الشوق يستعر حتّى بالاحتمال و التخيّل،

فلو احتملت جميلا أجمل من كلّ ما تراه بعينيك و ما هو موجود بين يديك، لصبا قلبك إليه، فتحلّق إلى بلد الحبيب، و لسان حالك يقول: أنا بين الجمع و قلبي في مكان آخر.

بل أنت تعشق حتّى ما تصافحه آمالك، فلو سمعت أوصاف الجنّة و ما فيها من الوجوه الساحرة، لنادت فطرتك: يا حبذا هذه الجنة، و يا ليت هذه الوجوه من نصيبي، حتّى لو لم تكن تؤمن بالجنة لا سامح اللّه.

كذلك من يرى الكمال في النفوذ و السلطان و اتساع الملك و اتجه اشتياقه نحو ذلك، فتراه لو استحوذ على بلد فكّر بالاستحواذ على الثاني، و لو سيطر على الثاني و أصبح تحت نفوذه و سلطته لتطلع إلى ما هو أكثر. فهو كلّما استولى على بلد، مال للاستيلاء على بلدان اخرى، بل تضطرم نار تطلّعاته و تزداد، بحيث إذا ما بسط هيمنته على الكرة الأرضية و صارت جميعها بحوزته، ثمّ احتمل إمكان بسط سلطته على الكواكب الاخرى، لتطلع قلبه إلى تلك الكواكب و تمنى لو كان بالإمكان أن يطير إلى تلك العوالم كي يخضعها لسلطانه.

قس على ذلك أصحاب الصناعات و رجال العلم. أساسا هذا حال أفراد الجنس البشري برمته، مهما تكن مهنتهم و حرفهم، فأيّ ما إنسان بلغ مرتبة ما، فإنّ شوقه يحمله إلى ما هو أكمل منها و أرقى، و من ثمّ فإنّ هذا الشوق و التطلع لا يستقر و لا ينطفئ، بل هو في أوار و اشتعال و تزايد.

إذا، فهذا هو نور الفطرة الذي هدانا إلى أنّ قلوب العائلة البشرية كافة، بدءا

فهم القرآن، ص: 682

من سكان أقاصي بلاد إفريقيا حتّى سكان بلدان العالم المتقدّم، و من الطبيعيين الماديين حتّى أهل الملل

و النحل، تتّجه قلوبهم بالفطرة صوب كمال لا نقص فيه و هم بأجمعهم عاشقون جمالا و كمالا لا يعتوره عيب، و متطلّعون إلى علم لا جهل فيه، و قدرة و سلطان لا يلابسهما عجز و لا فتور، و حياة لا موت فيها، و من ثمّ فإنّ الكمال المطلق هو معشوق الجميع.

إنّ الموجودات بأكملها و العائلة الإنسانية برمتها، لينادون بلسان فصيح و قلب واحد: إننا نعشق الكمال المطلق، نحن نحبّ الجمال و الجلال المطلقين، نحن نريد القدرة المطلقة، و نصبو إلى العلم المطلق. و السؤال: هل ثمّ في جميع سلسلة الموجودات في عالم التصوّر و الخيال، و في التجويزات العقلية و الاعتبارية؛ هل ثمّ موجود ينطوي على الكمال المطلق و الجمال المطلق، غير الذات المقدّسة، مبدأ العالم جلّت عظمته؟ و هل ثمّ جميل على الإطلاق لا يشوبه نقص إلّا ذلك المحبوب المطلق «1»؟

فيا أيها الهائمون في وادي الحيرة، الضائعون في صحارى الضلالة، لا بل، أيّتها الفراشات الهائمة حول نور جمال الجميل المطلق، و يا عشّاق المحبوب الأزلي المنزّه من العيب، عودوا قليلا إلى كتاب الفطرة، و تصفّحوا كتاب ذاتكم، فسترون و قد خطّ فيها بقلم قدرة الفطرة الإلهية: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ «2»؛ فهل أنّ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها هي فطرة التوجّه إلى

______________________________

(1)- لقد ساق الإمام هذا الدليل الفطري على أصل وجود المبدأ في الرسالة التي بعث بها إلى غورباتشوف، يدعوه فيها إلى الإيمان و الخروج من ربقة الإلحاد.

(2)- الأنعام (6): 79.

فهم القرآن، ص: 683

المحبوب المطلق؟ و هل الفطرة التي لا تتبدّل لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ هي فطرة المعرفة؟

إلى متى و أنت توجّه هذا الحبّ الفطري الذي وهبك اللّه إياه،

صوب الخيالات الباطلة؟ و إلى متى و أنت تنفق هذه الوديعة الإلهية نحو هذا و ذاك؟ إذا كان محبوبك هو هذا الجمال الناقص و ضروب الكمالات المحدودة، فلما ذا لا يقرّ لك قرار و أنت تصل إليها، و لما ذا لا يهدأ أوار اشتياقك، بل يزيد ذلك في اتقاد شوقك و اشتداده؟

تيقّظ من نوم الغفلة و استبشر فرحا بأنّ لك محبوبا لا يزول، و معشوقا لا نقص فيه، و مطلوبا من دون عيب، و إنّ لك مقصودا نور طلعته اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1»، و أنّ لك محبوبا سعة إحاطته، هي: «لو دلّيتم بحبل إلى الأرضين السفلى لهبطتم على اللّه» «2».

إذن، يستوجب عشقك الفعلي الحقيقي معشوقا فعليا حقيقيا، و لا يمكن أن يكون هذا المعشوق شيئا وهميّا خياليا؛ مردّ ذلك أنّ كلّ موهوم ناقص، و الفطرة تتّجه صوب الكامل. فإذا، لا يكون العاشق الحقيقي و العشق الفعلي الحقيقي من دون معشوق، و ما ثمّ غير الذات الكاملة معشوق تتّجه إليه الفطرة. هكذا يكون لازم عشق الكامل المطلق، وجود الكامل المطلق.

و بذلك اتضح أنّ أحكام الفطرة و لوازمها أوضح من جميع البديهيات: أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «3».

______________________________

(1)- النور (24): 35.

(2)- علم اليقين في اصول الدين 1: 54.

(3)- إبراهيم (14): 10.

فهم القرآن، ص: 684

المقام الثاني: فطرة توحيد الحقّ و بقية صفاته

في بيان أنّ توحيد الحقّ تعالى شأنه، و استجماع ذاته لكلّ الكمالات، هو من الامور الفطرية. و مع أنّ هذا الأمر يتضح بلحاظ ما تمّ ذكره في المقام الأوّل، إلّا أنّنا سنبرهن عليه هنا ببيان آخر.

اعلم أنّ من ضروب الفطرة التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، هي فطرة النفور من النقص. لذا ترى الإنسان يتنفّر من كلّ شي ء إذا

ما وجد فيه نقصا و عيبا. و بذلك يثبت أنّ العيب و النقص هما ممّا تنفر منهما الفطرة، تماما كما هي تنجذب إلى الكمال المطلق. فإذن ينبغي للفطرة أن تتّجه إلى «الواحد» و «الأحد» لأنّ كلّ كثير و مركّب ناقص، و الكثرة لا تكون غير محدودة [و من ثمّ فهي ناقصة لأنّها محدودة] و ما هو ناقص لا تنجذب إليه الفطرة، بل تنفر منه. و بذلك يثبت التوحيد من خلال هاتين الفطرتين؛ فطرة التعلّق بالكمال و الرغبة فيه و فطرة التنفّر من النقص و العزوف عنه. بل يثبت هذا الدليل الفطري أيضا استجماع الحقّ لكلّ الكمالات و خلوّ الذات المقدّسة من كلّ نقص.

من هنا تعدّ سورة التوحيد المباركة التي تنعت صفات الحقّ جلّ و علا؛ تعدّ الهوية المطلقة التي تتّجه إليها الفطرة، و التي عبّرت عنها السورة المباركة بكلمة «هو» المباركة، برهانا على الصفات الستّ المذكورة بعدها. فبحسب هذه الإشارة التي أدلى بها شيخنا الجليل روحي فداه [يعني به الشاه آبادي] ما دامت ذاته المقدّسة هوية مطلقة، و الهوية المطلقة يجب أن تكون كاملة مطلقة، و إلّا لكانت هوية محدودة، و من ثمّ فهي مستجمعة لكلّ الكمالات، فإذن هي «اللّه». و في عين استجماعه للكمالات كلها فهو بسيط، و إلّا لما كان هوية مطلقة، فإذن هو «أحد»،

فهم القرآن، ص: 685

و لازم الأحدية الواحدية. و لما كانت الهوية المطلقة المستجمعة للكمالات كلها منزّهة عن جميع النقائص التي تعود بأجمعها إلى الماهية، فإذا تلك الذات المقدسة هي «الصمد» و ليست جوفاء. و لما كانت تلك الذات هوية مطلقة فلا يولد منها شي ء و لا ينفصل عنها شي ء لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ «1» و لا ينفصل هو

عن شي ء، بل هو مبدأ الأشياء كلها و مرجع تمام الموجودات، بدون الانفصال الذي يوجب النقصان. أخيرا ما دامت الهوية مطلقة فلا كفو لها وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «2» إذ لا يتصوّر التكرار في صرف الكمال. فإذا السورة المباركة [الإخلاص] هي من أحكام الفطرة، و ممّا جاء في نعت الحقّ تعالى.

المقام الثالث: بيان فطرة المعاد

في بيان أنّ المعاد و يوم القيامة هو من الامور الفطرية المجبولة في طينة البشر. و هذا أيضا مثل المقامين السابقين؛ إذ يمكن البرهنة عليه بطرق كثيرة و إثباته من خلال امور فطرية عديدة، نكتفي بالإشارة إلى بعضها.

اعلم أنّ من بين ضروب الفطرة الإلهية التي فطرت عليها العائلة البشرية بأسرها و بنو الإنسان بأجمعهم، هي فطرة حبّ الراحة. فلو تمت العودة إلى جميع أدوار الحضارة و التوحّش، و إلى أشواط التدين و العناد في حياة الإنسانية، و لو تمّ سؤال جميع بني الإنسان العالم منهم و الجاهل، و الشريف و الوضيع، و المتحضّر و البدوي، عن الباعث من وراء هذه العلائق المختلفة و الأهواء المتشتّتة، و عن الغاية

______________________________

(1)- الإخلاص (112): 3.

(2)- الإخلاص (112): 4.

فهم القرآن، ص: 686

لتحمّل كلّ هذه الصعاب و ضروب المشاق في الحياة، لاتفق الجميع على كلمة واحدة و أجابوا بلسان الفطرة الصريح، بأنّ كلّ ما نتوخّاه هو لأجل راحتنا. فالغاية النهائية و المرام الأخير و منتهى الآمال تكمن جميعا بالراحة المطلقة و الاستقرار غير المشوب بالتعب و النصب و المعاناة.

و ما دامت هذه الراحة غير المشوبة بالتعب و التي لا يمازجها ألم و نقمة هي معشوقة الجميع، و ما دام كلّ إنسان يتخيّل أنّ هذا المعشوق المفقود يتمثل في شي ء، لذا تراه يتعلّق بأي شي ء قد خيّل إليه

بأنّ فيه محبوبه، مع أنّه لا يمكن العثور على مثل هذه الراحة المطلقة في جميع أرجاء عالم الملك و لا يمكن نيلها في الدنيا بأسرها، إذ ليس من الممكن العثور على راحة غير مشوبة. فتمام نعم هذا العالم يصاحبها العناء و العذاب المضني، و ما من لذّة من لذات الدنيا إلّا و هي محفوفة بالآلام المبرحة، و هذه هي ضروب الألم و التعب و الحزن و المعاناة و الغصة تضرب بجرانها في هذا العالم.

و على امتداد الحياة الإنسانية لن تجد إنسانا واحدا يتساوى عذابه و راحته، و أنّ نعمته توازي تعبه و نقمته، ناهيك عن أن يعيش الراحة الخالصة المطلقة. فإذا، لا وجود لمعشوق بني الإنسان في هذا العالم، و ما دام العشق الفطري الجبلّي الفعلي الذي جبلت عليه البشرية برمّتها لا يمكن أن يكون من دون معشوق موجود فعلا، فإذن لا بدّ و أن يكون هناك في دار التحقّق و عالم الوجود عالم لا تشوب راحته شائبة ألم و تعب، و راحة مطلقة لا يخالطها شي ء من العناء و الشقاء، و سرور خالص لا يعتوره حزن و لا همّ، و تلك هي دار نعيم الحقّ، و عالم كرامة الذات المقدّسة.

كما يمكن إثبات ذلك العالم [الآخرة و يوم القيامة] من خلال فطرة الحرية و نفوذ الإرادة، الموجودة في فطرة كلّ إنسان من أبناء المجموعة البشرية. فما دامت

فهم القرآن، ص: 687

مواد هذا العالم و أوضاع هذه الدنيا و مضايقاتها و ما يكتنفها من معوّقات و ضغوطات تحدّ من الحرية الإنسانية و تحول دون نفوذ الإرادة البشرية، فلا بدّ إذا من وجود عالم آخر تكون للإرادة فيه كلمتها النافذة، بحيث لا تعوّق مواد ذلك العالم نفوذ

تلك الإرادة و لا تستعصي عليها، ليكون الإنسان حرا فيه، فعّالا لما يشاء و حاكما بما يريد، كما هو مقتضى الفطرة.

فإذا يعدّ عشق الراحة، و عشق الحرّية جناحين مودعين لدى الإنسان بحسب فطرة اللّه التي لا تتبدّل، يطير بهما الإنسان في عالم الملكوت الأعلى و القرب الإلهي.

ثمّ في هذا المجال مواضيع اخرى لا تسعها هذه الأوراق، تتضمّن الإشارة إلى فطرات اخر لإثبات المعارف الحقة كالنبوة و بعث الرسل و إنزال الكتب. بل يمكن إثبات المعارف كلّها من خلال فطرة واحدة من الفطر المذكورة، بيد أنّنا نكتفي بهذا القدر؛ لئلا نخرج عن الموضوع بما لا يناسب الحديث الشريف.

اتضح إلى هنا، أنّ العلم بالمبدإ، و الكمالات و وحدتها، و العلم بيوم المعاد و عالم الآخرة، هو من الامور الفطرية، و الحمد للّه» «1».

أفكار اخرى

الحقيقة أنّ هناك بحثا تفصيليا آخر يسوقه الإمام حول الفطرة و ما يرتبط بها من أفكار، جاء في كتاب انتهى من تأليفه سنة 1363 ه «2»، فضلا عن مصادر

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 179- 187، الأربعون حديثا: 205- 214.

(2)- راجع: شرح حديث جنود عقل و جهل: 76- 86، 98- 103، 194، و مواضع متعدّدة

فهم القرآن، ص: 688

البحث في بقية آثاره «1».

لكنّنا سنعزف عن عرض البحث بتفاصيله لطوله أوّلا، و لتداخله ثانيا مع البحث الذي انتهينا منه قبل قليل، لنكتفي بدل ذلك، بعدد من الأفكار لم تجئ الإشارة إليها في البحث السابق. أبرز هذه الأفكار، هي:

1- الفطرة الأصلية و التبعية: من التقسيمات المنهجية التي يسوقها الإمام في بحث الفطرة و يوليها اهتماما كبيرا، تقسيمه إيّاها إلى فطرة أصلية و فطرة تبعية، تتفرّع عنهما جميع ضروب الفطرة الاخرى «2».

لقد جبل اللّه سبحانه هاتين الفطرتين في طينة

الإنسان و خميرته الوجودية، و لا مناص للإنسان عنهما في خط سيره التكاملي و حركته صوب المقصد.

أمّا الفطرة الأصلية فهي تتمثّل بحبّ الكمال المطلق و تعشّق الخير و السعادة المطلقين، ممّا هو مركوز في كلّ فرد من أفراد النوع الإنساني، لا فرق بين السعيد و الشقي، و الجاهل و العالم، و السامي و الوضيع، و المتحضر و البدوي، و بتعبير الإمام نفسه: «لو قدّر للإنسان أن يطوف في أرجاء العائلة الإنسانية، و يتفحّص كلّ

______________________________

- اخرى.

(1)- هناك إشارات تفسيرية في نصوص الإمام لآيات متعدّدة من سورة الروم، يمكن ملاحظتها كما يلي: تفسير سورة حمد: 11، الأربعون حديثا: 636، جهاد أكبر: 42، شرح دعاء السحر: 53 و 91.

أمّا بشأن آية الفطرة فيمكن ملاحظة بقية مصادرها، كما يلي: الأربعون حديثا: 42، 640، آداب الصلاة: 59، سرّ الصلاة: 91، صحيفه امام 1: 17، و 14: 33، 209، و 20: 165، 253، 438.

(2)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 76.

فهم القرآن، ص: 689

الطوائف و الجماعات و الأقوام، لما أمكنه العثور حتّى على إنسان واحد لا يحبّ الكمال بحسب أصل جبلّته و تكوينه الفطري، و لا يتعشّق الخير و السعادة.

و المقصود من الفطريات هي الامور التي تكون بهذه المثابة، و من ثمّ ستكون أحكام الفطرة من أبده البديهيات و أوضح الواضحات» «1».

أمّا الفطرة الثانية التي يسمّيها الإمام الفطرة الفرعية أو التابعة، فهي فطرة التنفّر من النقص و الأذى من الشرّ و الشقاء. و هذه الفطرة بحسب مصطلحات الإمام مخمّرة بالعرض، و قد سمّيت تابعة لأنّها تأتي مترتبة على الفطرة الاولى؛ فطرة حبّ الكمال و تعشّق الخير و السعادة «2».

و هاتان الفطرتان، كما ينصّ الإمام، هما: «فطرة مخمورة غير محجوبة، لم

تخضع لأحكام الطبيعة، بل لا تزال تحافظ على سمتها الروحاني النوري. و إلّا إذا اتجهت الفطرة صوب الطبيعة [كما هو حال الفطرة المحجوبة التي سيأتي الحديث عنها في الفقرة الآتية] و خضعت لأحكام الطبيعة و صارت محجوبة عن الروحانية و عالمها الأصلي، فستكون منشأ جميع الشرور و مبعثا لضروب الشقاء و ألوان البلاء» «3».

2- الفطرة المخمورة و المحجوبة: من التقسيمات المنهجية الاخرى التي يرتكز إليها الإمام، تقسيم الفطرة إلى فطرة مخمورة تتّجه إلى الروحانية و النور و عالمها الأصلي، فتكون منشأ الخير كلّه، و فطرة محجوبة خاضعة للطبيعة

______________________________

(1)- نفس المصدر: 77.

(2)- نفس المصدر.

(3)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 690

و محجوبة بأحكامها و ضوابطها و موازينها «1».

ينطلق تحليل الإمام من القلب الذي يعدّ مركز حقيقة الفطرة، ليسجّل أنّ لهذا القلب جهتين، واحدة صوب عالم الغيب و النور و المعنوية، و الاخرى صوب عالم الشهادة و الطبيعة و الملك. و لمّا كان الإنسان وليد الطبيعة و ابن هذه النشأة الدنيوية، كما يشير لذلك قوله سبحانه: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ «2»، فسيتفاعل منذ البدء مع الطبيعة و ينمو في رحابها، فتملي عليه ضوابطها و موازينها، التي تتحوّل بالتدريج إلى حجب تحاصر قلبه و نفسه، و تدفع الفطرة المخمورة إلى الهامش، لتكون المحجوبة سيّدة الموقف، يعينها على ذلك ثلاث قوى، هي القوّة الشيطانية، و القوّة الغضبية و القوّة الشهوية.

و بذلك يحتاج فعل الطبيعة إلى فعل مضادّ يبدّد حجبها و يفكّ حصارها الذي تفرضه على قلب الإنسان و روحه، لكي يتجه صوب النور و عالم الغيب و المعنى، و يعود إلى مساره الأصلي، و هذا ما تنهض به الفطرة المخمورة، بيد أنّها لا تستطيع أداء هذه المهمّة وحدها، فكان أن بعث اللّه

جلّت قدرته: «بألطافه الأزلية و رحمته الواسعة؛ بعث الأنبياء العظام عليهم السّلام، لتربية الإنسان، و إنزال الكتب السماوية، لكي يكون ذلك معينا من الخارج، للفطرة الداخلية في مهمّة إنقاذ النفس من هذا الغلاف الغليظ» «3»؛ غلاف الطبيعة و حجاب الفطرة المحجوبة.

رحلة الإنسان هذه في عالم الطبيعة و حركته بين الفطرتين، هو المعنى الذي قد يمكن استشفافه من قوله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَ

______________________________

(1)- نفس المصدر.

(2)- القارعة (101): 9.

(3)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 79.

فهم القرآن، ص: 691

رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «1»، ف «أحسن تقويم» في الآية، إشارة إلى نور الفطرة الأصلي المخمّرة بيد الحقّ سبحانه، و «أسفل سافلين» هو الاحتجاب بالطبيعة، أو الصيرورة في حالة الفطرة المحجوبة التي تحاصر قلب الإنسان و روحه بالظلام «2».

الفطرة الاولى- كما سلفت الإشارة- هي في هذا التحليل منشأ جميع الخيرات التي تعمّ العالم و الوجود الإنساني، في حين أنّ الثانية هي منشأ جميع الشرور الموجودة في العالم ممّا يصدر عن الإنسان كنتيجة لاحتجاب الفطرة الاولى. و المطلوب أن يهتمّ الإنسان بتهذيب نفسه عناية فائقة، لكي يزيح عنها الحجب أو يدفع الفطرة المحجوبة و ينزع أو يهذّب أسلحتها المتمثّلة بالقوى الثلاث (الشيطانية و الغضبية و الشهوية) و ما ينشأ عنها، لكي يعطي الفرصة للفطرة المخمورة حتّى تمارس دورها في بثّ الخير و تعميمه «3».

3- فطرية أركان الإيمان: للإمام نصوص مكثّفة على أنّ أصل وجود اللّه جلّت عظمته و تحلّيه بالكمالات كلّها، و الإيمان بالرسل الكرام و الكتب المنزلة و الملائكة و البعث و الحشر و القيامة هي جميعا من مبادئ الفطرة و اصولها. لكن غاية ما في الأمر أنّ «بعض هذه من الامور الفطرية الأصلية مثل

المعرفة و التوحيد، و بعضها الآخر من الفروع» «4».

في هذه النقطة يثير الإمام مسألة تستحق الكثير من الدراسة و التأمّل، تفيد أنّ الولاية هي من الفطريات أيضا. يلجأ الإمام إلى إثبات هذا المطلب و البرهنة عليه،

______________________________

(1)- التين (95): 4- 5.

(2)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 78.

(3)- نفس المصدر: 83- 86.

(4)- نفس المصدر: 98.

فهم القرآن، ص: 692

إلى اللغة الفلسفية و العرفانية، أو إلى العرفان الفلسفي، لينتهي إلى أنّ «الولاية شعبة من شعب التوحيد»، لأنّ حقيقة الولاية هي الفيض المطلق، و الفيض المطلق هو ظلّ الوحدة المطلقة، و لما كانت الفطرة بالذات متّجهة صوب الكمال الأصلي، فهي متّجهة بالتبع صوب الكمال الظلّي المتمثّل بالولاية مفهوما، و بالحقيقة المحمدية و العلوية مصداقا «1»، و بذلك ثبت المطلوب من أنّ «الولاية من الامور الفطرية» «2».

يرى الإمام أنّ نتائج البرهان على هذه المسألة تتطابق مع النصوص، التي تفسّر الفطرة- فيما تفسّره- بالولاية، كما هو الحال في الحديث الشريف الذي يفسّر فيه الإمام الباقر الفطرة بالتوحيد و النبوة و الولاية. فعن الرماني، قال: حدثنا علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جدّه محمد بن علي عليهم السّلام، في قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، قال: «هي لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه، علي أمير المؤمنين ولي اللّه» «3»، بل ثمّ في حديث آخر عن أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السّلام، في قوله سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، قال: «هي الولاية» «4».

4- عدم فطرية الكفر: من النتائج الأساسية التي تترتب على البحث، هو أن يخرج الكفر عن دائرة الفطرة النورية المخمورة. فالإنسان مجبول على التنفّر من النقائص، و الكفر نقص، فلا يمكن أن يكون فطريا، إلّا إذا

عنينا بها الفطرة المحجوبة التي تعدّ منشأ الشرور و ضروب الشقاء و النقص. و بتعبير الإمام: «يتضح ممّا مرّ أنّ

______________________________

(1)- نفس المصدر: 99- 100.

(2)- نفس المصدر: 101.

(3)- البرهان في تفسير القرآن 3: 262.

(4)- نفس المصدر.

فهم القرآن، ص: 693

الكفر هو ممّا تنفر منه الفطرة، و من ثمّ فهو من الفطريات المحجوبة، لا من المخمورة» «1».

5- الاشتباه في المصداق: يركّز الإمام في ثنايا جميع نصوصه عن الفطرة، أنّ ما نلحظه من مفارقات في السلوك الإنساني من جنوح في العقيدة إلى الإلحاد و إنكار النبوة و الولاية، أو التوجّه صوب مصاديق ناقصة للحبّ و الكمال، ليس فيه ما يدلّ على خطأ مسار الفطرة.

فكلّ هذه الأمثلة تثبّت صحّة المسار و لا تلغيه، إلّا أنّها بأجمعها تعبير عن خطأ الإنسان في تحديد المصداق «2»، فالذي يبحث عن الكمال في المال أو الجاه أو السلطة، إنّما يحرّكه في هذا السلوك دافعه الفطري في البحث عن الكمال و الانشداد إليه و التعانق معه، بيد أنّه يخطئ في تحديد مصداق هذا الكمال، و هكذا الحال بالنسبة للمجالات و الخروقات الاخرى.

خلاصة بحث الفطرة

يمكن إجمال أهمّ الأفكار التي عرض لها بحث الإمام حيال الفطرة، من خلال النقاط التالية:

1- تعدّ أحكام الفطرة و لوازمها من أبده البديهيات و أوضح الواضحات لا يختلف فيها اثنان قط و لا تتأثّر بالأوضاع و التقلبات، و ما يكون بهذه المثابة هو وحده من الفطريات. و الفطرة هي الميراث المشترك بين الإنسانية جمعاء.

______________________________

(1)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 103.

(2)- نفس المصدر: 98، و راجع: شرح چهل حديث: 184.

فهم القرآن، ص: 694

2- لا تقتصر الفطرة على التوحيد وحده أو على ما سواه ممّا ذكرته الأحاديث من تطبيقات، و إنّما تدخل

في مداها جميع المعارف الحقّة، و ما جاء ذكره في الروايات هو من باب بيان المصداق أو التفسير بأشرف أجزاء الشي ء.

3- الفطرة بهذا المعنى الوسيع هي من ألطاف اللّه التي اختصّ بها الإنسان، إذ هي إما مفقودة أو ناقصة عند بقية الموجودات.

4- على تعدّد ضروب الفطرة و أنواعها، فهي تعود عند الإمام إلى فطرتين، الاولى أصلية تتمثّل بحبّ الكمال المطلق، و الثانية فرعية تابعة تتمثّل بالتنفّر من النقص.

5- الفطرة أيضا فطرتان، فطرة مخمورة نورية هي منشأ جميع ما يصدر عن الإنسان من خيرات، و فطرة محجوبة ظلمانية خاضعة لأحكام الطبيعة، هي منشأ كلّ الشرور.

6- لا تستطيع الفطرة المخمورة على نوريتها من مواجهة الفطرة المحجوبة وحدها. و هنا يأتي دور النبوات كعامل خارجي لتفجير مكنونات الفطرة المخمورة، و دفع المحجوبة نحو الهامش.

7- الولاية عند الإمام هي من أحكام الفطرة أيضا، أسوة ببقية المعارف الحقّة.

8- ليس الكفر من الفطرة، لأنّه نقص و الإنسان مجبول على التنفّر من النقائص، إلّا إذا عنينا بها الفطرة المحجوبة.

9- ما يظهر أمامنا من مفارقات بل من خروقات لخطّ الاستقامة الإنسانية في العقيدة و السلوك و الفكر و العمل، يعود إلى خطأ الإنسان في تحديد المصداق، و من ثمّ فهو دليل آخر على وجود الفطرة لا نفيها.

فهم القرآن، ص: 695

ج- سورة الحديد

اشارة

آخر نموذج تفسيري نطلّ عليه، هو الآيات الست الاولى من سورة الحديد.

مبعث العناية بهذه الآيات من السورة، هو الحديث الشريف الذي يصفها بأنّها تمثّل مع سورة «الإخلاص» الذروة العليا التي تشبع تطلعات العقل البشري إلى المعرفة.

فحين سئل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عن التوحيد، أجاب عليه السّلام، بقوله:

«إنّ اللّه عزّ و جلّ علم أنّه سيكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل

اللّه تعالى:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1»، و الآيات من سورة الحديد، إلى قوله: وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «2»، فمن رام وراء ذلك فقد هلك» «3».

يقدّم الإمام لتفسير هذه الآيات، الواحدة تلو الاخرى على الترتيب الذي سنعرض له، فيما يلي:

التسبيح حقيقي لا مجازي

يفتتح سماحته الحديث عن الآية الاولى التي تعلن صراحة تسبيح الموجودات بأسرها للّه ربّ العالمين، ليلتزم الرأي الذي يفيد أنّ هذا التسبيح حقيقي و ليس مجازيا بدلالته الوجودية على وجود الخالق، كما تدلّ عليه آيات اخرى مثل قوله سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «4» فلو

______________________________

(1)- الإخلاص (112): 1.

(2)- الحديد (57): 6.

(3)- الكافي 1: 91/ 3.

(4)- الإسراء (25): 44.

فهم القرآن، ص: 696

كان المقصود منه التسبيح بلسان الحال أو التسبيح الوجودي التكويني، لما كان ثمّ معنى للاستدراك في الآية: وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

«إنّ تأويل «التسبيح» بالتسبيح التكويني أو الفطري، هو من التأويلات البعيدة الباردة، حيث تأباه الأخبار و الآيات الشريفة، و يرفضه البرهان الفلسفي السديد، و يتعارض مع المنحى العرفاني السامي الجميل.

على أنّ ما يبعث على الدهشة هو ما ذهب إليه الحكيم الكبير و العالم الجليل صدر المتألّهين قدّس سرّه، على حمل تسبيح الموجودات على غير التسبيح النطقي، مفسرا نطق بعض الجمادات كنطق الحصى [بين يدي الرسول الأعظم] هو من قبيل إنشاء نفس الولي المقدّس لأصوات و ألفاظ تأتي طبقا لأحوال تلك الجمادات. رافضا [الشيرازي] في الوقت ذاته ما ذهب إليه بعض أهل المعرفة من أنّ لجميع الموجودات حياة نطقية، عادا ذلك مخالفا للبرهان ملازما للتعطيل و دوام القسر، برغم أنّ هذا الرأي يغاير مبادئه و الاصول التي يؤمن بها. [أقول] إنّ هذا القول [تسبيح الموجودات نطقيا]

الذي يعدّ صريح الحقّ و لبّ لباب العرفان لا يستلزم أيّة مفسدة أبدا. و لو لا مخافة التطويل لبادرنا إلى بيانه مع المقدّمات، و لكنّا نكتفي من ذلك بإشارة إجمالية.

لقد أشرنا في السابق أيضا إلى أنّ حقيقة الوجود عين الشعور و العلم و الإرادة و القدرة و الحياة و سائر الشئون الحياتية، على النحو الذي إذا لم يكن لشي ء من الأشياء علم و لا حياة بالمطلق، فلن يكون له وجود. إنّ من يدرك حقيقة أصالة الوجود و اشتراكه المعنوي بالذوق العرفاني، يستطيع أن يصدّق ذوقا [شهودا و عيانا] أو علما [إثباتا و برهانا] أنّ الحياة سارية في جميع الموجودات، مع جميع ما يقترن بذلك من علم و إرادة و تكلّم و غير ذلك. و إذا ما صار من أصحاب مقام المشاهدة

فهم القرآن، ص: 697

و العيان من خلال الرياضات المعنوية، لشاهد عيانا و سمع مباشرة دوي تسبيح الموجودات و تقديسها. لكنّنا الآن نعيش سكر الطبيعة الذي ضرب أعيننا و أسماعنا و حواسنا الاخرى بخدره، و منعنا من الوقوف على الحقائق الوجودية و الهويّات العينية.

و كما أنّ بيننا و بين الحقّ سبحانه حجبا ظلامية و حجبا نورية تحول بيننا و بينه، فكذلك هناك بيننا و بين بقية الموجودات، بل بيننا و بين أنفسنا حجب تفصلنا عن إدراك حياة تلك الموجودات و علمها و سائر شئونها. بيد أنّ الأسوأ من كلّ الحجب و الأنكى منها جميعا حجاب الإنكار من خلال الأفكار المحجوبة التي تجعل الإنسان يخسر كلّ شي ء، و من ثمّ فإنّ أفضل وسيلة بالنسبة لأمثالنا نحن المحجوبين التصديق بالآيات و التسليم لأحاديث أولياء اللّه، و غلق باب التفسير بالرأي و الجنوح إلى التطبيق عبر هذه العقول

الضعيفة.

ثمّ إذا كان ممكن جدلا تأويل آيات «التسبيح» بالتسبيح التكويني البارد أو الشعوري الفطري، فما ذا نفعل مع هذه الآية الشريفة: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ «1»؟ أو قضية الطير الذي جاء للنبي سليمان بخبر من مدينة سبأ «2»؟ و كذلك الأخبار التي وردت عن أهل بيت العصمة و الطهارة في أبواب متفرّقة [الدالّة على نطق الحيوانات و شعور الكائنات الاخرى] ممّا لا يمكن أن يخضع لمثل هذه التأويلات مطلقا؟

بشكل عام، ينبغي أن تعدّ قضية سريان الحياة في الكائنات و الأشياء

______________________________

(1)- النمل (27): 18.

(2)- قوله سبحانه حكاية عن لسان الهدهد مخاطبا سليمان: فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ. (النمل (27): 22- 23)

فهم القرآن، ص: 698

و تسبيحها الشعوري العلمي؛ من ضروريات الفلسفة العالية و بديهياتها، و من مسلّمات أصحاب الشرائع و أهل العرفان. أمّا كيفية تسبيح كلّ موجود و ما له من أذكار معينة تختصّ به، و أنّ صاحب الذكر الجامع هو الإنسان، و لسائر الموجودات أذكارها التي تناسب نشأتها الخاصّة؛ فإنّ ذلك كلّه يخضع بنحو عام إلى ميزان علمي و عرفاني يرتبط بعلم الأسماء، و أمّا تفاصيله فترتبط بالعلوم الكشفية العيانية المباشرة، التي تعدّ من خصائص الأولياء الكمّل.

و جريا على ما ذكرناه في الفصل السابق من أنّ «بسم اللّه» من كلّ سورة متعلّقة بالسورة نفسها، فإنّ [البسملة] هنا متعلقة أيضا ب «سبّح للّه». و يستفاد من الآية إثبات مسلك أهل الحقّ في قضية الجبر و التفويض، لأنّها تنطوي على النسبتين معا؛ النسبة إلى اسم

اللّه الذي هو مقام المشيئة الفعلية، و النسبة إلى الأشياء الموجودة في السماوات و الأرض، و قد جاءت النسبتان على نحو لطيف يعدّ منتهى كشف أهل الشهود و المعرفة. و قد جاء تقديم النسبة إلى المشيئة الإلهية- على النسبة الثانية- لإفهام قيّومية الحقّ و من أجل تقديم حيثية ما يلي اللّه على حيثية ما يلي الخلق.

و لو لا مخافة التطويل لبيّنا حقيقة التسبيح و استلزامه للتحميد، و أنّ أيّما تسبيح و تحميد يصدر من أي مسبّح و حامد إنّما يقع للحق سبحانه و يكون من أجله، و أنّ التسبيح و التحميد يكونان باسم اللّه و لاسم اللّه، و أنّ الاسمين المباركين «العزيز و الحكيم» مختصّان باللّه، و لذكرت طبيعة العلاقة بينهما و بين «اللّه»، ثمّ الفرق بين «اللّه» المذكور في التسمية و «اللّه» المذكور في الآية الشريفة: سَبَّحَ لِلَّهِ، و المقصود من السماوات و الأرض و ما فيهما؛ [لو لا الخشية من التطويل و الملالة لبيّنت ذلك كلّه و] ذكرته تفصيلا تبعا لاختلاف مناهج أهل المعرفة

فهم القرآن، ص: 699

و الفلسفة، و لذكرت الفارق بين «هو» في الآية الشريفة [قوله سبحانه: وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] و «هو» في الآية المباركة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ على الطريقة العرفانية العذبة، بيد أنّني عزفت عن ذلك لما ألزمت به نفسي في هذه الأوراق من القناعة بالإجمال و الإشارة» «1».

[الآية الثانية]: «و أمّا الآية الشريفة الثانية [قوله سبحانه: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ «2»] فهي إشارة إلى مالكية الحقّ جلّ جلاله لملكوت السماوات و الأرض، هذه المالكية و الإحاطة و السلطنة و نفوذ القدرة و التصرف، التي يتمّ بالتبع لها

الإحياء و الإماتة، و الظهور و الرجوع، و البسط و القبض. و هذه النظرة تقضي باستهلاك جميع التصرفات و كلّ التدبيرات و اضمحلالها في تصرّف الحقّ و تدبيره؛ و هذا منتهى التوحيد الفعلي و غايته.

من هذه الزاوية جاءت نسبة الإحياء و الإماتة اللذين يعدّان من المظاهر الكبرى للتصرّفات الملكوتية أو هما جميع القبض و البسط، إلى مالكية الذات المقدّسة نفسها [لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ 2]. و مع أنّ الإحياء من الشئون الرحمانية و الإماتة من الشئون المالكية، إلّا أنّ نسبة الاثنين معا إلى المالكية، يمكن أن يكون إشارة إلى أمر عرفاني جليل، يتمثّل في استجماع كلّ اسم لجميع الأسماء على وجه أحدي و وجهة غيبية ممّا لا مجال لبيانه الآن.

كما يمكن أن يكون صدر الآية و ذيلها إشارة إلى الوحدة في الكثرة، و الكثرة

______________________________

(1)- شرح چهل حديث: 654- 656، الأربعون حديثا: 684- 685.

(2)- الحديد (57): 2.

فهم القرآن، ص: 700

في الوحدة في مقام التجلّي الفعلي بالفيض المقدّس، كما هو واضح عند أهله.

أمّا الضمير «له» فيبدو أنّه يعود إلى «اللّه»، كما يحتمل إرجاعه إلى «العزيز» و «الحكيم»، و عندئذ يختلف معنى الآية الشريفة تبعا لهذين الاحتمالين، ممّا يمكن أن يتضح لأهله بالتأمل.

أمّا بيان كيفية مالكية الحقّ، و أنّ إتيان «يحيي و يميت» بصيغة المضارع الدال على التجدّد و الاستمرار، و بيان مرجع الضمير «هو» و الفرق بين المعاني تبعا للاختلاف في مرجع الضمير، و بيان أنّ «المحيي» و «المميت» و «القادر» هي من أسماء الذات أو من الصفات أو الأفعال، فهي جميعا بحوث موكولة إلى محلّها. كما أنّ لبيان كلّ من كيفية الإحياء و الإماتة، و حقيقة صور إسرافيل، و نفختي الإحياء

و الإماتة، و شئون حضرة إسرافيل و عزرائيل و مكانتهما، و كيفية إحيائهما و إماتتهما، بيانات عرفانية و براهين فلسفية طويلة.

[الآية الثالثة]: أمّا الآية الشريفة الثالثة: [هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ] فقد علم العارف بالمعارف الحقّة لأرباب المعرفة و اليقين، و السالك طريق أصحاب القلوب و السالكين، أنّ منتهى سلوك السالكين و غاية آمال العارفين، هو فهم هذه الآية الكريمة المحكمة.

قسما بعمر الحبيب، ليس ثمّ تعبير لحقيقة التوحيد الذاتي و الأسمائي أفضل من هذا التعبير، و إنّه لينبغي لجميع أصحاب المعارف السجود أمام هذا العرفان المحمدي التام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الكشف الجامع الأحمدي، و الآية الإلهية المحكمة.

قسما بحقيقة العرفان و الحبّ، إنّ العارف المجذوب و العاشق لجمال المحبوب، تستولي عليه لسماع هذه الآية هزّة ملكوتية، و انبساط إلهي، يقصر عنه ثوب البيان، و تعجز الموجودات كلّها عن استيعابه و تحمّله، فسبحان اللّه ما أعظم

فهم القرآن، ص: 701

شأنه و أجلّ سلطانه و أكرم قدره و أمنع عزّه و أعزّ جنابه.

يجدر باولئك الذين يعترضون على كلمات العرفاء الشامخين و العلماء باللّه و أولياء الرحمن، أن يتأمّلوا كلماتهم و ينظروا أيّ عارف رباني أو سالك مجذوب استطاع أن يأتي بأكثر ممّا تضمنته هذه الآية الكريمة التامّة و رسالة القدس الإلهي [القرآن الكريم] و أيّهم جاء بمتاع جديد [مبتدع؛ خارج إطار القرآن] في مضمار المعارف؟ ها هي ذي الآية الكريمة- بين أيديكم- و تلك هي كتب العرفاء المشحونة عرفانا؛ فقارنوا «1»!

مع أنّ سورة الحديد المباركة بخاصّة آياتها الشريفة الاولى، تنطوي على معارف تقصر عن نيلها الآمال، إلّا أنّ لهذه الآية الكريمة بنظر الكاتب، خصوصية تفوق

الآيات الاخرى. إنّ بيان أوّلية الحقّ و آخريته، و ظاهريته و باطنيته، ليس بالأمر الذي يؤدّيه البيان أو يجرؤ القلم على النهوض به، فإذا لنضرب عن هذا صفحا، تاركين إدراكه لقلوب المحبين و الأولياء.

[الآية الرابعة]: الآية الشريفة الرابعة: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]، فهي إشارة إلى خلق السماوات و الأرض في ستة أيام، و استوائه على العرش.

قد تحيّرت عقول أرباب العقل في تفسير هذه الآية الكريمة، و اتخذ كلّ إنسان سبيله في تفسيرها تبعا لمنهجه الخاص في العلم و مسلكه في العرفان.

______________________________

(1)- مغزى هذه الدعوة إلى المقارنة أنّ جميع ما ذكره العرفاء من معارف، مستمد من القرآن الكريم، و هو أقل ممّا يطويه الكتاب العزيز خاصة أمثال هذه الآيات، فلما ذا هذا التسقط لكلمات العرفاء، و إثارة الأجواء ضدّهم.

فهم القرآن، ص: 702

فعلماء الظاهر ذهبوا إلى أنّ المقصود من الخلق في ستة أيام، أنّه لو قدّرت مدّة خلق السماوات و الأرض في الزمان لتطابقت مع ستة أيام.

من جهته ذهب الفيلسوف العظيم صدر المتألهين قدّس سرّه، إلى تطبيق تلك الأيام على أيام الربوبية، الذي يعدّ كلّ واحد منها بألف سنة [من سنيننا] و عدّ المدة من زمان نزول آدم إلى زمان بزوغ الشمس المحمدية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التي تصل إلى ستة آلاف سنة، متطابقة مع الأيام الستّة، و جعل ابتداء طلوع شمسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الجمعة و يوم الجمع الذي

هو اليوم السابع و أوّل يوم القيامة، و ابتداء استواء الرحمن على العرش.

لقد ذكر الشيرازي ذلك إجمالا في «شرح اصول الكافي» و تناوله تفصيلا في تفسيره «1».

كما ذهب بعض أهل المعرفة إلى أنّ الأيام الستة، هي عبارة عن مراتب سير نور شمس الوجود في مرائي النزول و الصعود.

أمّا بحسب مسلك العرفاء الذي يذهب إلى أنّ للوجود مراتب وجود حتّى آخر مرتبة منها، التي هي مرتبة احتجاب شمس الوجود في حجب التعيّنات، و تلك حقيقة ليلة القدر، و أنّ ابتداء يوم القيامة من أوّل مرتبة رجوع الملك إلى الملكوت و خرق حجب التعيّنات إلى آخر مراتب الظهور و الرجوع التي هي الظهور التام للقيامة الكبرى؛ بحسب هذا المسلك فإنّ الأيام الستة التي انتهى فيها خلق السماوات و الأرض، ممّا ينتهي إلى عرش اللّه و عرش الرحمن، الذي هو منتهى غايات استواء الحقّ سبحانه و استيلائه و قهاريته؛ هذه الأيام هي المراتب الصعودية الست في العالم الكبير. و إنّ عرش استواء الحقّ الظاهر بالقهّارية التامّة و المالكية،

______________________________

(1)- راجع: شرح اصول الكافي: 249- 250، تفسير القرآن الكريم 6: 160 فما بعد.

فهم القرآن، ص: 703

هو مرتبة المشيئة و الفيض الرحماني المقدّس، و ظهوره التام بعد رفع التعينات و الفراغ من خلق السماوات و الأرضين.

و ما دامت السماوات و الأرض موجودة، فإنّ خلقها لم يكتمل بعد عند أهل المعرفة، بمقتضى قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «1»، و بحسب عدم التكرّر في التجلّي. و في الإنسان الكبير و العالم الأكبر فإنّ المراتب ستّة و اللطيفة السابعة هي عرش الرحمن، التي تعدّ مرتبة القلب الحقيقي. و لو لا خشية الإطالة لبيّنت أفضلية هذا الوجه على سائر الوجوه على نحو مستفيض.

و مع أنّ علم الكتاب الإلهي هو عند الحقّ تعالى و المخصوصين بالخطاب، إلّا أنّنا نتحدّث بحسب الاحتمال و على أساس العلائق، بعد تعذّر حمل الآية على ظاهرها.

ثمّ في هذا المجال احتمال آخر لا يتعارض مع البيان العرفاني، و هو ينسجم مع علم الهيئة المعاصر الذي أبطل الهيئة البطليموسية. ينطلق هذا الاحتمال من واقع وجود منظومات شمسية كثيرة اخرى غير منظومتنا الشمسية، تنأى عن العدّ و الحصر كما جاء ذلك تفصيلا في كتب علم الأفلاك الحديث، و من ثمّ يكون المراد من السماوات و الأرض هذه المنظومة الشمسية ذاتها و المدارات و الكواكب التابعة لها، و إنّ تحديدها بالأيّام الستّة هو بحسب منظومة شمسية اخرى. هذا الاحتمال أقرب إلى الظاهر- ظاهر الآية- من بقية الاحتمالات، و لا يتصادم مع الاحتمالات العرفانية، لأنّ تلك الاحتمالات [العرفانية] مسوقة بحسب بطن من بطون القرآن.

أمّا قوله في آخر الآية الكريمة: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ إلى آخره، فهو إشارة إلى علم الحقّ تعالى بجزئيات مراتب الوجود في سلسلة الغيب و الشهود،

______________________________

(1)- الرحمن (55): 29.

فهم القرآن، ص: 704

و النزول و الصعود. كما أشير بقوله: هُوَ مَعَكُمْ إلى المعية القيّومية للحقّ سبحانه و كيفية علم الحقّ تعالى بالجزئيات الذي يتمّ بطريقة الإحاطة الوجودية و السعة القيّومية. أمّا إدراك حقيقة قيّومية الحقّ هذه، فهو أمر لا يتاح إلّا لخواص أولياء اللّه.

[الآية الخامسة]: بالنسبة إلى الآية الخامسة [قوله سبحانه: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]، فهي إشارة إلى مالكية الحقّ و رجوع تمام دائرة الوجود إلى الحقّ. كما هي إشارة إلى أنّ هذه العملية برمتها مرتبطة باسم «المالك»، تماما كما هو الحال في قوله في سورة الفاتحة: مالِكِ

يَوْمِ الدِّينِ «1». أمّا تفسير كلّ أمر من هذه الامور و تفصيله، فهو يتطلّب مجالا آخر.

[الآية السادسة]: أمّا الآية الشريفة السادسة [قوله سبحانه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ] فهي إشارة إلى اختلاف الليل و النهار، و أنّ أيّ نقصان في أحدهما يظهر على شكل زيادة في الآخر و بالعكس. إنّ في هذا الاختلاف منافع كثيرة يخرج ذكرها عن وظيفتنا.

ثمّ للآية الكريمة معنى عرفاني آخر امتنعنا عن ذكره» «2».

2- اللمحات و الإشارات القرآنية

اشارة

ربّما لا نبالغ إذا قلنا إنّ بين أيدينا مئات اللمحات و الإشارات القرآنية التي تتحرّك في مدارات متعدّدة، عقيدية و تربوية و أخلاقية و اجتماعية و ثقافية و حركية و سياسية، إذ إنّ هذا الحقل يفوق في تراث الإمام القرآني الحقل التفسيري بمعناه

______________________________

(1)- الفاتحة (1): 4.

(2)- شرح چهل حديث: 656- 659، الأربعون حديثا: 685- 690.

فهم القرآن، ص: 705

العلمي الوظيفي.

ما نهدف إليه في هذه الفقرة هو استعراض أكبر عدد ممكن من هذه الإشارات و اللمحات، موزّعة على موضوعات متعدّدة، نعرض لها كما يلي:

أ- إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه

اشارة

لا نجانب الحقيقة و نحن نسجّل أنّ للإمام و لعا عظيما بهذه الآية الكريمة:

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى «1»، التي تحوّلت إلى ما يشبه البيان الأوّل لحركته الإحيائية، و الإطار التأسيسي الذي يحوي بذور نهضته و عناصرها الاولى.

يعود تأريخ أوّل وثيقة تؤشّر للعلاقة الحميمة التي تربطه بهذه الآية، إلى ستة عقود من الآن، ثمّ توالت هذه العلاقة و لم تنقطع حتّى أواخر عمر الإمام. فسماحته اتخذ من هذه الآية منطلقا للنهضة، و أساسا للعمل الاجتماعي و السياسي العام، و كان ينظر إليها بوصفها تمثّل روح العمل الديني، و من ثمّ فهي المنار الذي يضي ء للسالكين و العاملين الطريق.

على مدار ستين عاما و الإمام يستمدّ من هذه الآية بصائر تدفع إلى العمل من أجل اللّه، و يتزوّد منها بطاقة تغذّ الخطى على دروب الاستقامة و النهضة و الصبر على مشاقّهما، حتّى وثّقت المصادر المكتوبة خمسة عشر مرّة وقف فيها الإمام مع هذه الآية على مدار هذه السنين «2»، هذا خلا ما كان ذكره شفويا و في المجالس

______________________________

(1)- سبأ (34): 46.

(2)- راجع في توثيق هذه المصادر: فصلية بينات، المزدوج

22- 23، كشاف خاص بالآيات-

فهم القرآن، ص: 706

الخاصّة، فضاع و لم يوثّق.

يعود تاريخ أقدم وثيقة مكتوبة تحدّث بها الإمام عن الآية، إلى سنة 1363 ه، حيث اتجه بخطابه انطلاقا من الآية، إلى علماء إيران و شعبها، و هو يحدّثهم عن حالة العمل الديني، و أوضاع البلد و ما آلت إليه نتيجة ترك القيام للّه، و تمركز الجهود حول الذات و أنانيّاتها.

في هذه الوثيقة القرآنية التي تحوي بواكير الفكر الجهادي الخميني و أوليات النهضة، يرسم النص للمعنيين بالتغيير في إيران، مسارين للحركة:

الأوّل: مسار الحركة من أجل اللّه، و ما يصحبه من منافع و معطيات.

الثاني: مسار الحركة من أجل الذات، و ما يجرّ إليه من انتكاسات و تبعات.

و إذ لا يسعنا أن نغطّي في هذه النقطة كلّ الأفكار القرآنية التي أثارها النص الخميني خلال بضعة عشر مرّة، فسنكتفي بما احتوته هذه الوثيقة التاريخية التي حرّرها الإمام بتاريخ 11 جمادي الأوّل 1363، و قد كتب بخطّه في أعلاها الكلمتين التاليتين: اقرءوا و اعملوا.

يفتتح الإمام الوثيقة بعد البسملة، على النحو التالي: «قال اللّه تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى. بيّن اللّه تعالى في هذا الكلام الشريف الطريق كلّه، بدءا من منزل الطبيعة المظلمة و حتّى ذروة مسار الإنسانية و غايته، فانتخب ربّ العالمين من بين المواعظ كلّها أفضلها، و وضعها بكلمة واحدة بين يدي البشر، هذه الكلمة التي تعدّ الطريق الوحيد لإصلاح الدارين.

______________________________

- التفسيرية في آثار الإمام: 375، حيث تمّ ذكر المرّات الخمس عشرة التي مرّ بها الإمام على الآية موثّقة بمصادرها.

فهم القرآن، ص: 707

إنّ القيام للّه هو الذي سما بإبراهيم خليل الرحمن، لبلوغ منزلة الخلّة، و حرّره من المظاهر المختلفة لعالم

الطبيعة «1» ... و القيام للّه هو الذي مكّن موسى الكليم من قهر الفراعنة بعصى، و جعل عروشهم و تيجانهم تتهاوى في مهبّ الريح؛ و القيام للّه هو الذي أوصله إلى ميقات المحبوب، و جرّه إلى مقام الصعق و الصحو «2».

القيام من أجل اللّه هو الذي جعل خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ينتصر وحده على كلّ تقاليد الجاهلية و أعرافها و عاداتها، و طهّر بيت اللّه من الأصنام، و جعل نداء التوحيد و التقوى يصدح بدلا منها. و القيام للّه هو الذي أوصل تلك الذات [المحمدية] المقدّسة، إلى مقام قاب قوسين أو أدنى» «3».

التبعات الاجتماعية و السياسية

ينتقل الإمام بعد ذلك للحديث عن واقعنا و ما نحن فيه، و ما صرنا إليه نتيجة ترك القيام للّه و إيثار الذات و النزوع للأنانية، فيكتب بالنصّ: «إنّ البؤس و الظلام الذي يغشانا هو بسبب الأثرة و الأنانية و ترك القيام من أجل اللّه، و هو الذي صيّر دنيانا مظلمة و سلّط علينا الآخرين و جعل الدنيا ألبا علينا، و جعل البلدان الإسلامية تروح ضحية نفوذ الآخرين و تبعيتهم.

______________________________

(1)- هنا ذكر الإمام بيتا من الشعر الفارسي، مضمونه: بسرعة الخليل أطرق علم اليقين، و مثل الخليل نادي لا أحبّ الآفلين. و الخليل هو نبي اللّه إبراهيم عليه السّلام.

(2)- الصعق باصطلاح العرفاء، هو بمعنى فناء العبد السالك. و الصحو هو مصطلح عرفاني آخر، جاء هنا بمعنى العودة إلى عالم الناسوت و الملك و المادة، بأمر الربّ الجليل، بعد حالة الصعق و الفناء التي مرّ بها.

(3)- إشارة لقوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. (النجم (53): 8- 9)

فهم القرآن، ص: 708

و القيام من أجل المصالح الشخصية

هو الذي خنق روح الوحدة و الأخوة في الامّة الإسلامية. و القيام من أجل الذات هو الذي جعل عشرة ملايين شيعي ممزّقين «1»، ليكونوا بعد ذلك لقمة سائغة لحفنة من عبّاد الشهوات من النخبة البيروقراطية.

و القيام من أجل الشخص هو الذي مكّن لأحد المازندرانيين الجهلة من التسلّط على رقاب الملايين «2»، فراح يهلك حرثهم و يبيد نسلهم إشباعا لشهواته.

القيام من أجل المنفعة الشخصية هو الذي آل إلى ما انتهت إليه البلاد الآن، حيث يتسلّط حفنة من الصبيان أولاد الشوارع في طول البلاد و عرضها على أموال المسلمين و أرواحهم و أعراضهم «3».

القيام من أجل النفس الأمّارة، هو الذي وضع أزمّة مدارس العلم بيد حفنة من الصبيان السذّج، و حوّل مراكز علم القرآن إلى بؤر للفحشاء.

القيام من أجل الذات هو الذي قدّم وقفيات المدارس و المؤسّسات الدينية مجانا، لحفنة من العابثين التافهين، ثمّ لم ينبس أحد ببنت شفه.

القيام من أجل النفس هو الذي خلع حجاب العفّة من على رءوس النساء المسلمات العفيفات، و لا تزال هذه السنّة جارية في البلاد دون أن يعترض عليها أحد بكلمة.

______________________________

(1)- هو عدد نفوس إيران يوم ذاك.

(2)- المقصود به رضا خان ملك إيران الأسبق مؤسّس حكم الاسرة البهلوية بعد إطاحته بحكم الاسرة القاجارية، حيث ينحدر من إقليم مازندران شمال إيران.

(3)- المقصود بهذه الأوضاع ما آل إليه البلد بعد تنحية الحلفاء لرضا خان و تنصيب ولده محمد رضا مكانه.

فهم القرآن، ص: 709

القيام من أجل المنافع الشخصية هو الذي حوّل الصحف إلى وسيلة لنشر الفساد الأخلاقي، و لا تزال تشيع المخطط ذاته الذي ترشح من ذهن رضا خان البليد عديم الشرف، و تبثّها بين الناس.

القيام من أجل الذات هو الذي وهب الفرصة

لبعض هؤلاء النواب المزيّفين في المجلس النيابي، ليتحدّثوا بما يشاءون في مناهضة الدين و العلماء، من دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض».

في المقطع الثالث من هذه الوثيقة القرآنية، ينتقل الإمام لاستنهاض الهمم من أجل القيام للّه، عبر تفعيل حركة العلماء و جميع القوى الحية و الغيورة في المجتمع و حثّها لامتثال مسئوليتها، فيكتب: «يا علماء الإسلام، أيّها العلماء الربانيون، أيها العلماء الملتزمون، و يا مبلغي الدين، و يا عشّاق الحقّ الشرفاء، و يا أيّها الوطنيّون الشرفاء و الغيورون، اقرءوا موعظة ربّ العالمين و استجيبوا إلى الخيار الإصلاحي الوحيد الذي وضعه، و اهجروا منافعكم الشخصية، لكي تنالوا سعادة الدارين، و لتعيشوا كراما في الدنيا و الآخرة: «إنّ للّه في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» «1». إنّ هذا اليوم المفعم بنسيم إلهي معنوي لهو أفضل يوم من أجل النهضة، و إذا ما فرّطتم بهذه الفرصة و فوّتموها و لم تنهضوا من أجل اللّه، و تعيدوا شعائر الدين و تحيوا مناسكه، فستتغلّب عليكم غدا حفنة من التافهين ذوي الشهوات، و تجعل دينكم و كرامتكم لعبة في مهبّ مقاصدها الباطلة.

ما عذركم اليوم أمام ربّ العالمين! لقد رأيتم جميعا أنّ كتب إنسان تبريزي تافه تعبث بدينكم «2»، و هو يسوق كلّ هذه الطعون بالإمام الصادق و الإمام المهدي

______________________________

(1)- بحار الأنوار 68: 221، كنز العمّال 7: 769.

(2)- يقصد به الكاتب الإيراني أحمد كسروي، الذي ألّف عددا من الكتب في مناهضة الدين.

فهم القرآن، ص: 710

روحي له الفداء، في مركز التشيّع، ثمّ لا يضرب لكم عرق!

ما هو عذركم أمام محكمة اللّه؟ و ما هذا الضعف و الوهن و المسكنة التي ترخي ظلالها عليكم؟

و أنت أيّها السيد المحترم الذي جمعت هذه الصفحات

و وضعتها بين يدي علماء البلاد و خطبائه، حري بك أن تؤلّف كتابا، تلمّ به شعثهم و تجمع به فرقتهم على خط المقاصد الإسلامية، ثمّ تأخذ عليهم تعهّدا أن ينهضوا قلبا واحدا و إرادة واحدة في البلاد كلّها، فيما لو تعرضت حرمة الدين للانتهاك في أي مكان من البلاد. يحسن بكم أن تتعلّموا التديّن من البهائيين على الأقل، فإذا ما تعرض للأذى تابع لهم يعيش في قرية، و كانت له صلة بمراكزهم الحسّاسة، لنهضوا دفاعا عنه.

أمّا أنتم فلم تنهضوا من أجل حقّكم المشروع، فنهض الطغاة ممّن لا دين له، و راحت ترتفع هنا و هناك نغمة التهتّك و اللادينية، و ما أسرع غلبتهم عليكم أنتم المتفرّقين، و عندئذ سيكون حالكم أسوأ ممّا كان عليه في عهد رضا خان وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ «1»» «2».

11/ شهر جمادى الأوّل/ 1363 سيّد روح اللّه الخميني

______________________________

(1)- النساء (4): 100.

(2)- صحيفه امام 1: 21- 23.

فهم القرآن، ص: 711

ب- علمه البيان

بمناسبة هذه الآية من سورة الرحمن، يتحدّث الإمام عن دور الكلام و نعمة البيان، بقوله: «التكلّم منشأ كمالات كثيرة، إذ بدونه يغلق باب المعارف. و قد مدح اللّه تعالى هذه الخصلة في القرآن الكريم مدحا كبيرا، و هو يقول في سورة الرحمن:

الرَّحْمنُ* ... خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ «1»، فتعليم البيان الذي يعدّ مقدّما على جميع النعم، جاء في هذه الآية على نحو الامتنان على النوع الإنساني» «2».

طبيعي يتحدّث الإمام في مواضع متعدّدة عن منافع الصمت، لكن حيث لا تكون في الكلام منفعة أو يترتب عليه ضرر، أمّا و الكلام ضرورة فلا معنى للصمت، لذا ترى سماحته يحمل

على نوع خاص من ثقافة الصمت، عمّت بعض الأوساط الدينية نتيجة إيحاءات خاطئة، و يقول: «انظروا إلى الحوزات العلمية فسترون تبعات هذه الدعايات و الإيحاءات الاستعمارية، و ستلاحظون أفرادا تافهين و بطّالين كسالى لا همّ لهم، يكتفون بالدعاء و التحدّث بالمسائل الشرعية، دون أي شي ء آخر.

كما ستصطدمون أيضا بأفكار و عادات هي خلفيات هذه الثقافة و إيحاءاتها، من قبيل أنّ الكلام يتنافى مع مقام العالم، و لا يليق بالمجتهد أن يحسن الكلام، و إذا كان يحسنه فلا ينبغي له أن يتحدّث، و إنّما يكتفي بالقول: لا إله إلّا اللّه، على أن يبادر أحيانا بكلام يسير!

______________________________

(1)- الرحمن (55): 1، 3- 4.

(2)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 386.

فهم القرآن، ص: 712

هذه سيرة خاطئة، و هي على خلاف سنّة رسول اللّه. لقد امتدح اللّه التكلّم و أثنى على القلم و البيان و الكتابة، فقال في سورة الرحمن: عَلَّمَهُ الْبَيانَ «1»، حيث عدّ تعليم- الإنسان- البيان منّة عليه و نعمة كبيرة. البيان مطلوب لنشر أحكام اللّه و تعاليم الإسلام و عقائده، و بالبيان و النطق نستطيع أن نعلّم الدين للناس، و نكون مصداقا ل «يعلمونها الناس».

من جهته كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام، أمراء البيان، يتكلّمون و يلقون الخطب» «2».

ج- لنهدينهم سبلنا

«يقول شيخنا الاستاذ دام ظلّه، إنّ الميزان الذي يميّز الرياضة الباطلة عن الرياضة الشرعية الصحيحة، هو قدم النفس و قدم الحقّ. فإذا تحرّك السالك بقدم النفس، و كانت رياضته من أجل ظهور قوى النفس و قدرتها و سلطتها، فالرياضة باطلة، و سيجرّ ذلك السلوك إلى سوء العاقبة ...

أمّا إذا كانت رياضته حقا و شرعية، فسيأخذ الحقّ تعالى بيده

حسب الآية الشريفة: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «3»» «4».

______________________________

(1)- الرحمن (55): 4.

(2)- ولايت فقيه: 131.

(3)- العنكبوت (29): 69.

(4)- شرح چهل حديث: 45.

فهم القرآن، ص: 713

د- و هم لا يفتنون!

يتحوّل الادّعاء إلى واقع بعد أن يمرّ صاحبه بالامتحان و يخرج منه ناجحا، و الابتلاء سنّة في العمل الاجتماعي منذ فجر البشرية. عن هذه الظاهرة يتحدّث الإمام بقوله: «الإنسان في معرض الامتحان: أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ «1». أ يكفي أن تقول أنا مؤمن، ثمّ تتركون هكذا؟ تغرون باستلام السلطة حتّى يعرف مقدار صدقكم، و إلّا لا تتركون بمحض الادّعاء و زعمكم أنّكم تخدمون الناس و تعملون من أجل البلد. لا بدّ من ابتلائكم و امتحانكم، بل أنتم الآن في الامتحان.

إنّ الجميع في معرض الامتحان بدءا مني أنا طالب العلم الديني إلى جميع أفراد هذا البلد، و الإنسانية جمعاء، و الأنبياء و الأولياء كافّة، فلا يترك الإنسان بمحض الكلام و الادّعاء. يقول تعالى: وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «2». ينبغي لجميع الناس في هذا البلد، سواء أ كانوا قادة يمسكون بأزمّة الامور، أو يعملون في السوق أو في الفلاحة أو المصانع، أو ينتمون إلى المجاميع المفسدة؛ عليهم جميعا أن يعرفوا بأنّهم بين يدي اللّه و في معرض الفتنة و الابتلاء.

إنّه لمن السهل على الإنسان أن يسجّل لنفسه الادّعاءات بالكلام، لكنّه يخضع للبلاء و الاختبار في المعنى نفسه الذي يدّعيه. فالإنسان الذي يدّعي بأنّه

______________________________

(1)- العنكبوت (29): 2.

(2)- العنكبوت (29): 3.

فهم القرآن، ص: 714

محبّ للنوع الإنساني يخضع للاختبار في سنخ هذا المعنى نفسه، و من يزعم أنّه مدافع عن حقوق الإنسان يبتلى بالاختبار

بهذا المعنى، فإذا ما استوى وضع الإنسان بين حاله قبل تبوّؤ منصب ما و بعده، و كان دوره واحدا لم يختلف، و لم تؤثّر عليه الرئاسة، فهذا من شيعة علي بن أبي طالب و من أتباعه، و إنسان مثل هذا هو الذي يكون قد خرج ناجحا من الامتحان» «1».

ه- فسجدوا إلّا إبليس

اشارة

ينطلق الإمام من هذه الآية في معالجة ما يثار من استفهامات حول مشروعية زيارة الأنبياء و الأوصياء و الأولياء الصالحين، فيكتب: «يعدّ السجود أسمى مظاهر التواضع و أرفع مراسم الخضوع، و السجود بنظرنا لا يجوز لأحد غير اللّه تبعا لما ورد من نهي عنه في الشريعة الإسلامية. بيد أنّ هذا السجود الذي يتمتّع بهذه المكانة الرفيعة و يفوق ما سواه من مظاهر التكريم، إذا لم يأت بعنوان العبادة فلا يعدّ شركا، بل يعدّ السجود للغير واجبا أحيانا إذا كان امتثالا لأمر اللّه و طاعة له.

في القرآن الكريم طالما كرّرت الآيات سجود الملائكة لآدم، نذكر من ذلك قوله: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ «2». على هذا فإنّ اولئك الذين يعترضون بأنّ التواضع لغير اللّه شرك، ينبغي أن يكونوا في هذه القضية إلى صفّ إبليس، و يعدّوا الملائكة جميعا كفّارا و مشركين، ما خلا إبليس. كما يقضي منطقهم أن يخطّئوا أمر اللّه و يؤاخذوه بسبب

______________________________

(1)- صحيفه امام 13: 460.

(2)- البقرة (2): 34.

فهم القرآن، ص: 715

دعوته الملائكة إلى الشرك و ذمّه إبليس الموحّد التقي؟!

ربّما قيل- في الجواب- إنّ سجود الملائكة لآدم كان بأمر اللّه و من ثمّ فهو ليس شرك، أمّا ما تبدونه أنتم من احترام و تقدير [في المزارات] ليس بأمر اللّه، و هو بالتالي شرك.

جواب هذا الكلام، هو:

أولا: إذا كان سجود الملائكة بمعنى العبودية لآدم، فإنّ ذلك شرك حتّى لو أمر اللّه به، و من المحال أن يصدر ذلك عن اللّه، لأنّه سيكون دعوة إلى الشرك، و هو مخالف للعقل. أمّا إذا لم يكن عبادة، فهو ليس بشرك حتّى لو لم يأمر به اللّه.

ثانيا: ثمّ إنّ

إبداء الاحترام و التقدير للعلماء و الأجلاء لا يحتاج إلى أمر، بل العقل نفسه الذي يعدّ دليل الإنسان، يسوق إلى مثل هذه الامور و يرشد إليها. على هذا لم ينتظر أيّ من عقلاء الدنيا المتدينين صدور أمر اللّه، لممارسة مظاهر الاحترام و التقدير المألوفة.

أجل، إذا نهى اللّه عن صيغة معينة من صيغ الاحترام و التبجيل، فتجب الطاعة حتّى لو لم يكن ذلك شركا، كما هو الحال فيما نذهب إليه من عدم جواز السجود لغير اللّه، بحيث إذا ما سجد أحدهم لإنسان جليل بعنوان التعظيم، فإننا نعدّه مذنبا خارجا عن طاعة اللّه، و إن كنا لا نعدّه مشركا و كافرا.

ثالثا: إنّ ما نقوم به من احترام الأنبياء و الأئمّة و المؤمنين الذين هم المثل الأعلى للإيمان و الكمال الإنساني، و ما نبرزه من تقدير لهم إنّما هو بأمر اللّه، كما تشير إليه الآية (59) من سورة المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى

فهم القرآن، ص: 716

الْكافِرِينَ فالذلّة التي هي منتهى مراتب التواضع، هي من خصال اناس يحبّهم اللّه و يحبّونه» «1».

و- قولا لينا

تبرز واحدة من أمراض الممارسة الاجتماعية داخل الوسط الديني بالميل إلى العنف في التعامل و الشعور بنوع من الاستعلاء على الآخرين، خاصّة إذا صدر من الآخر ذنب أو خطأ.

ينبّه الإمام إلى الممارسة العنفية هذه مرّات، و يسعى إلى علاجها بسبل متعدّدة، منها استحضار الأسوات القرآنية. ففي بضعة آيات من سورة القصص و طه، يقف عند المحطّات التي مرّ بها موسى الكليم عليه السّلام، و ما جرى عليه في مصر و مدين ثمّ في مصر ثانية و كيف اختاره اللّه

و اصطفاه و صنعه على عينه و فتنه فتونا، ليقرأ مغزى ذلك في بعده الاجتماعي بتأهيل الكليم في ممارسة دور الهداية من منطلق الرحمة حتّى مع أشدّ خلق اللّه سوءا و أكثرهم طغيانا. يتساءل سماحته: «ما هو الدور الذي كان اللّه تعالى يعدّ له موسى، عبر كلّ هذه الابتلاءات و ضروب التربية المعنوية؟ كان ذلك، من أجل دعوة و هداية و إرشاد عبد طاغ متمرّد واحد و من أجل إنقاذه، مع أنّه يدق على وتر: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «2»، و برغم كلّ هذا الفساد الذي أظهره في الأرض.

لقد كان من الممكن أن يحرق اللّه تعالى فرعون بصاعقة غضب، بيد أنّ

______________________________

(1)- كشف الأسرار: 24- 25.

(2)- النازعات (79): 24.

فهم القرآن، ص: 717

رحمته الرحيمية أبت إلّا أن يبعث له رسولين، و في الوقت ذاته يوصيهما بقوله:

فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «1».

هذا أمر بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هذه هي كيفية إرشاد مثل فرعون الطاغية. الآن، و أنت تريد أن تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، و أن ترشد خلق اللّه، تذكّر هذه الآيات الشريفة و تعلّم منها، و هي التي نزلت من أجل التذكر و العظة و التعلّم. عاشر عباد اللّه بقلب مفعم بالمحبة فيّاض بالعاطفة، و اطلب لهم الخير من صميم قلبك، حتّى إذا ما عرفت من قلبك الرحمانية و الرحيمية، بادر إلى النهي و الإرشاد، لكي يلين شعاع عاطفة قلبك القلوب القاسية، و لكي تخفّف وطأة قسوتها بالموعظة المعجونة بلهيب الحب و نار العاطفة» «2».

ز- يغفر لي خطيئتي

«يمكن أن يكون ثمّ فرق آخر بين الرجاء و الطمع، يتمثّل في أنّ المراد من الطمع الأمل بمغفرة المعاصي أو غفران مطلق النقائص، كما يحكي

اللّه تعالى قول

______________________________

(1)- طه (20): 44.

(2)- آداب الصلاة: 239، يقدّم الإمام هذه الوصية في إطار فقهي عند حديثه عن مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فيسجّل: «ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر في أمره و نهيه و مراتب إنكاره كالطبيب المعالج المشفق، و الأب الشفيق المراعي مصلحة المرتكب، و أن يكون إنكاره لطفا و رحمة عليه خاصّة و على الامّة عامّة ... و أن لا يرى نفسه منزّهة، و لا لها علوا أو رفعة على المرتكب، فربما كان للمرتكب و لو للكبائر صفات نفسانية مرضية للّه تعالى أحبّه تعالى لها و إن أبغض عمله، و ربما كان الآمر و الناهي بعكس ذلك و إن خفي على نفسه». تحرير الوسيلة 1: 458، المسألة 14.

فهم القرآن، ص: 718

خليل الرحمن: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «1»، في حين يكون الرجاء الأمل بثواب اللّه و ترقّب رحمته الواسعة، كما يمكن أن يكون المراد هو العكس ... و على كلّ حال، فإنّ الرجاء و الطمع بالذات المقدّسة و الانقطاع عن الخلق و الاتصال بالحق، هو من لوازم الفطرة المخمورة و موضع ثناء ذات الحقّ المقدّسة و المعصومين عليهم السّلام» «2».

ح- نزل به الروح الأمين

«قضية إيحاء الوحي و إنزال الكتب إلى الأنبياء و المرسلين عليهم السّلام، من العلوم العالية الربانية التي قلّما يتفق لبشر أن يكشف مغزاها، كتكلّمه تعالى مع موسى عليه السّلام.

و لقد أشار إلى بعض أسرارها قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «3».

و قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «4».

و قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ

فَاسْتَوى* وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى* ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى

______________________________

(1)- الشعراء (26): 82.

(2)- شرح حديث جنود عقل و جهل: 195.

(3)- الشعراء (26): 193- 194.

(4)- الواقعة (56): 77- 79.

فهم القرآن، ص: 719

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى* ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «1» إلى آخر.

فأشار إلى كيفية الوحي و نزول الكتاب بوجه موافق للبرهان غير مناف لتنزيهه تعالى عن شوب التغيّر و وصمة الحدوث.

و لعمري إنّ الأسرار المودعة في هذا الكلام الإلهي المشير إلى كيفية الوحي و دنوّ روحانية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلى مقام التدلّي و المقام المعبّر عنه ب قابَ قَوْسَيْنِ و ما يشار إليه بقوله أَوْ أَدْنى، ثمّ تحقّق الوحي، ممّا لم يصل إليه فكر البشر إلّا الأوحدي الراسخ في العلم، بقوّة البرهان المشفوع إلى الرياضات و نور الإيمان» «2».

ط- و جهاد في سبيله

«نقرأ في هذا الكتاب الخالد: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «3». الآية خطاب إلى النفعيين و ذوي النزعات الاستسلامية الذي يبدون أسفهم لاستشهاد الشباب و ذهاب الأموال و الأنفس و نزول ضروب الخسائر الاخرى.

ما يلفت النظر أنّ الجهاد في سبيل اللّه جاء في طليعة الأحكام كلّها بعد حبّ

______________________________

(1)- النجم (53): 4- 11.

(2)- طلب و اراده: 14- 15.

(3)- التوبة (9): 24.

فهم القرآن، ص: 720

اللّه تعالى و رسوله الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد نبّهت الآية إلى أنّ الجهاد إنّما صار في طليعة الأحكام

جميعا لأنّه حافظ للمبادئ و الاصول، كما نبّهت إلى العواقب الوخيمة المترتبة على القعود عن الجهاد، من الذلّة و الأسر و زوال القيم الإسلامية و الإنسانية، و السقوط فيما كان القاعدون يخشونه، من قتل عام للصغير و الكبير، و أسر الأزواج و العشيرة.

بديهي أنّ كلّ هذه العواقب الوخيمة هي من تبعات ترك الجهاد خاصّة الجهاد الدفاعي، هذا الجهاد الذي نحن مبتلون به في الوقت الحاضر. و هذا ممّا تشير إليه الآية الكريمة: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «1»؛ ترى أيّة فتنة و بلية هي أضخم ممّا يفعله أعداء الإسلام، خاصّة في هذا العصر و هم يكيدون لاستئصال أساس الإسلام، و بسط نفوذ الأنظمة التابعة كالنظام الملكي [البائد في إيران] و إعادة سلطة المستشارين الأجانب الناهبين، و الإغارة على حرث الامّة و إبادة نسلها؛ و أي فتنة أعظم من أن ينزل بإيران و شعبها ما نزل بالعراق و شعبه المظلوم خلال السنوات الأخيرة» «2».

ي- قاتلوا المشركين

«هذه سيرة نبي الإسلام بين يدي الجميع، تأمّلوها و انظروا هل جاء الإسلام لتخدير الناس، و دفعهم صوب رقدة الغفلة؟ أم أنّ القرآن عبارة عن كتاب حماسي ثوري جهادي في مقابل المشركين؛ المشركين ذوي الشوكة؟ عند ما يسجّل القرآن:

______________________________

(1)- النور (24): 63.

(2)- صحيفه امام 20: 312- 313.

فهم القرآن، ص: 721

قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً «1»؛ فقد كان المشركون يمثّلون القوى العظمى وقتئذ، و كانت القوى و القدرات و الإمكانات متمركزة بأجمعها بأيدي مشركي قريش» «2».

ك- إلّا و هم كسالى!

«ينبغي تعاطي العبادة بنشاط و بهجة، بحيث يتمّ التحرّز تماما من كلّ ضروب التكلّف و التعسّف و الكسل، لكي تتحقّق حالة محبّة ذكر الحقّ و عشقه و تتحقّق العبودية، و تحصل حالة الانس و التمكّن.

إنّ الانس بالحق سبحانه و ذكره هو من أعظم المهامّ التي يعنى بها أهل المعرفة عناية شديدة، و يتنافس فيها أصحاب السير و السلوك. و كما يؤمن الأطباء بأنّ تناول الطعام مصحوبا بالبهجة و السرور يساعد على هضمه أسرع، فكذلك يقتضي الطب الروحي المعنوي، بحيث إذا ما تزوّد الإنسان بالأطعمة الروحية من خلال البهجة و الاشتياق و بعيدا عن الكسل و التكلّف، فإنّ آثارها ستبرز في القلب عاجلا، و يتطهّر بها باطن القلب أسرع. هذا الأدب ممّا أشار إليه الكتاب الإلهي الكريم و الصحيفة الربوبية القويمة، في معرض تكذيب الكفار و المنافقين، بقوله:

وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ «3»، كما جاء في الحديث تفسير الآية الشريفة: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى «4» بالكسل» «5».

______________________________

(1)- التوبة (9): 36.

(2)- صحيفه امام 8: 292.

(3)- التوبة (9): 54.

(4)- النساء (4): 43.

(5)- آداب الصلاة: 24.

فهم القرآن، ص: 722

ل- ماء طهورا

«إذا أردت الطهارة و الوضوء، فتقدّم إلى الماء تقدّمك إلى رحمة اللّه، فإنّ اللّه تعالى قد جعل الماء مفتاح قربته و مناجاته و دليلا إلى بساط رحمته. و كما أنّ رحمة اللّه تطهّر ذنوب العباد، كذلك النجاسات الظاهرة يطهّرها الماء لا غير. قال اللّه تعالى: وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً «1»، و قال اللّه تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ «2».

من النكات الكامنة وراء تشبيه

الماء في هذا الحديث بل تأويله برحمة الحقّ «3»، أنّ الماء يعدّ من المظاهر العظمى لرحمة الحق، الذي أنزله عالم الطبيعة و جعله سبب حياة الموجودات. بل أنّ أهل المعرفة يعبّرون ب «الماء» عن الرحمة الإلهية الواسعة النازلة عن السماء الرفيعة الدرجات لحضرة الأسماء و الصفات، فأحيا بها أراضي تعيّنات الأعيان.

و ما دامت الرحمة الإلهية الواسعة تتجلّى في الماء الملكي الظاهري أكثر من بقية الموجودات الدنيوية، فقد جعله اللّه لتطهير القذارات الصورية، و مفتاح باب قربه و مناجاته و دليلا إلى بساط خدمته، الذي هو باب أبواب الرحمات الباطنية. بل إنّ ماء رحمة الحقّ إذا نزل في كلّ نشأة من نشآت الوجود و ظهر في كلّ مشهد من

______________________________

(1)- الفرقان (25): 48. فهم القرآن 722 ل - ماء طهورا ..... ص : 722

(2)- الأنبياء (21): 30.

(3)- يقصد به الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السّلام، الذي يفتتحه بالقول: «إذا أردت الطهارة و الوضوء فتقدّم إلى الماء تقدّمك إلى رحمة اللّه».

فهم القرآن، ص: 723

مشاهد الغيب و الشهود، فإنّه يطهّر ذنوب عباد اللّه بما يوافق تلك النشأة و يناسب ذلك العالم. فإذا، بماء الرحمة النازلة من سماء الأحدية تطهر ذنوب غيبة تعيّنات الأعيان، و بماء الرحمة الواسعة من سماء الواحدية تطهر ذنوب عدمية الماهيات الخارجية» «1».

م- إلّا إيّاه

«يعتقد بعضهم أنّ القضاء في قوله: وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «2» هو قضاء تكويني، بمعنى أنّ اللّه قضى أن لا يعبد إلّا هو. على هذا، فإنّ كلّ من يخيّل له أنّه يسجد للصنم، أو يتجه بالمديح إلى إنسان ما، أو أنّه يمدح الشمس فإنّه واهم؛ جميع المدائح له سبحانه، الإنسان في كلّ هذه المظاهر يمدح اللّه و يثني

عليه من دون أن يفهم [و ذلك جريا على نظرية تعشّق الإنسان للمطلق و شوقه فطريا إليه].

و بلاء الإنسان و المشاق التي يواجهها في ذلك العالم [الآخرة] إنّما هي بسبب عدم الفهم هذا، و بسبب هذا الستار الذي يحول بين الإنسان و الحقائق» «3».

ن- و أضلّ سبيلا

«أسفا، إنّ إيماننا ناقص، و الأفكار العقلية البرهانية لم تخرج من دائرة العقل و الإدراك لتنفذ إلى منطقة القلب. ليس الإيمان بالقول و السماع و المطالعة و البحث

______________________________

(1)- آداب الصلاة: 62- 63.

(2)- الإسراء (17): 23.

(3)- صحيفه امام 17: 526.

فهم القرآن، ص: 724

و النقاش، بل يتطلّب خلوص النية.

إنّ من يبحث عن اللّه يجده، و من يطلب المعارف يبحث عنها: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا «1»، وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «2»» «3».

س- فاستقم كما امرت

«جاء في الآية الكريمة من سورة هود: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ «4» و في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قوله: «شيّبتني سورة هود لمكان هذه الآية».

لقد ذكر العارف الكامل الشيخ شاه آبادي [استاذه] روحي فداه، أنّ هذا الأمر جاء في آية مباركة اخرى من سورة الشورى أيضا و لكن من دون وَ مَنْ تابَ مَعَكَ، إلّا أنّ جهة اختصاص النبي بذكر آية سورة هود دون آية الشورى، إنّما يعود إلى أنّ اللّه تعالى طلب من النبي الكريم استقامة الامّة أيضا [قوله سبحانه:

وَ مَنْ تابَ مَعَكَ] فكان يخشى أن لا يتحقّق ذلك الطلب، و إلّا فإنّه بذاته كان أشد ما يكون استقامة، بل كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مظهر اسم الحكيم العدل» «5».

يبقى من الأمانة أن نسجّل أنّ للإمام علاقة وثيقة بهذه الآية، على غرار ما

______________________________

(1)- الإسراء (17): 72.

(2)- النور (24): 40.

(3)- شرح چهل حديث: 113.

(4)- هود (11): 112.

(5)- شرح چهل حديث، 172.

فهم القرآن، ص: 725

رأيناه في قوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ

فُرادى «1»، إذ أحصيت من نصوصه أكثر من خمسة عشرة موضعا تحدّث فيها عن هذه الآية الكريمة «2»، مركّزا بالذات على استقامة الامّة. و كم هو نافع أن تتقصّى دراسة مستقلّة أمثال هذه الآيات في التراث القرآني الخميني، و تقدّم بها دراسة هي أحوج ما تكون إليها الامّة في حاضرها.

ع- حتّى يغيّروا ما بأنفسهم

تليت الآية (11) من سورة الرعد بمحضر الإمام، فخاطب من تلاها و الجمع الذي معه، بقوله: «الآية التي تلوتها: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «3»، يطوي فيها لفظ «ما» حقيقة معيّنة و أمرا. تشير هذه الحقيقة أو الواقعية إلى أنّ التغييرات إذا حصلت في شعب أو قوم، فستتحوّل إلى منشأ لتغييرات تكوينية [حقيقية] تغييرات عالمية و اخرى محلية و إقليمية.

و أمّا الأمر، فهو أنّ التغييرات التي تتمّ في أنفسكم [قوله سبحانه: يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ] لا بدّ و أن تتبعها تغييرات تأتي بنفعكم و لمصلحتكم. لقد لاحظتم أنّ التقدّم الذي أحرزه شعب إيران، كان رهن ذلك التغيير و التحوّل الذي حصل في النفوس ... و قد كان هذا التحوّل روحيا.

لقد لمستم هذا التحول: «ما بأنفسكم» في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ

______________________________

(1)- سبأ (34): 46.

(2)- راجع في هذه المواضع و توثيقها: فصلية بيّنات، العدد 13، ربيع 1997: 8- 14.

(3)- الرعد (13): 11.

فهم القرآن، ص: 726

حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، فعند ما تبدّل ما بأنفسنا، و تحوّلت حالة القبول و الإذعان، إلى حالة رفض، و صرنا إلى حالة بحيث لا نريد أن نخضع فيها لهذا الظلم؛ عند ما تمّ هذا التحوّل جاء تأييد اللّه تبارك و تعالى.

لقد طردتم الظالم، فاحفظوا هذه الحالة، و حذارى من تضييع هذا التغيير الذي نشأ بسبب

التوفيق الإلهي، و صارت فيه نفوسكم تعدّ الشهادة فوزا، و الذلّة و التبعية عارا. فما دامت هذه الحالة باقية، فاللّه حافظها. أمّا إذا عاد محتوى «ما بأنفسنا» إلى ما كان عليه سابقا لا سامح اللّه، فسنرجع إلى الحال الذي كنا عليه.

إنّها سنّة إلهية هذه التي تقضي بصيرورة الأفعال و عملها من خلال نظام السببية الإلهي، و عبر الأسباب و المسبّبات التي أوجدها اللّه تبارك و تعالى» «1».

______________________________

(1)- صحيفه امام 10: 128 و 130.

فهم القرآن، ص: 727

القسم الرابع يوميّات و خواطر قرآنية

اشارة

فهم القرآن، ص: 729

يمكن وصف هذا القسم بأنّه عبارة عن أوراق نطلّ من خلالها على المفكرة الخاصّة للإمام الخميني، فيما تحكيه من يوميّات و خواطر عن العلاقة الشخصية للإمام بالقرآن. و الذي يبعث على الأسف هو قلّة المادّة على هذا الصعيد، فبرغم عمليات التقصّي الواسعة و التنقيب الكبير التي أمضيت فيها وقتا مديدا مع مؤلّفات الإمام و ما كتب عنه من مذكّرات، جاءت الحصيلة يسيرة، لكنّها نافذة في دلالاتها، نافعة في عبرها و دروسها إن شاء اللّه.

الإحياء القرآني الشامل

لكي تأتي مادّة هذا القسم متوازنة بين اليوميات الشخصية و الهمّ القرآني العام في حياة الإمام، رأيت من المفيد التمهيد لها ببضعة إشارات دالة على الطموح الإحيائي القرآني الشامل الذي يعيشه، و هو يتمنّى أن تشهد الامّة بل البشرية أجمع، حضور القرآن في ربوعها، و أن تروي ظمأ نفوسها بينابيعه المعرفية الصافية الثرّة.

في نداء من نداءاته الدالّة يهيب الإمام بكلّ إنسان من أبناء المسلمين أن يتصل بالقرآن و يوثّق علاقته به، و هو يمثّل لذلك بقطرات الماء التي ينبغي لها أن تتواصل مع المجرى العميق، إذا ما رامت الحفاظ على وجودها، و إلّا فهو الاضمحلال و الفناء. يقول: «أيّتها القطرات اتصلي بالبحر لكي تحفظي وجودك،

فهم القرآن، ص: 730

و إلّا فمصيرك إلى الاضمحلال و الزوال. أيّتها الأفكار القصيرة استيقظي، و اتصلي بهذا البحر، بحر الالوهية، و بحر النبوة و بحر القرآن الكريم» «1»، كما يسجّل في نص آخر بأنّ شرط العودة إلى الذات و قطع دابر التبعيات و التحرّر منها، يتمثّل بالعودة إلى القرآن، و الاندماج به: «أيّتها القطرات المنفصلة عن محيط القرآن و الإسلام، عودي إلى ذاتك، و اتصلي بهذا البحر الإلهي العظيم، و استنيري بهذا

النور المطلق، لكي تدرأ عنك أطماع الناهبين، و تقطع أياديهم الطامعة، و تتبوّئي حياة كريمة و تبلغي القيم الإنسانية» «2».

مشكلات المسلمين كثيرة، و العالم الإسلامي يعاني من الداخل و الخارج، و الأوضاع مكفهرّة تدفع متغيّراتها خطوط الأمل و تباشير النور إلى الوراء، لتتقدّم بدلا منها حالات الإحباط و الشعور باليأس؛ في أوضاع كهذه يرى الإمام أنّ هذه المشكلات على كثرتها و تداخلها، تفرز في الواجهة مشكلة أكبر عنوانها هجر القرآن: «مشكلات المسلمين كثيرة، بيد أنّ مشكلتهم العظمى هي أنّهم دفعوا القرآن الكريم جانبا و اتخذوه مهجورا، و انضووا تحت لواء الآخرين» «3».

القرآن كتاب نور و منطلق للهداية، بيد أنّ تكالب تحالف السلاطين و الامراء و الحكّام يعاضدهم علماء السوء، ضدّ هذا الكتاب، أدّى إلى انقلاب دوره بحيث غدا في نطاق هذا التحالف أداة لتسويغ الظلم و الجور و الفساد، و خرج عن دائرة الهداية و الحياة، و هذا هو الهجران الأكبر. و إذا ما كان ثمّ دور تركوه لهذا الكتاب

______________________________

(1)- صحيفه امام 9: 536.

(2)- نفس المصدر 16: 516.

(3)- نفس المصدر 13: 275، حيث كان الإمام يتحدّث إلى سفراء البلدان الإسلامية المعتمدين في طهران.

فهم القرآن، ص: 731

الإلهي، فيتمثّل فقط بالتبرّك به و العناية بخطّه و ورقه و تصحيفه و حمله في التمائم و الأحراز، و تلاوته في المقابر. يستحضر النص التالي عناصر هذا المشهد الحزين في مهجورية القرآن، و هو يسجّل: «لقد أخرجوا القرآن عن الساحة حتّى كأنّه قد فقد دوره في الهداية، و بلغ الأمر أن تحوّل القرآن بيد الحكومات الجائرة و رجال الدين الخبثاء الأسوأ من الطواغيت، إلى وسيلة لإقامة الجور و الفساد و التسويغ للظلمة و أعداء الحقّ تعالى. مع الأسف بدا

و كأنّه لا دور لهذا الكتاب المصيري، على يد الأعداء المتآمرين و الأصدقاء الجاهلين، إلّا في المقابر و مجالس تأبين الأموات» «1».

تضطرم الآلام في صدر الإمام و يتوجّع لما أصاب القرآن الكريم من هجران عظيم، فلا يدري إلى من يبثّ همّه و يتحدّث إليه بشكواه، حيث يقول و هو يقارب الحجّ بالقرآن و ما أصاب الأخير من ضروب الهجر: «الحج كالقرآن يستفيد منه الجميع.

فإذا ما طاف علماء الامّة الإسلامية و باحثوها و حملة الهموم، بقلوبهم في بحر معارف القرآن الموّاج، و لم يخشوا الاقتراب من أحكامه و تعاليمه و النفوذ إلى أعماق سياساته الاجتماعية، فسيحصلون من أصداف هذا البحر على جواهر للهداية و الحكمة و النموّ و الحرية أكثر، و سيزيد نصيبهم من هذا الصيد، و سينهلون من زلال حكمة هذا الكتاب و معارفه ما يرويهم إلى الأبد.

لكن ما العمل؟ ما ذا نفعل؟ و إلى من نبثّ هذا الغمّ الكبير و أين نذهب بهذه الغصّة؟ لقد أصبح الحجّ مهجورا كالقرآن. فبالقدر نفسه الذي أصبح فيه كتاب الحياة

______________________________

(1)- نفس المصدر 21: 395.

فهم القرآن، ص: 732

هذا و صحيفة الكمال و الجمال متواريا وراء الحجب التي اصطنعناها؛ و بالقدر ذاته التي صارت فيه خزينة أسرار الوجود هذه [القرآن] مدفونة تحت أنقاض متراكمة من اعوجاجاتنا الفكرية، و بقدر ما تنزّلت لغة هذا الكتاب من عالمها بوصفها لغة انس و هداية و حياة، لغة تهب فلسفة الحياة، و تحوّلت إلى لغة خوف و موت و قبر؛ بهذا القدر نفسه من هجران القرآن أصبح الحجّ مهجورا أيضا، و انتهى إلى المآل نفسه» «1».

في نص آخر يعيش الإمام الآلام ذاتها، لما ألمّ بكتاب اللّه و نور الهداية الوضّاء، فلا يملك إلّا

أن يرسل آهات نفسه، حسرات متوجّعة يخاطب بها القرآن، بقوله: «أيّها القرآن، يا تحفة السماء، و يا أيّها الهدية الرحمانية، لقد بعثك ربّ العالمين لإحياء قلوبنا، و لتتفتّح بك أسماع الناس و بصائرها. أنت نور هدايتنا، و دليل سعادتنا، هدفك أن تخرجنا من منزل الحيوانية و ترفعنا إلى ذروة الإنسانية، و تبلغ بنا إلى جوار الرحمانية.

يا لبؤس الإنسانية و هي لم تعرف قدرك، و لم تفرض على نفسها حقّ اتباعك. أسفا على أن لا تكون [تعليماتك و أحكامك و] قوانينك قد أخذت سبيلها إلى التطبيق العملي في العالم، لكي تغبط الجنّة هذه الدنيا المظلمة التي يعيش فيها حفنة من الوحوش و الذئاب الذين يتنطّعون بالتحضّر، بعد أن تطبّق قوانينك فيها، و يعانق الجميع ذروة السعادة في هذه الدنيا» «2».

______________________________

(1)- نفس المصدر 21: 77- 78، و النص من بيان وجّهه الإمام بمناسبة الذكرى السنوية لمجزرة البيت الحرام.

(2)- كشف الأسرار: 220.

فهم القرآن، ص: 733

ما العمل؟

المطلوب بكلمة واحدة، هو أن يمارس القرآن دوره في الهداية، و يسجّل حضوره في مضامير الحياة و سوحها جميعا: «من الضروري قراءة القرآن، بيد أنّ ذلك وحده لا يكفي، ينبغي للقرآن أن يكون له حضوره في كلّ شئون الحياة و جميع أبعادها. يسجّل القرآن: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا «1»، كما يسجّل: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ «2»؛ و عند ما يتمّ الالتزام بمثل هذه التعاليم السياسية الراقية و العمل بها، فسيغدو العالم لكم و تحت نفوذكم.

كلّنا هجرنا القرآن، و لم نعتن بهذه المسائل. ينبغي أن يكون للقرآن حضوره في جميع المجالات، و ينبغي أن يقرأ و يعمّ ذكره كلّ مكان، و أن تكون له كلمته في

الأبعاد الإنسانية و الإسلامية كافّة، من دون تعضية و تبعيض» «3».

لكن مع تعذّر ذلك فينبغي عدم الركون إلى الإهمال، بل يجب تفعيل جميع المسارات و عدم تعطيل أيّة فاعلية تنفع في إحياء كلمة اللّه، و تفعيل دور القرآن، و التقدّم بقدر ذلك إلى الأمام. ففي مناسبة لاحت للإمام عبر موسم حج عام 1406 ه، راح يحثّ المسلمين على استثمار هذا الموسم الكريم لتوثيق عرى الارتباط بالقرآن: «اذكّر الحجّاج المحترمين أن لا يغفلوا في هذه المواقف المعظّمة و خلال السفر إلى مكّة المكرّمة و المدينة المنوّرة، عن الاستئناس بالقرآن الكريم

______________________________

(1)- آل عمران (3): 103.

(2)- الأنفال (8): 46.

(3)- صحيفه امام 16: 38- 39.

فهم القرآن، ص: 734

هذه الصحيفة الإلهية و كتاب الهداية، فكلّ ما عند المسلمين و ما حقّقوه على مر التاريخ، و ما سيكون عندهم و سيحققونه على مر العصور القادمة إنّما هو من البركات المغدقة لهذا الكتاب المقدّس. و بهذه المناسبة أطلب من كلّ العلماء الأعلام و أبناء القرآن الأعزة، أن لا يغفلوا عن هذا الكتاب المقدّس الذي وصفه اللّه بقوله تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ «1»» «2».

يعد أن يحضّ سماحته جميع الطاقات و الألوان المنهجية و المعرفية في أن تنطلق صوب القرآن و تثوّر مكنوناته، فيفجّر «العرفاء ما يقدرون عليه من خزائن هذا الكتاب المعرفية، و الفلاسفة جوانبه البرهانية و العقلية، و الأخلاقيون أبعاده في الهداية و التقوى و التهذيب، و أن تستمد منه كلّ فئة من المفكّرين و المثقّفين ما تقدر عليه من أبعاده السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية، و ما فيه من مسائل الحرب و السلم، ليتبيّن أنّ هذا الكتاب مصدر كلّ شي ء من عرفان و فلسفة و أدب و سياسة»؛ بعد

هذا كلّه يستثير الهمم و يستجيش حميّات الجميع، بهذا النداء: «أيّتها الحوزات العلمية و المؤسّسات الجامعية، انهضي و انقذي القرآن من شرّ الجاهلين المتنسّكين و العلماء المتهتّكين الذين أساءوا و يسيئون إلى القرآن و الإسلام عن علم و قصد. و أقول عن جدّ لا عن مجاملة إنّي آسف على ما فات من عمري في خطأ و جهل «3».

______________________________

(1)- النحل (16): 89.

(2)- الحج في أحاديث و بيانات الإمام الخميني: 34.

(3)- ينبغي أن يثير بنا هذا المقطع من النص إحساسا جادّا، يدفعنا لمراجعة برنامجنا الفكري و الثقافي، لكي تأخذ العناية اليومية الدائمة بالقرآن موقعها اللائق، بل المحوري في هذا البرنامج، و إلّا فلات ساعة مندم!

فهم القرآن، ص: 735

و أنتم يا أبناء الإسلام الغيارى أيقظوا الحوزات العلمية و الجامعات، حثّوها على الاهتمام بشئون القرآن و أبعاده المختلفة الكثيرة. اجعلوا تدريس القرآن نصب أعينكم في جميع أبعاده، كي لا تندموا و تأسفوا لا سامح اللّه على ما فات من شبابكم حين يهجم عليكم ضعف الشيب في آخر العمر، مثل كاتب هذه السطور» «1».

نعمة القرآن

من يتابع حياة الإمام و سيرته العملية يجد أنّه يعيش نعمة القرآن و يتذوّقها بكلّ وجوده. نقرأ في نص يجمع بين تذوّق هذه النعمة و الإحساس بأداء واجب الشكر عليها، قوله: «لو أنفقنا لحظات العمر بتمامها، في سجدة شكر واحدة على أنّ القرآن كتابنا، لما وفّينا هذه النعمة حقّها من الشكر» «2».

الخطوة الاولى على طريق تعاهد هذه النعمة هي القراءة المستديمة للقرآن، و إلّا بغياب العلاقة المباشرة مع الكتاب كيف تتسنّى معرفة منطقه و محتواه و ما يأمر به و ينهى عنه؟ بتعبير الإمام: «نحن لا ندري، و لا نعرف منطق القرآن، إننا لم نقرأ

القرآن. ينبغي لنا قبل كلّ شي ء أن نقرأ القرآن لننظر ما يقوله، فإنّ القرآن هو الذي يحدد تكليفنا و واجبنا» «3».

______________________________

(1)- الحجّ في أحاديث و بيانات الإمام الخميني: 35- 36.

(2)- وعده ديدار: 83.

(3)- صحيفه امام 3: 348، و تاريخ النص يعود إلى عام 1977، حيث اقترن مع بداية انطلاق الحوادث الثورية في إيران.

فهم القرآن، ص: 736

القراءة المتدبّرة

للقراءة المتدبّرة دورها المتميّز في الولوج إلى عالم القرآن، و هي وسيلة ممتازة لتملّي خزائنه، و القرآن نفسه هو الذي حثّ على هذا الضرب من القراءة و امتدح أهلها و ذمّ من يعزف عنها.

لهذه القراءة موقعها الذي مرّ علينا تفصيلا في ثنايا الفكر الخميني، لكن ما دام الحديث يتحرّك في نطاق اليوميّات، فمن المناسب أن نمكث مع النص التالي الذي جاء كوصية كتبها الإمام إلى السيّدة فاطمة طباطبائي: «أوصيك يا ابنتي أن تتدبّري القرآن الكريم، منبع الفيض الإلهي، فبرغم أنّ مجرّد قراءة القرآن بوصفه رسالة المحبوب إلى السامع المحجوب ينطوي على آثار طيّبة، إلّا أنّ التدبّر فيه يهدي الإنسان و يرفعه إلى مقامات أعلى و أسمى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «1». و من الجليّ أنّه ما لم تفتح هذه الأقفال و تتحطّم مختلف الأغلال التي ترين على القلوب، فلن يحصل الإنسان على ما ينبغي حتّى مع التدبّر.

يقول تعالى بعد قسم عظيم: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2»، و في طليعة المطهّرين، هم اولئك الذين نزلت فيهم آية التطهير. لكن رغم ذلك لا ينبغي لك أن تيأسي، لأنّ اليأس بحدّ ذاته هو من الأقفال الكبرى، فاجتهدي ما وسعك الجهد في رفع الحجب و كسر الأقفال لبلوغ نبع الماء الزلال و

ينبوع النور. جدّي في العمل و في تهذيب القلب و تكسير الأقفال و خرق

______________________________

(1)- محمّد (47): 24.

(2)- الواقعة (56): 77- 79.

فهم القرآن، ص: 737

الحجب ما دمت تنعمين بنعمة الشباب، فقد يوفّق ألف شاب للاقتراب من أفق الملكوت و لا يوفّق شيخ واحد لذلك.

و إذا غفل الإنسان في مرحلة الشباب عن القيود و الأغلال و الأقفال الشيطانية، فإنّها تصبح أقوى استحكاما و أشدّ وثاقا مع كلّ يوم يمضي من العمر» «1».

قراءة المحبّ

الحبّ هو منهج العارفين و السالكين و أهل اللّه. على هذا يمكن اختزال منهج الإمام في التعاطي مع القرآن بكلمة واحدة هي الحبّ، كما يمكن أن نصف هذا المنهج بالمنهج الحبّي. فكلّ ما يقطعه الإنسان من خطوات على طريق المعرفة، تهدف في نهاية المطاف إلى تحقّق الحبّ، الحبّ للّه، و بالتبع لعباد اللّه و لكلّ مظاهر أسمائه و صفاته، و التجليات الوجودية لتلك الأسماء و الصفات.

القرآن الكريم تجلّ من أعظم تجليات اللّه، بل هو التجلّي الأعظم، و أعظم مظهر للاسم الأعظم. و معانقته بالحبّ هي أعظم وسيلة للتواصل مع هذا الكتاب.

القرآن حبيب في نفسه، و هو رسالة الحبيب، و رسالة الحبيب حبيبة كالحبيب. هذه المعاني يستحضرها الإمام في عدد من نصوصه، و الأهم من ذلك هي الدلالات التي يخرج بها على صعيد إعادة تأسيس العلاقة مع كتاب اللّه.

ملايين المسلمين في أوساطنا و من حولنا و في كلّ مكان، يمتنعون عن قراءة القرآن لا بسبب الأمية فهم متعلّمون! و عند ما تسألهم عن السبب، يجيبون

______________________________

(1)- المظاهر الرحمانية: 44- 45، و النص جزء من رسالة كتبها الإمام لزوجة نجله أحمد السيدة طباطبائي، بتاريخ شهر رمضان، سنة 1404 ه.

فهم القرآن، ص: 738

بصدق أنّه لا معنى لقراءة

لا تدبّر فيها، و من ثمّ لما ذا نقرأ القرآن و نحن لا نفهم منه شي ء؟ بل قد يحمل بعضهم هذا الضرب من التلاوة غير المتدبّرة على الاستخفاف بكلام اللّه.

القراءة المتدبّرة مطلوبة و لها دائرتها و منطقتها الخاصّة بها، بيد أنّ ذلك لا يعني الحرمان من نعمة تلاوة القرآن بحجّة عدم الصعود إلى مستوى القراءة المتدبّرة. من هنا يحثّ الإمام الجميع على تلاوة القرآن، من يستطيع بتدبّر، و من لم يستطع فحتّى من دون تدبّر.

اللّه سبحانه يفتح على الإنسان و يغدق عليه بعطاياه و مواهبه و نعمه، و ما أكثر من فتح اللّه عليه من مواهب بقراءة القرآن، تفوق عطايا المتعلّمين و تزيد على حصيلة المشتغلين بالأسلوب العلمي. بل قد تبرق معان عند أناس عاديين، تفوق معطيات قراءة الفلاسفة و المتمحّضين بالعلوم القرآنية.

هذه المدلولات تبرز على نحو مكثّف في عدد من نصوص الإمام، منها قوله مخاطبا نجله أحمد: «بني تعرّف على القرآن كتاب المعرفة العظيم، و لو بمجرّد قراءته، و اجعل منه طريقا إلى المحبوب، و لا تتوهّمن أنّ القراءة من دون معرفة لا أثر لها، فهذه من وساوس الشيطان. فهذا الكتاب رسالة من المحبوب إليك و إلى الجميع، و رسالة المحبوب محبوبة و إن كان العاشق المحبّ لا يدرك معنى ما كتب فيها. لقد جاء إليك الكتاب بدافع حبّ المحبوب الذي يعدّ منتهى الأمل و غاية المرام، فلعلّه يأخذ بيدك» «1».

المعاني ذاتها تبرز في نص آخر، يقول فيه: «ذكر الحبيب يؤثّر في القلب

______________________________

(1)- وعده ديدار: 83، المظاهر الرحمانية: 16.

فهم القرآن، ص: 739

و الروح حتّى إذا لم يؤدّ ذكره إلى فهم شي ء من حقيقته، تماما كتملّي العاشق الأمّي لرسالة محبوبه مستأنسا بها لمجرّد كونها

رسالة المحبوب. و كالأعجمي المسكين الذي لا يحسن العربية و يقرأ القرآن الكريم، فتعتريه حالة تفوق حالة الأديب الضليع الذي يشغل نفسه بإعراب القرآن و ما فيه من الأدب الرفيع و البلاغة و الفصاحة، بآلاف المرّات رقيا و قربا لما يستشعره من الأنس لقراءته هذا القرآن النازل منه تعالى، بل هي أرقى حتّى من حالة الفيلسوف و العارف الذي يتفكّر بما في القرآن من مسائل عقلية و نكت ملفتة غافلا عن المحبوب. فيكون كما لو أنّه يطالع الكتب الفلسفية و العرفانية مستغرقا مع ما في الكتاب و غير مكترث بقائل كلماته» «1».

العلاقة الخاصّة

تشهد سيرة الإمام الشخصية على علاقة حميمة بالجانب المعنوي و ما يرتبط به من أبعاد تبرز من خلال صلته الدائمة بالقرآن و الدعاء و صلاة الليل و أدائه للنوافل الراتبة و للزيارات و ضروب المستحبات «2».

التعبّد هو من المفاتيح الرئيسية في شخصية الإمام و سرّ توفيقه، و ما يلفت النظر هو هذه المثابرة المدهشة و الالتزام المنظم في أداء العبادات، و الالتحام بها حدّ

______________________________

(1)- المظاهر الرحمانية: 50- 51.

(2)- من الكتب المهمّة التي غطّت هذا الجانب في حياة الإمام و وثّقت له، هو: برداشتهايى از سيره امام خميني، المجلّد الثالث، الحالات المعنوية، فعلى مدار 335 صفحة من القطع الكبير، غطّى هذا الكتاب تفصيلات الحالة التعبدية للإمام، من خلال خواطر و ذكريات موثّقة.

فهم القرآن، ص: 740

العشق و المعانقة، حتّى لكأنّه أحد مصاديق الحديث الشريف: «أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها و أحبّها بقلبه، و باشرها بجسده و تفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر» «1». أي حبّ للعبادة أعظم من أن يستمر الرجل على أداء صلاة

الليل أكثر من خمسين عاما، لا يتخلّف عنها في حضر أو سفر، و في صحّة أو مرض، و في يسر أو شدّة؟

ثمّ تعالوا نطوف في جوانب علاقته مع القرآن العظيم، إذ يؤكّد أهل بيته و الملازمون له في أيام الدراسة و التدريس بمدينة قم، و في مرحلة المنفى في النجف الأشرف و باريس، ثمّ أثناء عودته الظافرة إلى إيران، أنّه كان يتعاهد تلاوة كتاب اللّه عدّة مرّات في اليوم و الليلة.

من هؤلاء من ذكر أنّ الإمام يقرأ القرآن في اليوم ثلاث إلى خمس مرّات، و منهم من قال ثماني مرّات، و منهم من قال سبع مرّات مرتبة على النحو التالي: قبل صلاة الصبح و بعد الانتهاء من صلاة الليل، بعد صلاة الصبح، في الساعة التاسعة صباحا، قبل صلاة الظهر، عصرا، قبل صلاة المغرب و بعد صلاة العشاء «2».

لم تعرف هذه التلاوة الرتيبة للقرآن، تخلّفا في حياة الإمام قط مهما كانت الأوضاع. ففي أثناء الرحلة الخطيرة التي أقلّته و عدد من أنصاره من باريس إلى طهران أوّل شباط 1979 م، تلا القرآن على منوال عادته اليومية بعد أن انتهى من أداء فريضة الصبح «3». و عند ما اطّلع على خبر وفاة نجله الأكبر مصطفى و هو في النجف الأشرف، لم يزد على أن ينتحي في زاوية من زوايا البيت و هو يتلو

______________________________

(1)- الكافي 2: 83/ 3.

(2)- راجع في توثيق هذه الحالات: برداشتهايى از سيره امام خميني 3: 4- 9.

(3)- راجع الذكريات التي أدلى بها السيد خوئيني: مجلة بيّنات، المزدوج 22- 23: 130.

فهم القرآن، ص: 741

القرآن «1». أمّا في شهر رمضان ربيع القرآن فقد كانت هذه الممارسة تتكثّف أكثر من بقية الشهور و الأوقات، حتّى يسجّل

أحد أعضاء مكتبة بطهران: لا أذكر أنني دخلت على الإمام بحاجة في شهر رمضان، إلّا و رأيته تاليا للقرآن، خاصّة في شهر رمضان الأخير من حياته الذي صادف عام 1410 ه «2».

أمّا عن ختم القرآن، فقد كان شعاره الحديث الشريف، عن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام، عند ما سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: «الحالّ المرتحل»، قلت: و ما الحالّ المرتحل؟ قال: «فتح القرآن و ختمه، كلّما جاء بأوّله ارتحل في آخره» «3».

فهو دائب على ختم كتاب اللّه، ما إن ينتهي من ختمة حتّى يبدأ بأخرى. و التقديرات متفاوتة في أقل ما يختم به القرآن، بين أيام الدراسة و التعطيل، و بين حالات تراكم المسئوليات و ما سواها، و بين شهر رمضان و غيره. فبعض المقرّبين إليه في النجف الأشرف يذكر أنّه كان يقرأ جزءين، و من ثمّ يختم القرآن مرتين في الشهر «4»، و بعضهم قال إنّه كانت له في الشهر ثلاث ختمات «5»، و بعضهم ذكر أربعة «6».

أمّا في شهر رمضان فقد كان الأمر يختلف تبعا لاختلاف هذا الشهر الكريم

______________________________

(1)- هذا ما ذكره نجله السيّد أحمد و غير واحد من المقرّبين إليه، راجع: برداشتهايى از سيره امام خميني 3: 7.

(2)- نفس المصدر: 5.

(3)- الكافي 2: 605/ 7.

(4)- برداشتهايى از سيره امام خميني 3: 7.

(5)- راجع الذكريات القرآنية التي أدلى بها الشيخ توسّلي أحد أعضاء مكتب الإمام: مجلة بيّنات، المزدوج 22- 23: 96.

(6)- برداشتهايى از سيره امام خميني 3: 4.

فهم القرآن، ص: 742

و سموّ مقامه و علو مرتبته بين الشهور، ف «شهر رمضان لا يشبهه شي ء من الشهور» «1» كما في الحديث الشريف. أقلّ ما كان يختم به القرآن، هو ختمة كلّ عشرة

أيام «2»، بيد أنّ الأمر اختلف في السنوات الأخيرة من عمره، إذ كان مكتبه يعلن تعطيل الإمام للنشاطات الرسمية خلال كلّ أو نصف أيام هذا الشهر الشريف، حيث ينصرف إلى العبادة، و كانت حصّة القرآن في هذا البرنامج العبادي المكثّف ختمة كلّ ثلاثة أيام «3».

لم يكن يتعامل مع هذا الشهر الشريف تعاملا شكليا، بحيث يكون ما سواه الأصل و هو الفرع. فعند ما اتجه إليه مجموعة من طلبته و طلبوا منه أن يشرع بدرس خاص في هذا الشهر، حيث تمّ تعطيل الدروس الرسمية المألوفة، ردّ عليهم بالقول:

إنّ شهر رمضان المبارك، هو بحدّ ذاته عمل «4». ثمّ كان يدأب على الإفادة من لياليه و أيّامه في ضروب العبادة، إذ يذكر أحد أهل بيته أنّه لم يذكر و أن رأى الإمام ينام في ليالي هذا الشهر الشريف.

ما دمنا في مجال الذكريات من المناسب أن نذكر ما أجاب به الإمام أحد طلبته، حين طلب منه أن يكتب تفسيرا للقرآن، حيث قال: ينبغي أن يبادر لكتابة التفسير من له همّ واحد و توجّه واحد في الحياة، أمّا أنا فمستغرق في الكثرة، ولي اشتغالات مختلفة «5».

______________________________

(1)- الكافي 2: 618/ 5.

(2)- برداشتهايى از سيره امام خميني 3: 5.

(3)- نفس المصدر: 8.

(4)- مجلّة بيّنات، العدد 22- 23: 97.

(5)- برداشتهايى از سيره امام خميني 3: 10. و الذي طلب منه تدوين التفسير هو الشيخ

فهم القرآن، ص: 743

اريد عيني للقرآن!

تحدّث السيدة فاطمة طباطبائي بأنّ الإمام اصيب إبّان إقامته في النجف الأشرف بآلام في عينيه، راحت تبعث على قلقنا. عند ما ذهب إلى الطبيب و فحص عينيه، قال له: ليس هناك مشكلة حادّة، ينبغي فقط أن تريح عينيك، و تمتنع عن تلاوة القرآن عدّة أيام.

تقول

السيدة فاطمة: فرحنا لكلام الطبيب، بعد أن طمأننا على سلامة عيني الإمام. بيد أنّ الإمام ما لبث و أن خاطب الطبيب بابتسامه: دكتور، أنا أريد عيني لأجل قراءة القرآن، و إلّا ما الفائدة في أن يكون لي عينان و لا أقرأ القرآن! أضاف:

افعل لي شيئا بحيث أستطيع أن أقرأ القرآن «1».

______________________________

جعفر سبحاني.

(1)- بشارت، مجلة قرآنية للشباب، العدد 23، صيف 2001: 44، برداشتهايى از سيره امام خميني 3: 6.

فهم القرآن، ص: 745

مصادر التحقيق

أ. المصادر العربية

«أ»

1- آلاء الرحمن في تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمد جواد البلاغي، قم، مؤسسة البعثة، 1420 ق.

2- الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1967 م، طبعة مصوّرة، قم، 1984 م.

3- الاحتجاج، أحمد بن علي الطبرسي، مشهد، منشورات المرتضى، 1403 ق.

4- إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، بيروت، دار المعرفة، 1982 م.

5- الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخميني، ترجمه أحمد فهرى، دمشق، طبعة دار طلاس، 1984 م.

6- الأربعون حديثا، الإمام الخميني، تعريب السيد محمد الغروي، طهران، مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، 1422 ق.

7- إسلام بلا مذهب، مصطفى الشكعة، بيروت.

8- الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، طهران، وزارة الإرشاد.

9- إشكاليات القراءة و آليات التأويل، نصر حامد أبو زيد، بيروت، الدار البيضاء، 1999 م.

فهم القرآن، ص: 746

10- الاصول العامة للفقه المقارن، السيد محمد تقي الحكيم، بيروت، دار الأندلس، 1979 م.

11- الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة، السيد علي بن موسى بن جعفر بن طاوس، تحقيق جواد القيّومي الأصفهاني، قم، مكتب الأعلام الإسلامي، 1416 ق.

12- اقتصادنا، السيد محمد باقر الصدر، طبعة مصورة عن البيروتية، قم، المجمع العلمي للشهيد الصدر، 1408 ق.

13-

الإلهيات على هدى الكتاب و السنة و العقل، محاضرات الاستاذ الشيخ جعفر السبحاني، بقلم حسن مكي العاملي، قم، المركز العالمى للدراسات الإسلامية، 1409 ق.

14- أجوبة المسائل المهناوية، العلّامة الحلّي، مطبعة الخيام، 1401 ق.

15- أصل الشيعة و اصولها، الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، تحقيق علاء آل جعفر، قم، مؤسسة الإمام علي عليه السّلام، 1415 ق.

16- أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية، الإمام الخميني، قم، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، 1413 ق.

17- أوائل المقالات في المذاهب المختارات، أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان (الشيخ المفيد)، قم، مكتبة الداوري.

«ب»

18- بحار الأنوار الجامعة لدرر الائمة الأخيار، محمد باقر المجلسي، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1403 ق.

19- بحث في مناهج المعرفة، مدخل إلى المدارس الخمس في العصر الإسلامي، السيد كمال الحيدري، قم، 1415 ق.

20- البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان الأندلسي، بيروت، دار الفكر، 1992 م.

فهم القرآن، ص: 747

21- بحوث في تأريخ القرآن و علومه، أبو الفضل مير محمدي، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1400 ق.

22- البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403 ق.

23- البرهان في علوم القرآن، محمد بن عبد اللّه الزركشي، بيروت، دار الفكر، 1411 ق.

24- بنية العقل العربي، محمد عابد الجابري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986 م.

25- بيان السعادة في مقامات العبادة، سلطان محمد الجنابذي، طهران، 1385 ق.

26- البيان في تفسير القرآن، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، قم، منشورات دار الثقلين، 1418 ق.

«ت»

27- تأريخ القرآن، أبو عبد اللّه الزنجاني، طهران، طبعة منظّمة الأعلام الإسلامي، 1404 ق.

28- تأريخ القرآن، محمد حسين علي الصغير، قم، مكتب الأعلام الإسلامي، 1413 ق.

29- التأويل و الحقيقة، علي حرب، بيروت، دار التنوير، 1985 ق.

30- التبيان في تفسير القرآن، الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

31- تجديد الفكر الديني في الإسلام، محمد إقبال، ترجمة محمود عباس، القاهرة، 1955 م.

32- التحرير و التنوير، المعروف بتفسير ابن عاشور التونسي، محمد طاهر بن عاشور، بيروت، مؤسسة التأريخ، 2000 م.

33- تحرير الوسيلة، الإمام الخميني، طهران، مكتبة الاعتماد، 1403 ق.

34- التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف، السيد علي الحسيني الميلاني، قم، منشورات الشريف الرضي، 1417 ق.

35- تعليقات على شرح فصوص الحكم و مصباح الانس، الإمام الخميني، مؤسسه پاسدار اسلام، 1410 ق.

فهم القرآن، ص: 748

36- التعليقة على الفوائد الرضوية، الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، 1417 ق.

37- التفسير بالرأي، قواعده و ضوابطه و أعلامه، محمد حمد زغلول، دمشق، مكتبة الفارابي، 1420 ق.

38- تفسير الصافي، الشيخ محسن الكاشاني، الملقب بالفيض الكاشاني، بيروت، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

39- تفسير الطبري المعروف بجامع البيان في تفسير القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، بيروت، دار القار، 1410 ق.

40- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، طهران، المطبعة العلمية، 1380 ق.

41- تفسير القرآن الكريم، سيد مصطفى الخميني، طهران، وزارة الإرشاد الإسلامي، 1983 م.

42- تفسير القرآن الكريم، محمد بن إبراهيم صدر الدين شيرازي، قم، منشورات بيدار، 1985 م.

43- تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، قم، دار الكتاب الإسلامي، 1404 ق.

44- التفسير الكبير، الفخر الرازي، طبعة مصورة، طهران.

45- التفسير و المفسّرون، الذهبي، القاهرة، 1396 ق/ 1976 م.

46- التفسير و المفسرون في ثوبه القشيب، محمد هادي معرفت، مشهد، الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية، 1418 ق.

47- تكوين العقل العربي، محمد عابد الجابري، بيروت، دار الطليعة، 1984 م.

48- التوحيد، بحوث في مراتبه و معطياته، تقريرا لدروس السيد كمال الحيدري، جواد علي كسار، دار فرقد، 1423 ق.

فهم القرآن، ص: 749

49- التوحيد، مجلة إسلامية جامعة، العدد 55، ربيع الأول و ربيع الثاني 1412 ق، منظمة الأعلام الإسلامي، طهران.

50- التوفيق بين الدين و الفلسفة، لوى جاردية، الترجمة العربية، بغداد، وزارة الأعلام، 1975 م.

51- تهذيب الاصول، تقريرا لبحث الإمام روح اللّه الموسوي الخميني، بقلم الشيخ جعفر السبحاني التبريزي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1405 ق.

«ج»

52- جامع السعادات، محمد مهدى النراقي، مؤسسة الأعلمي، مصورة عن الطبعة النجفية الرابعة.

53- الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، بيروت،

دار احياء التراث العربي، أيضا طبعة مؤسسة التأريخ العربي، 1985 م.

54- جواهر القرآن، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، بيروت، دار إحياء العلوم.

55- جواهر القرآن، الغزالي، تحقيق محمد رشيد رضا القباني، بيروت، دار إحياء العلوم، 1985 م.

«ح»

56- الحج في أحاديث و بيانات الإمام الخميني، طهران، مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، 1417 ق.

57- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، الشيخ يوسف البحراني، دار الكتب الإسلامية، مصورة عن طبعة النجف، 1376 ق.

58- الحروف المقطّعة في القرآن الكريم، عبد الجبار حمد شرارة، قم، مكتب الأعلام الإسلامي، 1414 ق.

فهم القرآن، ص: 750

59- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1981 م.

«خ»

60- الخطاب الديني، رؤية نقدية، نصر حامد أبو زيد، بيروت، دار المنتخب العربي، 1992 م.

61- الخطاب و التأويل، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 2000 م.

«د»

62- دراسات قرآنية، محمد حسين علي الصغير، قم، مكتب الأعلام الإسلامي، 1413 ق.

63- الدر المنثور في تفسير القرآن، للإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، بيروت، دار الفكر، 1403 ق.

64- دروس في علم الاصول، السيد محمد باقر صدر، بيروت، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب المصري، 1978 م.

«ر»

65- رسالة الاعتقادات (المطبوعة مع شرح الباب الحادي عشر)، الشيخ محمد بن علي بن بابويه (الصدوق).

66- رسالة التشيع في العالم المعاصر، السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة جواد علي كسار، بيروت، مؤسسة القرى للتحقيق و النشر، 1418 ق.

67- رسالة التوحيد، الشيخ محمد عبده، مصر، دار المعارف، 1972 م.

68- رسالة الردّ على الدهريين، السيد جمال الدين، منشورة في كتاب: الثائر الإسلامي جمال الدين، بقلم الشيخ محمد عبده، سلسلة كتاب الهلال، العدد 274، القاهرة، 1393 ق.

69- الرسالة، عبد الكريم بن هوازن القشيري، بيروت، دار الكتاب العربي.

فهم القرآن، ص: 751

70- روح البيان، إسماعيل حقّي البروسوي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

71- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني، شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

«ش»

72- شرح الأسماء الحسنى أو شرح دعاء الجوشن الكبير، الحكيم المتأله هادي السبزواري، تحقيق نجفقلى حبيبى، طهران، منشورات جامعة طهران، 1993 م.

73- شرح اصول الكافي، صدر الدين الشيرازي، طهران، مكتبة الداوري، 1391 ق، الطبعة الحجرية.

74- شرح حكمة الإشراق، محمد بن مسعود قطب الدين الشيرازي، قم، منشورات بيدار، الطبعة الحجرية.

75- شرح دعاء السحر، الإمام الخميني، طهران، مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، 1416 ق.

«ص»

76- الصلة بين التصوّف و التشيّع، كامل مصطفى الشيبي، القاهرة، دار المعارف، 1969 م.

«ع»

77- عقائد الإمامية، الشيخ محمد رضا المظفر، تحقيق محمد جواد الطريحي، قم، مؤسسة الإمام علي عليه السّلام، 1417 ق.

78- علم الهرمنيوطيقا، ريجارد. أ. بالمر، ترجمة محمد سعيد الحنائي، طهران، منشورات هرمس، 1998 م.

79- علم اليقين في اصول الدين، ملا محسن الفيض الكاشاني، قم، منشورات بيدار، 1400 ق.

فهم القرآن، ص: 752

80- علوم القرآن، سيد محمد باقر الحكيم، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1417 ق.

81- عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث، ابن أبي جمهور علي بن إبراهيم الإحسائي، تحقيق مجتبى العراقي، قم، مطبعة سيد الشهداء، 1403 ق.

«غ»

82- غرر الحكم و درر الكلم، عبد الواحد التميمي الآمدي، قم، مكتب الأعلام الإسلامي، 1987 م.

«ف»

83- الفتوحات المكية، محيى الدين بن عربي، تحقيق و تقديم عثمان يحيى، القاهرة، المكتبة العربية، 1392 ق.

84- فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال، ابن رشد، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999 م.

85- الفكر الإسلامي نقد و اجتهاد، محمد أركون، ترجمة و تعليق هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، 1998 م.

86- فلسفتنا، السيد محمد باقر صدر، دار الكتاب الإسلامي، قم، 1401 ق.

87- فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيى الدين بن عربي، نصر حامد أبو زيد، بيروت، دار التنوير، دار الوحدة، 1983 م.

88- الفوائد المدنية، محمد أمين الأسترآبادي، دار النشر لأهل البيت عليهم السّلام.

89- فيلسوفان رائدان، الكندي و الفارابي، جعفر آل ياسين، بيروت، دار الأندلس، 1980 م.

«ق»

90- القاموس المحيط، الفيروزآبادي، طبعة القاهرة.

91- القرآن في الإسلام، السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة السيد أحمد الحسيني،

فهم القرآن، ص: 753

طهران، طبعة منظمة الأعلام الإسلامي، 1404 ق.

92- القوانين في الاصول، أبو القاسم بن محمد حسن الجيلاني (المعروف بالميرزا القمي)، الطبعة الحجرية.

«ك»

93- الكافي، أبو جعفر محمد بن إسحاق الكليني الرازي، تحقيق على أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1388 ق.

94- كتاب المواقف، تحقيق آرش آبري، مطبعة دار الكتب المصرية، 1934 م.

95- كسر أصنام الجاهلية، كلية المعقول و المنقول، طهران، 1340.

96- كشف الأسرار، ترجمة محمد البنداري، الاردن، دار عمان للطباعة و النشر، 1987 م.

«ل»

97- لسان العرب، ابن منظور، بيروت، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التأريخ العربي، 1416 ق.

«م»

98- المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم، محمد حسين علي أصغر، قم، مكتب الأعلام الإسلامي، 1413 ق.

99- المبدأ و المعاد، صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، مقدمه و تصحيح سيّد جلال الدين الآشتياني، منشورات الجمعية الفلسفية في إيران.

100- مجمع البيان في تفسير القرآن، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، بيروت، دار مكتبة الحياة.

101- المحجة البيضاء، ملا محسن الفيض الكاشاني، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1421 ق.

102- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية الأندلسي، تحقيق عبد السلام

فهم القرآن، ص: 754

عبد الشافعي محمد، بيروت، دار الكتب العلمية، 1422 ق.

103- مداخلات، علي حرب، بيروت، دار الحداثة، 1985 م.

104- المدرسة القرآنية، السيد محمد باقر الصدر، محاضرات سماحة الإمام محمد باقر الصدر، و التعارف، بيروت، 1980 م.

105- المرايا المحدبة من البينونة إلى التفكيك، عبد العزيز حمودة، عالم المعرفة، الرقم 232، الكويت، 1998 م.

106- المسائل السرويّة، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان البغدادي المفيد، المطبوعة في سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، بيروت، دار المفيد، 1414 ق.

107- المسائل العكبرية، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان البغدادي المفيد، المطبوعة في سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، بيروت، دار المفيد، 1414 ق.

108- مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، الشيخ حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، 1407 ق.

109- مشكلة الوجود و المعرفة فى الفكر الإسلامي الحديث عند كلّ من الإمام محمد عبده و محمد إقبال، عطية سلمان أبو عاذرة، بيروت، دار الحداثة، 1985 م.

110- مصادر التفسير الموضوعي، أحمد رحماني، القاهرة، مكتبة وهبة، 1419 ق.

111- مصباح الهداية إلى الخلافة و الولاية، الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم و

نشر آثار الإمام الخميني، 1993 م.

112- المظاهر الرحمانية، رسائل الإمام الخميني العرفانية، طهران، مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، 1995 م.

113- معاني الأخبار، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، تحقيق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1361 ش.

فهم القرآن، ص: 755

114- مفاتيح الغيب، صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، صححه و قدم له محمد خواجوي، طهران، مؤسسة الدراسات و البحوث الثقافية، 1984 م.

115- مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، نصر حامد أبو زيد، بيروت، الدار البيضاء، 1998 م.

116- مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي، السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة جواد علي كسّار، بيروت، مؤسسة ام القرى، 1418 ق.

117- مقدّمة في اصول التفسير، نقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تميمة، اعتنى به خوّاز أحمد زمرلي، بيروت، دار ابن حزم، 1418 ق.

118- المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء اللّه الحسنى، الغزالي، حققه و قدم له فضلة شحاذة، بيروت، دار الشرق.

119- المكنون في حقائق الكلم النبوية، أبو محمد روزبهان بقلي الشيرازي، المنشور في إطار سلسلة ميراث حديث الشيعة، إعداد مهدى مهريزي و علي صدرائي خويي، قم، مركز دراسات دار الحديث، 2002 م.

120- الملل و النحل، الشهرستاني، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية.

121- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.

122- من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي، بيروت، 1988 م.

123- المنهج التفسيري للعلّامة الطباطبائي، جوادي آملي، ترجمة جواد علي كسار، بيروت، مؤسسة الثقلين الثقافية.

124- منهجية الثورة الإسلامية: مقتطفات من أفكار و آراء الإمام الخميني، مؤسسة تنظيم و نشر تراث الإمام الخميني، 1996 م.

فهم القرآن، ص: 756

125- مواقع النجوم و مطالعة أهلة الأسرار و النجوم، محيي الدين بن

عربي، محمد علي صبيح، مصر، 1384 ق.

126- موجز علوم القرآن، داود العطّار، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1399 ق.

127- الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي، قم، مؤسسة إسماعيليان، 1413 ق.

«ن»

128- نظرات في تراث الشيخ المفيد، السيد محمد الحسيني الجلالي، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، قم، 1413 ق.

129- نقض الوشيعة أو الشيعة بين الحقائق و الأوهام، السيد محسن الأمين العاملي، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1403 ق.

130- نور الثقلين، الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، قم، المطبعة العلمية.

131- نهج البلاغة، ضبط نصه و ابتكر فهارسه العلمية صبحي الصالح، بيروت، 1387 ق/ 1967 م.

«و»

132- وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، مكتبة دار العروبة، 1959 م.

133- وسائل الشيعة، محمد بن الحسن الحر العاملي، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السّلام، قم، 1409 ق.

134- وعي القرآن، مدارسة مع الشهيد بهشتي، جواد علي كسار، بيروت، مؤسسة الثقلين الثقافية.

135- ينابيع المودّة، القندوزي، بيروت، مؤسسة الأعلمي.

فهم القرآن، ص: 757

ب. المصادر الفارسية

136- آداب الصلاة، امام خمينى، طهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1373 ش.

137- برداشتهايى از سيره امام خمينى، غلامعلى رجايى، تهران، مؤسسه چاپ و نشر عروج، 1375 ش.

138- بنيان مرصوص، امام در بيان و بنان آية اللّه جوادى آملى، تنظيم محمد امين شاهجويى، قم، مركز نشر اسراء، 1375 ش.

139- تسنيم، تفسير القرآن الكريم، عبد اللّه جوادى آملى، قم، مركز نشر اسراء، 1376 ش.

140- تفسير سوره حمد، امام خمينى، تهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1375 ش.

141- جلوه هاى رحمانى، نامه عرفانى حضرت امام به حاج سيد احمد، تهران، معاونت فرهنگى بنياد شهيد انقلاب اسلامى، 1371 ش.

142- رسالت قرآن، عبد اللّه جوادى آملى، تهران، نشر رجاء، 1368 ش.

143- ره عشق، نامه عرفانى حضرت امام خمينى، تهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1378 ش.

144- سخن عشق، فاطمه طباطبائي، تهران، انتشارات پژوهشگاه امام خمينى، 1380 ش.

145- سرّ الصلاة، امام خمينى، تهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1373 ش.

146- سه رساله از شيخ اشراق، شهاب الدين يحيى سهروردى، تصحيح نجفقلى حبيبى، تهران، 1397 ق.

147- شرح چهل حديث، امام خمينى، تهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1372 ش.

148- شرح حديث جنود عقل و جهل، امام خمينى، تهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام

فهم القرآن، ص: 758

خمينى، 1378 ش.

149- شريعت در آينه معرفت، عبد اللّه جوادى آملى، تهران، نشر رجاء، 1368 ش.

150- صحيفه امام، امام خمينى، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1378 ش.

151- طلب و اراده، امام خمينى، ترجمه سيد احمد فهرى، تهران، مركز انتشارات علمى و فرهنگى، 1362 ش.

152- فلسفه سهروردى، غلام حسين ابراهيمى دينانى، تهران، انتشارات حكمت، 1406 ق.

153- قبض و بسط تئوريك شريعت، عبد الكريم سروش، تهران، انتشارات صراط، 1991 م.

154- قرآن كتاب هدايت، تبيان، دفتر سيزدهم، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1375 ش.

155- قرآن و تفسير عصرى، محمد على ايازى، تهران، وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامى، 1996 م.

156- كشف الاسرار، امام خمينى، تهران، انتشارات پيام آزادى.

157- مجله بيّنات، ش 22- 23، سال ششم، 1375 ش، قم، مؤسسه معارف اسلامى امام رضا.

158- مجله پژوهش هاى قرآنى، ش 19- 20، سال پنجم، 1375 ش، مشهد.

159- مجموعه مقالات، سيد محمد حسين طباطبائى، تهران، وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامى، 1992 م.

160- وعده ديدار، نامه هاى حضرت امام به حاج احمد خمينى، تهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1376 ش.

161- ولايت فقيه، امام خمينى، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى، 1377 ش.

162- هرمونتيك كتاب و سنت، محمد مجتهد شبسترى، تهران، 1996 م.

فهم القرآن، ص: 759

فهرس المحتويات

تصدير 5

مقدّمة المؤلف 7

القسم الأوّل: علوم القرآن و مبادئ التفسير الفصل الأوّل: إمكان المعرفة 23

1- الاتجاه التعطيلي 24

المناقشة 29

أ- المستوى الكلامي 30

ب- المستوى القرآني 36

دليل الفطرة 41

1- المقدمات 41

2- تقرير الدليل 44

2- الاتجاه الظاهري 49

فهم القرآن، ص: 760

3- الاتجاه المركّب 60

الخلاصة 64

الفصل الثاني: الحاجة إلى التفسير 67

ضرورة التفسير 67

1- الخروج عن حدّي البداهة و التلغيز 68

2- مقولة: تفاوت الإدراك 71

3-

التفكير نزعة غريزية 74

4- مقولة أنواع الظهور 76

إشكالية «النور» 79

5- مداخل الإمام الخميني 81

أ- القراءة المتدبرة 81

ب- البعد العلمي و النظري 85

ج- نيل مقاصد القرآن 91

د- حق المتعمّقين 92

الخاتمة 96

الفصل الثالث: التفسير و مقاصد القرآن 97

1- التفسير لغة و اصطلاحا 98

2- التفسير عند الإمام الخميني 103

3- التفسير و مقاصد القرآن 105

أ- كيف نعرف المقاصد 106

فهم القرآن، ص: 761

ب- مقاصد القرآن قرآنيا 109

1- الغزالي 112

2- الشيرازي 115

3- الطباطبائي 118

4- الإمام الخميني 119

الخلاصة 126

4- إشكالية نظرية المقاصد 128

5- النتائج المترتبة 139

1- خصائص المفسّر و مؤهّلاته 140

2- منهج التفسير و طبيعته 147

3- رفض الاتجاهات الآحادية 157

نقد الإمام للاتجاهات الآحادية 163

أ- الوصف 163

ب- النقد و التقويم 167

إشكالية مزدوجة 171

4- الموقف من التراث التفسيري 180

5- تحديد منطقة التفسير 187

الفصل الرابع: التفسير بالرأي 189

1- أحاديث النهي 190

2- أبرز النظريات 193

فهم القرآن، ص: 762

3- موقف الإمام الخميني 216

المعايير الخمسة 221

وجهان:

الوجه الأوّل: آيات الأحكام 223

الوجه الثاني: تحميل الآراء و الأهواء 225

4- التبعات السلبية 230

المناطق الثلاث 232

الفصل الخامس: نظرية مراتب الفهم 237

1- المستوى الوجودي 240

أولا: ابن عربي (560- 638 ه) 241

ثانيا: صدر الدين الشيرازي (ت: 1050 ه) 254

ثالثا: الإمام الخميني 266

أ- مرتكزات النظرية 266

ب- النتائج المترتبة 280

1- حقيقة ما وراء اللفظ 280

2- معرفة الحدّ الأقصى 281

3- معالجة معضلة «السرّ» 284

4- الانفتاح المعرفي و الوجودي الرحيب 286

5- مناهضة الجبرية و السكونية 288

6- علاقة التزكية بالمعرفة 290

فهم القرآن، ص: 763

7- الوجودي- الإدراكي 293

8- مراتب التلاوة و آفاقها 300

9- باب معرفة اللّه 304

2- المستوى الإدراكي و النقلي 306

المقاربة النقلية و الحسية 311

الفصل السادس: موانع فهم القرآن 319

خلفية الفكرة 319

منهج العرض 324

موانع الفهم و الحجب الصادّة 326

1- حجاب غياب قصدية التعلّم 327

2- الغرور و الإحساس

الكاذب بامتلاء الذات 329

3- النزعات اللغوية المضخّمة 332

4- النعرة العلمية الاصطلاحية 342

5- قناع المذهبيات الفكرية و التعصبات الباطلة 349

6- حجاب التفسير و الجمود على أقوال المفسّرين 356

7- حجاب المعاصي 361

8- حجاب الانغمار بالدنيا 369

خاتمة فيها عدّة نتائج:

أولا: الحجب مقولة في المنهج 376

ثانيا: الموازنة لا الإلغاء 377

فهم القرآن، ص: 764

ثالثا: الفكر المعاصر و الموانع 379

رابعا: تجاوز الحجب و اختراقها 382

الفصل السابع: جدلية الظاهر و الباطن 385

1- الظاهر و الباطن في النصوص 386

2- نظريات التفسير 389

1- الغزالي 390

2- الزركشي- السيوطي 397

3- المدرسة الوجودية 401

أ- ابن عربي 401

ب- الشيرازي 405

ج- الإمام الخميني 414

3- العلاقة بين الظاهر و الباطن 423

1- الغزالي 425

2- ابن عربي 428

3- الشيرازي 431

4- الإمام الخميني 436

4- نظرية لغة المثال 445

العرفاء و اللغة الإشارية 452

1- نظرية التعقيد الذاتي و ضيق اللغة 454

2- نظرية الظنّ بالمعرفة و كتمانها 456

فهم القرآن، ص: 765

الفصل الثامن: المعاصرة القرآنية 465

1- مداخل المعاصرة 466

2- تحديدات منهجية 469

3- بعض أبرز النظريات 471

4- نظرية الإمام في المعاصرة 483

أ- المعاصرة على ضوء الرؤية الوجودية 485

ب- المعاصرة على ضوء النظرية المقاصدية 493

ج- مداخل متفرّقة 496

تجدّد المعاني بتعدّد التلاوات 497

الفصل التاسع: الحروف المقطّعة 501

1- أبرز النظريات و الأفكار 503

2- رأي الإمام الخميني 508

رمزية الحروف المقطّعة 510

خلفية النظرية 512

المناقشة 516

3- لمحات عن عالم الحروف 520

موقف الإمام 524

الفصل العاشر: سلامة القرآن من التحريف 527

1- الخلفية التأريخية 529

شهادات للقدماء 531

فهم القرآن، ص: 766

شهادات للمحدثين 534

2- مناهج الاستدلال 536

3- نفي التحريف عند الإمام الخميني 544

أ- كتاب «تهذيب الاصول» 544

ب- كتاب «أنوار الهداية» 546

إنجاز «البلاغي» 547

ج- الخطابات 556

د- كتاب «كشف الأسرار» 559

الشكعة و التحريف! 560

الترجمة المشئومة! 563

ما ذا جاء في «كشف الأسرار»؟ 568

القسم الثاني: مشروع المصالحة بين العارف و

الفيلسوف و الفقيه إضاءة أولى 575

1- الاتجاهات المعرفية الكبرى 577

ملاحظة منهجية 580

2- من مشاريع التوفيق 581

1- الكندي: 583

2- الفارابي: 583

3- السهروردي: 584

فهم القرآن، ص: 767

4- ابن رشد: 585

5- الشيرازي: 586

مبادرات اخرى: 590

بين الإمام و الشيرازي 591

3- مشروع الإمام الخميني 592

الإعلان عن المشروع 594

مبدأ العلّية بين الفلاسفة و العرفاء 596

المقاربة بقاعدة: بسيط الحقيقة 600

لغة العرفاء و الوحي 604

اللاءات الثلاثة 609

1- كتاب «آداب الصلاة»: 610

2- الرسائل: 610

3- مصباح الهداية: 612

4- الأربعون حديثا: 614

5- سرّ الصلاة: 614

6- تفسير سورة الحمد: 615

لا ازكّي الجميع! 617

حدود العرفان و وظيفته 619

حدود البرهان و وظيفته 624

الأساس المنطقي للتوفيق 629

فهم القرآن، ص: 768

1- التفسير الوجودي 630

نظرية النشآت الثلاث و العلوم الثلاثة 631

2- التفسير المشائي 641

نموذج في التوفيق 643

كلمة أخيرة 652

القسم الثالث: نماذج تفسيرية و لمحات قرآنية تمهيد 657

1- النماذج التفسيرية 659

أ- سورة الحشر 659

تفسير الآية الثامنة عشرة 662

خمسة احتمالات في الخطاب 662 فهم القرآن 768 فهرس المحتويات

ليل نزعات الذات الإنسانية 664

معنى «النسيان» و احتمالاته 671

ب- تفسير آية الفطرة 674

الفطرة لغويا 675

فصل: في معنى الفطرة 675

فصل: في تحديد أحكام الفطرة 677

فصل: فيه إشارة إجمالية إلى أحكام الفطرة 678

المقام الأوّل: في أنّ أصل وجود المبدأ من الفطرة 679

فهم القرآن، ص: 769

المقام الثاني: فطرة توحيد الحقّ و بقية صفاته 684

المقام الثالث: بيان فطرة المعاد 685

أفكار اخرى 687

خلاصة بحث الفطرة 693

ج- سورة الحديد 695

التسبيح حقيقي لا مجازي 695

2- اللمحات و الإشارات القرآنية 704

أ- إنّما أعظكم بواحدة ... أن تقوموا للّه 705

التبعات الاجتماعية و السياسية 707

ب- علمه البيان 711

ج- لنهدينهم سبلنا 712

د- و هم لا يفتنون! 713

ه- فسجدوا إلّا إبليس 714

و- قولا لينا 716

ز- يغفر لي خطيئتي 717

ح- نزل به الروح الأمين 718

ط- و جهاد

في سبيله 719

ي- قاتلوا المشركين 720

ك- إلّا و هم كسالى! 721

ل- ماء طهورا 722

فهم القرآن، ص: 770

م- إلّا إيّاه 723

ن- و أضلّ سبيلا 723

س- فاستقم كما أمرت 724

ع- حتّى يغيّروا ما بأنفسهم 725

القسم الرابع: يوميّات و خواطر قرآنية الإحياء القرآني الشامل 729

ما العمل؟ 733

نعمة القرآن 735

القراءة المتدبّرة 736

قراءة المحبّ 737

العلاقة الخاصّة 739

أريد عيني للقرآن! 743

مصادر التحقيق 745

فهرس المحتويات 759

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.